الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (158) - سورة المائدة 92-97

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-:  {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[المائدة:92], {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:93], بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- حكم الخمر, ونهى عباده المؤمنين عنها بآية قاطعة ناهية وهي قوله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90], فجمع -سبحانه وتعالى- بين الشرك والخمر وكسب المال الحرام والعرافة, وكلها من كبائر الإثم والذنوب, فجمع بين الخمر والميسر, والميسر: قمار, وَالأَنصَابُ: وهي ما نصب للشرك لله ولعبادة غير الله, وَالأَزْلامُ: وهي نوع من العرافة والاستقسام عن طريق معرفة البخت بهذه الأزلام قال -جل وعلا-: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ: وجمع الله -تبارك وتعالى- هذه القاذورات كلها في سلة واحدة وتحت حكم واحد لبيان إثم هذا الأمر, قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}[المائدة:91]: أفرد الله في الآية الثانية الخمر والميسر؛ لأنهما فيهما شران عظيمان, الشر الأول: إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين, والشر الثاني: الصد عن ذكر الله -تبارك وتعالى- وعن الصلاة, ثم قال -جل وعلا-: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ: سؤال للتهديد والتقريع أي هل ستنتهوا عن هذا الأمر أم لا؟, ثم أمر الله -تبارك وتعالى- كذلك أمر فيه وعيد قال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا: أي احذروا مخالفة أمر الله -تبارك وتعالى- وأمر الرسول, فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ: أي عن الطاعة, فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ: الرسول يبلغ فقط الذي كلفه -تبارك وتعالى- به كما قال -جل وعلا-: {........فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النور:54]: على الرسول ما آمنه الله -تبارك وتعالى-, أي كلَّفه الله بما حمله, والذي حمله هو البلاغ المبين, وعليكم ما حملتم الطاعة والإذعان لأمر الله -تبارك وتعالى-, ثم قال -جل وعلا-: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:93]: هذه الآية في بيان من مات من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحرم الله -تبارك وتعالى- الخمر هذا التحريم البات, وقد سأل بعض الصحابة ماذا عن إخواننا الذين ماتوا وبعضهم استشهد في سبيل الله والخمر في بطنه؟ كما كان في أحد فإن الخمر لم تحرم إلا بعدها, وكانت الخمر حلال في هذا الوقت, فقالوا عن إخواننا ماتوا بعضهم مات شهداء والخمر في بطنه فأخبر الله -تبارك وتعالى- أن المؤمن الذي ليس لا جناح عليه إذا طعم أمرا طعم, وهذا قبل أن ينزل حكم الله -تبارك وتعالى- قال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا}: إذا ما اتقوا وخافوا الله -تبارك وتعالى- وكانوا مؤمنين بالله -تبارك وتعالى- لا جناح عليه هنا إن وقع هذا الأمر منه قبل التحريم أو وقع أيضا بطريق الخطأ وليس العمد, إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات, فهم عند الله -تبارك وتعالى- أتقياء فلا يحاسبهم الله -تبارك وتعالى- بما أخطأوا فيه أو بما كان منهم قبل التحريم, ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا: هذا أمر كذلك بأن يكونوا من أهل التقوى والإيمان, ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا: وهذا أعلى شيء أن يكونوا من أهل التقوى, وأهل الإحسان, وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: فهذا الذي هذه صفته كان مؤمناً متقيًا عاملاً للصالحات, ثم كان من شأنه ودأبه أبدًا أن يكون مؤمنًا متقيًا مؤمنًا محسنًا, فهذا لا تثريب ولا جناح عليه ولا إثم عليه عند الله -تبارك وتعالى- إذا ما وقع منه شيء من هذا الأمر عن طريق خطأ وليس عمد, هذه الآية فهمها بعض الصحابة في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى- عنه فهمًا خاطئًا وقع هذا من قدامة بن مظعون -رضي الله تعالى- عنه وكان صحابياً بدرياً من أقارب عمر بن الخطاب كان أميرًا على البحرين, ثم عَلِم عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى- عنه أنه شرب الخمر فاستقدمه وقال له: لِما شربت الخمر؟ فقال: يا أمير المؤمنين شربنا الخمر بكتاب الله. قال: وكيف قال يقول الله فأول هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:93], ونحن مؤمنون, آمنا بالله -تبارك وتعالى- واتقينا وأحسنا فليس علينا جناح, فقال له أخطأت استك الحفرة أما لو اتقيت وآمنت لم تشرب الخمر قال: لو اتقيت وآمنت بالفعل ما شربت الخمر, فإن الله -تبارك وتعالى- قد حرم هذا, ثم قال له: لترجعن عما فعلت وقلت وإلَّا قتلتك, يقتل هنا على الزندقة وعلى الكفر, فاستغفر وتاب ورجع عن هذا التأويل الذي فهمه, وهو لا شك أنه تأويل باطل وبيَّن له فليست هذه الآية فيها إباحة للمؤمن أن يشرب الخمر ما دام أنه مؤمن متقي فلا جناح عليه في أن يشرب الخمر أو يفعل الحرام, بل هذه الآية لاشك أن من اتقى وآمن وعمل الصالحات فإنه ينتهي عما حرم الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يكون مؤمن متقي ويعمل الصالحات ويأكل الخنزير أو يشرب الخمر أو يفعل الميسر, {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:93]: والآية كما قال أهل العلم إنما هي في الذين ماتوا قبل أن تنزل آية التحريم, وكذلك فيما وقع هذا منه بخطأ لم يعلمه.

 ثم قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[المائدة:94]: هذه الآية يخبر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين يريد أن يختبرهم اختبار, وهذا اختبار بالأمر الذي يطمع فيه هل يمسك المسلم نفسه عنه أم يمد يده إليه؟ وقع هذا الأمر والنبي في غزوة الحديبية -صلوات الله والسلام عليه- فإنهم كانوا محرمين بالعمرة والمحرم بالعمرة والحج لا يحل له صيد البر كما قال -تبارك وتعالى-: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ........}[المائدة:96]: فالمحرم ما دام أنه محرم فصيد الصيد عليه حرام حتى يحل إحرامه, طبعًا هذا في غير مكة أما في مكة التي هي البلد الحرام, فإن الله -تبارك وتعالى- قد حرَّم الصيد أبدا لا ما هو الصيد لو نفر شيئا من صيدها غزال في مكة أو حمام أو أرنب أو غير ذلك مما يُصاد, لو نفره لأثم بذلك, فلا ينفر صيدها فالمسلمون مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- في السنة السادسة كانوا في عمرتهم فاختبرهم الله -تبارك وتعالى- بأن أرسل عليهم الصيد من كل مكان وهم حرم, وذلك ليختبرهم حتى أن الغزلان كانت تأتي فتنطح خيامهم بقرونها وتدخل في وسط الجيش, وتأتيهم الطيور يستطيعون أن ينالونها بأيديهم, وكذلك النعام يستطيعون أن يضربوه برماحهم وهم في أماكنهم, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ: أي يمكن أن تمسكوه تقبضوا عليه قبض اليد, وَرِمَاحُكُمْ: الرمح تناله أيضًا بدون ركوب خيل وركض وإنما يصله رمحكم قال -جل وعلا- لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ: ليعلم الله -تبارك وتعالى- ليس علما عن سابق جهل تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا, بل إنما هو اختبار علم يقوم عليه الحساب ويفعله المؤمنون هنا لتعلوا درجة المؤمن الملتزم, ويحاسب من لا يلتزم بأمر الله -تبارك وتعالى- ليعلم الله -سبحانه وتعالى - من يخافه بالغيب من يخاف الله -تبارك وتعالى- بالغيب أي هنا بالغيب وهو ليس شهادة وإنما يخاف الله يؤمن بأن الله -تبارك وتعالى- مطلع عليه, الله بالنسبة إلينا غيب لا نراه ولا يقع تحت حسنا, ولكنه غيب بالنسبة إلينا, والمؤمن يعلم أن الله -تبارك وتعالى- شاهد عليه, فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ: بعد هذا البيان والتحذير من الله -تبارك وتعالى- فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ: توعد وتهديد من الله -تبارك وتعالى- بأن له عذاب أليم عند الله -تبارك وتعالى- وذلك أنه قد خالف أمر الله -تبارك وتعالى- بأن المحرم لا يصيد كما جاء في أول هذه السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[المائدة:1], فمن أحل الصيد حال إحرامه فقد اعتدى على حرمة من حرمات الله -تبارك وتعالى-, لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

 ثم قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}[المائدة:95]: نهي منه -سبحانه وتعالى- صريح مصدر, الصَّيْدَ: كل ما يصاد مما أباح الله -تبارك وتعالى- صيده من الوحش وأنتم حرم أي وأنتم محرمون بحج أو بعمرة, ومن قتل الصيد منكم متعمدًا أي متعمد أنه يصيد وإنما قتله طبعا, يخرج من هذا ما قتله بخطأ, كأن يكون سائر في طريق وقع عليه أو يضرب حجر في مكان فوقع حجره على هذا الصيد دون أن يقصد قتله معروف خطأ, وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ: أي جزاء عليه أن يهدي إلى الكعبة مثل ما قتل من النعم فإن كان مثلاً زرافة ففيها بدنة هذه مثل هذه, وإن كان غزال ففيه بقرة فهذا مثل هذه, وأرنب مثلا شاه, يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ: رجلان من ذوي العدل يحكمان على هذا الصيد الذي قتله كم يساوي عليه من الأنعام التي تهدى المستأنسة, هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ: يهديه بالغ الكعبة, يذبح عند الكعبة في البيت ويوزع على فقراء الحرم, أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ: أو أن يُكَفِّر إذا لم يجد من الأنعام القدر المساوي لما قتله من الصيد, فيكون عليه كفارة طعام مساكين على كل نصف صاع مقدار نصف صاع بمسكين, أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا: أي عدل هذه الأصل تكون صيام, مثلا إذا كان بدنة فيكون شهرين متتابعين يقيم هذه القيمة وهذه القيمة توزع على الأصع, وكل نصف صاع يصوم يوما في مقابل هذا الذي قتله, من قيمة الذي قتله من الصيد, قال -جل وعلا-: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ: أي ليذوق هذا المعتدي الذي اعتدى على الصيد وقتله متعمدًا, وبال أمره, وباله: أي إثمه ونتيجته عليه عاقبة هذا الأمر العدوان, فيذوق هذا الوبال بهذه الكفارة الشديدة التي أوجبها الله -تبارك وتعالى- عليه عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ: أي من وقع هذا منه قبل نزول هذا الحكم فإنه لا يُكَفِّر هذه الكفارة, فهذا قد غفر الله -تبارك وتعالى- له وعفى عنه -سبحانه وتعالى -, العفو: هو الصفح وعدم المؤاخذة, وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ: أي من عاد إلى قتل الصيد متعمدًا وهو محرم فينتقم الله منه, والانتقام: المؤاخذة بالعقوبة أي يعاقبه الله -تبارك وتعالى- عقوبة فيها شدة عليه, فينتقم الله منه, وَاللَّهُ عَزِيزٌ: غالب -سبحانه وتعالى- لا يغلبه أحد, ذُو انتِقَامٍ: صاحب انتقام -سبحانه وتعالى -, هذا من صفته -جل وعلا- أنه يؤاخذ بالذنب ويُعاقِب به -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا-: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}: أُحِل: بالبناء لما يسمى فاعله, والذي يحل هو الله, والذي يحرم هو الله -تبارك وتعالى-, فإن الله هو الذي له الحكم في أن يحل وأن يحرم -سبحانه وتعالى-, وليس هذا لغيره -جل وعلا-, ويأتي هنا بغير البناء للفاعل؛ لأن هذا الأمر معلوم, أنه لا يحل إلا الله ولا يحرم إلا الله -سبحانه وتعالى -, أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ: كل ما يُصاد من البحر, وطعامه, قالوا وطعامه ما يلقيه البحر مما يموت فيه دون صيد, فيجوز أن نأكل من البحر ما صدناه, ويجوز كذلك أن نأكل من البحر ما يلقيه البحر دون صيد, لكن قد يموت فيه قبل أن ينتن ويفسد قبل أن يفسد إذا لحقناه فمات هو في البحر دون أن نصيده, فكذلك نأكله ليس صيد البر الذي لابد أن يصاد وأن يسمى عليه فإذا وجدنا مثلا من صيد البر شيء مات في البر غزال مات مثلا دون أن نصيده هذا حرام لا يجوز, لكن إذا وجدنا حوت قد مات في البحر ثم ألقاه, أو بعد ذلك انتشلناه فهذا يجوز, فصيد البحر غير صيد البر, فالله -تبارك وتعالى- قال أحل لكم صيد البحر أي ما تصيدونه وهو حي ثم يموت في أيديكم, أو ما يموت دون أن تكون قد صدتموه وأخذتموه, مَتَاعًا لَكُمْ: متاع تتمعنون به, وَلِلسَّيَّارَةِ: لمن يسير, وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا: حرم الله -تبارك وتعالى- عليكم صيد البر ما دمتم حرما, طالما أنت محرم فإنه لا يجوز لك أن تصيد شيئا من البر, ولا أن يصاد لك, أما إن كان قد صيد لغير الحجاج والمحرمين فيجوز للحاج والمحرم أن يأكل منه, أي يجوز للحاج وللمحرم بحج أو عمرة أن يأكل من صيد البر إذا لم يصد له, أما إن صيد له فهذا لا يحل له أن يأكله, وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ: خافوا الله -تبارك وتعالى- فإنه الرب الإله الذي إليه تحشرون لا إلى غيره, حشركم إليه -سبحانه وتعالى-, والحشر: هو الجنة, وتجمعون إليه يحاسب كلا منكم على عمله.

 ثم قال -تبارك وتعالى-: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المائدة:97]: هذه إشادة من الله -تبارك وتعالى- بالكعبة وبالبيت الحرام وبالمشاعر التي جعلت لتعظيم هذا البيت, قال -جل وعلا-: جعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ: هي البناء المربع, والمقصود هنا بالكعبة: هذا البناء الذي أول من بناه إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- ليكون قبلة للناس ومكانًا لآداء هذه المناسك التي تعمل وتصنع عند هذا البيت قربة إلى الله -تبارك وتعالى- وإعلاء وإشعارًا بدينه -جل وعلا-, جعل الله الكعبة البيت الحرام: هذا بدل من الكعبة, فالكعبة هي بيت الله -تبارك وتعالى- الحرام الذي حرمه الله -تبارك وتعالى-, وحرم عندها أشياء تباح في غيرها تعظيمًا لها, قِيَامًا لِلنَّاسِ: مكان ليقوم الناس عنده لله -تبارك وتعالى-, يقومون له بالدعاء وبالذكر وبالأعمال العظيمة الطواف والسعي, فيقومون لله -تبارك وتعالى-, كذلك قياما للناس إقامة لهم على الدين والصراط, فإن الله -تبارك وتعالى- قد جعل ثمة أسرار عظيمة من الهداية ومن التوفيق ومن التمسك بالدين لمن حج هذا المكان أن يستقيم على أمر الله -تبارك وتعالى- ويقام عليه, ثم وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ: أشهر الحُرُم وهي أربعة أشهر: ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم, ثلاث أشهر متوالية, ورجب الشهر السابع من السنة, هذه الأشهر الحُرُم الله -تبارك وتعالى-, أي كتب حرمتها يوم خلق السماوات والأرض, {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ........}[التوبة:36]: أي بالقتال, فكذلك تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم, وهي أشهر فيها الحج ثلاث أشهر متوالية ذو القعدة, والحجة, والمحرم, هذه هي أشهر فيها الحج وإذا آمنت الطرق وآمن الناس في هذا آتوا إلى حج بيت الله -تبارك وتعالى-, فهي كذلك قيام للناس إقامة لهم على الصراط, وكذلك وقت يستطيعون فيه الوصول إلى بيت الله -تبارك وتعالى- فهذه كذلك محرمة, ولا شك أن هذه الآية والآية الأخرى (آية التوبة) {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ........}[التوبة:36]: جعل هذه الحرم حرمة مؤبدة, وهذا فيه ترجيح لهذا القول الذي يقول بأن حرمة هذه الأشهر حرمة مؤيدة ولم تنسخ خلافًا لما قاله بعض أهل العلم: بأنها نسخت حرمتها, فإن الله -تبارك وتعالى- جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد, والجعل بمعنى: أنه التشريع, وهذا يفيد أنه تشريع ديمومة الكعبة, فإن هذه الكعبة بيت عتيق, وجعلها الله -تبارك وتعالى- باقية ودائمة, إذًا عندما يعطف الله -تبارك وتعالى- على الكعبة وعلى البيت الحرام يعطف الشهر الحرام والهدي والقلائد؛ ليكون هذا أمر دائم, وأن يؤمر بتعظيمهم, أما الهدي: ما يهدى للبيت إما بأسباب وإما بغير سبب إلا القربى, فأما بسبب فمن جمع الحج والعمرة فهذا يجب أن يهدي كما قال -تبارك وتعالى-: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: فهذا وجوب, أو يهدي للبيت دون أن يكون حاجًّا ومعتمرًا قربة إلى الله -تبارك وتعالى-, يهدي إبل, غنم, بقر, يذبح للبيت ويوزع على فقراء الحرم قربة منه لله -تبارك وتعالى-, فالهدي كذلك هذا من الشعائر ومن أمر الله -تبارك وتعالى-, وما جعله الله -تبارك وتعالى- قياما للناس, وَالْقَلائِدَ: ما يُقَلَّد به, أي ما يهدى للبيت من الإبل أو الغنم تُقَلَّد, أي تلبس قلادة حتى تُعَلَّم أن هذا مهدى للبيت وخاصة إذا أهديت من مكان بعيد وسيقت إلى البيت فتُقَلَّد بهذه القلادة حتى تعرف أن هذه لله -سبحانه وتعالى-, ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ: أي شرَّع الله -تبارك وتعالى- هذه الأمور, وجعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام وهو الهدي والقلائد لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض, الأسرار التي في هذا وكون الله -تبارك وتعالى- جعل هذه قيام للناس مكان لإقامتهم على الحق وهذا أمر يشاهد, هذا لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات والأرض هذا من علم الله -تبارك وتعالى- من علم الله أنه شرع هذا؛ ليكون هذا قيام للناس, ومازال حج بيت الله -تبارك وتعالى- من أعظم الأسباب للهداية, بل من أعظم ما جعل هذا الإسلام باقي إلى اليوم والى يوم القيامة, هذا سبب عظيم فكما أن حفظ القرآن حفظ للدين فحفظ الكعبة حفظ للدين, أي بقاء الكعبة على هذا النحو قائمة شعار لأهل الإسلام, وبقاء هذه المشاعر في المسلمين إبقاء للدين وإبقاء للهداية, هذا يقول الله -تبارك وتعالى-: جعلت هذا حتى تعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض, وأنه يُشَرِّع لعباده ما فيه هدايتهم وصلاحهم وتوفيقهم, وهذا من أمره -سبحانه وتعالى -, وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ, لأن قيام العبد المؤمن بهذه المشاعر وهو يتقي الله ويخاف الله -تبارك وتعالى- يربي فيه أن الرب -تبارك وتعالى- عليم بكل شيء ومُطَّلع على كل شيء -سبحانه وتعالى -, {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المائدة:97].

ثم يأتي بعد ذلك: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:98], وآيات تعقب هذه الآية وتقرر معنى مراقبة الرب -تبارك وتعالى-, ووجوب الحذر من مخالفته, وسنكون مع هذه الآيات إن شاء الله في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا, وأسغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى وسلم على على عبده ورسوله محمد-.