الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (159) - سورة المائدة 97-104

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المائدة:97], {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:98], {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}[المائدة:99], {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:100], بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الطائفة من الأحكام ومنها مشاعر هذا البيت الحرام فنهى -سبحانه وتعالى- عن قتل الصيد حال أن أن يكون المسلم محرماً بحج أو عمرة, وبيَّن -سبحانه وتعالى- ما أباح لعباده من ذلك من صيد البحر قال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المائدة:96], ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بالحكمة من نصبه هذا البلد الحرام (البيت الحرام الكعبة بيت الله) -تبارك وتعالى- في هذا المكان قال -جل وعلا-: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ: البيت الحرام هنا بدل من الكعبة, قيامًا للناس: مكانًا يقوم فيه الناس بين يدي رب العالمين -سبحانه وتعالى- للمنافع العظيمة وللعبادة وللمثوبة العظيمة التي جعلها الله ورتبها الله -تبارك وتعالى- على حج بيته وعلى العمرة وعلى الطواف حوله والقيام بهذه المناسك, فهو قيام للناس وبين يدي ربهم -سبحانه وتعالى-, ثم هو إقامة كذلك للناس على طريق الحق فإنه من أعظم أسباب الهدى ثم منافع لهذه الأمة حيث تجتمع على قبلة واحدة ويجتمعون في مكان واحد ينصهرون كما يقال في بوتقة واحدة, كل شعوب الأرض وكل الأمم المختلفة التي تشكل أمة الإسلام أمة الهداية تجتمع هنا, فتجتمع قلوبها تتألف تكون أمة واحدة, فهذا الرمز العظيم لهذه الأمة جعله الله -تبارك وتعالى- قيام لهذه الأمة تقوم به هذه الأمة وتبقى إلى أن يشاء الله -تبارك وتعالى- لنهاية هذه الدنيا, ثم جعل الله -تبارك وتعالى- كذلك الشهر الحرام قيام للناس فإنه أشهر الحرم فترة لا قتال فيها, يأمن الناس يتواصلون يحجون بيت الله -تبارك وتعالى- يعتمرون, والهدي: ما يهدي للبيت, والقلائد: ما تُقَلَّد من الماشية التي تهدى للبيت, {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المائدة:97]: أنه شرع هذا بعلمه -سبحانه وتعالى- وبحكمته البالغة -جل وعلا-.

 ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- مجموعة من الحقائق, كل آية تُشَكِّل حقيقة بذاتها وهي تعقيب على ما ذكره الله -تبارك وتعالى- من هذه الأحكام فقال أول حقيقة من هذه الحقائق يجب أن يجعلها المؤمن في قلبه قال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:98]: هذا أمر من الله -تبارك وتعالى- بأن يجعل المؤمن هذا علم يعلمه يستقر في قلبه يظل ذاكرًا له يأخذ هذه الحقيقة وهو أن الله -تبارك وتعالى- شديد العقاب هذا من صفته, ومقتضى هذا أن يخاف العبد ربه -سبحانه وتعالى- وأن الله غفور رحيم, فهو شديد العقاب, وهو في ذات الوقت غفور يسامح -سبحانه وتعالى- رحيم بعباده, هذا المعنى جاء كثيرًا مكررًا في القرآن يجمع الله -تبارك وتعالى- بين صفات جلاله وصفات كماله ورحمته -سبحانه وتعالى- كلهم صفات الكمال صفة رحمة صفة شدة كما قال -جل وعلا-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49], {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50], وقال: {حم}[غافر:1], {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}}[غافر:2], {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر:3], فهذا المعنى جاء كثيرًا في القرآن, وتأتي صفات الرحمة بجوار صفات النقمة والعذاب؛ وذلك حتى يعلم العبد ربه على هذا النحو فيعبده رغبة ورهبة, رغبة فيما عنده من الخير -سبحانه وتعالى-, ورهبة فيما عنده من العقوبة, فهذه صفة الرب -تبارك وتعالى-, احذر العقوبة مهما كنت ولو كنت رسول ولو كنت ملك فإنك لا تأمن عقوبة الرب -تبارك وتعالى- إن انحرفت عن الصراط قال -جل وعلا- في الرسل: {........وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:88] ,{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:66], فابالمعصية يكون الإرتهان وثمة عقوبة, ثم بالطاعة وبالإنابة إلى الله -تبارك وتعالى- تكون المغفرة, اعلموا أيها العباد أيها المؤمنون على وجه الخصوص اعلموا أن الله شديد العقاب, وأن الله غفور رحيم, يأتي هذا التعقيب بعد هذه الأحكام؛ ليُحَذِّر الله -تبارك وتعالى- من مخالفة أمره, هذه المنهيات التي نهى الله -تبارك وتعالى- عنها بدءًا بالنهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام, ونهاية هنا أن ينتهك المسلم شعيرة من شعائر الحج بما أقرها الله -تبارك وتعالى-, يخبر الله -تبارك وتعالى- يقول في ختام هذا: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:98].

ثم حقيقة أخرى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}[المائدة:99]: أي إذا وصلك الأمر, الرسل لم يكلفهم الله -تبارك وتعالى- إلا البلاغ, فلم يكلفهم بأن يحملوا الناس حملًا بالقوة والقهر على الدين, وإنما فقط أن يُبَلِّغ, إذا وصلك الأمر من الرسول, فقد أقيمت الحجة عليك وأصبحت أنت أمام المسئولية, قال ما على الرسول إلا البلاغ, الرسول: الذي أرسله الله -تبارك وتعالى- لا يكلفه الله إلا إبلاغ الأمر, فإذا بلغك الأمر أيها المُكَلَّف فقد أصبحت أمام المسئولية, إن استقمت على أمر الله -تبارك وتعالى- فثم المغفرة والرحمة, إن عرضت عن أمر الله -تبارك وتعالى- فاعلم أن العقوبة موجودة منتظرة, ما على الرسول إلا البلاغ, البلاغ: إيصال الأمر, والله يعلم ما تبدون وما تكتمون: الرب -جل وعلا- هو الذي يتولى بعد ذلك الحساب, فهو يعلم ما تبدون: ما تظهرونه, وما تكتمون: ما تخفونه, فإذًا لا يحاسبكم إلا من يعلم الخفايا -سبحانه وتعالى-, فالرسول لا يحاسب أمته وما في أحد يحاسب البشر الذي يحاسبهم الله -تبارك وتعالى-, والرسل فقط إنما هم مُبَلِّغون عن الله -تبارك وتعالى-, ويبقى حساب العباد إلى الرب الإله الذي يعلم ما تبدون (ما تظهرون), وما تخفون (ما تكتمون).

 ثم قال -جل وعلا- حقيقة ثالثة: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}: هذه دعوة من الله -تبارك وتعالى- لِئَن يقارن العبد بين الخير والشر قال -جل وعلا-: قل لا يستوي الخبيث والطيب, ما يتساوى الخبيث والطيب, الإيمان والكفر, المؤمن والكافر, الجنة والنار, الحلال والحرام, ما يستوي هذا, لا يستويان, ولو أعجبك كثيرة الخبيث: لو أعجبتك كثرة أمة الكفر وقلة أمة الإسلام, كثرة المال الخبيث أن تكسب مال عظيم كثير جداً بطريق خبيث, وأن الحلال ضيق قليل ما يستوي هذا وهذا, وذلك أن الخبيث مردَّه إلى النار وإلى الجحيم وإلى العقوبة الأليمة من الله -تبارك وتعالى-, والطيب ولو كان قليل لكن مآله إلى الجنة ومآله إلى الخير, فإذًا لا يستوي في النهاية, وكثرة الخبيث في هذه الدنيا وزُخرُفه ومظهره هذا كله مهما أعجبك الخبيث في هذه الدنيا فإنه لا يمكن أن يكون كالطيب, فليس النكاح كالسِفَاح مهما كانت المسافحة, لكن الطيب غير الخبيث في كل شيء, الحلال غير الحرام والإيمان غير الكفر وأمة الإسلام وإن قلت لا تستوي بأمة الكفر وإن زادت فأن تنتسب إلى الكفار لعلوهم وكثرتهم وعددهم وتترك أمة الإسلام زهدًا في قلتها ومسكنتها وحالها لا قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث, {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:100]: خطاب هنا لمن يعقل وهم أولوا الألباب أهل العقول الزكية الطيبة أهل اللب, فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: لعلكم تفلحون بتقواكم لله -تبارك وتعالى- ومخافتكم له ثلاث حقائق عظيمة الله -تبارك وتعالى- ختم بها هذه الأوامر العظيمة والمناهي منه -سبحانه وتعالى- {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:98], هذه حقيقة يجب أن يحملها الإنسان في كل حياته في كل إيمانه لأنه لا يمكن أن يكون مؤمنًا إلا إذا كان خائفًا من الله -تبارك وتعالى- راغبًا فيما عنده -جل وعلا-, ثم ليعلم أنه أمام المسئولية بالبلاغ إذا بلغ الأمر فقد أصبح مسئولية ما على الرسول إلا البلاغ, والله يعلم ما تبدون وما تكتمون وأن الله إلي تولى الحساب والله لا يخفى عليه شيء -سبحانه وتعالى-, ثم {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:100].

ثم فاصل آخر من أمر الله -تبارك وتعالى- من الأوامر والنواهي هذا توجيه من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين ألا يعنتوا الرسول بأسئلة لا يستفيدون منها في هذه الدنيا قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌحَلِيمٌ}[المائدة:100], {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}[المائدة:101], يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: نداء من الرب الإله -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين يصفهم ويسميهم بمسمَّىْ الإيمان بوصف الإيمان الذي هو أعظم وأشرف الأوصاف, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ: لا تسأل عن شيء إذا أُظهِر لك هذا الأمر ساءك هذا الأمر لا تستفيد منه وإنما يسوءك, وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ: الوحي, والوحي جبريل ينزل من السماء بأمر الله -تبارك وتعالى- وأنت إذا سألت النبي وهذا في حال الوحي فإنه تُخْبَر لأنك تسأل عالم الغيب والشهادة –سبحانه وتعالى- فتبدَ لكم, يظهرها الله -تبارك وتعالى- لكم هذا الأمر الذي هو غيب وقد أخفاه الله -تبارك وتعالى- عنكم, ولا حاجة لكم إذا ظهر لكم هذا ساءكم فلِما تسألوا عنه؟ إن سألتم عنه حين ينزل القرآن تُبدَ لكم, عَفَا اللَّهُ عَنْهَا: عفا الله عن هذه الأمور التي تسألون عنها, وَاللَّهُ غَفُورٌحَلِيمٌ, هذه الآيات نزلت عندما سأل بعض الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله أين أنا؟ قام رجل فقال: يا رسول الله أين أنا؟ أي يوم القيامة فقال: أنت في النار, وقبله له سأل رجل وهو عبد الله بن حذافة, كان هذا الرجل إذا تلاحم الرجال ومعنى تلاحم معهم تسابب وإياهم يسبونه ويرمون أمه بالزنا ويقولون: أنت لست لأبيك, أي كأنه يضعف أمام الرجال إذا دخل في خصومة مع أحد سبَّه على هذا النحو, فقام هذا الرجل وقال: يا رسول الله مَن أبي؟ فقال: أبوك حذافة, وكان هو أبوه الذي ينسب حقيقة وليس مما تُعَيَّر به أمه, وقام ذلك الرجل فقال: يا رسول الله أين أنا؟ فقال له: أنت في النار فجثا عمر بن الخطاب ركبتيه وقال: رضينا بالله ربًا, وبالإسلام دينا, وبمحمدٍ نبيًا, وفزع الصحابة فأنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الآيات, جنس هذه الأسئلة ضار, فالرجل الذي سأل عن أبيه لو أنه كان بالفعل ينسب إلى غير أبيه لكان هذا في بيانه ضرر عظيم, ضرر لأمه التي كانت موجودة, ضرر لأهله ضرر عليه, وذلك أنه عند ذلك سينزل الوحي وينسبه إلى من هو أبوه حقًّا, وأما هذا الأمر الذي كان عبارة عن سبَّة يسبه الناس بها فإن كانت غير حقيقة فهو له أجره عند الله -تبارك وتعالى- بهذا ولا يضره أن يسبونه على هذا النحو, وهذا أمر قد كان كذلك في الجاهلية فما الفائدة من إظهاره الآن, ثم هذا رجل الذي سأل واستعجل الأمر أين أنا لما تستعجل الأمر الآن؟ يجب أن يكون المؤمن يتقى الله -تبارك وتعالى-, وأن يعمل للآخرة, وظهور هذا الأمر بهذا الرجل في هذا الوقت سيكون له إن آمن به وصدَّق به فيكون زيادة في الكفر, وإن كذَّب به فهو زيادة كذلك في الإثم والكفر, ولو أنه سكت على هذا لكان خيرًا له وخيرًا للمؤمنين, كذلك هذا فيه نهي أن يسأل الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمور من الأمور التي كان يتعنت بها ويسألها من كان قبلهم كسؤال حواري عيسى -عليه السلام- هل يستطيع ربك أن ينزل مائدة من السماء؟ ما هو الداعي لمثل هذا السؤال؟ الذين يؤمنون بالرب الإله خالق السماوات والأرض هل هم في حاجة إلى أن يثبت الله -تبارك وتعالى- لهم قدرته على أن ينزل لهم مائدة يأكلون منها, كذلك الأسئلة الكثيرة التي سألها أصحاب موسى لموسى إعناتًا له, فالله -تبارك وتعالى- نهى المؤمنين أن يتشبهوا ببعض من كان من تلك الأمم الذين أعنتوا رسلهم هذا بالنسبة للمؤمنين, بالنسبة للكفار طبعًا الكفار كانوا يسألون الرسل إعناتًا لهم, وأن يأتي لهم بآيات لتدل على صدقهم غير الآيات التي وجهها الله -تبارك وتعالى- وأنزلها الله -تبارك وتعالى- لهم, هذا نهي من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين أن يسألوا عن مثل هذه الأسئلة, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ: إذًا مفهوم هذا أسألوا عما يفيدكم في دينكم, يفيدكم في دنياكم, تعرفون به طريق الرب -سبحانه وتعالى-, {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌحَلِيمٌ}, غفور: مسامح -سبحانه وتعالى- يستر الذنب, حليم: لا يُعاجِل بالعقوبة -سبحانه وتعالى-, {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}: هذا مثل يضربه الله -تبارك وتعالى- لمن سبق من الأمم أنهم كانوا يسألون هذه الأسئلة الكفار وأهل العناد منهم, ثم أصبحوا بها كافرين, أي إذا جاءتهم هذه الآية يكفرون بعد ذلك بالله -تبارك وتعالى-, وقد جاءتهم الآية كما اقترحوه ولكنهم بعد ذلك أنكروا هذا فأصبح كفرهم أشد كمال قال الله -تبارك وتعالى- لأصحاب المائدة الذين سألوا المائدة من السماء قال الله: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}[المائدة:115], قد سألها قوم من قبلكم: أي من الذين كانوا قبلكم, ثم أصبحوا بها كافرين.

 ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- ضعف عقول المشركين في تحليلهم وتحريمهم بهوى من عندهم ما لم يُنزِّل به الله -تبارك وتعالى-, وهذه جريمة كبرى, أن يُقدِم الإنسان على أن يُحِل ويُحَرِّم ما خلق الله -تبارك وتعالى- بهواه, الله هو الذي له حق أن يحل هذا ويحرم هذا؛ لأن هو خالقه -سبحانه وتعالى-, فالتشريع له وأن يكون هذا حلال وهذا حرام لابد أن يكون بأمره قال -جل وعلا -: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[المائدة:103], البحيرة: هي الشاة أو الناقة يَشُقُّون أذنها علامة لها ويُسَيِّبونها لأصنامهم وطواغيتهم, والسائبة: هي شاة أو ناقة يُسَيِّبونها وتُترَك لا تؤكل وهذه كذلك لأصنامهم وطواغيتهم هذا من عند أنفسهم كأنهم ينذرون هذا ويتركونه بمواصفات معينة وبظروف هم يحددونها لهذا التسييب, ولا وصيلة, قالوا الوصيلة: هي الناقة التي تصل الولادة بإناث لسنوات محددة, فإذا وصلت هذه جاءت في هذا البطن بأنثى وأنثى وأنثى عند ذلك تقول هذه أصبحت وصيلة, فعند ذلك يعفونها ويُسَيِّبونها, ولا حام, الحام: الفحل الإبل الذي ينتج عشرة من الأبطن إذا أنتج عشرة من البطون بعد عشر سنوات عند ذلك يقول هذا حما ظهره, فكذلك يحمونه عن الركوب وعن الذبح ويتركونه لأصنامهم وطواغيتهم أو يتركونه, هذه الشرائع التي شرعها هؤلاء بأهوائهم من عند أنفسهم لم يشرعها الله -تبارك وتعالى- والله يقول ما جعل: أي ما شرع الله -تبارك وتعالى- هذا, ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب, ينسبون هذا إلى أن هذا من الدين ومن التشريع ومن ما أثروه وأخذوه عن أبائهم افتراءا على الله -تبارك وتعالى- وكذبا على الله قال -جل وعلا-: وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ: أكثر هؤلاء لا عقل لهم, وإنما يشرعون هذه التشريعات بهوى نفوسهم وبدون أن يستند هذا إلى عقل وإلى حكمة.

 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}[المائدة:104]: يخبر -سبحانه وتعالى- عن هؤلاء المشركين الذين شرعوا هذا الدين الباطل من عند أنفسهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله أي يجب أن ترجعوا في أحكامكم وفي عملكم وفي تحليلكم وتحريمكم إلى ما أنزله الله -سبحانه وتعالى-, فالله هو الذي له الحق في أن يشرع ما شاء الله -سبحانه وتعالى-, وإلى الرسول, فإن الرسول هو المفوَّض والموكل من الله -تبارك وتعالى- بالتشريع هو يأتي بتشريع هذا من عند الله -تبارك وتعالى-, فالله هو الذي ينزل عليه تشريعه, فالحكم إنما هو لله والرسول مُبَلِّغ عن الله -تبارك وتعالى-, {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}, حسبنا: أي يكفينا, الحسب: هو الكفاية والكافي أن لا نحتاج إلى شيء آخر غير ما وجدنا عليه آباءنا, لا نسير ولا نزيد ولا نشرع ولا نخرج عما وجدنا عليه آباءنا, قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا, ووجدنا عليه آباءنا: أي ما تركوه لنا من تشريع ومن عمل ومن تحليل وتحريم هذا كافينا قال -جل وعلا-: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}: أي يتبعون هؤلاء الآباء حتى ولو كان هؤلاء الآباء لا يعلمون شيئا, فقد كانوا أهل جاهلية وأهل كفر وعناد, ويكذبون بالحقائق الثابتة, ويؤمنون بالمتناقضات, فيؤمنون بأن الله خالق السماوات والأرض, ولكنه لا يستطيع أن يعيدهم وأن يردهم إلى الحياة مرة ثانية, وهذا من أعظم التناقض, ومن أعظم الخلل في العقل, كيف يؤمن بأن الله خالق هذه السماوات والأرض وتقول هو يعجز ولا يستطيع أن يعيد هذه الحياة مرة ثانية؟! ثم إنهم يُشَرِّعون بهواهم وينسبون هذا التشريع لله, ثم تشريعهم ليس فيه أي شيء من الحكمة ومن العقل قال -جل وعلا-: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ: ولا هداية عندهم, بل إنما في جهالة وضلال, كيف تُتَّبع الآباء على هذا النحو؟! ولا شك أن هذا الوصف ليس قاصرًا على آباء المشركين من العرب بل هذا الوصف في كل المشركين, كلهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون, فإن مَن لم يدخل في طريق الرب وفي صراط الله -تبارك وتعالى- فهذا وصفه لا يعلم شيئًا ولا يهتدي, لا يعلم شيئًا نافعًا له, وليس هو بمهتدي إلى طريق الحق, وأما ما يعلمه من أمور الدنيا كيف يأكل وكيف يشرب وكيف يبني وكيف يتمتع وكيف يسير, فهذا العلم لا يفيد بل مضرته أكثر من منفعته, علم مآل صاحبه إلى النار والخسارة والدمار, فماذا يفيد هذا؟ فهذا الجهل أحسن منه كما قال -تبارك وتعالى-: {........وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:6], {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم:7]: هؤلاء الذين لا يعلمون إلا الدنيا حقيقةً لا يعلمون, {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}:أي يتبعون الآباء ولو كان هؤلاء الآباء بهذه المثابة من الجهل ومن عدم العلم وعدم الهداية يتبعونهم ويتركون صراط الرب -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[المائدة:105], هذا نأتي إليه إن شاء الله في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.