الحمد لله رب العالمين,
وأصلى وأسلم على عبد الله الرسول الأمين, وعلى آله وأصحابه وعلى من اهتدى بهديه
وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, أيها
الإخوة الكرام يقول الله -تبارك وتعالى-: {كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي
الأرض جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:28,29].
{كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} سؤال من الله -تبارك وتعالى- لخلقه، وعباده
يراد به الإنكار، والتعجب من فعل الناس,
{كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} كيف يمكن أن يتأتى للإنسان أن
يكفر بالله -تبارك وتعالى-؟ هذا خطاب للجميع ممن يكفر بالله -تبارك وتعالى- وكنتم أيها
المخاطبون أمواتا.
إما أمواتا بمعنى عدم, لم تكونوا, والعدم
موات، وإما أمواتًا أي مادة ليست فيها حياة, كما كان الشأن في آدم أبو البشر-عليه
السلام- فإن الله-تبارك وتعالى- خلقه من تراب من طين هذه الأرض، والطين، والتراب
مادة هابطة خامدة لا حياة فيها, ثم إن الله -تبارك وتعالى- سواه على صورته ونفخ
فيه -سبحانه وتعالى- من روحه فكان بشرًا
سويا, ثم إن الله -تبارك وتعالى- خلق زوجه حواء من ضلع من أضلاعه, ثم إن الله -تبارك
وتعالى- بث منهما رجالًا كثيرًا ونساء.
بداية الخلق هذه النطفة، وقبل النطفة
كان الإنسان إما عدما لم يكن موجودًا، وإما غذاء, تحول هذا الغذاء في الأنثى وفي الذكر
وأصبح منه مادة الخلق, الحيوان الذي يأتي من الذكر، والبويضه التي تأتى من الأنثى,
ثم أنشأ الله -تبارك وتعالى- من ذلك هذا الإنسان خلقا, فيكون الموات إما العدم
الذي سبق الإنسان كما في قول الله -تبارك وتعالى- لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}[مريم :9] لَمْ تَكُ شَيْئًا وخَلَقْتُكَ, فلم
تستعجب أن يوجد الله -تبارك وتعالى- منك الولد، ومن زوجك بعد الكبر؟ فلم نكن شيئًا
خلقنا الله -تبارك وتعالى-, وكنا قبل أن تنفخ فينا الروح من مادة يمكن أن توصف
بالموات؛ لأنها ليست فيها الحياة, فيخبر الله -تبارك وتعالى- عنا, وأن ليس وجودنا
وجودًا واجبًا, بل أننا وجود ممكن, لم نكن وكنا, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}.
فأنتم
لم تكونوا شيئًا, ثم أوجدكم الله -تبارك وتعالى-، والضرورة لاشك أنها تلجئ كل ذي
عقل أن يعتقد بأن له موجدا أوجده، وأنه لا يمكن أن يكون قد أوجد نفسه، فإن الإنسان
مخلوق لا يمكن أن يكون قد أوجد نفسه، ولا أن يكون قد أوجد من غير موجد بلا شيء
هكذا بدون أن يكون له موجد, مستحيل هذا في بداهة العقول أن يوجد شيء, وخاصة إذا
كان هذا الشيء منظما مرتبا منسقا محكم البناء, بدون أن يوجده موجد، فهذا تدفعه
بداهة العقول, أي عاقل يدفع أن يرى شيئا فيظن أنه وجد بغير موجد.
فالمخلوق لا يوجد نفسه, وكذلك لا يمكن أن يوجد
بغير موجد, إذن له موجد, كما قال -جل وعلا-: {أَمْ
خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35], والحال أنه لم
نخلق من غير شيء ولسنا الخالقين؛ إذن لنا إله.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ
أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} وهذا معلوم لنا, معلوم لكل إنسان به عقل أنه قد وجد قبل أن لم يكن
ميتًا, فالمحيي هو الله -سبحانه وتعالى- فأحياكم. قال-جل وعلا-: {ثم يميتكم}، وهذه يصدق بها الجميع، فإن هذه من الضرورات كذلك التي لا يمكن أن
تدفع وذلك؛ لأنها أمر مستقر متواتر أن كل حي إلى موت.
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} إخبار منه –سبحانه
وتعالى- وهذا ينبغي أن يكون كذلك من بداهة العقول، فإن هذا ثابت بالخبر الصحيح من
الله -تبارك وتعالى- الذى معلوم فى بداهة العقول أن هو الذى قدر على الإيجاد وعلى
الإحياء, إذن يحييكم هذا في قدرته -سبحانه وتعالى- وفى إمكانه.
{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ مرجع الخلق بعد ذلك إليه وذلك لفصل القضاء وليأخذ كل جزاءه, فهذا إخبار
من الله -تبارك وتعالى-.
فالله يعجب من يسمع، ومن يقرأ كيف يصح للإنسان
أن يكفر بالله؟ الله الذي خلقه من العدم على هذا النحو, والذى أوجده، والذى هو
يميته، وهو يحيه، ومرجعه إليه, إن الكفر بالله -تبارك وتعالى- الذي هذا شأنه أمر
فظيع عظيم جدًا, أولاً أنه جحود، ومكابرة، ورد لضرورة العقل, ثم إن وراءه ما وراءه من
المسئولية العظيمة, والعذاب العظيم الذى ينتظر المكذبين, فهذه كذلك, من يعلم أن
وراء هذا الجحود والكفر هذا العذاب العظيم كيف يكفر بالله؟ وكيف تكفر بالله تبارك
وتعالى؟ والحال أن الله هو الذي خلقك, وأنه
هو الذى يحييك وهو يميتك, وسيكون مرجعك إليه لتلقاه فهذا تفظيع، وتهويل من
أمر هذا الإنسان الكافر بأنه كيف يتأتى الكفر منه والحال أن الأمر على هذا النحو {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
ثم وصف الله -تبارك وتعالى-
استطرد في وصف نفسه -جل وعلا- فقال: {هو الذى خلق لكم ما في
الأرض جميعًا}
أيضًا هذا ربكم الذى خلقكم على هذا النحو من العدم والذي هو يميتكم وهو سيحيكم
ترجعون إليه كل هذه الموجودات التي ترونها، والتي لا ترونها مما حولكم الله خالقها،
وهذا كذلك إخبار من الله -تبارك وتعالى- وضرورة العقل تلجئ إليها، وتدفع كل ذي عقل
أن يلجأ إلى هذا, وذلك أن هذا الذي حولنا
لا شك أنه خلق محكم بديع، ومن يدعي أنه قد خلقه لا يدعي أحد من المخلوقين بأنه
خالق هذا إلا وكان كاذبا, كما فعل فرعون مثلًا كما فعل نمروذ لا يدعي أحد غير الله
-تبارك وتعالى- أنه خلق شيئا من هذا الوجود إلا وكان كاذبًا وظهر كذبه, ولم يخبر بهذا إلا الرب الإله -سبحانه وتعالى- وكذلك
من ادعى أنه هذا الموجود بغير موجد فهو كاذب كذلك, يرد بداهة العقول, فإذا قال أن
هذه الشمس قد وضعت في مكانها بغير موضع لها وبغير من وضعها في هذا المكان، وأن
النجوم وضعت في أماكنها هكذا دون أن يكون هناك وراءها إله قوي قادر عليم, وضع كل أمر
على هذا النحو في نظامه ورتب هذا الكون, يستحيل هذا, وكذلك أن يكون هذه الأرض بسطت
على هذا النحو ووزعت إلى يابس وماء, ونظمت أحوالها بهذا النظام المحكم البديع بغير
فاعل، فإن هذا أمر عجب تدفعه بداهة العقول.
هو الله-سبحانه وتعالى- الذى خلق لكم ما في الأرض
جميعًا, كل ما في الأرض من حبة الرمل الصغيره إلى
الأمر العظيم الجبل العظيم, البحر المحيط, ما بثه الله تبارك وتعالى في هذه
الأرض من الكائنات, مطرها وشجرها ورزقها وبحرها و برها, الله- تبارك وتعالى- خالقه
وهذا بيقين بهذا الخبر، وكذلك بيقين ضرورة العقل أن الله الذى لا إله إلا هو, هو خالق
كل هذا.
{هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}،
والأرض هي هذا الكوكب الذى نعيش عليه, جميعا تأكيد لكل المخلوقات، وقلنا أن خلق تأتى
بمعنى قدر وسوى, وتأتى بمعنى أخرج من العدم، فالإخراج من العدم لله -تبارك وتعالى-،
والخلق والتقدير كذلك, كل مخلوق الله -تبارك وتعالى- هو الذى أعطاه صورته وهيئته
وشكله, فالله خالق كل شيء, الإنسان إذا نسب له الخلق إنما هو خلق الأشياء التي يصنعها
ويمارسها, ويسمى هذا خلق كذلك في اللغة كما في قول الله تبارك وتعالى: عن عيسى -عليه
السلام-: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر}[آل عمران:49] هذا فعل عيسى {أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْر} أصور
صورة من الطين، ومن صور صورة فهذا خلق هذه الصورة.
{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ
اللَّهِ}[آل عمران:49] فالنفخ
من عيسى, وكونه يكون طيرًا خلقًا فبإذن الله -تبارك وتعالى- أن هذا بإذن الله -جل
وعلا- فالمخلوق يخلق ما هو مكنه الله -تبارك وتعالى- به يخلق ثوبا يخلق سيارة,
يخلق أثاثا, يخلق هذه المصنوعات والمخترعات له، وأما الخلق بمعنى كل الإحياء فإن هذا
لله -تبارك وتعالى- والخلق كذلك الإبراز من العدم هذا لله, لا يستطيع أحد أن يبرز
ذرة من العدم, كما قال الرب -تبارك وتعالى-: جاء في
الحديث القدسي في شأن المصورين « أشد الناس عذابا يوم القيامه المصورون يقال لهم أحيوا ما خلقتم» أي
الذى صورتموه أحيوه, أحيوا ما خلقتم, والله قال في الحديث القدسي: "فليخلقوا حبة، و ليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة"
يخلقوا ذرة نملة لا يستطيع البشر أن يخلقوا نملة بمعنى أن يعطوا الحياة لها يمكن أن
يصوروا نملة ويشكلوها لكن أن يعطوا الحياة لها لا، وكذلك برة حبة القمح توجد من
العدم يستحيل هذا لا يخلقها إلا الله-تبارك وتعالى-.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ
مَا فِي الأرض جَمِيعًا}
أي إبرازًا من
العدم، وكذلك تصويرًا وتقديرًا على هذا النحو الذى أعطى كل شيء خلقه -سبحانه
وتعالى-
ثم هدى.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} اسْتَوَى في لغة العرب, تأتى
أولًا بدون تعدية, تتعدى بحرف ثم تتعدى بحرف, الحين تتعدى بالواو، وتتعدى بالباء،
وتتعدى بعلى، وتتعدى بإلى، فاستوى تأتى بمعنى اكتمل الأمر, كما نقول استوى الطعام
استوى الطعام أي بلغ حده ونضجه, ومنه قول الله -تبارك وتعالى-: {ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا}{القصص:14} واستوى أي بلغ حده من كمال
الخلق عن موسى -عليه السلام-, كمال شده البنية القوة, وكذلك بناء العقل، وأما
استوى إلى بمعنى عمل وقصد، واستوى على بمعنى علا وارتفع كما في قول الله -تبارك
وتعالى-: {وجعل لكم من الفلك والأنعام
ما تركبون لتستووا على ظهوره}[الزحرف:12,13] أي تعلون وترتفعون على ظهور الفلك والأنعام,
{ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان
الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين}، وقد جاء الاستواء منسوبا إلى الله -تبارك وتعالى- بحرف إلى
وبحرف على, فهنا في هذه الآية ثم استوى إلى السماء, وجاء الاستواء بحرف على {الرحمن على العرش استوى}[طه:5].
الاستواء هذا لا شك أنه صفة من صفات الله -تبارك
وتعالى- نسب الله -تبارك وتعالى- نفسه ألا هي تليق بذاته الله -تبارك وتعالى- كسائر
أنواع ما وصف الله -تبارك وتعالى- به نفسه من الصفات ومن الأعمال -سبحانه وتعالى-,
فأفعال الله -تبارك وتعالى- لا تشبه أفعال المخلوقين, وصفاته لا تشبه صفات
المخلوقين, فكلامه الله نسب إلى نفسه الكلام يتكلم, لكن ليس ككلامنا, وسمعه وبصره
ليس كسمعنا وبصرنا, ومجيئه ليس كمجيئنا, {وجاء
ربك والملك صفًا صفًا}[الفجر:22], {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام}[البقرة:210] فنسب الإتيان إلى
الله -تبارك وتعالى-، فإتيان العبد غير إتيان الخالق -سبحانه وتعالى-، وكذلك
استواء العبد غير استواء الخالق -سبحانه وتعالى- استواء يليق بذاته -سبحانه وتعالى-,
ولذلك لما سئل الإمام مالك عن الاستواء -استواء على العرش- كيف استوى؟ قال: الاستواء
معلوم, والكيف مجهول, السؤال عنه بدعه. فذات الله لما كانت غير معلومة لنا فلا نسأل
عن الله بكيف لا نقول كيف استوى؟، ولا كيف يتكلم؟، ولا كيف يسمع؟، ولا كيف يبصر؟،
بل نؤمن بصفاته -سبحانه وتعالى- كما أخبر عن نفسه ونعلم أن الله ليس كمثله شيء وأنه
هو السميع البصير -سبحانه وتعالى-.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} جاء في قول ابن عباس : «أنه علا وارتفع -سبحانه وتعالى- عمد إلى السماء» السماء
العلو {فسواهن
سبع سموات}.
{سواهن} أي أنه عدلهن, وقضاهن والتسوية هي إتمام
الخلق على الصورة التي أتمها الله -تبارك
وتعالى- وصورها الله -عز وجل- {سبع سموات} حقيقة هذه السموات السبع لا شك أنها مجهولة لنا، فإنا لا
نعرف حقيقتها, ولا المادة التي صنعها الله -تبارك وتعالى- منها, نعلم مادة الأرض,
لكن ما مادة هذه السماء؟ وما هو شكلها؟ فهذا أمر لا شك فوق عقولنا؛ لأنه مهما أخبر
الله -تبارك وتعالى- بأنه مهما نظرنا في السماء، فإنه يبقى نظرنا قاصرًا وحاسرًا.
قال: {فارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ
تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3] {ثُمَّ
ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ
حَسِيرٌ}[الملك:4]
فالبصر
بصر الإنسان، وقدرة الإنسان تظل عاجزة وقاصرة أن تبلغ مبلغ السماء، وأن تعرف
السموات التي خلقها الله -تبارك وتعالى- كيف صورتها؟ وكيف خلقها؟، فهذا إخبار من
الله -تبارك وتعالى- أنها سبع سموات, ولا شك أن تفسيرها بأنها الكواكب السيارة هذا
خطأ, بل هي سماء سقف محفوظ، وطبقات بعضها فوق بعض، وهي لاشك فوق إدراك البشر كما
قال -جل وعلا-: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1] {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ}[الملك:2] {الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ
فَارْجِعِ الْبَصَرَ}, مرة تلو مرة إلى السماء {هَلْ
تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3] {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ
إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4].
فأخبرنا -سبحانه وتعالى- بأنه سوى فوقنا سبع سموات، وأخبر
أنها طباقا أي طبقات الثانية فوق الأولى, والثالثة فوق الثانية, وهكذا، وهو الرب -تبارك
وتعالى- بكل شيء عليم.
مع هذا الخلق الواسع المتنامي المتباعد تباعدا
لا تدركه العقول, إلا أنه الرب -سبحانه وتعالى- عليم بكل شيء, عليم صفة مبالغة من
العلم أي أنه لا يعزب عنه -سبحانه وتعالى- من خلقه شيء, كما قال -تبارك وتعالى-: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا}[الأنعام:59] ورقة
شجر, وهذا عملٌ يتكرر ملايين الملايين من المرات كل ثانية، ولا يأبه الناس بسقوط أوراق
الشجر خريفًا، أو شتاءً، أو صيفًا، {وما تسقط من ورقة إلا
يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض} مختفيه {ولا رطب}
من الأشياء {ولا يابس إلا في كتابٍ مبين}
فالله -تبارك وتعالى- بكل شيء عليم أي لا يخفى عنه شيء من خلقه -جل وعلا- وهذا يأتي
بعد هذا السؤال الذى فيه تعجيب وإنكار, كيف تكفر أيها الكافر بالله -تبارك وتعالى-؟! والحال أن ربك هو هذا هو الذى خلقك على هذا
النحو {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ
أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} ما كنتم شيئا, كما قال الرجل صاحب الجنة الفقير
لصاحب الجنه المتبطر المتعال بجنته {أَكَفَرْتَ
بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}[الكهف:37]
كيف تكفر به؟ فالله خلقك من تراب أصل الإنسان هذا هو آدم, ثم من نطفة, كل إنسان ثم
سواك رجلا, أنت أصلك نطفة, ثم جعلك الله -تبارك وتعالى- رجلا على هذا النحو, كيف
تكفر به؟ كيف تكفر بالذي خلقك؟.
الله يقول: {كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} ثم يميتكم هذا
فعله, ثم يحييكم ثم إليه ترجعون في النهاية وتكفر به وأنت ستقف أمامه كفاحًا وجهك إلى
الله -تبارك وتعالى- كما في الحديث «ما منكم إلا
سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب أو ترجمان يحجبه دونه فيقول له: الم يأتك رسولي
فبلغك وأتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك» الله الذى سيخاطبك يقول
النبي: «فلينظرنا أيمن منه فلا يرى شيئا ولينظرنا أشأم
منه فلا يرى شيئا ولينظرنا تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار فاتقوا النار ولو بشق تمرة».
فالله يقول : كيف تكفرون بالله؟ كيف يتأتى من الإنسان الذى
خلقه الله تبارك وتعالى وكان عدمًا أن يكفر بإلهه وخالقة ومولاه.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
هو الله -تبارك وتعالى- الذى خلق لكم ما في الأرض جميعا فكل ما عندك مما تعتز به
وتتكبر به، وتستغني به, الله خلقه بل خلق كل ما في هذه الأرض جميعًا, ثم استوى إلى
السماء فسواهن سبع سموات, خلقهن وسواهن تسوية ببناء محكم, كما قال -جل وعلا-: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} يعنى
بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] {وهو بكل شيء عليم} ثم قطع الله -تبارك
وتعالى- العذر, كل معتذر وكشف حقيقة الكفر بالله -تبارك وتعالى- وأن الكافر معاند,
جاحد, مكابر, وأنه لا شيء يستند إليه, ما في أي استناد يستند إليه, وأن حاله مزرى,
وكذلك مما يعجب حاله أن يكفر الإنسان بربه الذى هذه صفته, يكفر الإنسان بمن خلقة،
ومن يحيه، ومن يميته، ومن مصيره في النهايه إليه.
ثم قال -جل وعلا-:
بعد ذلك {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:30] هذا إخبار من الله -عز وجل-
عن بدء هذا الإنسان, قصة الوجود الإنساني كيف بدأ؟ فأول هذا الأمر أنه كان في علم
الله -تبارك وتعالى- ثم أعلم الله -تبارك وتعالى- الملائكة بمشيئته وبإرادته -سبحانه
وتعالى- فى أن يجعل في هذه الأرض خليفة الإنسان يكون فيها.
قال -جل وعلا-: {وَإِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} قال أهل اللغة: إذ هنا منصوبة بفعل مقدر اذكروا إذ، أو اذكر إذ,
اذكروا إذ قال ربك للملائكة, قول من -الله تبارك وتعالى-, والله-
تبارك وتعالى- يتكلم بما يشاء كيف يشاء -سبحانه وتعالى- والقول من صفاته -جل وعلا-.
{ربك} هذا حديث للنبي -صلى الله عليه وسلم- ورب
النبي هو الله -سبحانه وتعالى- خالقه.
{للملائكة} الملائكة عالم من العوالم التي خلقها الله -تبارك
وتعالى- والله رب العالمين -سبحانه وتعالى,- عالم أكبر وأعظم من عالم البشر عددًا،
وقدرةً، وقوةً، وكذلك يختلف عن البشر نشأة.
فإن الله -تبارك وتعالى- خلقه من نور كما قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه-: {خُلِقَتِ الملائكة من نور وخُلِقَ الجان من مارج من نار وخُلِقَ الإنسان مما وصف لكم} يعنى مما وصف الله -تبارك وتعالى- لنا وهو أن بدأ خلق الإنسان إنما كان من الطين, هذا العالم عالم الملائكة عالم أكبر، وأجل، وأعظم من الإنسان, ولتفصيل هذه الآية حديث آخر في الحلقة الآتية إن شاء الله أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.