الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (160) - سورة المائدة 105-109

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[المائدة:105]: ينادي الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين واصفًا إياهم بوصف الإيمان الذي هو أعظم الأوصاف, يأمرهم -سبحانه وتعالى- أولًّا يخبرهم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ: أي ألزموا أنفسكم عليك بكذا, أي ألزم كذلك عليكم أنفسكم: أي ألزموها بإخضاعها إلى أمر الله -تبارك وتعالى-, وبتسليمها إلى الله -تبارك وتعالى- وبتزكيتها وبحملها على أمر الله -تبارك وتعالى- وأمر رسوله, ألزم نفسك: أي عوِّدها وأقمها على صراط الرب -سبحانه وتعالى-, عليكم أنفسكم: فاهتموا بها وانشغلوا بها, ثم قال -جل وعلا-: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ: أي عند الله -تبارك وتعالى- يضركم فيكون عليكم إثم ومحاسبة, من ضل إذا اهتديتم: أي من ضل عن صراط الرب -تبارك وتعالى- لا يكلفكم الله -تبارك وتعالى- هداية ما دمت أنت مهتدي فإن ضلال من ضل لا يضرك ولو كان أقرب الناس إليك, فلو كان أقرب الناس إليك ابنك أو زوجك أو هو أبوك أو أقرب الناس إليك فلا يضرك ضلاله إذا كنت أنت على الهدى وعلى الصراط, فإن الله -تبارك وتعالى- لا يحاسب عبدًا على أن يهدي عبدًا إلى الهدى والضلال إنما هو بيده -سبحانه وتعالى- لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا: مرجع العباد جميعا إلى الله -تبارك وتعالى-, أي مهتديهم وضالهم المهتدي, والضال كله سيرجعون كل المرجع عباد إلى الله -تبارك وتعالى-, فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ: يخبركم, الأنباء: هو الإخبار, والنبأ هو الخبر العظيم, ويخبركم بما كنتم تعملون, ثم ما يترتب على هذا الإخبار من إثابة الطائعين وعذاب العاصين في هذه الآية هي في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أي أن الإنسان ليس عليه أن يأمر غيره بالمعروف وينهاه عن المنكر, وينبغي أن يأمر نفسه وأن ينهى نفسه وليس عليه من غيره لا ليس هذا هو المعنى, ومن فهم هذا من الآية فقد فهم فهمًا خاطئًا, وإنما الآية فيما ذكرناه من أن العبد المؤمن عليه أن يلزم نفسه الطاعة ويحملها على ذلك, ومن إلزام الطاعة لله -تبارك وتعالى- أن تؤدي الأمانة, وأن تقوم لله -تبارك وتعالى- بما أمرك به فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر, تنشر الخير وتفعله, فهذا أمر لكل أحد, يقول النبي: «من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه», والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ........}[التحريم:6], ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-  «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته, والرجل في بيته راع وهو مسئول عن رعيته, والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها, والخادم في مال سيده راع ومسئول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته», فالإنسان لا يسأل عن نفسه فقط, وإنما يسأل عن غيره في أداء الأمانة له في الإخلاص له وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-  «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأمة المسلمين وعامتهم», فإن يكون الإنسان مخلص لله -تبارك وتعالى- يأتي الله بقلب سليم من الشرك مخلص لكتاب الله -تبارك وتعالى- يؤمن به يحل حلاله, يحرم حرامه, مخلص للرسول في الإتباع وفي الطاعة وفي المحبة, مخلص لأمة المسلمين لا يغشهم ولا يخدعهم, وكذلك مخلص لعامة المؤمنين لا يغشهم ولا يخدعهم, فليس المقصود أن يكون الإنسان مكلفًا بنفسه فقط وليس عليه من غيره, لا ليس عليك من الغير وإنما عليك أن تؤدي ما أجره الله -تبارك وتعالى- عليك نحو الغير, فنحو غيرك كلفك الله -تبارك وتعالى- نحو غيرك بأمور, فكلف هذه الأمة نحو الكفار بإبلاغ الرسالة وإبلاغ الدين, {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108] لأنذركم به ومن بلغ أمر المؤمنين نحو الكفار بالجهاد فهم مأمورون به لابد أن يقوم به قال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة:190], وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ........}[الأنفال:39], فهذه أوامر الرب -تبارك وتعالى- فالقيام بأمر الله -تبارك وتعالى- واجب نحو العبد ونحو إخوانك المؤمنين لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77], {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ........}[الحج:78]: الشاهد أن آيات القرآن ألزمت على المؤمنين واجبات عظيمة نحو غيرهم من الكفار, واجبات المؤمن نحو المؤمن فليس معني هذه الآية, أي عليك يا أيها المسلم نفسك مر نفسك وأنه نفسك وأصلح نفسك ولا عليك من الآخرين لا تأمرهم ولا تنهاهم هذا فهم خاطئ وهذا الفهم الخاطئ نشأ مبكرًا, ففي خطبة الصديق -رضي الله تعالى عنه- في حياة الصديق كأنه سمع بعض الناس فهموا هذا من هذه الآية فقال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتفهمونها على غير فهمها أو تأوليها على غير معناها, وقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن المسلمين إذا رأوا المنكر فلم يغيروه يوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده»: أي أخذ العموم أهل المعاصي منهم وكذلك الساكتون عن الأمر بالمعروف يوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده, فهذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ: أي ألزمها طاعة الرب -تبارك تعالى-, لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ: ومن الهدى أن تدعو إلى الله -تبارك وتعالى- وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر, فإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأديت ما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليك نحو الغير وكنت مهتدي لا يضرك بعد ذلك ضلال من ضل ولا كفر من كفر, إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا: كلكم, أي أهل الهدى والضلال, فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.

 ثم بعد ذلك نادي الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين في تشريع حكم آخر من أحكام الدين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}: نداء من الرب -تبارك وتعالى- مع وصف أهل الإيمان بمسمى الإيمان الذي هو أعظم الأوصاف وهذا فيه حضّْ على الفعل وإلزام كذلك بالفعل, {َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}: إذا احضر أحد المسلمين الموت, حين الوصية: حين تجب الوصية أن يوصي إذا كان الإنسان شيء  يريد أن يوصي به سواء أن يوصي بمال لله -تبارك وتعالى- أو يوصي بشيء لأن يفعل له أو أن يوصي بأن عليه مال لأحد أو يوصي بأن هذا المتاع يكون في ذلك المكان, أي صورة من صور ما يريد العبد أن يوصي به عند موته, اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ: أي على العبد المؤمن الذي يعلم انه قد حضرته الوفاة ما دام لا زال في عقله ويمكن أن يوصي فيأتي باثنين من أهل العدالة منكم ولابد أن يكونا مسلمين عدلين, أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ: أي إن كنتم مسافرين وتعذر وجود شاهدين عدلين من المسلمين فاستشهدوا شاهدين من غيركم, أي من اليهود أو من النصارى, من أمم الكفر إذا تعذر وجود المسلمين, إن انتم ضربتم في الأرض, الضرب في الأرض: هو السعي فيها من أجل التجارة ونحو ذلك, فأصابتكم مصيبة الموت: أي وأنتم غرباء بعيدون عن أرض الإسلام, تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ: تحبسونهما من بعد صلاتهم لأن هذا ادعى لأن يكونوا من اهل الدين ممن لا يستحلون الكذب ولا الغش, فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى: هذا الاثنان الذين تحبسونهما من بعد الصلاة حلفوهم بالله, إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى: أي أننا نكون صادقين في شهادتنا ولا نشتري بهذه الشهادة ثمن ولو كان ذا قربى فنحيل الوصية من شخص إلى شخص ولو كان هذا الشخص الآخر الذي نحيل إليه من ذوي قرابتنا, وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ: أي نؤدي هذه الشهادة التي تحملناها ولا نكتمها, وسمُِّيت شهادة الله؛ لأنهم شهدوها لأجل الله فأشهدوهم لله, والله -تبارك وتعالى- هنا نسب هذه الشهادة إلى نفسه؛ لأن الله شهيد عليها -سبحانه وتعالى-, {إنا إذا لمن الآثمين}[المائدة:106]: أي إذا كتمنا هذه الشهادة نكون إذًا من الآثمين يقسمان على هذا.

 ثم قال -جل وعلا-: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ}: إذا تبيَّن بعد ذلك أن هذين الشاهدين لم يشهدا بالحق وكتما وغشَّا, فمثلا ذهب ذاهب من المسلمين ومعه مال ضخم كان يعرف أولاده أنه لما سافر كان معه هذا المبلغ الكبير من المال, ثم مات واستشهد من استشهد في هذه البلاد البعيدة من رفقته في السفر أو من نحو ذلك, ثم لما رجع والله قالوا: هذا المتاع هذا الذي أوصى فيه مثلا أبوكم, وهذا الذي كان معه ولم نجد معه إلا هذا المبلغ الذي فيه, وأوصى به أن يدفع منه كذا وكذا, ثم نظر وإذا هذا لقد خرج بمال كثير وهذا مال معروف خرج مثلا بمائة ألف والآن يقول هذا ما وجدناه وهذا كل الذي معه وهذا الألف دينار, وأين المال الذي كان معه؟ فإن عثر على أنهم استحق إثما فأخران يقومان مقامهما من الذين استحقا عليهم, الأوليان عند ذلك هذه الشهادة يقوم اثنين آخرين من الشهداء ممن كانوا يعرفون هذا الشخص الذي توفي بعيدًا فيقومان بشهادة أخرى ترد بها هذه الشهادة التي طعن فيها, فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا: يحلفان بالله هنا إن شهادتنا هي الحق وأن هذين الشاهدين شهدا بالباطل وبالزور, وأنه ليس هذا هو المال الذي كان معه, فيقسمان بالله لِئن شهادتنا أحق من شهادتهما, وَمَا اعْتَدَيْنَا: وأننا لم نعتدي وإنما شهدنا لله, وكنا نعلم أن المال مثلًا الذي كان معه أو أن هذا المتاع هدية وهذا متاعه, {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:107]: أي إنا كنا قد اعتدينا نكون من الظالمين.

 قال -جل وعلا-: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا: أي رد الشهادة بشهادة أخرى على هذا النحو, وإقسام هؤلاء بعد ذلك بهذا القسم المُغَلَّظ, ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها: أقرب للحق أن يأتوا بالشهادة على وجهها, وهؤلاء كل يأتي بالشهادة على وجهها, أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ: فالأولين يعلموا أنهم أولًّا إذا حلفوا بهذا الحف الذي فيه هذا التأكيد إنا والله نشهد بالحق ولا نعتدي ولا نصرف هذه الشهادة إلى غيره ولو كان هذا الغير من بني قرابتنا, فإذا شهدوا هذه الشهادة على هذا النحو ثم إذا علموا بعد ذلك أنه إن عثر لهم على إثم وتبين لهم كذب فإن هذه الشهادة سترد ويقوم غيرهم ليشهدا على شهادتهم بالباطل ويرد شهادتهم, طبعا هذا كل واحد إذا أتى للشهادة فسيأتيها وهو خائف من عقوبة الرب -تبارك وتعالى- إن كان في قلبه مخافة للرب, ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة, فلو جاءو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمناهم يخافوا أن ترد أيمانهم التي حلفوها هذه بعد أيمانهم بشهادة الآخرين, ثم قال -جل وعلا -: وَاتَّقُوا اللَّهَ: دعوة للجميع بمخافة الرب -تبارك وتعالى-, التقوى: حماية ووقاية, أي اجعل وقاية بينك وبين عذاب الله -تبارك وتعالى-, اتقوه: خافوه -سبحانه وتعالى- وذلك أنه شديد العقاب وأن عقابه ليس كأي عقاب, {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25], {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26]: فهذا الرب الذي يعاقب العقاب الشديد, خافوا الله -تبارك وتعالى- اجعلوا وقاية بينكم وبين عذابه -سبحانه وتعالى-, واتقوا الله: خافوا الله -تبارك وتعالى-, وَاسْمَعُوا:  اسمعوا كلامه, سمع من يسمع وهذا هو الذي يطيع ويستجيب, أما سمع من لا يسمع كأنه لم يسمع فهذا ما يفعله فاسمعوا هنا ليس مجرد أن تسمع الأمر بإذنك ثم لا تطبق ولا تفعل هذا ليس سمعًا؛ لأن هذا كمن لم يسمع هو وكمن لم يسمع سواء وإنما اسمعوا سمعا من يسمع فيستجيب لأمر الله -تبارك وتعالى-, وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ: اعلموا هذا تهديد عظيم من الله -تبارك وتعالى- بأن الله لا يهدي القوم الفاسقين, أي من فسق وخرج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- لايهديه الله, ومعنى الفسق: هو أن يعرف الأمر ويميل ويفسق, فسق بمعنى خرج عن أمر الله -تبارك وتعالى- إذا خرج عن أمر الله -تبارك وتعالى- وهو يعلم هذا الله لا يهديه ولا يوفقه الله -تبارك وتعالى-, وهذه عقوبة أنه يجعله يسير فيما فسق فيه كما قال -جل وعلا-: {........فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[الصف:5]: تهديد ووعيد من الرب -تبارك وتعالى- بأن هذا أمر عظيم فاتقوه يا عباد الله, هذا الحكم هو الحكم والتشريع الأخير في هذه السورة (سورة المائدة) التي بدأها الله -تبارك وتعالى- بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ........}[المائدة:1], فهذه السورة المدنية امتلأت بهذه العقود التي هي من عقود الرب -تبارك وتعالى- الذي عاقد بها عباده, والعقود التي يتعاقد بها العباد بين بعضهم بعض, فكانت الوصية هنا وحفظها الأمر بأن الإنسان يوصي قبل موته وأن يستشهد على هذه الوصية في أرض الإسلام بالمسلمين وفي أرض الكفر ممكن أن يوصي غير المسلمين وأن تكون على هذا النحو من البيان والتفصيل, وأن كل أحد يجب أن يقوم لله -تبارك وتعالى-, فإن شهد يشهد بالحق إن أدلى يدلي بالحق هذه أحكام عظيمة من الرب -تبارك وتعالى-, وختمت بهذا الختام: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.

 ثم بعد ذلك جاءت هذه الآيات آيات أخيرة في هذه السورة الله -تبارك وتعالى- يُذَكِّر فيها بيوم القيامة وما يكون فيه, ويُذَكِّر بأن الجميع سيقفون بين يديه -سبحانه وتعالى- وأنه سيحاسب الجميع على أعمالهم وأن ثمة شاهد ومشهود, ومن أعظم من يستشهد في هذا اليوم عيسى بن مريم -عليه السلام- ويبكت أتباعه الذين اتبعوه وقالوا فيه قول الكفر وخرجوا عن الدين والشريعة والمنهاج والحق والمعتقد الذي تركهم عليه, فبدلوه وغيروه ولعل في ذكر عيسى بن مريم على وجه الخصوص وذلك أن هذا أكبر بشر كذب عليه, وأكثر الأمم عددًا ممن خرج عن الاعتقاد الحق في الرب وافترى على الرسل وهم هؤلاء النصارى, فلذلك الله -تبارك وتعالى- يأتي بمشهد هنا تفصيلي في هذه السورة عن الخطاب الإلهي لعيسى بن مريم أمام الجميع وكيف يستشهده ويظهر كذب من كذب على هذا الرسول الكريم -صلوات الله والسلام عليه- قال -جل وعلا-: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:109]: أي اذكروا هذا اليوم, يوم يجمع الله الرسل, أو اتقوا هذا اليوم يا عباد الله, كان الله ينادي العباد جميعًا ويذكِّر كل الناس بهذا اليوم العظيم, يوم يجمع الله الرسل في هذا اليوم (يوم القيامة), فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ: يقول الله -تبارك وتعالى- للرسل ماذا أُجِبْتُمْ؟ أي بأي شيء أجابكم الأقوام, الله -تبارك وتعالى- أرسل كل رسول إلى قومه, فبماذا أُجِبْتُمْ؟ والسؤال هنا من الله -تبارك وتعالى- ليس سؤال للاستفهام, فالله يعلم -سبحانه وتعالى- ما الذي أجابت به كل أمة رسولها يعلم هذا -سبحانه وتعالى-, ولكن سؤال يكون للجميع {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:6], {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}[الأعراف:7]: فلنقصن: الرب -جل وعلا-, عليهم: على الجميع, بعلم وما كنا غائبين: ما كان الله -تبارك وتعالى- غائبا عن خلقه -سبحانه وتعالى- بل كان مع كل رسول في رسالته, وكان -سبحانه وتعالى- حاضرًا ناظرًا سامعًا لكل قوم صدر إيمانا بهذا الرسول أو  كفرًا به, {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:109]: قالت الرسل لا علم لنا بالذي أُجِبنا, إن الذي سمعه الرسل من حضروهم سمعوا جانب ولم يكونوا يعلمون حقيقة قول القائل من أمته أنهم آمنوا بالرسول هل كان مؤمنًا حقا أم كان مؤمنًا ويخفي هذا الأمر وبماذا رد كل أحد وبماذا عمل في سره, لم يكونوا على علم بهذا إنما الذي على علم بكل ما قد قيل للرسل وبحقيقة ما قيل لهؤلاء الرسل هو الله -تبارك وتعالى-, ولذلك هنا يتبرؤون من العلم بحقيقة الذي كان وأن هذا علمه إلى الله -تبارك وتعالى- قالوا: لا علم لنا لا علم لنا بحقيقة الأقوام وبحقيقة الناس الذين أرسلتنا يا رب إليهم, لقد بلَّغنا ما أُمرنا به لكن بماذا أجابنا الناس على الحقيقة, وهل هؤلاء كانوا مؤمنين على الحقيقة أم لم يكونوا مؤمنين إنما علم هذا هو لله -سبحانه وتعالى- وحده, قالوا: لا علم لنا, تبرأوا من أن يكون لهم علم حقيقي بحقيقة من أُرسِلوا إليهم فإن هذا الأمر إلى الله -تبارك وتعالى-, قالوا لا علم لنا انك أنت علام الغيوب, إنك: أي أنت الرب -سبحانه وتعالى-, إنك: خطاب للرب أي أنت يارب, هنا تأكيد لأن اختصاص الله -تبارك وتعالى- بهذا الأمر, علَّام الغيوب, علَّام: صيغة مبالغة من العلم, الغيوب: كل ما غاب عن البشر وعن الخلق, هذا الغيب الذي هو الغيب الإضافي, والغيب المطلق كله إلى الله -تبارك وتعالى-, الله لا غيب عنده بل كل شيء عنده شهادة سواء كان غيب إضافي بعض البشر يعلمونه وبعض الخلق يعلمونه وبعض الخلق لايعلمونه, فالملائكة تعلم من العلوم ما لا يعلمه غيرهم, وبعض البشر يعلمون ما لا يعلمه غيرهم, وهذا عنده بعض هذه الأمور شهادة, وهذا عنده هذه الأمور غيب, وهذا من الأمور الواقعة في هذه الدنيا, فمن كان في هذا الجانب يعرف ما عنده ولما كان في الجانب الآخر لا يعرف ما عند هذا على هذا النحو, فهذه الغيوب التي هي بالنسبة إضافة إلى بعض الخلق دون بعض الله عليم بها -سبحانه وتعالى-, ثم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- الله هو الذي يعلمه, المستقبل كله ما يكون من بعد اللحظة لا يعلمه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل, إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ: هذه من الأمور التى اختص بها الله -تبارك وتعالى-, {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34], فقالوا: يا رب إنك أنت علام الغيوب, فهذا غيب, هذه امور كانت غائبة وكثيرٌ من هذه الأمور غائبة عنَّا لم نكن ندريها كيف أُجبنا وهؤلاء الذين أجابون هل كانوا صادقين في إيمانهم, كان بعضهم كاذبا في هذه الدعوة ماذا كان بعد ذلك من بعد موتنا بماذا قامت الأقوام؟ هذا كله إلى الله -تبارك وتعالى- الشاهد هنا أن الرسل في هذا اليوم يتبرَّاءون من أن يكون يعلموا حقيقة ما كان عليه أقوامهم وبماذا أجابتهم به ويردون علم ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-, فيقولون: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب, أنك يا ربي أنت علام الغيوب, وهذا نداء من الله وخطاب من الله للرسل جميعا إلى قومهم, ثم يأتي بعد ذلك إحضار الله -تبارك وتعالى- لعيسى أمام قومه وتقريره في هذا الأمر وإشهاده على قومه.

وهذا سنكون معه في الحلقة الآتية إن شاء الله, أقول قولي هذا, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.