الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (161) - سورة المائدة 109-114

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله -تبارك وتعالى-: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:109]: يخبر -سبحانه وتعالى- أنه سيجمع الرسل ليوم القيامة، وأنه يستشهدهم أمام أقوامهم، كما قال -جل وعلا-: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:6]، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}[الأعراف:7]، وقوله -سبحانه وتعالى-: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النساء:41]، {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42]، فيخبر -سبحانه وتعالى- بأنه سيجمع الرسل يوم القيامة، ويقول لهم ماذا أجبتم؟ سؤال ليس للاستفهام وإنما للتقرير شهادتهم على قومهم، ثم بيان شهادة الله -تبارك وتعالى- عليهم، فإن الله -تبارك وتعالى- قد كان حاضرًا مطلعًا على أحوال الجميع، {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، نفوا عن أنفسهم أن يكونوا على علمٍ بما أجابهم قومهم به، وذلك أن هذا ليس عندهم على تفصيل، وإنما شاهدوا ما شاهدوا من ظواهر الحال، وأما حقيقة الأمر فقد كانت إلى الله -تبارك وتعالى- العليم بخفايا الصدور، والعليم بما أحدثه الناس بعد موتهم، فإنما شهدوا ما شهدوا وهم أحياء، فلما ماتوا كان هذا الأمر إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم إن الله هو المطَّلع على حقائق الأمور -سبحانه وتعالى- وعلى خفايا القلوب، {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، الله -سبحانه وتعالى- لا غيب عنده، كل شيء عنده شهادة، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وإنما الغيوب بحسب المخلوقين، فالغيب الذي عند الملائكة والذي لا يعرفه الملائكة- يعرفه الله -تبارك وتعالى-، والغيب الذي عند البشر بعضهم لبعض يعلمه الله -تبارك وتعالى-، الله لا يخفى شيء من شئون خلقه -سبحانه وتعالى-، لا تغيب عنه غائبة -سبحانه وتعالى-.

ثم يستشهد الله -تبارك وتعالى-، ويبيِّن الله -تبارك وتعالى- تقريره لعيسى ابن مريم على وجه الخصوص من جملة هؤلاء الرسل، وذلك أن عيسى -عليه السلام- هو أعظم نبيٍ كُذب عليه، دُعي فيه الإلهية وأنه الله ابن الله، ومضى على هذا ألوف الألوف جيلًا بعد جيل، بعد ما وضع ما يسمى بالأمانة النصرانية، التي هي أعظم خيانة للنصرانية، وهي إجماع النصارى في مؤتمرهم الأول على أن عيسى إله حق من إله حق، جوهره جوهره، وذاته ذاته، وأنه يحي ويميت ويخلق ويرزق كأبيه، وأنه تأنس؛ أي أنزله الله -تبارك وتعالى- وجسمه إنسانًا من مريم العذراء البتول، ثم حكم عليه الرب بالقتل والصلب، ثم قام من موته هذا كما يزعمون بعد ثلاثة أيام، ثم عاد إلى أن يجلس بجوار أبيه، ثم يأتي بعد ذلك في زعمهم لحساب الناس، ليدين الأحياء والأموات ليدين الجميع، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فهنا يبيِّن الله -تبارك وتعالى- كذبهم وافترائهم فيما قالوه على المسيح ابن مريم -عليه السلام-، ويستشهد الله -تبارك وتعالى- عيسى هنا أمام كل الناس، كل من زعم فيه ما زعم، {إِذْ قَالَ اللَّهُ}، قال هنا بالماضي وهذا الأمر سيقوله الرب -تبارك وتعالى- يوم القيامة على رءوس الأشهاد، والكل يشهد وهو حاضر، وعُبِّر هنا بالماضي عن أمرٍ يقع مستقبلًا؛ لتحقق الوقوع، فكل أمر سيتحقق وقوعه ممكن التعبير عنه بالماضي تعبيرًا على هذا، كما قال -تبارك وتعالى-: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}[الانشقاق:1]، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[الانشقاق:2]، {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}[الانشقاق:3]، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق:4]، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[الانشقاق:5]، كل هذا بالماضي وهو سيأتي لم يقع بعد، انشقاق الأرض يوم القيامة، وقوله -تبارك وتعالى-: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1]، {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2]، إلى آخر هذه السورة وهذا كله لم يقع بعد، وقوله -تبارك وتعالى-: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:22]، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}[الفجر:23]، كل هذا عبَّر الله -تبارك وتعالى- عنه بالماضي ولم يكن بعد، وقوله -تبارك وتعالى-: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر:1]، {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}[القمر:2]، فهذه الآيات عبَّر الله -تبارك وتعالى- عنها هنا بصيغة الماضي، كقوله أيضًا -سبحانه وتعالى-: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}، ولم يساقوا بعد وسيكون، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا}، ولم يساقوا بعد وسيكون، وهذا كثيرٌ في القرآن، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}: ناداه الله -تبارك وتعالى- بنسبته إلى أمه التي شرَّفها الله -تبارك وتعالى-، وذلك أنه قد خلقه الله -تبارك وتعالى- من أمه، من هذه الأنثى دون ذكر، {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ}: اذكرها واستحضرها وأخبر بها، نعمتي عليك: إحسان الله -تبارك وتعالى- إليه، {وَعَلى وَالِدَتِكَ}، أما نعمتي عليه فقد جاءت هنا بالتفصيل، وأما نعمة الله -تبارك وتعالى- على والدته أنه راعاها منذ أن ولدت بنذرٍ من أمها، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا}، وأنه صانها وشرَّفها وحفظها من كل دنس وإثم، وأن الله -تبارك وتعالى- هيأها لعبادته، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى-: {........ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:42]، {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[آل عمران:43]، فكانت نعمة الله -تبارك وتعالى- على مريم البتول نعمة عظيمة، تشريفها وتقديسها وحفظها وصونها، ثم بعد ذلك بأن جعلها الله -تبارك وتعالى- تحمل هذا القديس النبي الرسول عيسى ابن مريم -صلوات الله والسلام عليه-.

{اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ}: هذا من أول من إنعام الله عليه، أيدتك: قويتك، التأييد هو التقوية، بروح القدس: جبريل فهو روح القدس؛ الروح المقدسة التي ينزلها الله -تبارك وتعالى- على الأنبياء، كما قال -تبارك وتعالى- في محمد -صلوات الله والسلام عليه-: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}, نزَّله: القرآن، روح القدس: جبريل، أي الروح المقدسة وينسب إلى الله -تبارك وتعالى-، كما في قول الله -تبارك وتعالى-: {........ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}[مريم:17]، أرسلنا إليها: إلى مريم، روحنا: جبريل، فتمثل لها:-أي جبريل بشرًا سويًا: بشرًا تام الخلق، فهذا روح الله -تبارك وتعالى-، ونسبه الله -تبارك وتعالى- إليه؛ لآنه عبده الذي يرسله بالوحي، الذي هو روح، يحي الله -تبارك وتعالى- به موات القلوب، {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ}: الروح المقدسة جبريل، {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ}: هذا مما أيده الله -تبارك وتعالى- به، ومما أنعم الله -عز وجل- عليه أن يكلم الناس في المهد، المهد: هو الفراش الذي يُمهَّد للصبي الصغير، فإن عيسى قد تكلم مع الناس بعد الولادة مباشرةً، لما أتت به مريم -عليها السلام- قومها، قال -جل وعلا-: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}، أول ما رأوها بعد ولادته، {........ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}[مريم:27]، {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}[مريم:28]، قال -جل وعلا- {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}[مريم:29]، {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}[مريم:30]، وهنا عبَّر بصيغة الماضي عن المستقبل؛ لتحقق الوقوع، قال آتاني الكتاب ولم يؤتيه بعد، وجعلني نبيًا ولم يصبح نبيًا بعد، ولكن هذا أمرٌ متحقق الوقوع، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}[مريم:31]، {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي}، ولم يشب بعد حتى يبر والدته، لكن هذا سيكون، {........ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}[مريم:32]، {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}[مريم:33]، فهذا كلامه في المهد.

{تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}، الكهل في لغة العرب: هو مَن فارق الشباب ودخل في المرحلة التي بعد الشباب، التي هي الكهولة وتبدأ من الثالثة والثلاثين، والإعجاز في أنه يكلم الناس في المهد وكهلًا أن هذه معجزة، وكلامه في المهد تأكيد على أنه سيبلغ هذا السن ويكلم الناس، وقال بعض أهل العلم: إن هذا إثبات وهي معجزة كذلك كلامه في الكهولة، وذلك أنه ينزل في آخر الزمان ويدعو إلى الله -تبارك وتعالى-، كما في الحديث الصحيح: «والذي نفس محمدٍ بيده لينزلن فيكم عيسى إبن مريم حكمًا عدلًا مقسطًا، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويؤذِّن بالصلاة، ويضع الجزية»، أي أنه نازل بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن هذه كلها من شرائع النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحال أن عيسى في وقته لما نزل بشريعته؛ شريعة المسامحة وألا يقاوم الشر، لأن الفئة التي كانت معه في ذلك الوقت من أهل الإيمان كانت فئة قليلة، لا تستطيع أن تقاوم الشر الذي كان موجودًا، سواءً كان في بني إسرائيل فهم كانوا أشر الأشرار، وقاوموه أشد المقاومة، ثم من بعد بني إسرائيل ممن كانوا يحكمون أرض فلسطين وهم الرومان، أمة وثنية وكانت أمة كبيرة عظيمة ممتدة السلطان، فما قاوم الشر في وقته، أما إذا نزل عيسى ان مريم فينزل في أمة محمد، أمة ممتدة السلطان قوية، تلتف حوله ويحطم بها الباطل، فيكسر الصليب لا مجرد أن يعترض عليه وأن يبين نكارته وشركه، بل يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويؤذِّن بالصلاة؛ صلاة المسلمين، ولم يكن في وقت عيسى آذان بالصلاة بل كان هو في وقته كله دعوته كله مستخفيًا بدينه، ثم كذلك يضع الجزية فلا يقبلها، لا يقبل الجزية وإنما لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فالله -تبارك وتعالى- يبين نعمته عليه ويقول له {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}، كذلك وهذه الكهولة ممكن أن تكون في وقت بدء نبوته، ثم في آخر الزمان عندما ينزل حكمًا عدلًا مقسطًا.

{وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: هذا من فضل الله -تبارك وتعالى- عليه، أن علمه الكتاب وهي التوراة، والحكمة: وهو العلم تام الذي يضع به الأمور في نصابه، {وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}، فالكتاب هنا يكون جنس الكتب، والتوراة والإنجيل إنما هي من باب ذكر الخاص بعد العام، {وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي}: أي أنه بتعليم الله وإذنه له وسماحه له في أن يفعل هذا، كان يخلق من الطين كهيئة الطير، يخلق هنا: أي يصور، الخلق يأتي بمعنى التصوير والتقدير، فيصور من الطين على صورة الطير، ثم ينفخ فيه فيطير طيرًا حيًا، فالفعل الخلق بإذن الله -تبارك وتعالى-، ونفخه في هذا الطين هو بإذن الله، ونقله من حالة الطين والجماد إلى حالة الحياة بإذن الله -تبارك وتعالى-، {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي}: تكون تحول تصير طير حقيقي، بإذني: بإذن الله -تبارك وتعالى- وليس بقوته هو الذاتية من نفسه، كأنه إله خالق مع الله -تبارك وتعالى- لا، بل هو عبد مربوب الله -تبارك وتعالى- قد أقدره على هذه، وضع فيه هذه القدرة ووضع له هذا الأمر ليكون.

{وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي}، الإبراء: الشفاء التام، الأكمه: هو الذي يولد أعمى، وهذا الذي يولد أعمى ويكون فاقد البصر من الأساس ولم يدخل عليه العمى بعد مدة، فهذا يتعذر على البشر بل يستحيل وإلى اليوم إعطائه البصر، لأن الأعصاب البصرية والعين نفسها غير موجودة، مولود وهذه عين ميتة، وليست كانت عين حية ثم طرأ عليها مرض أو عوار فحجبها عن الرؤية، لا بل هذا مولود على هذا النحو، فهذا الذي على هذا النحو يعجز البشر على أن يجعلوه مبصرًا، كان يبرئه ويجعله بريء من العمى تمامًا بل مبصر، {وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ}، كذلك البرص وهو تغير لون الجلد بسبب هذا المرض المعروف، ولليوم لا يعرف البشر طريقًا لرد لون الجلد إلى صورته وحالته الأولى، كان يبرئه، فإذا مسح الأبرص يرجع جلده كما كان، بإذني: بإذن الله -تبارك وتعالى-، {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}: تخرجهم من قبورهم، يذهب إلى القبر وينادي الميت، ويقول له يا فلان قم فيقوم ويخرج من قبره، قال -تبارك وتعالى- أيضًا {بِإِذْنِي}، وتكرير بإذني بإذني بإذني عند كل فعل من هذه الأفعال يدل على أن هذا إنما هو من الله، وليس من قدرته الذاتية كأنه إلهٌ مع الله، لا بل الله هو الذي أعطاه هذا ليفعل، وأجراها على يديه لتكون معجزة له.

{وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}، الكف: المنع، بنوا إسرائيل حاولوا قتله بكل سبيل وسعوا في هذا، طبعًا بأنفسهم لا يستطيعون أن يقتلوه إلا غيلة، ولذلك إستعانوا بالرومان, والرومان هم الذين كانوا لهم الحكم في ذلك الوقت، فقد حكموا عليه اليهود بأنه مهرطقٌ كذَّاب، وأنه قالوا فيه المقالة العظيمة، وسعوا في أن يقتلوه بكل سبيل، واستصدروا أمرًا من الحاكم الروماني بوجوب قتله، حتى لما تلكأ الحاكم الرومان بلطف في أن يقتله، لأنه لم يرى عنده شيء يستوجب القتل، قال لهم إني بريءٌ من دم هذا البار، أي لما أقتله؟، فقالوا إذا لم تقتله فسنرفع أمرك إلى القيصر لأنك تتهاون مع المفسدين، هذا مفسد ويريد الإفساد، فخشي من ذلك وأعلن أنه بريءٌ من دمه، وعلى كلام الإنجيل سار في سبيل قتله على هذا النحو، وأن الله -تبارك وتعالى- لما مكروا مكر الله -تبارك وتعالى- بهم، فألقى شِبهَهُ على غيره واستاقوا هذا الغير إلى الصلب والقتل، وأنجى الله -تبارك وتعالى- عيسى ابن مريم، ورفعه -سبحانه وتعالى- إليه إلى السماء، {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ}: منعتهم عنك أن ينالوك بسوء، {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}: بالأدلة الواضحة، وهذا تعريض ببني إسرائيل أهل القسوة والظلم، فقد رأوا هذه البينات العظيمة التي أجراها الله -تبارك وتعالى- على يد عيسى، ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا، {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}: قال الذين كفروا من بني إسرائيل إن هذا الذي جئتنا به يا عيسى إلا سحرٌ مبين، سحرٌ بيِّن لا خفاء فيه، وهذا من كذبهم وافترائهم وردهم آيات الله -تبارك وتعالى- بهذا الإفتراء عليها.

ثم أيضًا في سياق إظهار نعمة الله -تبارك وتعالى- عليه في هذا المشهد العظيم أمام العالمين، قال -جل وعلا-: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي}، الحواريون: هم أصحاب عيسى إبن مريم -عليه السلام-، وهم أنصاره الذين قاموا معه، وذلك هؤلاء الصفوة المنتخبة من جملة من آمن به، فإن عيسى لما رأى تكالب بني إسرائيل عليه وأنهم ساعون في قتله بكل سبيل، قال لمن حوله من أنصاري إلى الله؟ من ينصرني؟ فقال الحواريون هؤلاء الصفوة نحن أنصار الله، قال -جل وعلا-: {........ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[الصف:14]، {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}،: هؤلاء الأنصار الذين يسمونهم النصارى تلامذة المسيح -عليه السلام-، الذين التفوا حوله وأرادوا نصرته، وكانوا في كلام الإنجيل أنهم اثنى عشر تلميذًا من خُلَّص أتباعه، قال -جل وعلا-: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ}، الوحي هنا ليس إرسال ملك وإنما هو إعلام بطريق خفي، وهو الإلهام الذي ألقاه الله -تبارك وتعالى- في قلوبهم، والهدى الذي سكبه الله -تبارك وتعالى- في هذا القلوب، بأن يسارعوا إلى الإيمان بعيسى -عليه السلام-، ويقول الإنجيل بأن هؤلاء جميعهم أو جُلُّهم كانوا من صيادي الأسماك، كانوا صيادين في بحيرة طبرية ومر عليهم، وقال لهم تعالوا أعلمكم شيئًا خيرًا من هذا الصيد، بدلًا من أن تصطادوا السمك أعلمكم صيد الناس إلى الجنة إلى الخلود، فرفضوا ما بأيديهم والتحقوا بعيسى يخرجون معه من قرية إلى قرية، ومن بستان إلى بستان داعين لله -تبارك وتعالى-.

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا}:  قال هؤلاء الحواريون آمنا، فلما هداهم الله وسكب الله -تبارك وتعالى- في قلوبهم، وأوحى إليهم بالهداية فأعلنوا هذه الهداية ودخلوا في الإيمان، {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}: واشهد يا عيسى بأننا مسلمون، أي منقادون مذعنون لأمر الله -تبارك وتعالى- مطيعون له، هذه كذلك من منة الله، الله -تبارك وتعالى- يبين منته على عيسى، وأن هداية هؤلاء إنما كانت من الله -سبحانه وتعالى-، فإن الهدى هدى الله لا أحد يستطيع أن يهدي أحد، وإنما هنا هو الله الذي يهدي -سبحانه وتعالى-، فالله يخبره كذلك بأن تهيئة الحواريين ما سكب الله في قلوبهم من الخير ومن هذا الإلهام بأن يؤمنوا لعيسى، إنما كان من الله -تبارك وتعالى-، وليس بفعل عيسى إبن مريم -عليه السلام-.

قم يذَكِّر الله -تبارك وتعالى- عيسى، قال -جل وعلا: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}، هؤلاء الأنصار، {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}: نادوه، {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}، طبعًا قول الحواريون يا عيسى ابن مريم ليس من الأدب الكامل، مثل الذي أدَّب الله -تبارك وتعالى- به أمة الإسلام، فإن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن أحد يناديه باسمه، يقول له يا محمد ابن عبد الله أو يا أبا القاسم وإنما ينادونه بوصفه، يا أيها النبي يا أيها الرسول يا رسول الله يا نبي الله، فهكذا يُنادى النبي، لكن هؤلاء لعلهم مبتدئون في الإيمان ونادوا رسولهم على هذا النحو، فقالو له {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}، وهذا طبعًا سؤال عجيب، صيغة السؤال تدل على نوع من البداءة كذلك في الإيمان، وقولهم هل يستطيع ربك أولًا استطاعة الرب هذا من بديهيات الأمر، أن الذي يؤمن بأن الله هو خالق السماوات والأرض، وهو الذي أجرى ما أجرى على يد عيسى ابن مريم من البينات، لا شك أن إنزال مائدة من السماء {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}، هذا أمرٌ أهون بكثير جدًا من أن يشك فيه شاك، وهم طبعًا لم يكونوا شاكين، لكن الصيغة التي صاغوا بها قولهم لعيسى يدل على جهالة في الأمر، هل يستطيع ربك بدل من أن يقولوا ربنا قالوا ربك، أيضًا فنسبوا هذا الرب إلى الرسول، وكانوا أولى أن يسبوه بداية إليهم من باب أنهم مؤمنون به، وأنهم واثقون في عطائه واستجابته، أما كأنه ربك كأنه شأن غيرهم ليس هو شأنهم، {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}، المائدة: السفرة التي عليها الطعام، {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ}: قال لهم رسولهم عيسى -عليه السلام- {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}: أي خافوا الله -تبارك وتعالى-، واجعلوا وقاية بينكم وبين عذاب الله، فإن هذا السؤال يدل بظاهره على نوع من الشك في قدرة الرب -تبارك وتعالى-، كذلك إساءة الأدب مع الله -تبارك وتعالى- ومع الرسول، هل يستطيع ربك؟ لا يقال هل يستطيع ربك كان ينبغي أن يقولوا أدعوا الله -سبحانه وتعالى- أن ينزل علينا مائدة من السماء أو نريد، أما هل يستطيع، ولذلك قال لهم رسولهم اتقوا الله، خافوا الله -تبارك وتعالى-، اجعلوا وقاية بينكم وبين عذابه، تنظروا ما تقولون, إن كنتم مؤمنين، إن كان لكم إيمان بالله -تبارك وتعالى- حقيقي فاتقوا الله -تبارك وتعالى-.

فبينوا مرادهم بهذا السؤال الذي جاء على هذه الصيغة الفجة، {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}[المائدة:113]، قالوا: أي الحواريين، نريد أن نأكل منها: يبدوا حاجتهم إليها، فهذا أول شيء إما حاجتهم إلى هذا الطعام، أو نوع من أن يفرحوا بطعام نزل عليهم من الغيب، من الله -تبارك وتعالى- دون سبب، دون أن يصيدوا مثلًا سمك يصيدونه من البحيرة أو زرع ينالونه بأيديهم لا، هؤلاء يريدوا أن يأكلوا أكل بغير سبب هكذا من السماء، {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا}: تطمئن قلوبنا بالإيمان اليقيني الحق عندما نشاهد هذه الآية التي اقتراحناها، وإلا فهم قد شاهدوا آيات عظيمة أجراها الله -تبارك وتعالى- على يد عيسى -عليه السلام-، {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا}: ونعلم أن قد صدقتنا كذلك في كثير من نسبة من الريب في شأن عيسى -عليه السلام-، نعلم أن قد صدقتنا فيما وعدتنا به من موعود الله -تبارك وتعالى- بالفوز برضوانه، والفوز بجنته والنصر والتمكين، كل ما وعد به، {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}[المائدة:113]: ونكون عليها من الشاهدين آية نشهد عليها ونحضرها، ثم نخبر بها كذلك من بعدنا، فتكون هذه آية للجميع، نشهد على هذه الآية، هذا كان تعليلهم لطلبهم هذه الآية من الله -تبارك وتعالى-.

عند ذلك توجه عيسى -عليه السلام- إلى ربه بأن يحقق هذه الطلبة لأصحابه، قال الله -عز وجل-: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ}[المائدة:114]: تأدب عيسى مع الله -تبارك وتعالى- قائلًا {اللَّهُمَّ رَبَّنَا}:أي يا ربنا، اللهم: الله هو الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، ربنا: أي يا ربنا، {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}: هذه السفرة التي عليها هذا الطعام، {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا}: أي تكون بهذا الوقت معلوم نجعل الوقت الذي تنزل فيه عيد، أي نذكرها كل عام من هذا الوقت، لأولنا وآخرنا كذلك من يأتي بعدنا من هذه الأمة، فيذكر هذا اليوم وهذا الفضل فيه، {وَآيَةً مِنْكَ}: تكون آية منك لكل من يشهدها ومن يأتي بعدها، {وَارْزُقْنَا}: من هذا الطعام، {وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ}.

أدركنا الوقت وسنأتي إن شاء الله في الحلقة الآتية نكمل هذه الآيات، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، -وصلى الله على عبده وسوله محمد-.