الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (162) - سورة المائدة 114-120

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ}[المائدة:114]، {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}[المائدة:115]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن عيسى ابن مريم -عليه السلام- أجاب الحواريين، الذين طلبوا منه أن ينزل الله –تبارك وتعالى- عليهم مائدة من السماء، وطبعًا هم قد صاغوا سؤالهم بصيغة سيئة فقالوا: {........هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}، فقال لهم رسولهم: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة:112]، كيف تقولون هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ فإن كنتم مؤمنين فاتقوا الله، خافوا الله -تبارك وتعالى-، وهذا لِما في سؤالهم أولًا من استعظام هذا الأمر على الله هل يستطيع؟ ثم يقولوا ربنا، {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}[المائدة:113]، ففزع عيسى ابن مريم -عليه السلام- إلى الله طالبًا أن يحقق الله -تبارك وتعالى- ما طلبه أصحابه وحواريوه منه، فقال {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا}، نتخذ اليوم الذي تنزل فيه هذه المائدة من السماء عيد، أي يوم نحتفل به كل عام لتذكُّر نعمة الله -تبارك وتعالى-، وهذه المعجزات الباهرة التي يقيمها الله -تبارك وتعالى- ويحققها لهم، {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا}، أول هذه الأمة الذين هم مع عيسى -عليه السلام-، {وَآخِرِنَا}، كذلك يحتفلون بها ويذكرونها، {وَآيَةً مِنْكَ}: علامة على أن ما أنزلته علينا حق وأن دينك حق، {وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ}: أن هذا كذلك من الرزق الذي يفرحون به ويأكلونه، ويتمتعون به متعة في هذه الدنيا، وأن هذا طعام آتاهم من الغيب بأمر الله -تبارك وتعالى-.

قال الله -عز وجل- مجيبًا عيسى -عليه السلام- {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}[المائدة:115]: أخبرهم الله -تبارك وتعالى- أنه استجاب لهم ما طلبوا، وأنه سينزل عليهم هذه المائدة كما إقترحوا، ولما كانت هذه آية هم اقترحوها بأنفسهم فإن من كفر بعد هذه الآية التي هو إقترحها وهو أرادها والله -تبارك وتعالى- أنزلها يكون هنا معاند عناد كبير، يكون عناده أعظم العناد، وبالتالي يقول الله -تبارك وتعالى- يحذرهم الله -تبارك وتعالى- من الكفر بعد نزول هذه الآية، {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ}: من كفر بعد نزول هذه الآية منكم وقد شهدوا هذه الآية وهم الذين اقترحوها، {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}، سيكون هذا الجاحد الكافر الذي كفر بعد آية هو اقترحها وهو أرادها عذاب لا يعذب الله -تبارك وتعالى- به أحدًا من العالمين، هذا جاء كله هنا في سياق تقرير الله -تبارك وتعالى- لعيسى، على هذه النعم التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها عليه، وهذا أمام الأشهاد، أمام كل من قال لعيسى ابن مريم تلك المقالة الفاجرة بأنه الله، وأنه هو الذي يفعل وهو الذي يفعل، وأنه إله من إله، وأنه هو الله وروح القدس كما زعموا، تعالى الله عن ذلك إلهٌ واحد، جوهرة, وحقيقته تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، هذا تقرير أنه عبد لله -تبارك وتعالى- أنعم الله -عز وجل- عليه بهذه النعم، وكان هذا شأنه حتى مع حواريه الذين طلبوا منه هذا الطلب، مائدة من السماء شيء من الغيب، وأنه لم يستطع بأن يأتي بهذا إلا بأن توسل لله -تبارك وتعالى- ودعاه بكل هذا الدعاء أن يستجيب الله -تبارك وتعالى- له، وإستجاب الله وأنزل لهم هذه المائدة، فعيسى لم يكن على استطاعة أن يجيب من نفسه الحواريين الذين آمنوا به، بأن يأتي لهم بطعام من الغيب بنفسه، فهذا كله أنزله الله -تبارك وتعالى-؛ ليبين الله -تبارك وتعالى- عبوديته، أنه عبد مربوب لله -تبارك وتعالى-، ليس بيده خلق ولا نفع لأحد ولا ضر. لأحد.

بعد هذا يرتب الله -تبارك وتعالى- على بيان هذه النعم يقرر عيسى، فيقول له {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}، إذ قال الله أيضًا بصيغة الماضي وهذا سيقوله الله -تبارك وتعالى-، وجاء هذا؛ لتحقيق الأمر، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ وهذا السؤال يراد به التقرير، حتى يجيب عيسى فيقر بالحق في هذا الأمر، أأنت قلت للناس أي يوم كنت رسولًا في الأرض {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، إتخذوني: هو عيسى، وأمي إلهين: أي معبودين، والنصارى تزعم أن عيسى إله حق من إله حق، وأن أمه إلهة ليست من ذات الله فيما يدَّعوا أنها جزء من الله، ولكنها إلهة بمعنى أنها معبودة، ولذلك يصومون لها ينذرون لها يذبحون لها يسلون لها يقدسونها، يعطونها ما يُعطى الرب -جل وعلا- من التقديس والتنزيه والتسبيح، وفروض الطاعة من الصوم لها والنذر لها،  قال عيسى وهذ أمام الأشهاد {سُبْحَانَكَ}، تنزيهًا لك، أي أنزهك يا رب أن يكون لك شريك، أنا أو أمي أو أي أحد من الخلق سبحانك تنزيهًا لك أن يكون هناك إلهٌ معك، {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}: ما ينبغي لي، هذا لا يمكن أن يكون في واقع الأمر وفي حقيقته، فهو رسول معصوم أن يتكلم على الله وأن يكذب على الله، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}: أن أقول قولًا لا يحق لي أن أقوله، {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}: إن كنت قلت هذا الكلام فقد علمته يا رب، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}: فإنك تعلم الذي في نفسي ولا أعلم أنا الذي في نفسك، فأنت الإله الرب الخالق الذي يعلم الغيب كله، وأنا عبد مربوب مخلوق لا يعرف الغيب، ولا يعرف ما في نفس الرب -تبارك وتعالى-، {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}: إنك أنت وحدك علَّام الغيوب، كل ما غاب أنت تعلمه -سبحانه وتعالى-، أي أنا بريء من هذا القول لم أقوله، وإن كنت قلته فأنت قد علمته، فأنا لا أستطيع أن أخفي عنك شيء، فإن الذي في نفسي أنت تعلمه وأنا لا أعلم الذي في نفسك، أنا عبدك المخلوق المربوب.

ثم يخبر عيسى بالذي قاله لله -تبارك وتعالى- ويقرر بعد ذلك ما قاله، وقال {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}، ما قلت لهم يوم كنت رسولًا في وسطهم إلا ما أمرتني به، هذا شأن الرسل جميعًا, عبد ملتزم يبلغ عن الله -تبارك وتعالى- ما أنزله الله -تبارك وتعالى- إليه لا يزيد لا ينقص، {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}، ثم ذكر خلاصة ما أمره الله به، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}: هذا هو الدين الذي أرسلت به، أن يا قوم دعوتهم إلى عبادتك، أن إعبدوا الله؛ الله الاسم العلم على ذات الرب -تبارك وتعالى- الذي لا أشرك معه فيه غيره، لا عيسى ولا روح القدس ولا أحد يطلق عليه الله، الله إله واحد ليس له جزء وليس له والد ولا ولد -سبحانه وتعالى-، بل الله هو الإله الحق الواحد -سبحانه وتعالى- الذي لا إله إلا هو، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي}: بدأ بنفسه أنه رب خالقي وإلهي ومولاي، فالرب هو الإله السيد المالك، {وَرَبَّكُمْ}: وكذلك خالقكم وسيدكم ومولاكم لا إله لكم غيره، ولا رب لكم سواه، ثم قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ}: أنا كنت شهيدًا عليهم ما دمت فيهم، أشهد على ما رأيته وعلى ما حضرته، في وقت حياتي فيهم، {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}: وفاته هنا هي النوم، إنامته ورفعه للسماء، {قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، متوفيك: منيمك، {........ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ........}[آل عمران:55]، {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي}: أي أخذتني ورفعتني من هذه الأرض إليك في السماء، {كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}، كنت أنت -سبحانك- الرقيب المراقب لهم، {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، أنت يا ربي على كل شيء شهيد حاضر مشاهد، فالله -تبارك وتعالى- لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ، وهو شهيدٌ على كل شيء، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، حاضر لا يغيب، في كل لحظة ووقت وزمن وكل مكان الله -تبارك وتعالى- حاضرٌ عليها، هذا الرب -جل وعلا-، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61].

{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117]، {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}: أي هؤلاء الذي قالوا هذه المقالة من الكفر والشرك، هنا عيسى يتبرأ ويبرأ إلى الله -تبارك وتعالى- ولا يتدخل في حساب القوم، وذلك أن حساب الجميع إلى الله -تبارك وتعالى- وليس حسابهم إلى عيسى وغيره، ولا يقترح شيئًا بل يترك الأمر لله -سبحانه وتعالى- فيقول {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}، وهذا ليس دفاعًا عنهم، هذا ليس من عيسى دفاعًا عنهم فيقول أنا أدافع عنهم لا، بل إن تعذبهم فإنهم عبادك أي عذاب هؤلاء إليك، وأنت المتصرف فيهم، فهم عبادك وأنا لا أحاجي ولن أدافع عن مبطل وإنما هذا الأمر إليك، ولا يتدخل عيسى -عليه السلام- لا بوجوب تعذيبهم ولا برفع العذاب عنهم، بل يجعل أمر حسابهم إلى الله -تبارك وتعالى- بغير إقتراح منه، ما يقترح في هذا شيء، فيقول {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]: أي إن حصلت مغفرة كذلك لهم فهذا الأمر إليك، ليس لي في هذا الأمر شيء وإنما أمر حساب العالمين إليك يا رب، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، ولم يقل الغفور الرحيم لأنه لا يريد أن يرفع العذاب عن مشرك، ولا يجوز أن يدعو لمشرك وذلك في هذا الوقت، وإنما قال أنت العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد، الحكيم الذي يضع الأمور في نصابها، فلا يغلبك أحد -سبحانك وتعالى- الغلبة كلها إليك، أنت القهار الذي قهر العالمين، وأنت العزيز الغالب، بمعنى الغالب الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، الحكيم الذي يضع كل أمر في نصابه، وهذه الآيات من عيسى من آيات كماله وإحسانه وتفويضه أمر الخلق إلى ربه -سبحانه وتعالى-، وأمر الحساب إليه وعدم تدخله في هذا الشأن، وذلك أن هذا الأمر لله -تبارك وتعالى-، فليس لأحد شركة مع الله -تبارك وتعالى- في حساب أحد، {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، وذكر المغفرة هنا وإن كان يعلم بأن كل كافر يموت على الشرك ويموت على الكفر فهو ليس من أهل المغفرة، لكنه كذلك يدع الأمر كله لله -سبحانه وتعالى- هو الذي يتصرف في عباده بقدرته وحكمته وعزته -سبحانه وتعالى-، ولا يضع أمرًا إلا في نصابه -جل وعلا-

يخبر -سبحانه وتعالى- فيقول: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}: قال: هنا فعل ماضي, وهذا سيقوله الرب -تبارك وتعالى- في هذا الوقت، وإنما عبَّر عنه بالماضي لتحقق الوقوع؛ لأن هذا أمرٌ متحقق الوقوع، قال الله بعد هذه المقالة من عيسى -عليه السلام- {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}، هذا اليوم: الذي هو يوم القيامة, يوم ينفع الصادقين صدقهم، نفع ظهور، يظهر هذا النفع للجميع، وإلا الصادق فلا شك أن الصدق نافعه، لكن في الدنيا قد يصدق وقد يكون بهذا الصدق يتعرض للإهانة والتعذيب، كفعل ما يقع لأهل الإيمان، فإنهم صادقون في قولهم وإيمانهم بالله -تبارك وتعالى- ويتعرضون لصنوف البلاء مما يكون، ونفعهم يأتي يوم القيامة، لكن هذا اليوم سيظهر هنا، يظهر جزاء الصادقين وجزاء الكاذبين، قال الله -عز وجل-: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}، فهذا يوم الجزاء، فأهل الصدق كعيسى -عليه السلام- هنا صادق فيما قال، وكذلك الذين شهدوا له بالحق، شهدوا أنه عبد الله ورسوله حقًا وصدقًا، ولم يشهدوا شهادة الباطل والزور بأنه ابن الله أو أنه إله مع الله، فهذا الذي يظهر هنا نفع الصدق لأهله فيدخلهم الله الجنة، {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- هذا النفع ما هو، قال {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ}، لهم: لأهل الصدق الذين قالوا الصدق، وصدقوا بالصدق, لهم جنات: بساتين، تجري من تحتها: من تحت أشجارها، الأشجار, هذه البساتين ومن تحت غصونها الأنهار المختلفة، {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}، أنهار مختلفة، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، الخلود: هو المكث الطويل، الخلود في لغة العرب: هو المكث الطويل، وأبدًا هنا: الأبد لا إنقطاع له ولا نهاية له.

{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، هذا كذلك من إنعام الله -تبارك وتعالى- لهم أنه رضي الله عنهم، ورضا الرب معناه هذا هو شهادة الأمان والأمن، لا سخط بعد هذا، بعد أن يرضى الله -سبحانه وتعالى- أن لا سخط بعد ذلك، ولا انقطاع لفضل الله -تبارك وتعالى- وإحسانه، {وَرَضُوا عَنْهُ}، هذا من تمام رحمة الله -تبارك وتعالى- وإكرامه وإنعامه أنه يرضى الله عن أهل الإيمان ، أي يحبون الله -تبارك وتعالى-، ويفرحون ويرضون بما أعطاهم الله -تبارك وتعالى- رضا هائل جدًا، أنهم يشعرون بمحبة الرب العظيمة جدًا بما يعطيهم، فإذا نالوا ما نالوا مما يعيطيهم الله -تبارك وتعالى- يحصل لهم الرضا التام والمحبة التامة والأنس التام بربهم –جل وعلا-، رضي الله عنهم ورضوا عنه -سبحانه وتعالى-، {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، ذلك بالإشارة للبعيد تنويهًا وإعلاءًا لهذا الشأن، الفوز العظيم الفوز الأكبر أعظم فوز، لا أعظم من هذا، أن يدخل الإنسان هذه الجنة، تكون له هذه الجنات بما ذخر الله -تبارك وتعالى- فيها من هذه الخيرات، وأنه يخلد فيها خلودًا لا انقطاع له، وأن الرب الإله خالق الكون -سبحانه وتعالى- كله راضي عنه، وهو في محبة ورضا عن الله -تبارك وتعالى-، ويعيش ويحيى في هذا حياة لا تنتهي ولا تنقطع هذا هو الفوز العظيم، وبالطبع لا يذكر هنا في هذا المقام العظيم لا يذكر المقابل وهو جزاء الكاذبين، وهو معلوم جزاء من كذب على الله -تبارك وتعالى- وإفترى وقال في عيسى ما قال، طبعًا سيكون هنا يخزى يخيب يبوء بالخسران ، هذا ليس من أهل الصدق فلا يكون قد دخل مدخل هؤلاء الصادقين، وإهمال وترك ذكرهم في هذا الموقع من إهمالهم لأن هذا أمر أصبح معلومًا.

ثم يقول الله -تبارك وتعالى- {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، هذا ختام آخر آية في ختام هذه السورة, لله لا لغيره، هنا قدم لله ما قال ملك السماوات والأرض لله، وإنما قال لله الجار هنا قدمه؛ لبيان الحصر أنها لله فقط لا لغيره -سبحانه وتعالى-، {مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، ملك ذات ملك رقبة، فإنه هو الذي أخرجها وبعثها من العدم -سبحانه وتعالى-، مادة السماوات والأرض الله هو الذي أوجدها -سبحانه وتعالى-، وإبداعها على هذا النحو هو المبدع لها -سبحانه وتعالى-، الله خالق كل شيء ثم تصريفها بالحركة، والسكون، تصريف المخلوق هداية وإضلال، إغناءًا وإفقارًا، ضحكًا وبكاءًا، موتًا وحياةً، مرضًا وصحة، كل التصريف الذي يقع على المخلوقات هو لله -سبحانه وتعالى-، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26]، {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:27]، فالذي يتصرف في الليل والنهار والخلق كله عزًا وذلًا إغناءًا وإفقارًا هو الرب -سبحانه وتعالى-.

{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم:42]، {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}[النجم:43]، {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}[النجم:44]، {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}[النجم:45]، {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}[النجم:46]، {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى}[النجم:47]، عليه لا على غيره النشأة الأخرى، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم:48]، أغنى بالعرض وأقنى بالقنية، أي ما تقتنيه من متاع هو من الله، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم:48]، {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}[النجم:49]، هذا النجم العظيم في السماء، {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى}[النجم:50]، {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51]، {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم:52]، {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}[النجم:53]، المؤتفكة: قرى لوط التي أفكها على رءوس أصحابها، {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}[النجم:54]: من المطر الخبيث والحجارة التي ألحقهم الله -تبارك وتعالى- بها، {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}[النجم:54]، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}[النجم:55]، {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى}[النجم:56], فهذا كله إلى الله -عز وجل-، هذا عمل الله -تبارك وتعالى- في التصريف له.

إذًا {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ}: الله له ملك السماوات والأرض، فهو ملكها ومالكها -سبحانه وتعالى-، مالكها ذاتًا ومالكها تصريفًا، فلا يملك الذات فقط وأما المخلوف فيتصرف في نفسه كما يشاء لا، بل المخلوق لا يتصرف في نفسه ولا في غيره إلا بمشيئة مالكه، بمشيئة الرب الإله -سبحانه وتعالى-،  كل ما في السماوات والأرض، عوالم العالمين كلهم عالم الملائكة عالم الجن عالم الإنس عالم الطير عالم الحيوان، كل هذا التي في السماوات والأرض الله مالكها -سبحانه وتعالى- {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة:120]: هو الرب الإله -سبحانه وتعالى-، على كل شيء قدير لا يعجزه شيء –سبحانه وتعالى-، هو الإله وحده الذي لا إله إلا هو –سبحانه وتعالى-.

بهذا ختمت هذه السورة بهذه الآيات العظيمة، وهذا فيه ختام لكل ما جاء في هذه السورة، أولًا من باب التشريع، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ}، كل تشريع؛ التشريع هذا نابع من ماذا؟ من أن الله هو الملك -سبحانه وتعالى-، من أنه ملك السماوات والأرض، ولذلك هو الذي يشرع لعباده ما شاء، فإن الملك الذي يملك والذي خلق هو الذي له الحق في أن يشرع ما شاء -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا-: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ........}[الأعراف:54]، ألا فاعلموا أيها الناس أن له الخلق كله له والأمر، الأمر بنوعيه؛ الأمر الكوني القدري، فلا يكون إلا ما أمر به -سبحانه وتعالى-، والأمر الشرعي الديني إفعل ولا تفعل، هذا حرام وهذا حلال، فالأمر الشرعي الديني له، والأمر الكوني القدري بكل معاني القدر من الحركة الصغيرة كله له -سبحانه وتعالى-، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.

ثم بعد ذلك ما جاء في هذه السورة من مقالات المشركين والكفار، وأعظم هذه المقالات كفرًا وعنادًا القول في عيسى ابن مريم -عليه السلام- بأنه إله مع الله، ففي السورة {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}، ثم بعد ذلك يختم الله -تبارك وتعالى- هذه السورة وفي هذا ببيان وحدانيته –سبحانه وتعالى-، وأن هذا فضله وإنعامه على عيسى إبن مريم، ويبين الله -تبارك وتعالى- ويعرض لنا الله -تبارك وتعالى- هذا المشهد العظيم يوم القيامة حيث يشهد الجميع، ويأتي كل هؤلاء ويستشهد الله عيسى، يسأله الله -تبارك وتعالى- على رءوس الأشهاد، {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، إلى أخر هذه الآيات، ثم يبين الله -تبارك وتعالى- أن هذه عاقبة أهل الصدق، ومعلوم ما عاقبة أهل الكذب، ثم يعقب الله -تبارك وتعالى- هذا التعقيب في هذه السورة؛ سورة المائدة السورة العظيمة، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ }، اعلموا هذا أن الله هو الملك وحده -سبحانه وتعالى- وهو المالك وحده، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

بهذا ننتهي إلى نهاية هذه السورة العظيمة سورة المائدة، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من العلم والإيمان والحكمة، وأن يجعل هذا القرآن الكريم حجة لنا لا حجة علينا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.