الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (163) - سورة الأنعام 1-5

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد, فإن خير الكلام؛ كلام الله تعالى، وخير الهدي؛ هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

وبعد, فسورة الأنعام سورة مكية بتمامها، وهي من السبع الطوال، وقد أختصت بأنها أُنزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- جملة واحدة، على غير المعهود في الطوال فإنها نزلت مُنَجَّمة على فترات متباعدة، كالبقرة مثلًا في تسع سنوات نزلت على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ففيها الصيام الذي شرع في السنة الثانية، وفيها آيات الدين وآيات الربا وهي من آخر ما نزل على النبي -صلوات الله والسلام عليه- قبل وفاته بنحو شهرين، أما المائدة فسورة طويلة وقد أُنزلت على النبي -صلوات الله والسلام عليه- جملة واحدة، وهو في مكة -صلوات الله والسلام عليه-.

بدأ الله هذه السورة العظيمة بقوله -جل وعلا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}[الأنعام:2]، {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}[الأنعام:3]، {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}[الأنعام:4]، {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:5]، الحمد: هو ذكر الله -تبارك وتعالى- بالجميل، بما يتصف به من صفات الكمال والجلال، ومن صفات إنعامه وإكرامه -سبحانه وتعالى-، فهو الرب الله الإله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك الكبير المتعال، الذي له صفات الكمال كلها وصفات الجلال، ثم هو خالق كل شيء، وهو الوكيل على كل شيء، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، والمتصرف في كل شيء الذي ذلَّ له كل شيء، وقهر كل شيء -سبحانه وتعالى-، لا إله غيره ولا رب سواه، لا يحصي أحدٌ ثناءً على الله كما أثنى الله على نفسه، كذلك لا يعلم الله على الحقيقة إلا الله -سبحانه وتعالى-، فكل خلقه لا يحيطون علمًا به، ومن أشرف خلقه الملائكة لا يحيطون به علما، كما قال -جل وعلا- عنهم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110]، لا يحيط أحدٌ علمًا بالله -تبارك وتعالى-، لا يعلم إلا الله -سبحانه وتعالى-، فعندما يثني الله -تبارك وتعالى- على نفسه ويحمد نفسه ويقول الحمد لله؛ كل المحامد، ما علمنا منه وما لم نعلم، كله ثابت لله -تبارك وتعالى-، الحمد لله: الثناء والمجد لله -سبحانه وتعالى-، الله الاسم الأعظم للرب -تبارك وتعالى-، وهو بمعنى الإله أي المعبود المألوه، الذي تألهه كل الخلائق حيرةً في كونهه -سبحانه وتعالى-، وصمودًا إليه-جل وعلا-، فكل الخلائق تأله الله -تبارك وتعالى-؛ لأن الله هو ربها وخالقها -سبحانه وتعالى-، تألهه قالًا أو حالًا، أي مقالًا أو حالًا، فحال كل الخلائق أن الله ربها -سبحانه وتعالى-، وأنه خالقها وأنه لا إله غيره، ولا إله لها غيره، سواءًا علموا ذلك كالملائكة والمؤمنون والسماوات والأرض، وكل الخلق {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ........}[الحج:18]، هذه كلها عابدة لله -تبارك وتعالى-، {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}، أي فلا يسجد لله، أقول سواءًا كانت هذه المخلوقات العابدة العالمة بالله -تبارك وتعالى- أو المخلوقات التي لم تعرف ربها والتي جحدته، فهي بلسان حالها لا إله لها غيره -سبحانه وتعالى-.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ}، الله الإله الحق الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- من صفاته ومما يحمد عليه، قال { الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}، الخلق يأتي بمعنى الإيجاد من العدم ويأتي بمعنى التقدير، وكل هذا فعل الله -تبارك وتعالى- في السماوات والأرض، فهو الذي أبرزها من العدم إلى الوجود، فهو بديع السماوات والأرض، وفاطر السماوات والأرض، فاطرها: أنه هو أنشأها أول مرة -سبحانه وتعالى- أوجدها من العدم، ومبدعها بأنه هو الذي وضعها ورسمها وبناها على هذا البناء البديع، الذي لم يكن قبل ذلك ثم نقله الله -تبارك وتعالى-، بل هو مبدع السماوات والأرض، الذي خلق السماوات والأرض إيجادًا من العدم، ثم إبداعًا وتقديرًا، الخلق: هو التقدير، وضع كل شيء في محله -سبحانه وتعالى-، السماوات: ما علانا, والأرض: هي هذا الكوكب الذي نعيش عليه، وهذه السماوات قد أخبر الله -تبارك وتعالى- أنها سبع، وأن أوسعها سعة لا تحيط بها عقولنا، كما قال -تبارك وتعالى- {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ }[الذاريات:47]: أي بقوة، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47]، فقد وسعها الله -تبارك وتعالى-، ومازال البشر إلى يومنا هذا لا يعلمون قدرًا لها ولا سعة لها ولا نهاية لها، لم يصل البشر بعلومهم وبآلاتهم إلى أن يعرفوا نهاية وحدًا لهذه السماوات.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}، جعل: خلق، تأتي جعل بمعنى خلق، وتأتي جعل بمعنى سيَّر، وتأتي جعل بمعنى شرع، وتأتي جعل بمعنى اعتقد، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أي تعتقدوا أن له أندادًا، فالله -تبارك وتعالى- جعل الظلمات والنور خلقها، فالظلمة مخلوقة والنور مخلوق، وتطلق الظلمات والنور على هذا الأمر الحسي المعلوم المشاهد، سواءًا كانت الظلمة هي فقد النور أو أنها كيان مخلوق كما النور حقيقة وكونه، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق هذه الظلمات والنور الحسية، هو كذلك يمكن أن يطلق الظلمات والنور على الأمر المأول هو المعنوية، الظلمات: كل جهل وشرك وكفر، والنور: هو الهداية إلى طريق الحق، الإسلام نور والكفر ظلام، فيكون هنا أنه سيًّر هذا وأنه خلق هذا بأمره الكوني الخلقي -سبحانه وتعالى-، فلا شيء موجود إلا وهو موجود بأمر الله -تبارك وتعالى- الكوني الخلقي، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وجعل الظلمات والنور قال -جل وعلا-: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}، ثم هذه حرف عطف وقد يأتي للترتيب والتراخي، كما أقول لإنسان قد أوضحت لك الطريق ثم بعد ذلك تضل عنه، مع هذا الإيضاح والبيان يحصل منك الضلال، {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}: أي ومع هذا إن الذين كفروا يعدلون بربهم، ومعنى أنهم بربهم يعدلون: أي يجعلون عدلًا لله، يجعلون آلهتهم وأصنامهم وما يعتقدونه إلهًا يجعلونه مساويًا لله، العدل هو النظير والشبيه والمساوي، أي يأخذون من هذه المخلوقات ما يجعلونه معادلًا لله –تبارك وتعالى-، إما في صفاته وإما في أفعاله وإما في حقوقه، وكل هذا شرك بالله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- لا تشبه صفاته صفات مخلوقاته، وكذلك لا تشبه صفاته صفات مخلوقاته، وكذلك حقه على عباده أكبر الحق؛ لأنه هو الإله -سبحانه وتعالى-، وكذلك أفعاله لا تشبه أفعال مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، فهو الخالق وحده لا يخلق إلا هو، ولا يتصرف إلا هو -سبحانه وتعالى-، فالخلق له كله والتصريف له كله، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62], وكيل: أي المُوَكَّل بكل شيء.

والذين كفروا سمي فعلهم هذا كفرًا لأنه معرفة الحق وستره وتغطيته، الكفر: هو الستر والتغطية، الذين كفروا غطوا أدلة الإيمان وجحدوها بعد أن عرفوا ربهم -سبحانه وتعالى-، وأنه لا يعدِله شيء ولا يوازيه شيء، ليس له كفء وليس له نظير -سبحانه وتعالى-، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، {اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2]، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4]، فلا كفء لله -تبارك وتعالى-، لكن هؤلاء الذين كفروا بربهم يعدِلون، كيف يُعدَل بهذا الإله الذي خلق كل السماوات! خلق كل الأرض! جعل الظلمات والنور!, الظلمات والنور الحسية من رحماته -سبحانه وتعالى-، فالظلام رحمة لنا؛ لأنه وقت النوم والراحة والهدوء وسكون الكائنات، وأخذ هذه الراحة ليتجدد نشاطها بعد ذلك، والنور: هو وقت العمل والنشاط والجد، فهذا وهذا لتتم الحياة، ولا تتم الحياة إلا بهذا، فهذا الرب الذي أبدع وخلق السماوات والأرض وخلق ما فيها، وجعل الظلمات والنور لتتم حياة الكائنات على هذا النحو، كيف يكون له نظير وشبيه ومعادل! لكن هذا شأن الكفار، {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.

ثم قال -جل وعلا-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}، هذا توجيه الخطاب بعد ذلك إلى البشر، الذين هم موجه إليهم الخطاب وهم محل التكليف، هو: أي هذا الإله -سبحانه وتعالى- خالق السماوات والأرض، الذي جعل الظلمات والنور، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}: والخطاب موجه للجميع وذلك أن أصل الإنسان وهو آدم -عليه السلام-، قد خلقه الله من طين هذه الأرض التي نعيش عليها، خلقكم من طين هو أباكم، {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا}: ثم قضى أجلًا لكل نفس، بعد أن ذرأ الله -تباك وتعالى- من آدم ما ذرأ من الخلق جعل عند الخلق أجل محدد، وهذه كتابة المقادير أولًا قد علمها الله -تبارك وتعالى-، أي عَلِم مقادير الخلق قبل أن يخلقهم، وكتب هذا عنده –سبحانه وتعالى- في اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء، وكذلك يكتب هذا كتابة ثانية عند نفخ الروح في كل نسمة، يقول النبي -صل الله عليه وسلم- «إذا مضى على النطفة أربعون يومًا آتاها ملك فقال أي ربي ما أجله»، ما أجل هذه النطفة بعد أن تلقح وتصبح مشروع إنسان؟ ما أجله؟ يكتب الأجل، سواء كان هذا الأجل أيام شهور، ينزل تام ينزل خداج، متى يموت؟ أو يموت طفلًا، يصل إلى الشباب، يصل إلى الشيخوخة، هذا أجل يكتب هنا في هذا الوقت، «أي ربي ما أجله؟ ما عمله؟ ما رزقه؟ شقي أو سعيد؟ ذكر أو أنثى»، فهذا أمر يكتب مرة ثانية، {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا}، أي لكل نفس.

ثم قال -جل وعلا-: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، مسمى: أي معلوم، سماه عند الله -تبارك وتعالى- بمعنى أنه علمه وكتبه، لكن عنده لم يطلع عليه أحد من خلقه، وهذا الأجل هو النهاية التي جعلها الله -تبارك وتعالى- نهاية لكل هذه المخلوقات، نهاية هذه السماوات والأرض لقيام الناس للحساب بين يدي الله -تبارك وتعالى-، هذا يوم القيامة، هذا الساعة سماها الله -تبارك وتعالى- ساعة؛ لأن لها أجل محدد، قال {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}: يظهرها لوقتها المعلوم عنده -سبحانه وتعالى-, إلا هو: فلا يعلم لا ملك مقرب ولا أحد من حملة العرش ولا نبي ولا رسول ولا أي أحد من أولياء الله -تبارك وتعالى- يعلم هذا، بأي طريق من طرق العلم؛ طريق رؤيا أو طريق وحي أو إلهام أو حدس أو ظواهر تؤدي إلى هذا الأمر، أخفى الله -تبارك وتعالى- هذا عن خلقه، كما قال -تبارك وتعالى- {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، لا تأتيكم الساعة أيها الموجودون إلا بغتة، تبغت الناس، وقد جاء في الحديث أن الناس في نفس اليوم الذي تقوم فيه الساعة يكون كلٌ في عمله، آكل يأكل فلا يرفع اللقمة إلى فمه إلا ويسمع الصيحة فيخر، وراعٍ يرعى بغنمه ويأخذ غنمه إلى السوق ليبيعها فيخر عند مدخل المدينة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «يخرج راعيان المزينة فيجدانها قفرا»، قد خرج منها أهلها أو فما كان هذا خراب المدينة قبل يوم الساعة، ثم تلحقهم النفخة عند ثنية الوداع فيخران لوجههما، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «تقوم الساعة وإن الرجل ليلوط حوضه فلا يسقي فيه»، أي يصلح حوض الإبل حتى يسقيها فلا يسقي فيه، ويأكل اللقمة فلا يرفعها إلى فمه، فلا تأتي الناس إلا بغتة، الله يقول عن هذا الأجل؛ أجل يوم القيامة، قال: {أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}: عنده لم يطلع عليه أحدٍ من خلقه -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا-: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}، ثم ومع هذا أن الله خالق السماوات والأرض المدبر لهذا، الذي خلقكم أيها البشر من طين، والذي قضى لكل نفس أجل تموت عنده لا تتعداه، وقضى أجل للخلائق كلها ومع ذلك يقول ثم أنتم أيها الكفار تمترون تشكون في البعث والنشور، وهذا من التعجيب، أن هذا أمرٌ في غاية العجب، كيف يخبر الله -تبارك وتعالى- خلقه وعباده وهو خالقهم وصانعهم، وصانع هذه السماوات والأرض، ولا إله غيره ولا رب سواه، ولا يتدخل في حكمه وفي شأنه أحد، ومع ذلك الناس بعد هذا يردون خبر الله -تبارك وتعالى-، ويشكون ويمترون فيما يخبرهم الله -تبارك وتعالى- به، من هذه الأخبار الظاهرة البينة والمؤكدة التي لا شبهة فيها، ولا ريب فيها، قال {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}.

ثم قال -جل وعلا-: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}[الأنعام:3]، وهو الله الرب المذكور هنا، الضمير يعود على الرب الذي هذه أفعاله وهذه صنعته، {هُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ}: أي الله هو الإله المألوه في السماوات، فلا إله لأهل السماوات غيره، ولا إله للسماوات إلا هو -سبحانه وتعالى-، وفي الأرض هو الله كذلك، هو الله في الأرض لا إله إلا هو، لا ينازعه أحد في سلطانه وفي أمره وفي خلقه -سبحانه وتعالى-، ليس لأهل السماء إله إلا هو، وليس لأهل الأرض إله إلا هو، ولم يستطع أحد أن يدَّعي ويقول أنا إله في هذه الأرض، أو يدَّعي أنه إله في السماء، كما قال -جل وعلا-: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ........}[الزخرف:84]، فهو إله أهل السماوات وهو إله أهل الأرض، ثم قال -جل وعلا-: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}، بدأ بالسر؛ لأنه أخفى، والمقام هنا أنه لا يخفى عليه شيء، والسر ما يخفيه الإنسان، ما يسره إما في نفسه وصدره وإما ما يقوله خفية لمن يقوله من أصفيائه وأوليائه أو من يريد أن يخبرهم، {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}، الجهر ضد السر وهو العلانية، فما تظهرونه وما تفعلونه جهرة أمام الناس يعلمه، وما تسرونه يعلمه، {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}: يعلم الذي تكسبونه كذلك من الخير والشر، ويسمى ما يفعله الإنسان من خير ينفعه وشر يضره كله كسب، هذا كله من كسب العبد، {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}، فكل إنسان يكسب هذا يسمى كسب من باب أن قد اجترحه وقد ناله، سواءًا كان ينفعه أو يضره، {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}، أي من خير وشر.

ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}[الأنعام:4]، مع هذ الإخبار الواضح البيِّن من الله -تبارك وتعالى- الظاهر، ومع مجيء الآيات الكثيرة التي يرسلها الله -تبارك وتعالى- على أيدي رسله، وكذلك ما نصب الله -تبارك وتعالى- في هذا الخلق من آياته -سبحانه وتعالى-، الشمس آية والقمر آية والنجوم آية والسماء آية ونزول المطر آية، وهذه المخلوقات التي نراها في الأرض آية، البشر آية النبات آية الأنهار آية الماء, كل شيء آية دليل على عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-، فإن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-؛ لأن كل شيء هو من الدقة والإحكام, فالله قد أحسن كل شيء خلقه، فكل شيء مخلوق هو على الوجه الأكمل من كمال الخلق، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}، النملة الصغيرة، الفيل الكبير، البعوضة, الإنسان، كل مخلوق من مخلوقات الله مخلوق بغاية الدقة والإحكام والتناسب، والهداية إلى طريقه وعمله، فالله قد أحسن كل شيء خلقه -سبحانه وتعالى-، فهذه آياته -سبحانه وتعالى-، آياته المنظورة آياته المسموعة التي تأتي عن طريق الرسل، وآياته المنظورة التي خلقها على هذا النحو، ثم آية ثالثة؛ آياته في التصريف -سبحانه وتعالى-، فإن تصريف الله -تبارك وتعالى- فيه آيات عظيمة، أي إكرامه -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين وتحقيق موعوده فيهم آية، تكون فئة قليلة من أهل الإيمان تغلب فئة كثيرة من أهل الكفر، كما قال -تبارك وتعالى-: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ........}[آل عمران:13]، فتصريف الله -تبارك وتعالى- ما يصرفه في خلقه آية، أن يجعل العاقبة للمتقين أن يبتليهم -سبحانه وتعالى- من الكفار، ثم يجعل العاقبة لهم، أن يحطم الكفار الجيل منهم بعد الجيل، أنظر ما صنع الله -تبارك وتعالى- في أعدائه، {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى}[النجم:50]، {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51]، {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم:52]، {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}[النجم:53]، {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}[النجم:54]، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}[النجم:55]، هذا كله من آلائه -سبحانه وتعالى-، أي من إنعامه وإفضاله -جل وعلا-، فهؤلاء الكفار ما تأتيهم من آية -أي آية- من آيات ربهم سواء كانت آياته من التي يرونها، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ........}[فصلت:53]، أو آياته المقروءة على ألسنة الرسل، أو آياته -سبحانه وتعالى- في التصريف، أو آياته معجزاته –سبحانه وتعالى-، المعجزات: التي يرسلها الله -تبارك وتعالى- على أيدي الرسل، فإنه ما من رسول إلا وأعطاه الله -تبارك وتعالى- من الآيات ما يدل على صدقه، ورسولنا محمد -صلوات الله والسلام عليه- قد أعطي مجموعة كبيرة من الآيات، منها هذا القرآن الذي يُتلى، والذي تحدى الله -تبارك وتعالى- به الأولين والآخرين أن يأتوا بسورة من مثله، قال -جل وعلا-: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}[الأنعام:4]: أي إلا إذا كان هؤلاء الكفار عن هذه الآيات معرضين، أي أنهم يعطوا عرضهم لهذا، والإعراض هو الإنصراف عنها، أي أنهم ينصرفوا عنها ويتركوها، فلا يتأملوها ولا يتفكروا فيها ولا ينسبوها إلى الرب الإله، ولا يتعظوا بها ولا يقفوا عندها، بل يعرضوا عنها.

قال -جل وعلا-: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}: هذا إثبات الأمر والحالة والواقعة، قال -جل وعلا-: {فَقَدْ كَذَّبُوا}: تحقيق، كَذَّبُوا: التكذيب هو رد الحق، أن يقال للحق الصريح هذا كذب، أي عندما جاءهم الحق، قال -جل وعلا-: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:5]: تهديد, وهذا وعيد الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المكذبين، الذي قد أرسل الله -تبارك وتعالى- لهم ما أرسل، وأطلعهم -سبحانه وتعالى- على آياته ولكنهم كذبوا بها، قال: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:5]، أنباء جمع نبأ؛ والنبأ: هو الخبر العظيم، سوف يأتيهم أنباء الذي كانوا يستهزئون به، يستهزئون بالعذاب إذا قيل لهم اتقوا الله وإلا جاءكم العذاب, يستهزئون به ويقولون هاتِ هذا العذاب، ويستهزئون بالرسول، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}[ص:16]، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32]، فالله يقول سيأتيهم هذا، { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:5]، وليس فقط أنباءه بمعنى إخباره قد جاءت، وإنما تحقيق هذه الأنباء، أي تحقيق ما أنبأ به الرسل من إنزال الله -تبارك وتعالى- عقوبته في هؤلاء الكافرين سيأتيهم، {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:5]، الذي يستهزئون به من العذاب سيأتيهم، وهذا وعيد منه -سبحانه وتعالى- لهؤلاء المكذبين.

نقف عند هذه الآية، ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، -وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.