الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (164) - سورة الأنعام 5-10

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}[الأنعام:6]، {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الأنعام:7]، {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ}[الأنعام:8]، هذه الآيات من سورة الأنعام وقد مضى أن هذه السورة مكية بتمامها، وأنها نزلت من السماء؛ من الله -تبارك وتعالى- على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- جملة واحدة، وهي من السبع الطوال، وهذا من علامات نبوئة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فإن حفظ النبي -صلوات الله والسلام عليه- لهذا القرآن المُنزَل عليه، وبهذا الطول وبهذا التشابه اللفظي مرة واحدة يُقْرَأ عليه كما قال له، فيحفظه النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تبارك وتعالى-: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16]، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17]، علينا جمعه في صدرك وقرآنه بلسانك، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17]، علينا: على الله -سبحانه وتعالى-، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19].

هذه السورة مضى أن الله -تبارك وتعالى- قد دعى الناس إلى عبادته وحده لا شريك له، والإيمان به والإيمان برسالاته، وحذرهم من مغبة الكفر بذلك، ولم يدع الله -تبارك وتعالى- شبهة من شبهات الكفار في شركهم وعبادتهم غير الله -تبارك وتعالى- إلا وضحدها في هذه السورة العظيمة، التي ناقشت الكفار في كل عقائدهم، كان قد بدأها الله -تبارك وتعالى- بأن الله له الحمد -سبحانه وتعالى-، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}، ثم عجَّب الله -تبارك وتعالى- من حال الكفار قال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1]، كيف يجعل لله -تبارك وتعالى- عِدل؟! معادل له مشابه له والحال أنه هو خالق السماوات والأرض، كل ما علانا والأرض كل ما تحتنا، وأنه خالق الظلمات والنور -سبحانه وتعالى- فلا عِدل له، كأنه لا يوجد إله خلق شيئًا من ذلك، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}: أيها المخاطبون، {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا}: لهذا الكون، لنهاية هذه الحياة، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، أجل لكل مخلوق، جعل الله -تبارك وتعالى- لكل مخلوق أجلًا ينتهي إليه، وأجل مسمى عنده للمخلوقات جميعًا وهو يوم القيامة، {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}[الأنعام:2]، تشكون، {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}[الأنعام:3]، هو الله -سبحانه وتعالى- في السماوات وفي الأرض، هو معبود أهل السماوات وأهل الأرض، يعلم سر عباده ويعلم جهرهم -سبحانه وتعالى-، {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}: ما يعملون من أعمال، {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}[الأنعام:4]، هذا حال الكفار أنهم معرضون دائمًا عن ربهم -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا-: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}, هذه جريمتهم هنا، أي أمسكهم الله -تبارك وتعالى- بجريمتهم، {كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}، لما جاءهم وعرفوه ثم كذبوا به، قالوا لا هذا كذب، قال -جل وعلا-: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:5]، هنا وعيد من الله -تبارك وتعالى- بأن هؤلاء المكذبين الذين كذبوا بالحق لما جاءهم، قال {........ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:5]، وأنبائه تحقيق هذه الأنباء؛ الأخبار العظيمة، أي العقوبة في الدنيا، العقوبة الأخروية من النار والوعيد، كل ما هدد الله به وتوعد به المكذبين سيأتيهم، ما دام أنهم قد جاءهم الحق وكذبوا.

ثم قال -جل وعلا- وهذه دعوة إثر دعوة لهؤلاء الكفار، لعلهم أن يرعوا وأن يرجعوا وأن يثوبوا إلى رشدهم وإلى عقولهم، وهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى-، تلطيف الله -تبارك وتعالى- في الخطاب ودعوة عباده وضرب الأمثال لهم، قال -جل وعلا-: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}[الأنعام:6]: قد علموا رؤية علم وكذلك رؤية بصرية في آثار هؤلاء القوم المعذبين، كم: العددية أي كثيرًا، {أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ}، قرن: أمة وجماعة، سميت قرن لأنهم مقترنين يعيشون في وقت واحد، {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ}، التمكين في الأرض: بمعنى العمارة فيها والبقاء فيها والتمكن من إخراج زروع هذه الأرض، شق الأنهار فيها، بناء المساكن الفارهة، قيام الآلات والأدوات العظيمة التي تجعلهم في مكنة من الحياة والبقاء، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ}، المخاطبين في وقت نزول الوحي هذا من العرب، فإن العرب لم يكونوا بأهل بناء وما يسمى بهذه الحضارة المادية الكبيرة، وإنما كانت بيوت قليلة أو قصور قليلة من الحجر، وأكثرها بيوت من الطين من اللبن، وأكثر الكثرة بيوت من الشعر والجلود، حياة كذلك خفيفة غير مستقر استقرار من شادوا وبنوا من قوم عاد، ومن عاد ومن ثمود الذين بنوا بيوتهم في الجبال وفي الصخر، {وَالَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}[الفجر:9]، {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}[الفجر:10]، الذين بنوا هذه المباني الضخمة، بل قبورهم مازالت ماثلة لليوم تدل على تمكنهم العظيم في الأرض.

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا}، الدر: هو إستدامة النزول، أي أنها مطر دائم، وأرسلنا السماء المقصود هنا ماء المطر، {عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ}: أنهار دائمة الجريان من تحتهم، من تحت قصورهم ومن تحت بساتينهم، ثم قال -جل وعلا-: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، هذه الأمم العظيمة ذات الأبنية والأدوات والتمكين، الحضارات المادية الهائلة، قال -جل وعلا- {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، الإهلاك: الإزالة والموت، بسبب ذنوبهم، لما أذنبوا وكذبوا الرسل كذلك ودفعوا أمر الله -تبارك وتعالى- فإن الله أهلكهم، {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}، أهلك الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الظالمين الكاذبين المكذبين، وهذه قدرته -سبحانه وتعالى-، فهذه موعظة من الله -تبارك وتعالى- لعباده أن يتعظوا، لهؤلاء المكذبين، أي اظروا ما الذي حل بمن هو أكبر منكم وأقوى منكم، وأكثر تمكنًا في الأرض منكم، أنظروا فعل الرب العزيز -سبحانه وتعالى- بهم لما كذبوا رسله.

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- أن الكافر مهما آتاه من آية فإنه لا يؤمن بها، قال -جل وعلا-: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الأنعام:7]، لو نزلنا عليك يا محمد -صلوات الله والسلام عليه- الله -سبحانه وتعالى-، {كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ}، كتاب مكتوب، في قرطاس: في ورق، فهذا أمر مادي ملموس محسوس، غير القرآن الذي نزل على قلب النبي -صل الله عليه وسلم- فإنهم لم يروا نزوله، لكن لو جاء هذا الورق القرطاس المكتوب فيه من الله –تبارك وتعالى- ونزل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال -جل وعلا-: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}: أي مسكوا هذه القراطيس أو هذا الكتاب بأيديهم ولمسوه، وعلموا بأنه لا حيلة للنبي في أن يأتي بهذا، إنما هو نازل من السماء من الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا-: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}: وذلك أنه كافر علم الحق ويكذبه، فهذا ما دام كذب بالآيات التي جاءته فأي آية بعد ذلك سيكذب بها، أن هذا عقدته شغله عمله التكذيب، وظيفته التكذيب أصبح هو مكذب، فمهما جاءته من آيات فهو سيكذب بها، قال -جل وعلا- {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وكفروا لأنهم عرفوا الحق وردوه، {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، إن بالحصر، هذا إلا يحصره بالآية هذه التي الظاهرة البيِّنة وهي نزول كتاب على النبي -صلى الله عليه وسلم- من السماء، يقول ما هذا إلا سحر أعيننا مبين، بيِّن واضح لا شبهة فيه، فينسبون الآية العظيمة المعجزة الخارقة الظاهرة ينسبونها إلى السحر.

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- تعنت هؤلاء الكفار مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فقال {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}، وقالوا أي الكفار، لولا هل أنزل على ملك، أنزل بالبناء لما لم يسمى فعله أي أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه ملك، ليصدقه ويكون معه، ويقول الملك أنا رسول من الله وأنا ملك من السماء وقد نزلت؛ لأخبركم أن هذا العبد محمد ابن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- قد اختاره الله -تبارك وتعالى- لكم، هذا يريدون ملك ليشهد للنبي -صلى الله عليه وسلم-، {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}، قال -جل وعلا- {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ}[الأنعام:8]: لو أنزل الله -تبارك وتعالى- عليهم ملكًا لقضي الأمر انتهى، فإنهم بمجرد أن يروا هذا الملك على صورته وعلى هيئته فإنهم عند ذلك يموتون في ساعتهم، يرعبون منه، فإن الملائكة أمرٌ عظيمٌ جدًا، كما قال -جل وعلا-: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}[الفرقان:22]: يقولون ليت بيننا وبين الملائكة حِجر, أي ستار حاجز يمنعنا من رؤيتهم، فرؤية الملائكة مخيفة مرعبة غاية الرعب إذا رأوا هذا، فإذًا لن تقوم لهم قائمة لو أنزل الله -تبارك وتعالى- عليهم ملكًا من السماء، {لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ}: أو معنى آخر أنه لو أنزل الله -تبارك وتعالى- لهم ملكًا من السماء ليشهد للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قالوا لن نسمع لك ولن نؤمن بهذا كذلك، فعند ذلك لابد أن يأتيهم الإستئصال، لابد أن يستئصلهم الله -تبارك وتعالى- ولا يبقيهم، فإن الآية الظاهرة المقترحة إذا اقترح الكفار آية هم بأنفسهم، وحقق الله -تبارك وتعالى- هذه الآية لهم، ثم لم يؤمنوا فلابد من هلاكهم، كما كان الشأن في ثمود فإنهم اقترحوا آية، اقترحوا أن يأتيهم صالح -عليه السلام- بناقة يرونها، فلما كذبوا بها؛ كذبوا بهذه الآية وعقروها، عند ذلك آتاهم العذاب، {........ فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}[هود:65]، فالآية المقترحة إذا نزلت ثم بعد ذلك يكون التكذيب بها، المقترحة التي يقترحها الناس على الرسول، إذا حققها الله -تبارك وتعالى- لهم ثم كان التكذيب لابد أن يكون الهلاك، {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}، وقال -جل وعلا- {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ}[الأنعام:8]، لا يمهلون، ما في إمهال لهم، أما الأن فإن الآيات التي جاءتهم آيات من الله -تبارك وتعالى- لتصديق الرسول، كذبوا بها فإن الله لم يعجل لهم العقوبة، وإنما أعاد لهم الأمر تلو الأمر، وذكرهم ووعظهم وأمهلهم بالبقاء، لكن لو جاءت الآية المقترحة هم الذين يقترحوها، ثم ردوها وكفروا بالله -تبارك وتعالى- فإن عند ذلك لا يكون إلا الإستئصال.

ثم قال -جل وعلا-: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}: ليحتملوه، {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}، لو جعلناه ملكًا حتى يكلمهم لابد أن يكون رجل، يأتيهم بصورة رجل حتى يسمعوا إليه ويخاطبهم ويقول لهم أنا فلان ملك، قال -جل وعلا- {لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}[الأنعام:9]، يختلط عليهم الأمر، يلتبس عليهم أمر، يقول الله -تبارك وتعالى- يصبح الأمر ملتبس عليهم، كيف نتحقق من أن هذا ملك؟ أيضًا سيقولوا أن هذا لُبِّست علينا وغشيت أبصارنا وسحرت أبصارنا بهذا السحر وهذا ليس هو، فيصير كأنه جاءهم يلتبس عليهم الأمر ولا يتبينونه، قال -جل وعلا-: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}، على حسب ما يقترحونه يصير الأمر يلتبس عليهم، {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}، فتقع عندهم الشبهة ولا يستطيعون التحقق، هل هذا بالفعل هو ملك من الله -تبارك وتعالى-، أم أنه بشر جائنا بهذه الصورة؟، فإذن هذا المقترح الذي إقترحوه كما يقال لا ينفعهم، بل هو دمار عليهم، فإن نزل الملك الحقيقي ورأوه ولو حتى رؤيا من بعيد أرعبوا رعبًا عظيمًما جدًا، ولم يستطيعوا أن يتيبنوا أمره، وإذا قالوا لا ما شفنا شيء أو ما رأينا هذا الملك أو لا نؤمن بذلك، فعند ذلك يأتيهم العذاب والإستئصال، وإن جاءهم الملك كذلك في صورة رجل فإن الأمر سيلتبس عليهم ويختلط عليهم، كيف يثبتون أن هذه الصورة التي تكلمهم وأن هذه الصورة هذا البشر الذي يكلمهم هو في الأساس ملك، ممكن لا تحققوا بذلك ويرفضوا هذا ثم يكون كذلك الإستئصال لهم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:10]: أي شأنك، هنا يؤسي الله -تبارك وتعالى- رسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- ويقول له -جل وعلا- شأنك شأن إخوانك من الرسل، فإن الإستهزاء الذي يحصل لك والسخرية التي تقع لك من الكفار، والكفار قد أسرفوا في الإستهزاء بالنبي -صلوات الله عليه وسلم-، كقولهم {........ أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}[الفرقان:41]، {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}، وقول بعضهم له أما وجد الله غيرك ليرسله، واستهزائهم به كيف تكون رسولًا وأنت تسير معنا في الأسواق وتقاسي الحياة كما نقاسي، هلا كان لك بستان وقد أقامك الله هذا المقام العظيم من أنك رسوله، لما لا يغنيك عن الكسب والكدح في الحياة فيجعل لك جنة تأكل منها، أو ينزل عليك كنز من السماء تنفق منه، أو يكون لك بيت من زخرف من ذهب، وتكون مميز بيننا، وتكون نعم نعتقد بالفعل بهذه الصورة رسول الله، فهذه صور كثيرة طبعًا إلى جانب السب والشتم الذي يسبون به النبي ويلمزونه به، من أنه كذاب ومن أنه ساحر ومن أنه كاهن، فقال -جل وعلا- لرسوله {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:10]، حاق بهم: أحاط بهم وأهلكهم، {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ}، بهؤلاء الذين سخروا منهم, فإن الله -تبارك وتعالى- جعل العذاب محيطًا بهم، ثم إستئصلهم الله -تبارك وتعالى-، {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:10]، الذي كانوا يستهزئون به أوقعه الله -تبارك وتعالى- عليهم، فالآية فيها أولًا: تثبيت لقلب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وبيان قدرة الرب -تبارك وتعالى- على هؤلاء الظالمين، تثبيت لقلب النبي بأن يتأسى بإخوانه الرسل الذين سبقوه، فإنه قد وقع لهم من الأذى ومن السخرية ما يقع للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ثم إن العاقبة كانت لهم، فإن الله -تبارك وتعالى- أنجاهم والمؤمنين الذي آمنوا بهم، ثم أهلك الله -تبارك وتعالى- هذه الطوائف الكافرة، كما قال -جل وعلا-: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:103]: حق أحقه الله -تبارك وتعالى- على نفسه -جل وعلا-.

ثم قال لهم الله -تبارك وتعالى- {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[الأنعام:11]، قل لهم يا محمد، سيروا في الأرض: إمشوا فيها، لكن معتبرين متعظين متفكرين، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا}: نظر عين، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، العاقبة التي هي النهاية والمآل، مأخوذة من العقب بشيء، فما كانت نهاية المكذبين الذين كذبوا، وهذا طبعًا إنذار لهم لأن هذه علتهم الآن هي التكذيب، تكذيب النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ورد الأمر الذي جاء به، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[الأنعام:11]، ممن سبقوكم، من قوم نوح والدمار الذي حل بهم، والغرق الذي أزالهم عن هذي الوجود، هؤلاء عاد القبيلة العربية، ثمود القبيلة العربية، هؤلاء في جنوب الجزيرة وهذا في شمال غرب الجزيرة، فهؤلاء أمم ، وهذه قرى لوط أمامكم وأنتم تمرون عليها، كما قال -تبارك وتعالى-: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ ........}[الصافات:137]: أي باليل، فتمرون عليهم في ذهابكم إلى الشام صباحًا ومساءًا، أفلا يكون هناك اعتبار وإتعاظ لهذا الأمر، وتعلموا أن الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذي لا إله إلا هو، أنظروا صنيعه في المكذبين ممن كانوا على شاكلتكم في هذا التكذيب، وهذا إنذار من الله -تبارك وتعالى- لهم، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[الأنعام:11].

ثم قال لهم الله -تبارك وتعالى- {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:12]، قل لهم لمن ما في السماوات والأرض؟ كل هذا الوجود الذي ترونه قريبًا وبعيدًا، ثم قال -جل وعلا- {قُلْ لِلَّهِ}، وقد كانوا هم يعتقدون بأن هذا لله الذي يعلمونه خالق السماوات والأرض، لكن مصيبتهم الشرك به -سبحانه وتعالى-، ومصيبتهم أن يظنوا أنهم مهما عملوا من أعمال فإن لهم من هذه الآلهة التي يعبدونها دون الله -تبارك وتعالى- شفعاء، توصلهم إلى محبة الله وإلى استجابة دعاءهم عند الله، {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، قال -جل وعلا- {قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، الكتابة هنا بمعنى: الفرض والإيجاب، أي أوجب على نفسه، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- لا يوجب عليه أحدٌ شيئًا، فإنه -سبحانه وتعالى- الرب الإله خالق السماوات والأرض الذي {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:23]: فالرب -تبارك وتعالى- لا يسأله أحد عن فعله، لِما فعلت كذا أو كذا؛ لأنه ليس هناك إله دونه، ولا له شبيه ولا له نظير ولا له كفء، ولا له هناك إله غيره يسأله، الله -تبارك وتعالى- لا يسأل عن فعله، ما في أحد يحاسبه -سبحانه وتعالى- عن فعله، ولا يسأله أحدٍ عن فعله -سبحانه وتعالى- وهم يسألون، كل العباد بعد ذلك وكل المخلوقات تُسْأل، الملائكة تُسْأل, الإنس يُسْأَلون, الجن يسألون، فكل أحد يُسْأل عن فعله إلا الرب -سبحانه وتعالى-، {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، فالله -سبحانه وتعالى- هذا الأمر أوجبه على نفسه -سبحانه وتعالى- الرحمة بكل خلقه، فهو الرب الرحمن الرحيم -سبحانه وتعالى-، {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، فهذه الرحمة العامة كتبها الله -تبارك وتعالى- على نفسه، وهناك رحمة خاصة -سبحانه وتعالى-، فمن الرحمة العامة أنه لا يعذب إلا بعد الإنذار والإبلاغ، هذا من رحمته -سبحانه وتعالى-، لا يعذب بغير ذنب، بل لابد من الإنذار والبلاغ وإقامة الحجة حتى يكون العذاب، {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.

ثم قال -جل وعلا-: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}: والله ليجمعنكم، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: يوم القيامة سمي يوم القيامة؛ لأن الناس يقومون فيه من قبورهم للرب الإله -سبحانه وتعالى-، والجمع: وهو أن يجمع الله -تبارك وتعالى- الأولين والآخرين كلهم في مقام واحد، {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}: لا شك فيه، وعندما يقول الله -تبارك وتعالى- إن هذا أمر لا شك فيه فلا شك فيه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لا يقول إلا الحق والصدق، {لا رَيْبَ فِيهِ}، ثم قال -جل وعلا-: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، هذا اليوم الذي يُجمَع فيه العباد ويسألون عن أعمالهم فالخاسر الذي خسر نفسه، وخسارة النفس أولًا بأنه أورد نفسه النار بفعله وتكذيبه، وبالتالي لا تنفعه حياته، وبقائه في النار لا ينفعه، لأنه لا يحيى في النار حياة نافعة له، ما فيها ساعة راحة، {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، فهو في عذاب وآلام دائمة، ما يرتاح ساعة، إذًا بقاءه ليس مفيدًا له، ثم الموت ما يجده ولا يحصله، فأصبح لما كان في هذا العذاب الدائم قد خسر نفسه، وكل من حوله خسرهم، إن كان له مال انتهى، لا سبيل له إلى شيء من ماله، وأهله انتهوا إما أن يكونوا في النار فهم معذبين مثله، ولا يستفيد من وجودهم معه في النار عياذًا بالله، وإما أن يكونوا في الجنة فهم في الجنة وقطعت الصلة بينه وبينهم، {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، هذه فرصتهم لما ردوا الإيمان في هذه الدنيا فهم لا يؤمنون بالله -تبارك وتعالى- في هذه الدنيا، عندما عرض عليهم الإيمان فقد خسروا أنفسهم عياذًا بالله، وهذه الآية تهديد ووعيد شديد لهؤلاء الكفار المكذبين، اعلموا أن يوم القيامة حق، وأنه لابد أن يكون، وأن الخاسر هو من خسر نفسه، فهذا تهديد، الله يقول: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من عباده المؤمنين الصالحين، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.