الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (165) - سورة الأنعام 11-18

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فإن خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمد -صل الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[الأنعام:11]، {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:12]، {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنعام:13]، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:14]، {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام:15]، {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}[الأنعام:16]، الآيات من سورة الأنعام وقد مضى أن هذه السورة من السبع الطوال مكية بتمامها، وقد نزلت على النبي -صلوات الله والسلام عليه- جملةً واحدة، وفي هذه السورة تقرير عقيدة الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وحده، وأنه الرب الإله الذي لا إله غيره -سبحانه وتعالى- وإبطال ما يُعبَد من دونه، وفيها ناقش الله -تبارك وتعالى- ورد الله -تبارك وتعالى- مقالات الكفار المشركين العرب، وبيان فساد اعتقادهم، ودعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

قال -جل وعلا-: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}: أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله في مناقشته وجداله للكفار، هذا في ملك السماوات والأرض، السماوات وما فيها والأرض وما عليها من يملكها؟ من خالقها ومن المتصرف فيها؟, ثم أجاب {قُلْ لِلَّهِ}، وذلك أنهم مقرون بذلك، وهذا إنما هو في جواب ما يُقِرُّون به، وذلك أنهم كان العرب المشركون يُقِرُّون بأن الله -تبارك وتعالى- هو خالق السماوات والأرض، {قُلْ لِلَّهِ}: أي أليس الأمر كذلك؟ وهم يعرفون الله -تبارك وتعالى- وأنه رب هذه السماوات والأرض، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ........}[لقمان:25]، {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[المؤمنون:86]، {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}[المؤمنون:87]، {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ}، ثم قال -جل وعلا-: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}: هذا إخبار منه بما قد لا يعلمونه هو كتب الله-تبارك وتعالى- على نفسه الرحمة، الكتابة تأتي بمعنى الفرض والإلزام، كما في قول الله -تبارك وتعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ}، وكتبنا عليهم: أي فرضنا عليهم من المُنزَل من الله -تبارك وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- كتب على نفسه الرحمة، بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- في صفاته -سبحانه وتعالى- قد أوجب هذا على نفسه -سبحانه وتعالى-، ولا أحد يوجب على الله -تبارك وتعالى- شيء، أي لا أحد يفرض على الله -تبارك وتعالى- فرضًا، وإنما هذا أمر قد أوجبه الله -سبحانه وتعالى- على نفسه، {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، الرحمة بمعانيها, فالرحمة الشاملة لكل عباده، فكل عباده إنما هو قد نالته رحمة من رحماته، رحمات الخلق والإيجاد والعناية والتربية، فهذه رحمة منه -سبحانه وتعالى-، فالله وسع كل شيء رحمة، كل شيء مخلوق قد وسعته رحمة الله -تبارك وتعالى- في الخلق والإيجاد والتدبير والرزق، ثم الرحمة الخاصة؛ وهذه بالمؤمنين، وهي رحمة هدايتهم وتوفيقهم إلى مرضاته -سبحانه وتعالى-، ثم رحمة قبل هذه الرحمة كذلك وهي رحمة البيان والإيضاح والإعلام والبلاغ، وهذه لكل الخلق، فإن الله لا يعذب حتى يبعث رسولا -سبحانه وتعالى-، ولا يعذب إلا بعد البيان وظهور الحجة، فكتب على نفسه الرحمة: رحمة خلقكم وإيجادكم، ورحمة البيان لكم ودعوتكم إليه -سبحانه وتعالى-، وكذلك رحمة الهداية لمن سلك طريقه -سبحانه وتعالى-، {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وإنزال القرآن من رحمته -سبحانه وتعالى-، وحِجاج هؤلاء في إعتقادهم إنما هو من رحمة الرب -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا-: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}: لام القسم المؤكده، ليجمعنكم والله ليجمعنكم جميعًا، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: اليوم الذي يقوم الناس فيه إلى رب العباد -سبحانه وتعالى-، {لا رَيْبَ فِيهِ}: لا شك فيه، وهذا التأكيد بكل هذه المؤكدات، اللام المؤكده للقسم، والنون التوكيد الثقيلة, وتأكيد لهذا بأن هذا الأمر لا ريب فيه وذلك حتى يتفطن أولئك المكذبون ويعلمون أن هذا حديث الرب -سبحانه وتعالى-، وأن هذا خطابه لهم وهذا تأكيده -سبحانه وتعالى-، {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}، ومن رحمته هذا الجمع، وذلك ليجازي كل عامل بما عمل، فإن الذي آمن وإتقى الله -تبارك وتعالى- وقام يحتاج أن تناله رحمة الله -تبارك وتعالى- في دخوله الجنة، {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}، ثم قال -جل وعلا-: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}: هؤلاء الذين لم ينالوا رحمته -سبحانه وتعالى- وذلك أنهم لا يؤمنون، لا يصدقون، بعد هذا الإخبار وهذه الأدلة لم يحملهم هذا على مجرد التصديق، طبعًا التصديق والعمل بالتصديق هذا معنى الإيمان، ثم قال -جل وعلا-: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ}: أكبر خسارة، وأعظم خسارة؛ خسارة النفس، فإن الإنسان قد يخسر ما ملك، يخسر ماله، يخسر أهله، يخسر وطنه، يخسر أي أمر من الأمور التي تنضاف إليه، أما أن يخسر نفسه ذاته فهذا أعظم خسارة، وخسارة النفس هو بإيرادها المكان الذي لا تموت فيه ولا تحيا، تعذب عذابًا سرمديًا خالدًا، لا يحيا في هذا المكان حياة تنفعه، ولا يموت موتًا يريحه فيستريح، بل يظل على هذا النحو أبدًا عياذًا بالله، {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74]: لا يموت موت يستريح به، ولا يحيا حياة تنفعه، فهذا أكبر خسارة، والله يقول ألا إن الخاسرين على الحقيقة قال: {........قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر:15]، فالله يحذرهم في هذه الآية يعني إعلموا أن ربكم الله الذي خلق هذه السماوات والأرض وأنتم تُقِرُّون بذلك هو قد كتب على نفسه الرحمة، ومن رحمته أنه يدعوكم إليه -سبحانه وتعالى-، وأنه سيجمعكم يوم القيامة، هذا أمر قد قطعه الله -تبارك وتعالى- وأبرمه ولا مرد له، {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}، ثم إعلموا هذا {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.

ثم قال -جل وعلا-: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، وله: لهذا الإله الرب الذي له ما في السماوات والأرض, له ما سكن في الليل والنهار، السكون: ضد الحركة، ويأتي السكون بالراحة والنوم، والحركة معلومة، وكل مخلوق هو بين هذين الأمرين لا يتعدى هذا، إما سكون وإما حركة، أي إما في سكون وإما في حركة، وهذا يشمل كل المخلوقات، فإن كل المخلوقات إما ساكنة وإما متحركة، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي له كل ما سكن في الليل والنهار، إذًا كل هذه المخلوقات، سواءًا كان سكونها سكون ذاتي أو سكون إرادي أو إلزامي لها كل حركتها على هذا النحو، حركة مسخرة مثل حركة الشمس والقمر فإن هذه حركة دائبة مسخرة فيها، لا تتحول عن هذه الحركة ولا جزء من معشار جزء من ثانية، والإنسان مثلًا يتحرك بإرادته يذهب ويجيء ويستريح وينام، فسواء كانت حركة دائبة كحركة الليل والنهار، حركة الشمس والقمر، حركة هذه النجوم والكواكب حركة منتظمة دائبة في مسار واحد، أو حركة إرادية، كل ما سكن في الليل والنهار من مخلوق؛ كله لله -تبارك وتعالى-، والليل والنهار هو كل الزمان، هذا الزمان كله إذن له الموجود كله في الزمان كله -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: هو السميع لكل مخلوقاته، العليم بكل مخلوقاته، أي أن هذا الخلق بحركته وسكونه يعلمه الله -تبارك وتعالى-، حتى حركة الذرة هذه التي لا تراها عين الإنسان وفيها حركة دائمة إلكترونات حول هذه النواة هذه يعلمها الله -تبارك وتعالى-، كل ما دق أو جل من حركة النجوم والكواكب وكل المجرات، من حركة الذرة الصغيرة، كل هذا بسمع الله -تبارك وتعالى- وعلمه، لا يغيب عن الله -تبارك وتعالى- صغير أو كبيرة من خلقه، {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنعام:13]، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59].

إذًا هذا الرب الذي هو على هذا النحو من صفاته -سبحانه وتعالى- قال -جل وعلا- بعد ذلك {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:14]، هذا الرب الذي هذه صفاته لا ينبغي أن يتخذ من دونه أو يتخذ غيره وليًا له، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}: سؤال للإنكار وللتوبيخ هؤلاء، قل لهم قل لهؤلاء المشركين، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}، الولي في لغة العرب: هو من قام بينك وبينه علاقة تجعله يواليك وأنت تواليه، والولاية الحب والنصرة والإعانة والحمو، أي أن يحمو له وأن يقوم له، فالولي الحميم هو الذي يحمو ويغضب إذا أصيب وليه بشيء، والعرب تطلق الولي على الأخ لأن في علاقة الأخوة، أخ النسب وكذلك الحليف بينهم حلف، فيقول أولياء هؤلاء، والمولى يقول المولى على العبد المعتق فلمواليه لأن هنا في ولاية بين السيد ومن أعتقه من عبيده، وكذلك السيد بالنسبة للعبد والعبد بالنسبة للسيد، الله -سبحانه وتعالى- هو ولي الذين آمنوا، وذلك لِما قام بين العباد المؤمنين وبين ربهم -سبحانه وتعالى-، من الإيمان به ومحبته -سبحانه وتعالى-، فإن الله ولي عباده المؤمنين، كما قال -جل وعلا-: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}، أي بمعنى أنه ناصر ومحب، أي أحبه، أسير في طاعته، أقوم له، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}.

{فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}: بمعنى أنه هو الذي بدأ خلقها -سبحانه وتعالى-، فطرها خلقها، كما قال إبن عباس (ما كنت أعلم فاطر السماوات والأرض إلا بعد أن تنازع عندي أعرابيان في بئر، فقال أحدهما أنا الذي فطرتها)، أي أنا الذي شققت هذا البئر، أول الأرض أنا الذي شققتها، فعُلم من هذا معنى فاطر السماوات والأرض، {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ}، وهو: أي هذا الرب الإله -سبحانه وتعالى-، يُطعِم عباده، فعامة الخلق لا تعيش إلا بالطعام، والله -تبارك وتعالى- لا يُرزَق من العباد، وفي القراءة الثانية: لا يَطعَم بمعنى أنه بالبناء للفاعل بأنه لا يحتاج إلى الطعام -سبحانه وتعالى-، بل هو الغني -سبحانه وتعالى-، بل المخلوق هو الذي يحتاج إلى الطعام وأما الله -سبحانه وتعالى- منزه عن هذا، ولما استدل الرب -سبحانه وتعالى- على الكفار بأن عيسى وأمه لا يمكن أن تكون آلهة، قال -سبحانه وتعالى- {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ........}[المائدة:75]، فالذي في حاجة إلى الطعام ليأكل لا يمكن أن يكون إلهًا، مستغنيًا بذاته يستحق الألوه ويستحق العبادة، ثم إن من يأكل الطعام تضطره الضرورة إلى ما تضطره، فالله -سبحانه وتعالى- منزه عن كل النقائص، وهذا من النقص، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ}: أي لا يُرزَق، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}[الذاريات:57]، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:58]، فالله -سبحانه وتعالى- يُطعِم عباده ولا يُطعَم.

قال -جل وعلا-: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}: أنا هذا الرب الإله الذي لا يحق لي ولا يحل لي ولا يليق بل ولا يمكن أن أتخذ وليًا من دونه، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ}، من هذا الإله العظيم -سبحانه وتعالى-، وجاء أمرت هنا بالبناء لما لا يسمى فاعله، {أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}، والآمر هو الله -تبارك وتعالى-، {أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}، أول أسبق وأعلى وأشرف، فالأولية أولية السبق من هذه الأمة، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}، لله –تبارك وتعالى- من هذه الأمة المسلمة، النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أول مسلم -صلوات الله والسلام عليه-، أسلم واستسلم لهذا الإله وأخضع له ولسلطانه -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا-: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:14]: إياك أن تكون من عباد الله المشركين، نهى من الله -تبارك وتعالى- أن يكون النبي من المشركين، إذًا هذا أمر إلهي؛ أمر من الله -تبارك وتعالى- أن أكون أول المسلمين في هذه الأمة، وألَّا أكون من هؤلاء المشركين، وهذا طبعًا تعريض وبيان ما عليه هؤلاء المشركون الذين اتخذوا آلهة لهم دون الله -تبارك وتعالى-، ولا شك أن من اتخذ وليًا له أو إلهًا له دون الإله الذي هو فاطر السماوات والأرض، وله ما سكن في الليل والنهار، وهو الذي يُطعِم ولا يُطعَم وهذه صفاته، هذا منتهى الضلال.

ثم قال -جل وعلا-: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام:15]: وهذا بيان أنه مع أنه رسوله، وأنه مأمور بهذا أنه كذلك واقع كغيره من كل البشر تحت التهديد، وأنه لا يستطيع أن يخالف أمر الله -تبارك وتعالى-، وأن مخالفته لأمر الله -تبارك وتعالى- تقتضي العقوبة، {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام:15]، قل إني -ومع أنه رسوله- أخاف؛ والخوف معروف، {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام:15]: إن عصيته فيما أمرني به من الإسلام له وتوحيده -سبحانه وتعالى-، أن أعذب في يوم عظيم وهو يوم القيامة، وسمي هذا اليوم عظيم؛ لطوله ولمشقته وللأهوال التي فيه.

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ}: من يصرف عنه العذاب في هذا اليوم فقد رحمه الرب -سبحانه وتعالى-، أي أنا أخاف من مخوف حقيقي، من خوف حقيقي وهذا الخوف من عذاب يوم عظيم، وأن الذي يصرف عنه هذا العذاب ومعنى يصرف: أي يمنع ويبعد عنه عذاب هذا اليوم فقد رحمه الله -تبارك وتعالى-، فهذي من أعظم رحمات الله -تبارك وتعالى-، أن إنسان تأتيه براءة من النار وبراءة من العذاب، إذا صُرِف عنه هذا العذاب فقد رحمه الله -تبارك وتعالى-، {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}، الفوز: هو نيل المطلوب الأكبر، فهذا الفوز المبين البيِّن الواضح لا شبهة في أنه أعظم مطلوب، وأفضل جائزة يمكن أن يجاز إنسان يمكن أن يصرف عنه عذاب هذا اليوم العظيم.

ثم قال -جل وعلا-: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنعام:17]، هذا بيان لصفة أخرى من صفات الله -تبارك وتعالى-، فكما أنه هو فاطر السماوات والأرض وهو الذي له هذا الملك فهو الذي له التصريف كذلك، فهو الذي له التصريف كله، كل ما يصيب العبد من خير وشر فهو بيده -جل وعلا-، قال -جل وعلا-: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}، المس: الإصابة، وجعل هنا المس من الله -تبارك وتعالى-، الضر ما ضر وجاء منكر، والضر من الضرر، وأي شيء ضرر سواء كان في البدن في النفس في المال في الأهل أي شيء صورة من صور الضرر، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}: لا كاشف لهذا الضر أي لا مزيل له ولا مبعد له ولا رافع لهذا الضر إلا هو، إلا الله -سبحانه وتعالى-، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: إن أصابك الله -تبارك وتعالى- وأرادك بخير، والخير هنا كذلك أمر جاء نكرة أي خير ما، {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: أي لابد أن يأتيك ولا يستطيع مانع أن يمنع هذا الخير عنك، فلا تستطيع أي قوة أن تمنع خير الله -تبارك وتعالى- إذا أراده لإنسان، وكذلك لا تستطيع أي قوة أن تمنع ضر الله -تبارك وتعالى- إذا أراده بأحد من مخلوقاته، كما قال -جل وعلا-: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[فاطر:2]، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- فيما أوصى ابن عمه ابن عباس قال «يا غلام إعلم أن الأمة لو إجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو إجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف».

ثم قال -جل وعلا-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:18]: وهو الرب -سبحانه وتعالى-، {الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، القهر: الغلبة والأخذ بشدة، وعدم ترك الفرصة لأي تصرف إلا بمشيئة القادر القوي، فقهرهم بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- هو القاهر فوق عباده، الرب المتصف بالقهر، فإنه قد ذل له كل شيء وخضع له كل شيء، وكل شيء بأمره وتصريفه وحكمه -سبحانه وتعالى- لا يخرج شيء عن أمره وعن تصريفه، فهو الذي أسلم له كل من في السماوات والأرض، فهو القاهر فوق عباده ومعنى أنه فوق عباده وذلك أن عرشه -سبحانه وتعالى- فوق سبع سماوات وهو مستوٍي على هذا العرش، والخلق كله السماوات والأرض كله في عرش الله -تبارك وتعالى- كخردلة في كف أحدنا، فالرب -تباك وتعالى- هو الرب الكبير العظيم القاهر لهؤلاء العباد، الذي لا يخرج صغير ولا كبير عن أمره وإردته الكونية القدرية -سبحانه وتعالى-، فهو القاهر فوق عباده؛ عباده كلهم ملائكته الجن الإنس السماوات الأرض، كل هذه المخلوقات مقهورة مسخرة مسلمة لله -تبارك وتعالى-، لا يستطيع أي مخلوق مهما عظم أن يخرج عن إرادته وعن مشيئته -سبحانه وتعالى-، فانظر الملائكة وهم أكبر خلق من خلق الله -تبارك وتعالى- مما ذكر لنا، كما قال -صل الله عليه وسلم-: «أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه تخفق الطير خمسمائة عام»، في هذا المكان لو أن طائرًا يطير ويسير في إنطلاقه خمسمائة سنة لا يقطع هذه المسافة القليلة من قامة هذا الملك، فكيف بقامته! ومع ذلك هؤلاء الملائكة في غاية الرعب والخوف من الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- عنهم: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، وقال في خزنة النار الذين هم تسعة عشر موكلون بالنار كلهم، قال {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، وقال عنهم -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]، فهم لربهم أذلاء خاضعون مستسلمون لله -تبارك وتعالى-، فالله هو القاهر فوق عباده جميعًا، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}: الحكيم الذي يضع كل أمر في نصابه، ما في شيء خارج النصاب، ولا في شيء عبث، ولا في شيء سدى, الخبرة: هي العلم الدقيق أدق العلم، أي العلم بدقائق الأمور، فكل دقائق الأمور يعلمها الله -تبارك وتعالى-، لا يخفى على الله -تبارك وتعالى- شيء، فهذا هو الرب الذي لا يحق لأي عاقل أن يتخذه وليًا، وهذا النبي يقول أنا رسوله وأن نبيه ومع ذلك هذا شأني، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:14]، {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام:15]، {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}[الأنعام:16]، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنعام:17]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:18]، فإذا كان هذا شأن النبي فلا شك أن من غير النبي بطريق أولى أن يخاف الله -تبارك وتعالى-، وأن يضع نفسه في هذا الموضع تحت صفات الرب -جل وعلا-.

أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.