الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:19]، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:20]، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[الأنعام:21]، الآيات من سورة الأنعام، وهي في سياق حِجاج الله -تبارك وتعالى- ونقاشهم مع هؤلاء الكفار؛ كفار العرب، في شأن اعتقاداتهم الباطلة في شركهم بالله -تبارك وتعالى-، وادِّعائهم وإنكارهم أنه لا يوم قيامة، يقول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}، قل لهم يا محمد -صلوات الله والسلام عليه- قال لهؤلاء الكفار أي شيء أكبر شهادة؟ أي شهادة إذا صدرت من أحد كانت أكبر شهادة ولا ترد وهي الحكم الفصل، {قُلِ اللَّهُ}، لو أن الله -تبارك وتعالى- شهد على أمر ما فبيَّن أن هذا الأمر هو كذا وكذا، أو نسبة أمر إلى أمر، أي إعلام وأي إخبار من الله -تبارك وتعالى- شهادة يصدرها الرب -تبارك وتعالى-، لا شك أن هذه الشهادة هي أكبر شهادة، ولا تعدلها شهادة حكماء ولا خبراء ولا علماء ولا إنس ولا جن، وذلك أن كل مخلوقات الله -تبارك وتعالى- قد يعلمون شيئًا لكن تغيب عنهم أشياء، لا شك أنهم لا يعلمون بواطن الأمور، فالرب -سبحانه وتعالى- هو الذي أحاط بكل شيء علما، وإذا أدلى الله -تبارك وتعالى- وقال شيء وأدلى بشيء فشهادة الحق التي لا يمكن أن تكون شهادة في الكون كله كشهادة الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، أستشهد الله -تبارك وتعالى- فيما بيني النبي -صلوات الله والسلام عليه- داعي إلى الله، رسول الله وبينكم أيها الكفار المعاندون المشركون، يشهد لي أو لكم، والله -تبارك وتعالى- قد شهد لرسوله -صلوات الله والسلام عليه- بإنزاله القرآن، فالقرآن هذا من عنده، والنبي مبلغ عن الله -تبارك وتعالى-، وقد شهد للنبي بأنه حق بتصريف للأمور -سبحانه وتعالى-، وجعل العاقبة للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، ثم بضحده لكل الباطل الذي احتج به المشركون على عقائدهم الباطلة، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}[الأنبياء:18].
{قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، أساس الخصومة فيما يدعو النبي إليه، من أنه رسول الله حقًا وصدقًا، وأنه يدعو إلى دين الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا-: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ}، أنا لم أخترع شيئًا من عندي، وإنما هذا القرآن الذي أتلوه عليكم أوحي إلي، الوحي في لغة العرب: هو الإعلام بطريق خفي، وقد أتى هذا القرآن إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- بإعلام من الله -تبارك وتعالى- لرسوله بطريق خفي، أي لا يراه الناس، فإن النبي كان يسمع الوحي وإن كان في محضر من أهله وأصحابه -صلوات الله والسلام عليه-، محضر من الناس، كما جاء في حديث الصحيحين، حديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله تعالى عنها- وقالت «يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ قال يأتيني أحيانًا مثل صلصلة الجرس، فيفصم عني وقد وعيت ما قال»، يفصم: أي ينتهي الوحي، الآيات التي يسمعها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويسمعها لمرة واحدة، وقد وعيت ما قال حفظه، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد أذن بأن يعي قلب النبي –صلوات الله والسلام عليه- ما يلقى إليه من هذا القرآن، كما في قول الله -تبارك وتعالى-: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16]، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17]، في صدره ثم قرائته، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]، وذلك أن النبي كان يعاني في أول الأمر من التنزيل بشدة، فكان يحرك لسانه مع الوحي، أي إذا جاء مثلًا {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، النبي يحرك لسانه ليحفظ مع القائل، فربنا قال {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16]: أي لتقرأه قبل أن يقضى، فلابد أن تنتظر حتى يقضى القرآن، ثم إن الله -تبارك وتعالى- يمكنك من قرائته كما أنزل، {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16]، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17]، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}[القيامة:18]، أي من الملك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19].
فهذا أول صورة من صور الوحي، الذي هو يأتي بصوت مرتفع، النبي يقول: «يأتيني أحيانًا مثل صلصلة الجرس، فيفصم عني وقد وعيت ما قال»، والصورة الثانية قال: «أو يتمثل الملك لي رجلًا فيكلمني»، {أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ}، وأوحي جاء بالبناء لِما لم يسمى فاعله، والموحي هو الله -سبحانه وتعالى-، وجاء بهذه الصورة من صور الوحي، الذي هو كلام الملك الذي يسمعه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو كونه رجل فيحدث النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ}: هذه مهمة القرآن، النذارة, والنذارة: هي الإخبار بما يسوء، وقد جاء الإخبار بالعذاب والويل والتهديد والوعيد لمكذب لهذا القرآن، كما قال -جل وعلا-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، وقال -تبارك وتعالى- في القرآن: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، ومن يكفر بالقرآن، من الأحزاب: من كل الجماعات، وذلك أن النبي قد أُرسِل إلى كل الأمم وكل الجماعات من وقته وإلى يوم القيامة، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}: فهذا إنذار وتهديد ووعيد من الله -تبارك وتعالى-، {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ}: أخوفكم عذاب الله -تبارك وتعالى- يتولي ذلك، كان أول خطبة خطبها النبي علانية بعد قول الله له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ........}[الحجر:94]، قال لقريش بعد أن دعاهم ببطونهم يا بني فلان يا بني فلان قال: {نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}: هذه مهمتي أني منذر لكم بين يدي قبل مجيء عذاب شديد، وهذا العذاب هو يوم القيامة.
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}: أي ومن بلغه القرآن، فالقرآن إما أن يؤخذ بالشفاه من النبي -صلوات الله والسلام عليه- وكان النبي يقرأه على هؤلاء، ويكون هذا إنذار لهم، أو من يرسله الرسول إلى قوم، فإذا حمَّل النبي رسولًا بهذا القرآن إلى قوم فقد بلغته النذارة، وبلغته نذارة الله، وهذه نذارة الله -تبارك وتعالى- يحملها، ولذلك قال النبي: «بلغوا عني ولو آية»، فالمبلغ: هو من يبلغ عن الرسول، والرسول يبلغ عن الله -تبارك وتعالى-، فكل من بلغه هذا القرآن وعلم أنه كلام الله -تبارك وتعالى- فقد أقيمت عليه الحجة، {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}.
ثم السؤال وهو محل الخصومة؛ أساس الخصومة، {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}: سؤال للتوبيخ والتعريض، أو فيقروا على أنفسهم بالكفر، إن أقروا بهذا أقروا على أنفسهم بالشرك والكفر، وهو ضد شاءة الله -تبارك وتعالى-، أنه الله الذي لا إله إلا هو، وكذلك هو سؤال لإيقاظ القلوب، ومعرفة أن لا يمكن أن يكون مع الله إله أخر، {أَئِنَّكُمْ}، الهمزة الأولى: همزة الاستفهام، إن: للتأكيد، {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}، ماذا تقولون؟ إن قالوا نعم أنا له شهيد فأقروا على أنفسهم بالشرك والكفر، وإن قالوا لا رجعوا للتوحيد يبقى هنا انصرفوا إلى دين الحق، دين النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أنا عن نفسي أقول لا أشهد، أنا أعلن شهادتي وعلمي أني لا أشهد أن مع الله إلهًا أخر، {قُلْ لا أَشْهَدُ}: لا أشهد بأن هناك إله مع الله -تبارك وتعالى-، ثم {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}: قل لهم إنما هو الشأن والحال إله واحد، أي لا يكون في كل الوجود إلا إله واحد، هذا الشأن والحال لِما؟ لأن الأمر لا يكون إلا كذلك، كيف؟ أولًا الإله هو المعبود، ولا يستحق أن يكون معبودًا إلا من يملك نفع عابده وضره، أن يكون قد خلق هذا أوجد هذا العابد، يملك تصرفه، يملك أن ينفعه، يملك أن يضره، فهذا الذي يستحق أن يسجد له، أن يخاف منه وأن يرجى ما عنده، بهذا الذي يستحق الألوهة، أما إذا لم يكن كذلك فلا يستحق أن يُتخذ إلهًا، فإن من الضلال أن يتوجه عابد ما إلى موجود ما فيسجد له ويذل له ويخاف منه ويرجوه، وهو لا يستجيب لشيء من ذلك، ليس في شيء من هذا، فالذي يتوجه للشمس أو القمر أو النجوم أو الكواكب أو البحر أو الشجر أو إنسان أو ملك أو أي موجود من هذه الموجودات سوى الله -تبارك وتعالى- يعبده، يذل له، يخضع له، يستسلم له، يعظمه، لِما؟! ما ثمرة ذلك؟ ما ينفعه؟ بل بلغ الضلال بالإنسان أن الإنسان يصنع إلهه ويعبده، كيف تصنع ما تعبده، أنت التي تنحت هذا الصنم وتشكله وتعمله ثم تذل به وتخضع له وتطلب منه، هو الذي في حاجة إليك، لست أنت الذي في حاجة إليه، كيف يكون هذا؟! هذه واحدة، فإذًا لا يستحق الألوهة إلا من يملك نفع عابده وضره، لذلك قال إبراهيم -عليه السلام- محتد على قومه {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}[الشعراء:75]،{أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ}[الشعراء:76]، {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء:78]، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}[الشعراء:79]، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:80]، {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}[الشعراء:81]، {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:82]، فهذا الذي يستحق أن يعبد هو الذي يملك هذه الأمور، أما الذي لا يملكها كيف يكون هذا إله!.
إذًا هذا الوجود لا يمكن أن يكون فيه إله إلا واحد فقط، وذلك أنه لو كان هناك إله حقيقي يستحق الألوهة لفسد الكون مع الله -سبحانه وتعالى-، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، لماذا؟ {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}[الإسراء:42]، أي لمغالبته، كيف يكون هناك يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويدبر كون، وإله أخر يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويدبر كون، أحد أمرين: إما أن يخضع أحدهما للأخر, وإما أن ينصرف كل إله بما خلق، كل واحد ينصرف بما خلق، كما قال -تبارك وتعالى- {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[المؤمنون:90]، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ .......}[المؤمنون:91]: أي لو كان مع الله إله على الحقيقة لذهب كل إله بما خلق، أي لانتحى كل إله بما خلقه على ناحية، ولم يرضى أن يكون ما يخلقه يعبد غيره، فلابد يصير هذا، ثم لن يستمر الحال على هذا النحو لابد أن يقع هناك خصومة، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}[الإسراء:42]: أي ليغالبوهم للعرش, صاحب العرش -سبحانه وتعالى-، العرش: هو سقف كل هذه المخلوقات، كل هذه الوجود سقفها واحد هو العرش، والله -تبارك وتعالى- فوق عرشه، فهو القاهر فوق عباده، فلو كان هناك آلهة يخلقون ويرزقون ويستحقون العبادة لابد أن يسعوا لمغالبة صاحب العرش، وهنا يفسد هذا الكون، {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}: إنما هو الشأن والحال لا يكون في هذا الوجود كله إلا إله واحد، هو الله -سبحانه وتعالى-، {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، تتمة شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي أُمر أن يشهدها وهي شهادة حق، {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ}، البراءة: البعد والخلوص التام، {مِمَّا تُشْرِكُونَ}: أي لا صلة بيني وبين ما تشركون بأي صلة، وإنما أنا قاطع علاقتي بأي شيء مما تشركون، ومهما كان هذا الذي تشركونه من دون الله -تبارك وتعالى- لأنه لا يمكن أن يكون هناك ثمة إله مع الله.
ثم جاء السياق لنفي شبهة، وهي أن أمم من التي تتمسك بشيء من الدين، ودين سماوي رسالة سماوية عندهم شرك، وكان العرب يعتقدون أن بعض هؤلاء الأمم هم أفضل حالًا منهم، أي العرب أفضل حالًا منهم، النصارى هم يشركون بالله -تبارك وتعالى-، ويجعلون مخلوق وهو عيسى إله خالق للسماوات والأرض، وكان العرب يحتجون على النبي بأننا نحن أفضل حالًا في عبادتنا من النصارى، فإن النصارى يعبدون بشر (عيسى)، وهو إنسان ونحن نعبد الملائكة، والملائكة في السماء أشرف وأعظم من عيسى، كما قال -تبارك وتعالى- عنهم: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}[الزخرف:58]، {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}[الزخرف:59]، {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ}[الزخرف:60]، فينفي الله -تبارك وتعالى- هنا صفة صحة دين أهل الكتاب، الذي أنكروا رسالة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وساروا في شركهم، وكان شركهم من جنس فعل الكفار، قال -جل وعلا-: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:20]، الذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى، قد آتاهم الله -تبارك وتعالى- الكتاب: أي جنس الكتاب، فالتوراة أنزلت على موسى -عليه السلام-، والإنجيل أنزل على عيسى، هؤلاء {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، يعرفونه: محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وأنه رسول الله حقًا وصدقًا، وأنه جاء داعيًا إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-، {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، الإنسان لا يخفى عليه ابنه للمعاشرة والقرب والتفحص، فالإبن منذ الولادة معلوم ويحمل ويُقَلَّب ويعرف ما فيه، هذا شأن الآباء أن يعرفون أبناءهم معرفة نظر ومعرفة عن قرب وعن حقيقة، فيخبر -سبحانه وتعالى- بأن أهل الكتاب يعرفون محمد -صلوات الله والسلام عليه- كما يعرف الأب ابنه، وذلك للوصف الدقيق الذي وصف الله -تبارك وتعالى- به نبيه لأهل الكتاب، فيما أنزل إليهم وفيما أخبرتهم به الرسل، وصف الخَلقي والخُلقي وما يجري الله -تبارك وتعالى- على يديه من الأمور، كل هذا قد جاء مُفصَّل من الله -تبارك وتعالى- لأهل الكتاب، صفة النبي وأنه الحماد، وأنه يأتي بالسيف، وأنه يخرج من مكة -صلوات الله والسلام عليه-، من أرض فاران واستعلن في فاران، وأنه يتبعه قوم معهم هذه السيوف المرهفة، وأن معه كتاب لا يمحوه الماء، وأنه جاء ليرفع الآصار والأغلال التي عليهم، وأنه جاء مصدق لما عندهم من التوراة والإنجيل، وأنه يخبرهم بالأسرار التي لا يعرفها إلَّا علماءهم وذوا الخبرة في الدين منهم، وأن الله يؤيده بهذه المعجزات، وأنه كل هذا قد جاء موصوفًا به النبي -صلوات الله والسلام عليه- عندهم، كما شهد الله -تبارك وتعالى- بذلك، فيما أوحاه الله -تبارك وتعالى- للنبي مما قاله لموسى، كما قال -جل وعلا- لموسى: {........ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:156]، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
كذلك جاءت صفات النبي الخَلقية، أن خَلقه على هذا النحو، وأن بين كتفيه خاتم النبوة، وهذه الصفات الخُلقية والخَلقية مما تعرف به سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه- الذي تداولته الأحداث، خروجًا من المجوسية دخولًا في النصرانية، ثم بدخوله في النصرانية صحب رجالاتها راهبًا راهبًا، من النصيبين إلى أنطاكيا إلى الموصل، إلى بعد ذلك أن قال له آخر حبر آخر راهب كان معه وقال له يا بني لا أعلم أحدًا مما هو على ديننا الآن، ولكن هذا زمان نبي قد جاء وقته، وأنه يخرج في قرية فيها نخل بين حارتين من أرض العرب، فإن شئت فارحل له، وأن سلمان لما قيل له هذا باع ما عنده، كان عنده بقرات وكان عنده شيء باعه، ثم دفع ما دفع لبعض العرب من قبيلة كلب أن يحملوه فحملوه، لكنهم أخذوا متاعه وباعوه عبدًا في خيبر ورضي بهذا، وظن أن خيبر هي الوصف الذي وصف له، ثم بعد مدة باعه سيده وكان من اليهود إلى رجل أخر في المدينة، فلما رأى المدينة ورأها تنطبق عليها ذلك الوصف الذي وصفه، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- هاجر من مكة إلى المدينة فنزل، وعلم بعد ذلك سلمان -رضي الله تعالى عنه- بشأن النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكان قد قال له فيما قال راهبه الأخير قال له أنه يأكل الهدية أو يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة هذه من علاماته، وبين كتفيه خاتم النبوة هذا إلى جانب ما وصفه، فجاء أخذ شيء من تمر في مساء هذا اليوم، وأتى النبي وهو في قباء وقال له يا أيها الرجل أراك رجلًا غريبًا وحولك كثير من الفقراء وهذه صدقة، فأخذ النبي هذا التمر ووزعه وأعطاه لأصحابه ولم يأكل منه، فيقول سلمان فقولت في نفسي هذه واحدة، في اليوم الثاني أتى بشيء أيضًا من التمر، جاء وقال للنبي أرأيت أنك لم تأكل وهذه هدية، فلما أكل النبي منها قبلها وأعطى أصحابه، فقال هذه ثانية، ثم انتظر والنبي يسير في جنازة وظل يتبع خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى سقط الرداء عن كتف النبي -صل الله عليه وسلم-، فرأى خاتم النبوة فيه، فلما رأى ذلك التزم النبي من خلفه وجعل يقبله، فالنبي أخذه من خلفه وجاء به إلى أمامه، وقال له ما شأنك؟ فقص له قصته، وأمره النبي بأن يقص قصته على أصحابه -صلوات الله والسلام عليه-.
الشاهد من هذا المعرفة الدقيقة خَلقية وخُلقية، وهذا الشأن قد وقع مع عبد الله بن سلام -رضي الله تعالى عنه-، حبر اليهود وعالمهم، فإن عبد الله ابن سلام لما علم أن النبي نزل في قباء ذهب إليه، وقال له إني سائلك عن ثلاثة أمور لا يعلمها إلا نبي ليختبره، وسأله هذه الأسئلة الثلاث، ثم لما أجابه النبي -صلوات الله والسلام عليه- وكان من جملة قال له أخبرني بها جبريل، قال له جبريل أخبرني بجواب هذه الأسئلة آنفًا، فقال له جبريل: هذا عدو اليهود من الملائكة، هذا اليهود يعادونه، قال له هو الذي يأتيك بالوحي؟ قال اليهود يعادونه، طبعًا قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ثم قال له يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، أي قوم كذابون مفترون، وأنهم إن جاءوا وعلموا بإسلامي بهتوني عندك، فخبئني عندك واسألهم عني إذا جاءوا، فاختبأ خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما جاءوا اليهود جلسوا مع النبي ساعة يناقشهم ويقرأ عليهم القرآن يدعوهم إلى الله -عز وجل-، فرفضوا الإيمان، فقال لهم ما عبد الله ابن سلام فيكم؟ أي ما شأن عبد الله ابن سلام فيكم؟ فقالوا هذا سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا، فقال لهم ما فعلكم لو أسلم؟ ألا يكون هذا دليل عندكم لاتباع الحق؟ فقالوا أعاذه الله من ذلك، أي أعاذه الله أن يسلم، فخرج عبد الله ابن سلام من خلف النبي، وقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فقالوا هو شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه، فقال له يا رسول الله هذا الذي كنت أحذر، أي هذا الذي كنت أحذر أن يبهتوني، وقالوا هو شرنا وابن شرنا وليس بعالم، فشهدوا الأول وأقرُّوا على أنفسهم بأن هذا حبرهم وعالمهم، فالشاهد أن عبد الله ابن سلام قال للنبي والله يا رسول الله إنى لأعلمك أكثر من ابني، أعلم بأنك رسول الله، وأعرف صفتك فيما أُخبِرنا به أكثر مما يعرف الأب ابنه.
قال الله -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، ثم قال -جل وعلا-: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}: خسروا أنفسهم الخسار كله بأن أوردوها النار، وذلك بامتناعهم عن الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}: لا يصدقون.
أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين, نكتفي بهذا, ونكمل إن شاء الله في حلقة آتية, الحمدلله رب العالمين.