الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (167) - سورة الأنعام 21-28

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:20]، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[الأنعام:21]، {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:22]، {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23]، {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:24]، مضى في الحلقة الماضية أن الله -تبارك وتعالى- أخبر بأن أهل الكتاب الذين آتاهم الله -تبارك وتعالى- الكتاب قبل النبي وهم اليهود والنصارى يعرفونه؛ يعرفون محمد –صلى الله عليه وسلم- كما يعرفون أبناءهم، وذلك من الوصف التفصيلي الذي وصف الله -تبارك وتعالى- به هذا النبي خَلقًا وخُلقًا وكذلك عملًا، ووصف أمته وزمانه ومكانه كذلك الذي يخرج منه -صلوات الله والسلام عليه-، وما يتحقق على يديه، فلذلك لما بعث النبي -صلوات الله عليه وسلم- كانوا يعرفونه معرفة تامة؛ لأنهم كانوا ينتظرونه، اليهود كانوا ينتظرونه، وبهذا الوصف الكامل في الخَلق والخُلق هم متحققون منه أكثر من تحققهم بأبناءهم، وهذه شهادة كما قال عبد الله ابن سلام حبر اليهود وعالمهم، لما التقى بالنبي في أول يوم نزل به النبي في قباء بعد مهاجره، وتحقق من أخلاق النبي ومن علمه ومن صفته، قال -رضي الله تعالى عنه- قال: (يا رسول الله والله إني لأعرفك أكثر من ابني)، قال أعرفك بوصفك وصفاتك أكثر مما أعرف أولادي، فهذا دليل يضاف إلى أدلة صدق النبي -صلوات الله والسلام عليه-.

ثم قال -جل وعلا-: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}: أي أن الذي لم يؤمن بهذا النبي فقد خسر نفسه، وخسر نفسه بأن أوردها النار، لا ينفعه كل ما كان له مما هو للإنسان ماله، بيته، جاهه، منصبه، أهله، الذي يكون في النار لا ينفعه شيء من ذلك؛ لأنه يدخل النار عاريًا لم يكن له شيء، ويبدل بلباسه، قال -جل وعلا-: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}[إبراهيم:50]، عياذًا بالله، والقيود في يديه والعذاب الدائم له، لا يستمتع لو كان أهله كلهم معه في النار يزداد حسرة على حسرة وخسارة على خسارة، ولو كانوا في الجنة فهو بذلك قد فقدهم، ولا مجال لأن يعطفوا عليه ولا أن يتصدقوا عليه ويعطوه شيئًا من خير الجنة، كما قال -جل وعلا-: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}[الأعراف:50]، {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ........}[الأعراف:51]: فلا ينفعه أهله كذلك انتهى، ذهب أهله، ذهب سلطانه، {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة:29]، ذهب ماله, ثم خسر نفسه بأن هذه النفس كذلك ما ترتاح، تبقى في العذاب الدائم عياذًا بالله لا يأتيها يوم ولا ساعة راحة، لا يفتر عنهم العذاب كما قال -جل وعلا-: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ}, والتفتير: هو التخفيف، {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}[الزخرف:75]: متحيرون يأتيهم الموت من كل مكان، يفجئه هذا ويفجئه هذا، يأتيه هذا ويأتيه هذا، ليس شرابًا واحدًا يُعذَّب به، وإنما كما قال -جل وعلا-: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}[ص:57]، {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}[ص:58]، فهو في عذاب مستمر دائم متنوع متلون، فإذًا لا يرتاح، لا يحيا حياة تريحه ولا يموت كذلك موت يستريح به، قال -جل وعلا-: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.

ثم قال -جل وعلا-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: سؤال يراد به التقرير، من أظلم من افترى على الله كذبا؟ الذي يفتري على الله الكذب؛ وأعظم افتراء هذا الكذب أن يقول أنا رسول، ولم يرسله الله -تبارك وتعالى- فهذا أكبر مجرم، ادَّعى الرسالة ويترتب على هذا أن كل عمله بعد ذلك يكون قائم على الكذب، فإذا قال أنا رسول فقوله وعمله يكون هذا تشريع للناس، أنا رسول ما دام أن الله قد اختارني رسول، فهذا أكبر كذاب، أكبر مجرم من يفتري على الله الكذب بأن يقول أنا رسول، وكذلك من يفتري فرية أقل من هذه على الله -تبارك وتعالى- وهي عظيمة كذلك، كأن يقول أحل الله كذا، حرم كذا، يريد كذا، يحب كذا، يفعل كذا، له كذا، فكل من افترى على الله كذب؛ له ولد، أمر عظيم جدًا، أكبر إجرام افتراء الكذب على الله -تبارك وتعالى-، لذلك كانت مقالة من قال بأن لله ولد من أعظم المقالات في الكفر، قال -جل وعلا-: {........ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}[الكهف:5]، وكذب على من؟ على الرب الإله -سبحانه وتعالى-، فلا أحد أظلم من هذا، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: سؤال يراد به أن يكون للاعتبار، فيقول من يسمعه لا أحد أظلم من هذا، ثم قال -جل وعلا- {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}: فالمكذب بآيات الله -تبارك وتعالى- كذلك هو مشابه لهذا، ويكون مساوي هذا؛ لأن الذي كذب آيات الله -تبارك وتعالى- آتته آيات الله -تبارك وتعالى- بينات وبراهين، سواء كانت هذه الآيات آيات منظورة كالمعجزات، أو آيات مقروءة معلومة كالقرآن المُنزَل على عبد الله ورسوله محمد، فيكذب بها ويردها، تأتيه آيات الله، كلامه المنزل منه ثم يرده، يقول لا ليس بكلام الله هذا، فلا يوجد أظلم من هذا وهذا، ممن يفتري على الله الكذب، وممن يكذب بآيات الله، قال -جل وعلا-: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[الأنعام:21]: الحال والشأن، هذا هي موازين الله -تبارك وتعالى- وهذا أمره، لا يفلح ظالم، الفلاح: هو الحصول على الهدف الأكبر، وغاية ما يتمناه الإنسان من أعظم الغايات، ولا شك أن أعظم ما يتمناه الإنسان الخلود في بساتين في جنات، يكون تحت يديه ما يشاء مما يمتعه، كذلك من البقاء السرمد الأبدي، فهذا أعظم الفلاح، الله يقول هذا الظالم لا يفلح، لا يبلغه الله -تبارك وتعالى- نُجاحًا، ما ينجح لابد يكون الخسار من نصيبه، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}: وهؤلاء ظالمون، الذي افترى على الله الكذب، والذي رد آيات الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا-: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:22]: يوم القيامة، نحشرهم جميعًا, الحشر: الجمع، كل الناس كل الخَلق، {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}: سؤال لتحقيرهم والاستهزاء بهم وبيان ضلالهم، أين شركائكم؟ أي الذين أشركتموهم مع الله -تبارك وتعالى-، {الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}: ادَّعيتم أن هذا ابن الله، وهذه الملائكة بنات الله، وهذا ند لله، وهذا يشفع عند الله، فاتخذتم شركاء لكم مع الله -تبارك وتعالى-، إما بالشفاعة عندهم، وإما بأنهم لهم صفة الرب، يخلقون ويرزقون ويحيون ويموتون ويدخلون الجنة ويتصرفون في الناس، أين هم؟ {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}: في الدنيا تزعمون أنهم شركاء.

قال -جل وعلا-: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23]: يفتنون كذلك فتنة أخرى في الآخرة فيستمرون في الكذب, فيقولون {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: يظن هؤلاء العميان المفتونون في الدنيا والآخرة أن كذبهم يوم القيامة ممكن أن ينطلي، ممكن أن يصدق، وأنهم بذلك يخرجون مما كانوا فيه، {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23]: أي في الدنيا، يريد الله -تبارك وتعالى- أن يريهم أن هذا الذي يتبجحون به الآن، هذا الذي يتبجحون به من الآلهة وأن لنا شركاء عند الله، وهذا عيسى إله من إله، الخالق الرازق الله -تبارك وتعالى-، فيقسم هؤلاء الكذابون يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين، وأننا ما أشركنا، كنا من أهل التوحيد.

قال -جل وعلا-: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ}: نظر اعتبار واتعاظ كيف كذب هؤلاء الكذابون على أنفسهم؟!، لم يكذبوا على الله؛ لأن الله -تبارك وتعالى- عليم، وسيفضحهم ويخرج مكنون صدورهم، ويظهر لهم أعمالهم، ويجعل كل ما حولهم بل أنفسهم تشهد عليهم، فيشهد عليهم هؤلاء وكل الذي فعلوه لن يستطيعوا أن يخفوا شيء، فإن الله سيهتك كل أسرارهم، ويخرج كل مكنونهم، {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ}: على أنفسهم عندما كانوا في الدنيا يقولون لا, هؤلاء شركائنا وهؤلاء آلهتنا كما كانوا يقولون، {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6]، فالآن يقولوا لا ما اعترفنا بها ولا كنا معها ولا آمنا بها، {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:24]: ما كانوا يفترونه الآن في الدنيا، الذي كان يقولون عليه ومتحمسون له ومتمسكون به كل هذا ضل عنهم في الآخرة، الله -تبارك وتعالى- يبين هذه الصورة المخزية لهم، من صور الضلال المخزي المخجل.

ثم قال -جل وعلا-: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}: من هؤلاء الكفار من يستمع إليك، وكان كثير منهم يستمع إلى النبي سرًا، يأتي والنبي يصلي من الليل ليستمع كلام النبي، وهذا من كبرائهم، أو يجلس أحيانا إلى النبي فيسمع منه، قال -جل وعلا-: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}، لكن الله -تبارك وتعالى- حرم هذا الكافر من الهداية، فجعل الله -تبارك وتعالى- على قلبه كِن، الكن: هو الظرف الذي يحفظ الشيء، كما يقال للكهوف التي في الجبال عندما يأوي إليها الرعيان ويأوي إليها الناس من المطر، كما قال -جل وعلا-: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا}: جمع كن وهو ما يستكن فيه الإنسان ويكنه من المطر، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}: أغلفة، محافظ تحفظ هذا القلب، تغلفه فلا ينفذ إليه الهدى، الهدى ما ينفذ إلى هذا القلب؛ لأن فيه غلاف سميك يغطيه فلا تنفذ الهداية إليه، فيصبح الكلام هذا ممكن يصل الأذن ويسمعه، لكنه لا يصل القلب ولا يفقهه القلب، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}: أي حتى لا يفقهوه، أن يفقهوه: يفهموه، وهذا طبعًا عقوبة شديدة لهم من الله -تبارك وتعالى- بكفرهم، بعنادهم، لما ردوا الحق عاقبهم الله -عز وجل- هذه العقوبة، {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}: مباشرة الله يمد في هذا ما دام أنه اختار طريق الضلالة، فالله -تبارك وتعالى- يجعل الشيطان يزين له هذا الطريق، ويمنع عنه الهدى أن يهتدي.

{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، يصبح في الأذن وقر، الوقر: الثقل، وإذا كان الإنسان في أذنه ثقل كمن يسد مثلًا صماخه بشيء من المعدن أو شيء فإنه لا ينفذ الكلام فيه، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا}، فلا يستفيد بها القلب ولا يفهم، ولا الأذن تسمع، وكذلك العين لا تبصر، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ}: كل آية مما ينزله الله أو مما يقترحونه، لا يؤمنوا بها: كل آية مقترحة محتملة كذلك ما تأتي، كما قال -تبارك وتعالى-: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ}، لو حشر الله -تبارك وتعالى- عليهم الملائكة فرأوهم أمامهم، وقالوا {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}: فلو رأوا كل آية رأي بصر قال -جل وعلا-: {لا يُؤْمِنُوا بِهَا}، فإذًا هذا الذي صنع الله -تبارك وتعالى- به هذا الصنيع لا مجال لأن يؤمن، وقد عاقبه الله -تبارك وتعالى- بهذه العقوبات بسبب التكذيب.

 {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[الأنعام:25]: حتى إذا جائوك هؤلاء الكفار الذين صنع الله فيهم هذا الصنيع يجادلونك، فما هي حجتهم؟ يقول الله -جل وعلا-: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، انظر هذا نهاية ما عندهم من النظر والعقل والحكمة، أنهم جعلوا هذا القرآن ما هذا إلا أساطير الأولين، أساطير: جمعة أسطورة، أي شيء سطره الأولون الذي قبلنا، وهذا قد جاء لنا به، والعمه، كيف يقال أن هذا القرآن شيء سطره الأولون! ولا يوجد أي نوع من قرينة قريبة أو بعيدة توحي إلى هذا، فهذا رجل أمي، هذا النبي رجل أمي -صلوات الله والسلام عليه- لم يقرأ ولم يكتب، وليس هناك ممن حوله أحد ممن يأتي له بشيء من هذا، وهذا ما عند الأولين هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- يرد عليهم ويكفرهم، ويبين ما عند النصارى من الضلال وما عند اليهود من الضلال، ولا يوجد أحد في الأرض كلها أتى بهذا العلم وبهذا النور إلا هذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ثم إن الأمر يتنزل بأمرهم ليلًا ونهارًا، ينزل في شئون جديدة من شئونهم، وليس القرآن فقط إخبار عن الأمم السابقة، هذا جانب الإخبار موجود، ولكن هذا أمر جديد، تشريع جديد، يقولون هذا الأمر فيرد عليهم القرآن بهذا، فكيف يكون هذا أساطير الأولين وهو يخاطبهم ويحادثهم ويرد على شبهاتهم، وكلما أتوا بباب من أبواب الضلال أتى الله -تبارك وتعالى- بما يضحده، {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]، ثم هو يتنزل صباحًا مساءًا على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فكيف يكون هذا هو أساطير الأولين؟! وهذا النبي الصادق الأمين الذي لم يجربوا عليه كذبا يأتي ويقول أن هذا الكتاب نزل لي من رب العالمين، والحال أنه قد تلقاه من بعض الأقدمين، كيف يكون هذا الأمر! أي هذا أمر لا يمكن أن يقول به إنسان عنده أدنى شيء من العقل ومن الحكمة ومن النظر، لكن هو الكذب فقط ورد الحق، وهذا يقوله حكماءهم وعقلاءهم، {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، الله سماهم هنا الذين كفروا، ما قال يقولون وإنما أتى هنا وصفهم اللائق بهم، يقول الذين كفروا بالله -عز وجل-، ومعنى كفروا: كذبوا وردوا الحق، {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، والحال أنه من عنده أدنى عقل لا شك أنه يصدق أن هذا كلام الله -تبارك وتعالى-، وأن هذا عبد الله ورسوله -صلوات الله والسلام عليه-.

ثم قال -جل وعلا-: أكثر من هذا {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}: وهم هؤلاء الكفار ينهون عنه الناس، لا تسمعوا هذا القرآن والغوا فيه ابعدوا عنه، وينأون عنه بأنفسهم، وبدأ بالنهي عنه؛ لأنهم كانوا حتى السماع قد يجيزون لأنفسهم بأن يسمعون النبي، لكن لا يجيزون لأحد أن يسمعه، وكانوا يمنعون نسائهم وصبيانهم وغلمانهم أن يسمعون النبي، يقولوا هؤلاء صبيان مخافة أن يؤمنوا، ولكن هم بأنفسهم أحيانًا يسمعوا، قدَّم الله -تبارك وتعالى- هنا النهي قال {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}، كذلك بأنفسهم، قال -جل وعلا-: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[الأنعام:26]: ما يهلكون إلا أنفسهم، أي هذا الفعل تكذيب هذا القرآن وقولهم هذا أساطير، وصف القرآن بهذا الوصف وهو كلام الله -تبارك وتعالى- المنزل لهم، نهي الناس عن كتاب الله، كلام الله -عز وجل- خالق السماوات والأرض، هو مرسله ليهدي عباده فؤلاء يبتعدوا عنه، نأيهم بأنفسهم عنه، جرائم مركبة بعضها على بعض، فإنهم يفعلون هذا الفعل وهم في غاية الطمأنينة والأمن، كأنه ما في عقوبة، كأنهم آمنوا عقوبة الرب، فلا يشعرون بما يخبأ لهم من العذاب الذي سيأتيهم، العذاب الدنيوي, والعذاب الأخروي، والعاقبة السيئة التي تأتيهم لا يشعرون بكل هذا، وهذا كذلك عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-، أن يفعلوا ما يفعلوه من الكفر والعناد وهم في غاية السعادة والفرح بما يفعلون، ولا يشعرون بعاقبة ونهاية فعلهم الخبيث.

قال -جل وعلا-: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنعام:27]، ولو ترى: أي ما تراه، {إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}، والجواب محذوف، جواب لو حتى يسرح العاقل في ماذا سيكون الأمر، { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}: أي لرأيت شيئًا فظيعًا عظيمًا من أحوالهم، ولو ترى يا محمد والمخاطبين من أهل الإيمان، {إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}، وقفوا بالبناء للمجهول أوقفتهم الملائكة، ويبكتهم الله -تبارك وتعالى-، أوقفوا على النار التي سيدخلونها، فقالوا هؤلاء الكفار، {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنعام:27]: استغاثة ودعاء بما لا يفيد، وتمني لأمر بعيد بل مستحيل، يا ليتنا نرد إلى الدنيا، {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا}: نرجع مرة أخرى إذا جاءتنا آيات الله -تبارك وتعالى- نصدق بها ونكون مصدقين فيها، {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، لكن هذا التمني والتألم والتفجع في هذا الوقت ما عاد يفيد، فهنا الله -تبارك وتعالى- ينقل لنا الصورتين المتقابلتين، صورة حالة هؤلاء المعاندين المكذبين، {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، وينهوا الناس عنه ويبعدوهم عنه، لا تسمعون لهذا القرآن، هذا قيامهم ونشاطهم، ثم الصورة الأخرى: صورتهم عندما يكونوا في الآخرة، وصورة حالة الاستخزاء واليأس والتفجع والدعاء، {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنعام:27].

قال -جل وعلا-: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}: بل ظهر لهم ما كانوا يخفون من قبل، ظهر لهم العذاب، وعيد الله -تبارك وتعالى- وكانوا يخفونه من قبل: كانوا يعلمون أن هذا حق وأن هذا الوعيد حق، وأن كلام الرب -تبارك وتعالى- حق وكانوا يخفونه، لكنهم أنفة، كبرياء، غطرسة، انشغال بهذه الدنيا، كيف يكون الرسول واحد هو ممن ينظرون إليه نظر هذا الاستصغار، لو كان رجل كبير كنا اتبعناه، هذه موانعهم التي صرفتهم عن هذا الدين وهم يعلمون أنه حق، وكان المفروض أن ما دام أن تعلمون أنه حق ويترتب عليه ما يترتب، يترتب عليه هذا الأمر هذا النار والعذاب، كيف تكفر بالله -عز وجل-! فالله يقول: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}: هذا كانوا يعرفونه لكنهم لم يريدوا أن يؤمنوا به، وأن يستجيبوا له مع أنه أمر فظيع عيظم جدًا، وهو أنه فيه تهديد الله -تبارك وتعالى- لهم بهذا العذاب، ثم قال -جل وعلا-: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}، الله أكبر!، أي الله يخبر -سبحانه وتعالى- بأنه لو ردهم بعد أن رأوا وعاينوا العذاب في الآخرة ورجعوا للدنيا مرة ثانية لعادوا لما نهوا عنه من التكذيب، فهذا أصبح كأنه أمر في دمهم ولحمهم كأنهم على هذا الأمر، قال -جل وعلا-: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، هذه هي باقي وصفهم، هم على هذا النحو، فهذا يخبر -سبحانه وتعالى- هذا بيان هنا قطع الأمل طبعًا في أن يعودوا، وبيان أن الذي يعاقبون فيه في الآخرة هم يستحقونه، وبيان أنه لا مجال لأن يصلح حال هؤلاء، وبالتالي النار هي التي تتكفل بهم، ويبقى العذاب الدائم لهم، فالله يقول: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}: ظهر لهم الذي كانوا يخفونه، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[الأنعام:28]، وبهذا يصم الله -تبارك وتعالى- ويصف المعاندين المكذبين الذين كذبوا آياته وردوها على هذا النحو بهذا الجحود والإصرار، ففي الآخرة يكذبون كما كان يكذبوا في الدنيا، ثم بعد ذلك يتمنون العودة ولا يكون لهم عند الله -تبارك وتعالى- إلا العذاب الدائم، عياذًا بالله من ذلك.

أسأل الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يردنا إليه ردًا جميلا، ويجعلنا ممن يؤمنوا به، وأن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه، -وصلى الله وسلم على عبد ورسوله محمد-.