الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (168) - سورة الأنعام 29-38

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}[الأنعام:29]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنعام:30]، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}[الأنعام:31]: يخبر -سبحانه وتعالى- عن مقالة كفار العرب، وهي أنهم أنكروا البعث والنشور إنكارًا كاملًا، ولم يوجد في العرب من يؤمن بالقيامة، قال -جل وعلا-: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}: الأمر والشأن ما هي إلا هذه الحياة الدنيا فقط ولا حياة بعد ذلك، وقد كان العرب على دين اسماعيل وإبراهيم -عليهما السلام- دهرًا من عمرهم ثم بدَّ       لوا هذا الدين، ومن جملة ما بدلوه دخول الشرك عليهم ثم إنكار البعث والنشور، كما قال -جل وعلا-: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}[النمل:66]: إدارك تدارك علمه في الآخرة، نقص شيئًا فشيئًا حتى أصبحوا في شك منها، أصبحوا في عماية تامة عن يوم القيامة، وأصبحوا إيمانهم بأنه لا توجد إلا هذه الحياة فقط، {وَقَالُوا}: هذه مقالتهم واعتقادهم، {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}[الأنعام:29]، أنكروا البعث إنكارًا كليًا.

قال -جل وعلا-: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}: يخاطب الله -تبارك وتعالى- نبيه -صلوات الله والسلام عليه-, والمخاطبين عن الحال المخزي والمزري لهؤلاء، عندما يوقفهم الله -تبارك وتعالى- للحساب والسؤال يوم القيامة، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنعام:30]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}، وكانت هذه المقالة أي لرأيت أمرًا عظيمًا مهولا، {وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}: أوقفوا للسؤال، وقال هنا على ربهم وذلك أنه خالقهم -سبحانه وتعالى- وسيدهم، فهو الذي أخبرهم -سبحانه وتعالى- بأنهم سيبعثوا، ثم ما دام أنه ربهم وخالقهم فهو القادر على أن يعيدهم -سبحانه وتعالى-، ما قال ولو ترى إذ وقفوا على الله بل قال ووقفوا على ربهم؛ ليبين أنه ربهم الذي هو خلقهم -سبحانه وتعالى- فهو القادر على أن يعيدهم، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}، قَالَ: أي الرب -جل وعلا- لهم {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}: أي ما أنتم فيه، البعث الذي أنتم فيه السؤال والنار التي أمامكم أليس هذا بالحق؟ مشيرًا إلى الحال التي وصلوا إليها، وهذا البعث الذي يرونه الآن بأعينهم، {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}: هذه جواب للسؤال الذي يتضمن نفي خاص، {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى}: للإثبات بلى هذا حق، {وَرَبِّنَا}: أقسموا بالله -تبارك وتعالى- ربهم أن هذا حق، قال -جل وعلا-: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}، ذوقوه: إصلوه وقاسوه، والذوق يكون بكل أنواع الإحساس وليس باللسان فقط، قال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}: عذاب النار عياذًا بالله، {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}: أي بسبب كفركم، وبيَّن هنا العلة في دخول هذا أنهم كانوا كفار، لأنهم كانوا يعلمون بأن هذا حق لما أخبروا به، وقامت الأدلة؛ كل الأدلة والبراهين على أن البعث حق، فإن الله -تبارك وتعالى- قد ضرب لهم الأمثال، فقال: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ........}[لقمان:28]، وبيَّن لهم -سبحانه وتعالى- كيف أحيا كثيرًا من الأنفس بعد موتها وقد علموا ذلك، وكذلك هذه الأرض الميتة كيف يحييها الله -تبارك وتعالى- بإنزال المطر بعد أن تكون هشة جلدة، وكذلك من بدأ الشيء فإنه يعيده -سبحانه وتعالى-، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس:78]، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[يس:79]: فالذي أنشأ العظام من لا شيء هو يستطيع أن يعيد ما صنعه وما بناه -سبحانه وتعالى-، كذلك الخَلق الكبير من قدر على فعل الكبير العظيم فإنه أقدر على فعل الصغير، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[غافر:57]، كذلك القسم والإخبار؛ أخبرهم الله -تبارك وتعالى- بهذا وأقسم على هذا، {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}[يونس:53]، إي وربي يقسم لهم بالله، ومن يقسم؟ النبي الصادق الأمين الذي يعلمونه، إذًا لم يكن هناك ثمة ريبة عندهم بعد هذا البرهان والبيان، في أن القيامة حق ولكنهم كفروا ذلك، جحدوا بذلك وردوه، قال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}، الكفر: ستر وتغطية، تجحدون وتسترون هذه الآيات التي قامت عندكم في قلوبكم والبراهين التي ظهرت لكم لكنكم جحدتموها ورددتم الحق، قال {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}، فإن تكذيب الصدق وتكذيب الحق ورده جريمة كبرى، لذلك استحقوا بها هذه العقوبة العظيمة.

ثم قال -جل وعلا-: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ}: حكم إلهي، قد: للتحقيق، خسر: والخسارة هنا خسارة كبيرة، خسارة نفس وخسارة أهل وخسارة مال، خسارة كل شيء حتى النفس، حتى صاحب هذا الخسارة خسر نفسه، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ}، كذبوا به: ردوه، لأنه صدق وعلموا أنه صدق وكذبوا به وقالوا كذب، كذبوا بلقاء الله: يوم القيامة حيث يحاسب الله -تعالى- كل نفس، {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا}: عندما تأتيهم الساعة بغتة سواءًا كان من كان على ظهر هذه الأرض فإن الساعة تبغتهم وتبهتهم، وكذلك من مات فإن الساعة تأتيه بغتة، ملك الموت يأتي بغتة ومن مات قامت قيامته، فإنه يدخل في السؤال ويدخل في مقدمات هذه الآخرة، وكذلك الساعة تبغت الناس، تبغت من في القبور فبالنفخ في الصور يقوم أهل هذه القبور مرة واحدة قيامًا لرب العالمين، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}[النازعات:13]، {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:14]، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً}، وسمى الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة بالساعة؛ لأن له وقت محدد ساعة محدده، بغتة: فجأة، {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}، هذه مقالتهم يا حسرتنا: تفجع وتألم وتوجع ودعاء على نفسهم بالحسرة، والحسرة: هي الألم والندامة لفوت مطلوب عظيم، وفوز عظيم فات هذا، {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}، التفريط: هو التضييع، وذلك أنهم سوَّفوا الأمر وتركوه ولم يعيروا اهتمامًا لهذا الحدث الجلل والنبأ العظيم وهذا الصدق، بل أهملوه وكذبوه، فعند ذلك يقولوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها، ما أخذنا الأمر مأخذ الجد، ولم نستعد له، ولم نصدقه كما ينبغي ونقوم بمقتضى التصديق، {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}.

قال -جل وعلا-: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ}: أي أنهم يتحسرون ويكون حالهم على هذا النحو يحملون أوزارهم على ظهورهم، الأوزار جمع وزر، والوزر هو الذنب، وحمل هذا الوزر إما أن يكون الوزر يتحول إلى جرم حقيقي فيحملونه، وإما أن يكون معنى حمله بمعنى أنه لازمًا لهم، كمن يحمل الشيء فيصبح لازمًا له، أي أن ذنبهم هذا أصبح لازمًا لهم لا مُفيكك له، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38], محبوسون بهذا، فقد حملوا هذا الوزر، وزرهم أصبح على ظهورهم يعني أصبح لازمًا لهم، لا إنفكاك لهم عنه، {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ}، قال -جل وعلا-: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}: إعلان وإعلام من الرب لقد ساء هذا الأمر الذي فعلوه، هذا الذنب الذي أذنبوه ذنب سيء في غاية السوء؛ لأنه تكذيب الرب الإله -سبحانه وتعالى- ورد آياته، وتسفيه النبي ورد الأمر إليه والسعي في معاندته، ومعرفة الأمر العظيم الله يناديهم يقول لهم ترى أمامكم هذا وهذا، فلم يعيروا إهتمامًا لهذا، الله يقول {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، هذا الوزر الذي أذنبوه أمر عظيم جدًا، {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}.

ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأنعام:32]، موعظة، خطاب رحمة -سبحانه وتعالى- من الرب الإله لمن؟ لهؤلاء المجرمين العتاة الكفار، لكن الله -تبارك وتعالى- يخاطبهم خطاب رحمة هنا، لعلهم أن ينتبهوا وأن يعقلوا عن الله -تبارك وتعالى-، فيقول لهم الله –جل وعلا-: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}: أي هذه خلاصة الدنيا، هذه أمرها النهاية، الدنيا لعب ولهو، فترة فمن شاء أن يعيشها فإنها تمر كأنها فترة لعب ولهو، فتمر سريعًا؛ لأن ساعة اللهو وساعة اللعب تمر سريعًا، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ، الدار الآخرة: ما أعد الله -تبارك وتعالى- لأوليائه فيها في الجنة خير، أي من هذه الساعة التي تلهى فيها الإنسان باللعب واللهو، قضاها على هذا النحو، {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}: يخافون الله -تبارك وتعالى-، فإن هذه الدار الآخرة جعلها الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء أهل التقوى، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص:83]، فهذه العاقبة؛ عاقبة الخير بالنجاة من النار والفوز برضوان الله -تبارك وتعالى- ودخول جنته، إنما هي لأهل التقوى للذين يتقون يخافون ربهم -سبحانه وتعالى-، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}: ألا عقل عندكم! من يخاطبكم؟ الرب الإله -سبحانه وتعالى- هو الذي يخاطبكم، ما في عندك عقل! كيف تضيع الحياة السرمدية الأبدية الخالدة بساعة لهو! ساعة تلهو فيها يمر عمرك وكأنه ساعة تلهو فيها، كيف تستعيض بساعة من ساعات اللهو واللعب! تمر الحياة على هذا النحو تستعيضها عن الخلود الأبدي الذي لا ينتهي في دار القرار والاستقرار في بستان الرب -جل وعلا-، جنته التي زخر الله فيها وجمع فيها كل ألوان المسرات، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}.

ثم بعد ذلك حوَّل الله -تبارك وتعالى- خطابه لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}: تسلية هذا للنبي، هذه تسلية للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن هؤلاء الكفار يقولون الكفر، يسبون الرسول، يجحدون آيات الله -تبارك وتعالى-، وهذا أمر يشق على قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالله يقول له {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}, قد نعلم: قد علمنا، علم الله -تبارك وتعالى- هذا، وعندما يخبره الله بأني علمت، يقول الله -تبارك وتعالى- أعلم بما يقولون وأن هذا الأمر يحزنك، فهذا طبعًا تسلية وتسرية لنفس النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}، أي من مقالات الكفر، وجحد آيات الرب -تباك وتعالى-، والاستهزاء بالنبي وتكذيبه وسبه بأنواع السب العظيم والشتم العظيم، من أنه كذاب، من أنه يريد شيئًا من وراء ذلك، من أنه شاعر، من أنه كاهن، مما قالوه في شأن النبي، {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}، قال -جل وعلا-: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام:33]، فإنهم لا يكذبونك في قلوبهم، يعلمون الصدق؛ يعلمون إنك صادق الأمين خبروا هذا وعرفوا هذا، من حياتك السابقة قبل الرسالة, أربعين سنة وأنت تعيش معهم وهم يعلمون أمانتك وأنك صادق أمين، وأن هذا الدين الذي جئت به هو دين الله -تبارك وتعالى-، وهذا كتابه وهذا ما أنزله فهم موقنون بهذا، {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام:33]، ولكن هنا ما قال ولكنهم وإنما أتى بوصفهم وصف استعاضة عن الضمير بالاسم الظاهر ولكن الظالمين، لأنهم هذا وصفهم، وصف هذا الفعل الذي فعلوه، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}: آياته هذه المنزلة على رسوله يعلمون أنها آياته ولكنهم يجحدونها، والجحود: هو الإنكار وإظهار خلاف ما في القلب، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، سماهم الله -تبارك وتعالى- الظالمين؛ لأن الظلم في لغة العرب: هو وضع الشيء في غير محله، فبدل ما يضع ما يقابل آيات الله بالتصديق والإيمان قابلوها بالجحود والنكران، هذا أشنع الظلم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: لرسوله {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}[الأنعام:34]: هنا يجعل الله -تبارك وتعالى- نبيه يتأسى بمن سبقه من الأنبياء والرسل، فيقول له {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}، في رسل كثيرة من قبلك أرسلهم الله -تبارك وتعالى- كُذبوا كما كُذبت، الله يقول: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا}: أي فليكن لك أسوة وعبره بهم، صبروا, والصبر: حبس النفس عن المكروه، أي أنهم تحملوا هذا وحبسوا أنفسهم على هذا الأمر العظيم المكروه، من تكذيب الناس لهم، علمًا أنهم رسل طيبون مخلصون، لم يريدوا لمن أرسلوا إليهم إلا الخير، يحبون لهم الخير ويحبون لهم طريق الهداية، {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}، لم يحبهم الناس وكرهوهم وأبغضوهم وكذبوهم فليكن لك أسوة بهؤلاء، {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا}، كذلك أوذوا بأنواع الأذى، هذا نوح، هذا إبراهيم، هذا موسى، هذا عيسى، هذا صالح، هذا هود، هذا شعيب، انظر أنواع الأذى الذي وقع على هؤلاء الرسل الكرام -عليهم السلام-، قال -جل وعلا-: {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}: أي ظل الأذى مستمر إلى أن جاءهم نصر الله -تبارك وتعالى-، ونصر الله -تبارك وتعالى- كان في هؤلاء الرسل أن الله ينجيهم والفئة المؤمنة، ثم يستئصل الله -تبارك وتعالى- الكافرين، قال -جل وعلا-: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}: ليس هناك من يستطيع أن يبدل كلمات الله، وكلمات الله هذه كلماته سنته الجارية في رسله، كما قال -تبارك وتعالى-: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:103]، فإن جاء الرسل وإهلاك الظالمين سنة من سنن الله -تبارك وتعالى- الجارية ولن يبدلها أحد، فالله يقول لرسوله إن سنة الله -تبارك وتعالى- في السابقين جارية وما أحد يستطيع أن يبدل كلمات الله، سيجعل الله -تبارك وتعالى- العاقبة لك والدائرة على عدوك، وقد كان فإن الله –تبارك وتعالى- أنجى رسوله -صلى الله عليه وسلم- من وسط هؤلاء الذين مكروا به وأرادوا أن يقتلوه وأن يفعلوا به، أنجاه الله -تبارك وتعالى- ثم نصره وأعزه وأهلك أعدائه، إما إهلاك فردي كما قال له الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]، وإما استئصال أحيانًا جماعي كما حصل لهم في بدر، وبعد ذلك حتى استقر الأمر وعلت كلمة الله -تبارك وتعالى-، وخضعت رقاب أعداء النبي له في نهاية المطاف.

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}، ثم قال له الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}، لقد جائك من نبأ المرسلين أي ما يبين هذا الأمر ويثبته، فإن نوح هذا نبأه قد جاءه، أوذي أوذي أوذي ثم ما كان؟ لما قال ربي انصرني مما كذبون قال خلاص انتهى الأمر، قال له: {........ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}[المؤمنون:27]، وقد كان أغرقهم الله -تبارك وتعالى-، وكذلك هود وصالح وسائر أنبياء الله -تبارك وتعالى- ورسله هذه أنباءهم، كيف أنجاهم الله -تبارك وتعالى- وجعل العاقبة لهم في نهاية المطاف، وأهلك -سبحانه وتعالى- الظالمين، {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- أيضًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا مهدئًا من آلامه وحزنه، قال له {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[الأنعام:35]، {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ}، كبر عليك: شق عليك، أي تقول هذا أمر كبير عليَّ، بمعنى أنه شاق وعسير أن أقوم به، قال -جل وعلا-: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ}، كبر عليك أي شق عليك وأتعبك إعراضهم عن الحق وبعدهم عنه، {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ}: هنا بيَّن للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ينبغي أن يسير في الشأن والحال التي أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها الرسل، فيصبر على الأذى كما صبر أولئك، ويعلم أن مشيئة الله –تبارك وتعالى- نافذة فيهم، وأن الهدى بيده -سبحانه وتعالى-، وأنه وقت أن يشاء الله -تبارك وتعالى- هدايتهم هداهم، فلا تستعجل الأمر لهم، {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ}، إذا استطعت أن تشق الأرض في نفق وتدخل فيها، أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ: لتصعد فيها, فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ: أي آية قاهرة تقهرهم وتلجئهم إلجاءًا إلى الإيمان أي فافعل، وطبعًا النبي لا يستطيع هذا، لا يستطيع أن يشق الأرض ليأتي بآية، ولا أن يصعد إلى السماء ليشق بآية، ولكن كان هذا بيان من الله -تبارك وتعالى- لنبيه أن يصبر على الحال التي يقابل فيها من هؤلاء الكفار، وأن الآيات بيد الله -تبارك وتعالى-، وأنه لا ينبغي له أن يستعظم أمر إعراضهم على هذا النحو، فإن هذا أحيانًا كان يهلكه -صلى الله عليه وسلم-، كما قال له الله -تبارك وتعالى- {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3]، وقال له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]، متأسف غاية الأسف حتى تكاد تقتل نفسك من الغم لعدم إيمانهم، ثم قال له الله -عز وجل-: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}: لو شاء الله أن يجعلهم مهتدين بدون كبير عناء منك بهداية منه -سبحانه وتعالى- لجمعهم بدون أي شيء، أن يوجِّه قلوبهم نحو هذا الإيمان، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}: أي لا تكونن من الجاهلين فترهق نفسك هذا الإرهاق، والحال أن هذا شأن الله -تبارك وتعالى- فيهم، ومشيئته النافذة -جل وعلا-، وأن الله –تبارك وتعالى- لا يهدي إليه إلا من ينيب، ومن يتوجه إليه -سبحانه وتعالى- بالإنابة وأن هؤلاء طالما هم في باب العناد والعصيان فإن الله -تبارك وتعالى- لا يهديهم -جل وعلا-.

ثم قال له الله –عز وجل-: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ}: أي من الذي يستجيب لك؟ الذي يسمعون سماع ينفعهم، إنما بالحصر, يستجيب الذي يسمعون: بهذا الذي سيستفيد من دعوتك، {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[الأنعام:36]: فبيَّن -سبحانه وتعالى- أن هؤلاء حالهم حال الميت، والميت هذا فإنه مهما ناديته فإنه لن يسمع لك، فهذا الكافر الكفر أمات قلبه، أعمى عينه، صم أذنه، أصبح حاله حال ميت فلذلك ما يسمع، لن يسمعك، إنما يستجيب: بالحصر, الذين يسمعون: يسمع الحق ويقر في قلبه، هذا الحي الذي عنده حياة، فيتمثل هذا يصدق هذا الصدق ويعمل بمقتضى هذا الصدق نعم، وقال له {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}: شبه الله -تبارك وتعالى- الكافر في عدم سماعه للحق وإزعانه له بأنه مثل الميت، ثم أن هؤلاء يبعثهم الله، متى يحيى هذا الكافر؟ يوم القيامة، عند ذلك يحيى ويعرف الحق ويعرف ما كان يقول له الرسول، وأن القول الذي كان يقوله الرسول هو الحق، ويتندم حيث لا ينفع الندم في ذلك الوقت، {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[الأنعام:36]: إذا أبعثهم الله -تبارك تعالى- يوم القيامة فيرجعون إليه ليحاسبهم.

ثم قال -جل وعلا-: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الأنعام:37]: هذا أيضًا من جملة ضلالهم، أنهم لم تكفهم كل هذه الآيات وقالوا لولا هلًّا, نزل عليه: على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا عليه هذا قالوها بالضمير، {آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}: آية من ربه ما قالوا من ربنا أو من إلهنا أو مولانا، لا من ربه كأن هذا الرب لا يعنيهم -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا-: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}: قل لهم إن الله قادر، الله هنا قال الله هذا الاسم على ذات الرب -سبحانه وتعالى-، الله المعلوم لكل الخلق بهذا الوصف، فإنه لم يُسمَّى أحد من الخلق بهذا الاسم إلا الله -سبحانه وتعالى- خالق السماوات والأرض، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}: آية تقهرهم وإلا الآيات نزلت كثيرة، وتلجئكم إلجاءًا، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}: أكثر هؤلاء لا يعلمون بقدرة الرب -تبارك وتعالى- على ذلك.

نقف عند هذا، -وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد-، والحمد لله رب العالمين.