الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (169) - سورة الأنعام 38-47

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن إهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الأنعام:37]، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[الأنعام:38]، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام:39]، هذا من جملة تعنت الكفار مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم لم تكفيهم الآيات التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لتكون هذه دلالات ليؤمنوا بالله -تبارك وتعالى-، من هذا القرآن الذي هو أعظم الآيات المنزلة من الله -تبارك وتعالى-، والتي تحدى بأن يأتوا بسورة من مثل هذه السور وعجزوا عن ذلك، هذا النبي وبيان صدقه وأمانته -صلوات الله والسلام عليه-، هذه الأخبار العظيمة المغيبة التي أخبر بها عن السابقين وما كان للنبي أن يعلم شيء من ذلك، فإنه رجل أمي لم يقرأ كتابًا قبل ذلك، هذه الأخبار عن المستقبل العظيمة التي يخبر بها وتقع على النحو الذي يخبر به -صلوات الله والسلام عليه-، هذه المعجزات الظاهرة التي أجراها الله على يديه -صلى الله عليه وسلم-، هذا الرجل المبارك الذي كل عمله بركة، هذا الذي كل وصف يطلق عليه أنه غير نبي وصف كاذب، شاعر كذب لا يقول الشعر، ولا هو على شيء من أخلاق الشعراء يقولوا القول في كل وادٍ من القول، ويقول ما لا يفعل ويكذب ويفتري ليس هذا من شأن النبي، فهو بعيد عن الشعر قلبًا وقالبًا، لا قلبه قلب شاعر ولا قوله قول شاعر -صلى الله عليه وسلم-، هذا أكبر الكذب بأن يتهم النبي بأنه كاذب وهم يعلمون أنه ترك الكذب على الناس طيلة حياته، فكيف يأتي ويكذب على الرب الإله -سبحانه وتعالى-، له غرض من هذه الدعوة ينتفي عنه الغرض الدنيوي، فلم يكن له أي غرض دنيوي من الأغراض، لا طلب أجرًا على ذلك، ولا سعى لدنيا، كل همه وعمله إنما هو في إبلاغ هذا الدين دون أن يكون من وراء هذا الأمر مصلحة مادية، بل إن الله -تبارك وتعالى- جعله يعيش كبقية الناس، يقاسي الحياة ويكسب قوته، فلم ينزل عليه كنز من السماء ولم يجعل له قصر مستقل، ولا جنة يأكل منها كما اقترحوا عليه، بل هم أيضًا قالوا {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ ........}[الفرقان:7]، بل هذا من أدلة صدقه، ليس هناك غرض مع ما يتحمله –صلى الله عليه وسلم- من تبعات هذا الدين، فإنه قد جاء بدين يعادي به كل العالمين، كل من على الأرض يصبح بهذا الدين عدوًا له، فقد أكفر اليهود وأكفر النصارى وأكفر مشركي العرب وسب آلهة الكفار، كل هذا الذي جاء به يجعل من حوله ممن يتمسك بما هو عليه من الباطل عدوًا له، فهذه كلها من أدلة صدقه، ولم يعجبهم كل هذه الآيات والبينات على صدق الرسول واقترحوا آية.

قال -جل وعلا-: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}، كيف هذا! لولا: هلَّا نزل عليه آية من ربه! وكل هذه الآيات لا تكفيهم، قال -جل وعلا-: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}: عدم إنزال الرب -تباك وتعالى- لآية مما يقترحون ليس عجزًا من الرب الإله، فالله قادرًا على أن ينزل آية، أي آية، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}: أكثرهم جهال لا يعلمون أن الله -تبارك وتعالى- قادر على كل شيء -سبحانه وتعالى-، وأنه يستطيع أن يأتي بالآيات مما يشاء، ولكن الآيات لها سنتها عند الله -تبارك وتعالى-، فإن المقترح من الكفار إذا اقترح آية معينة وجاءته الآية ولم يؤمن بها كان الإستئصال، لابد أن يكون هناك الرد الإلهي على هذا التكذيب، أي يعطيك الله -تبارك وتعالى- الآية التي اُقتُرِحَت ثم تكذِّب بها بعد ذلك، إذًا لابد من العقوبة فيكون هناك الإستئصال، فإن الرب -تبارك وتعالى- لم يشأ -سبحانه وتعالى- أن يوقفهم أمام هذا الأمر حتى يجعل هناك فسحة، ينزل الله -تبارك وتعالى- الآيات مما ينزلها -سبحانه وتعالى- ويكون هذا الأمر معروض، فمن آمن بآيات الله -تبارك وتعالى- دخل في الإيمان، ومن كفر فيكون له هناك مهلة ووقت في أن يبقى ولعله أن يرجع إلى الحق، قال {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الأنعام:37].

ثم قال -جل وعلا- موجهًا إلى آيات ملء الأرض، آياته -سبحانه وتعالى- في هذا الخلق قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[الأنعام:38]، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ}: لتأكيد النفي، دابة: كل من له دبيب على هذه الأرض، من النملة الصغيرة التي تدب على الأرض إلى الحيوان العظيم، الفيل العظيم، {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}: هذا ما يدب على الأرض وإنما يطير في جو السماء بجناحيه، قد يقف على الأشجار ثم يطير بجناحيه، قال -جل وعلا- {إِلَّا أُمَمٌ}: جماعات، {أَمْثَالُكُمْ}، في الاجتماع، فيقال الإنسان حيوان مدني بالطبع، أو إجتماعي لا يعيش إلا في جماعات، ما يعيش منفرد وحده، رجل وحده، إمرأة وحدها أو اثنين وحدهم، بل لابد الإنسان ما يعيش إلا جماعات، كون أسرة، مجموعة أسر، قبيلة لابد أن تكون مع بعضها، حتى لا تتم معايش الناس إلا بهذا الاجتماع، وبهذا الاجتماع لابد أن تنشأ لغة للتخاطب، نظام يحدد علاقة الأفراد بعضهم مع بعض، هذا عقد زواج، هذا عقد بيع، هذا عقد هبة، هذه عقود ميراث، هذه عقود لابد أن تنظم اجتماع الناس بعضهم مع بعض، فأي أمة مجموعة لابد من نظام يجمعهم، إذا في لغة للتخاطب في نظام لابد يجمعهم، الله يخبر بأن كل هذه الدواب التي زرأها وبثها في هذه الأرض وكذلك الطيور التي خلقها تكون كلها أمم تعيش جماعات، ومعنى أنها تعيش جماعات إذًا فيه لابد أن تكون هناك لغة مشتركة يتفاهم بها هذه الجماعة، لابد أن يكون هناك نظام موضوع وقواعد يجتمعوا عليها، إذًا هذا أمر عظيم جدًا من عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-، أن يجعل هذا الخلق من الشيء الصغير جدًا الذي قد يحتقره الناس كله فيه هذه القدرة على أن يكون له لغة، أن يكون له نظم للاجتماع، لا يصنع ذلك إلا الله -تبارك وتعالى-، ليس هذا بعبث ولا سدى، ولا يمكن أن تكون هذه المخلوقات قد أوجدت هذا لنفسها بنفسها من نفسها، يستحيل أن يكون هذا الخلق العظيم قد وجد بدون خالق، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35]، بل إن لها هذا الرب الإله، فالذي خلق هذه المخلوقات على هذا النحو نظمها على هذا النحو وأعطاها هذه القدرة وهذه الامكانيات على أن يكون لها هذا الأمر هو ربها -سبحانه وتعالى-، إذا أرادوا الآيات فلينظروا في خلق الله -تبارك وتعالى-، كيف أن الرب له القدرة على هذا الخلق، وقد أعطى كل شيء خلقه ثم هداه -سبحانه وتعالى-.

قال -جل وعلا-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}: مع هذا الخلق المتعدد في الأصناف والأنواع فالله بث في الأرض من كل دابة، عشرات الألوف من الأصناف والأنواع، وقد يكون النوع واحد منه أصناف هائلة، فالبعوضة في أكثر من ألفي نوع من البعوض وحده والذباب كذلك، هذه الأمور التي من محقرات الخلق، ومما ينظر الناس إليها بعين الاحتقار، لكن انظر هذا التنويع وإبداع الرب -تبارك وتعالى- في خلقه وتنويعه، وهذه الأنواع الكثيرة، كل هذا محسوب، ما في بعوضة ولا ذبابة ولا نملة من هذه إلا وقد كتب الله -تبارك وتعالى- كل مقاديرها، كل شيء قبل أن يخلقها -سبحانه وتعالى-، وأحصى كل هذا الخلق، والله -تبارك وتعالى- هو الذي رسم له طريقه وحياته ومقداره، وهو العليم بكل شيء فيه، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ........}[هود:6]، مستقرها: أين تسكن وتعيش؟ في داخل صخرة في حجر في عش في أي مكان، ومستودعها الذي تخفي فيه طعامها، أين بتخبي طعامها، وكذلك أي تخبئ صغارها وبيضها ونسلها، أين تخبئه فهذا بعلم الله -تبارك وتعالى-، فالله يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ}[الأنعام:38]، الكتاب هنا كتاب الخلق، كتاب المقادير، اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء، {مَا فَرَّطْنَا فِي}: ما في تضييع، ما في شيء من هذه, عنصر واحد من عناصر هذه المخلوقات سقط قيده لا، ما في شيء يسقط قيده، أي يقول هذا ساقط قيد، ما قيد، ما عرفت ميلاده، ما عرف وفاته، ما عرفت حياته وانتهى، نملة راحت ما ليس لها حساب... لا، ما في عند الله -تبارك وتعالى- هذا.

قال -جل وعلا-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}، ليس فقط شيء يغفل في هذه الدنيا، بل إن البعث يوم يأتي البعث تبعث كل هذه المخلوقات التي خلقها الله -تبارك وتعالى-، ثم تحشر كلها في يوم الحشر والنشور إلى الرب -تبارك وتعالى-، سبحان الرب العظيم، الإله الكبير، لا إله إلا هو، الذي أحصى هذا الخلق على هذا النحو وعرفه وكتبه ولم يغفل شيئًا منه، مع بالنسبة للبشر حقارة ما هذه نملة ذبابة بعوضة كانت في مستنقع يقول لا يوجد أحد يبحث عليها لا، الرب الإله الذي خلقها هو يعلمها ويعلم سرها وكتب مقاديرها، وإذا انتهت هذه الحياة تبعث هي بنفسها وتحشر إلى ربها -سبحانه وتعالى-، فأي آية بعد ذلك يريد الكفار؟! ماذا يريد الكفار آية بعد هذه الآيات؟! هذه لا نقول ملايين الملايين أو مليارات المليارات أو ما هو أكبر من ذلك من الآيات، هي أكبر من هذا، لأن كل مخلوق على هذا النحو هو آية من آيات الرب -تبارك وتعالى-.

قال -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ}: لكن المكذبين في الآيات يعيشون صم لا يسمعون بُكْم لا يقولوا حقًا في الظلمات، فإذا كان هناك أصم أبكم ويعيش في ظلمة، أي لو ولد مولود أصم أبكم وعاش في غرفة مظلمة، طبعًا إذا عاش في غرفة مظلمة حتى لو كان مبصر ما يشوف شيء يتعطل البصر، قلبه ما هينتفع به الذي يفكر بيه لأنه ما هيدخله أي شيء، لن يدخل أذنه شيء من العلم، فهذا إن عاش ما عاش، عاش خمسين سنة ستين سنة على هذا النحو فإنه لن يدخل قلبه ذرة علم، ما دام أنه يعيش في الظلمات، وما دام أنه خلاص سمعه منتهي، وبالتالي سمعه فكذلك هو أبكم، فإنه يكون على هذا النحو لن يتعلم شيئًا، أجهل الجهلة ما يعرف أي شيء، فهذا حال الكافر، الله يخبر أن حال الكافر على هذا النحو، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ}، قال -جل وعلا-: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ}، هذا الأمر كله بمشيئة الرب -جل وعلا-، {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ}: يجعله ضال، {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: من يشأ الله -تبارك وتعالى- أن يجعل من يجعل من خلقه على صراط مستقيم، فالذي على صراط مستقيم يمشي على صراط مستقيم لا شك هذا منتبه يرى الطريق، عنده بصر يرى، عنده سمع يسمع، لأن من يمشي على الصراط من لوازم السير على الصراط المستقيم أن يكون فيه كل هذه الحواس والإمكانيات؛ العقل النظر السمع، فهذه هداية الرب -جل وعلا-، {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، نسأل الله أن يجعلنا كذلك.

ثم قال لهم الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الأنعام:40]، قل لهم أرأيتكم أي أخبروني، {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ}: في الدنيا، {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ}: يوم القيامة، {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}: أي هل هناك ملجأ وملاذ من تدعوه غير الله -تبارك وتعالى- إن كنتم صادقين، أخبروني من الذي تلجأون إليه وتدعونه، تستصرخون بمن؟ {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، قال -جل وعلا-: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ}: تستصرخون الرب -تبارك وتعالى-، وتدعونه مستصرخين وتطلبون منه أن يرفع هذا العذاب عنكم، قال-جل وعلا-: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:41]، الكشف: هو الرفع يرفع هذا، {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ}، الذي تدعونه إليه -سبحانه وتعالى- إن شاء، فقد يأتيهم العذاب في البحر أو هنا أو هنا أو هنا فيلجأوا إلى الله -تبارك وتعالى- مضطرين، فإذا شاء الله -تبارك وتعالى- أن يرحمهم ويكشف العذاب عنهم فعل، {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}: الذين أشركتموهم بالله -عز وجل-، بتدعوا الملائكة، بتدعوا هذي الأصنام، كل الذي تدعوه في هذا الوقت؛ وقت الشدة الشديدة فإنكم تنسون هؤلاء، أي تهملونهم ولا تلجأون إلا إلى الله -تبارك وتعالى-؛ لأنكم تعلمون أنه لن ينقذكم مما أنتم فيه إلا الرب الإله -سبحانه وتعالى- خالق السماوات والأرض.

ثم قال -جل وعلا- لرسوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}[الأنعام:42]: يقسم -سبحانه وتعالى- ويخبر ويؤكد بأنه قد أرسل رسلًا إلى أمم من قبل النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كقوم نوح وعاد وثمود، قال -جل وعلا-: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}[الأنعام:42]: أخذناهم بالبأساء: الشدة، والضراء: الضر، فقر مرض حبس المطر أنواع من الشدة يبتليهم الله -تبارك وتعالى- بها، حتى قال -جل وعلا-: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}: يتذللون، الضراع: الذل، يتذللون لربهم لخالقهم -سبحانه وتعالى-، يعلموا قدرة الرب -جل وعلا- وأنه ربهم خالقهم الذي بيده كل أمورهم، فالله صنع بهم هذا الصنيع ليكون هذا سبب لأن يلجأوا إلى الله -تبارك وتعالى- ويتضرعوا إليه.

قال -جل وعلا-: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}: أي هلَّا إذا جاءهم بأس الله -تبارك وتعالى- تضرعوا وذلوا لله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا-: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:43]، {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}، القسوة: الشدة، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ}، التزيين: التحسين، {الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أي حسن لهم الشيطان وجمَّل لهم فعلهم القبيح، شركهم بالله، كفرهم، جحودهم، أصبح في أعينهم هو حسنًا، يرون أن هذا هو الطريق وهو الحياة، وأن طريق الرسل والإيمان به أمر مستنكر عندهم، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، قال -جل وعلا-: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}: نسوا الدرس، لما نسوا ما ذُكِّرُوا به عندما نسوا أهملوا ما ذكرهم الله -تبارك وتعالى- به من هذه الشدة والبأساء، قال -جل وعلا-: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}، عند ذلك يأتيهم الإستدراج، مكر الله -تبارك وتعالى- بهم، قال {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}: من خيرات الدنيا، وفتح هذه الأبواب تفتح بق الأبواب، تجود زراعاتهم، ينزل المطر عليهم، تجود صناعاتهم، تربوا تجاراتهم، يكثر الخير في أيديهم فتفتح عليهم الأبواب والكنوز من خيرات هذه الدنيا، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}، من أبواب الرزق والعطاء، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا}، حتى إذا وصلوا إلى حالة الفرح بالذي أوتوه والدنيا الطويلة العريضة التي أصبحوا فيها، قال -جل وعلا-: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}، الأخذ: الإهلاك، بغتة: فجأة بدون إنذار، بدون أن يأتيهم إنذار بأنكم ستستأصلون في اليوم الفلاني، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}، قال -جل وعلا-: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}، إذا فجائية، هم: هؤلاء نفسهم، مبلسون: الإبلاس هو التحير، أي متحيرون مبهوتون، ما الذي حدث؟! أين؟! هذا غضب الرب علينا! فإذا هم في هذا العذاب متحيرون مبهوتون لا يعرفون ما الذي حل بهم، {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.

قال -جل وعلا- {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:45]، فقطع بالبناء لما لا يسمى فاعله والذي قطع هذا هو الله -سبحانه وتعالى-، دابر القوم: هو ما يسير في مؤخرتهم، إذا كان ناس مسافرين فآخر واحد منهم هذا هو دابرهم الذي يسير في دبرهم، فإذا قطع قتل هذا الأخير معنى ذلك أنه لم يبقى منهم أحد، لأن الإستئصال جاءهم من أمامهم وظل الإستئصال حتى آخر واحد فيهم، أي أن الله -تبارك وتعالى- استأصلهم وقطعهم إلى آخر فرد فيهم لم يبقي أحد، كما قال -جل وعلا-: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51]: لم يبقى الله -تبارك وتعالى- منهم أحد، ما بقي منهم مثلًا مجموعة من الناس كانوا في مكان ناءٍ بعيد، كانوا في جبل، كانوا ذاهبين في هذا المكان، استثنى الله هذه المجموعة... لا، بل إنما استأصلهم الله -تبارك وتعالى- استئصالًا كاملًا، لم يبقي أحدًا منهم، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا}[الأنعام:45]، قال -جل وعلا-: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: حمد الله -تبارك وتعالى- نفسه على هذا الصنيع، وذلك أولًا أن الرب محمود -سبحانه وتعالى- في أنه أحذر إلى هؤلاء، بيَّن لهم الحق، أعطاهم الدرس يلو الدرس، الرسول الذي جاء بالهدى والنور يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- مع قيام الأدلة كلها على صدق الرسول، ثم أخذهم بشيء من الشدة تعليم نوع من القرص، كما أنت تريد أن تؤدب شخص فتلوي عنقه، تلوي شيء من أذنه حتى يرعوي، فيأخذهم الله -تبارك وتعالى- ولله المثل الأعلى بشيء من الشدة، إرعوي الرب ربك إلهك مولاك إليه وهو قادر عليك، لكنه يتكبر ويستكبر ويرد هذا، نسوا هذا الدرس أخذهم الله -تبارك وتعالى-، طبعًا إهلاك هؤلاء رحمة أولًا لأن لا خير فيهم، أي هذا الذي قد أعذر الله -تبارك وتعالى- إليه بكل سبيل وبيَّن له الحق، وأصبح عناده على هذا النحو ولم يفلح فيه درس من الدروس بقاءه شر، بقاء هؤلاء المجرمين في هذه الأرض شر، الأرض تستجير منهم، السماء تستجير منهم، بقاءهم إذا بقوا يبقوا للفساد والإهلاك، كما قال نوح شاكيًا لربه -تبارك وتعالى-: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:27]، فيعلموا الأولاد على الكفر كما كانوا، وبالتالي يعم الفساد وينتشر، ثم هم يحاربون الدين والإسلام فبقاءهم شر، بقاءهم من أعظم الشرور، بقاء الأشرار على هذه الأرض من أعظم الشرور؛ لأنه بقاء للفساد وتأصيل لها واستئصال للخير، وبهذا تفسد الحياة، فكان من رحمة الرب -تبارك وتعالى- أنه يستأصل هؤلاء الذي لا خير فيهم، الذين امتنعوا من الخيرية ولم يستفيدوا بدرس من الدروس، فإن الرب الإله -سبحانه وتعالى- يهلكهم لذلك، قال -جل وعلا-: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:45].

ثم قال -جل وعلا-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}[الأنعام:46]، أيضًا تلوين أخر للخطاب من الرب الإله -سبحانه وتعالى- لهؤلاء الكفار ودعوة لهم، وخطاب رحمة لعلهم أن ينتبهوا ويرعوه، يقول لهم {قُلْ أَرَأَيْتُمْ}: أخبروني، {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ}: الله الذي أعطاكم السمع هو الذي أعطاكم البصر لو أخذ الله -تبارك وتعالى- هذا، {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}، فلا تفهمون، والختم على القلب معناه أنه يغلق القلب ثم يختم عليه بحيث أنه لا يدخله هدى ولا نور، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}، هل لكم إله معبود حقيقي يستحق العبادة غير الله يأتيكم به؟ يستطيع أن يرجع لكم السمع والبصر ويفتح هذه القلوب للنور والضياء والحق، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}، والجواب لا، هذا السؤال تقرير له أن يراد أن يقولوا له لا إله حقًا قادر على هذا، إلا الرب الإله -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا-: {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}: خطاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، {كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ}، نصرفها: ننوعها، نوع من الوعيد والتهديد والإنذار وذكر أمثلة لمصارع الغابرين، وسنة الله -تبارك وتعالى- التي جرت فيهم، تنويع للخطاب ثم تلطيف لهم الخطاب حتى يرعوا ويرجعوا، {انظُر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ}، نصرفها ننوعها، {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}: ثم هم بعد ذلك يصدفون، يصدفون بمعنى أنهم يميلون عن الحق، يتركون خطاب الرب -تبارك وتعالى- ويصرفون وجوههم إلى غير ذلك.

ثم قال -جل وعلا-: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}[الأنعام:47]، {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ}: أيضًا أخبروني، {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً}، بغتة: فجأة، قد يكون وهم نائمون وهم لاهون، أو جهرة بعد الإعلان، {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}: أي هل يقع الهلاك إلا على هؤلاء القوم الظالمين؟ بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- لا يهلك إلا الظالمين، وأن رسوله والمؤمنون فإن الله -تبارك وتعالى- لابد أن ينجيهم، أي اعلموا أن الله عندما يأتي بالعذاب فلن يخص غيركم أيها الكفار الظالمون.

نقف عند هذا, والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين.