الأربعاء 16 شوّال 1445 . 24 أبريل 2024

الحلقة (17) - سورة البقرة 29-35

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد... أيها الإخوة الكرام يقول الله –تبارك وتعالى–: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:30] {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:31] {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32] {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة:33].

في هذه الآيات يبيِّن الله –تبارك وتعالى– أنه قد أخبر الملائكة, وعرض عليهم أن مشيئته –سبحانه وتعالى– وإرادته متوجهة إلى أن يجعل في الأرض خليفة، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ}، قول من الله -تبارك وتعالى- والله –سبحانه وتعالى- يتكلم ما شاء كيف يشاء, يتكلم مع ملائكته, ويتكلم مع بعض رسله, كما كلم الله –تبارك وتعالى- موسى, وكلم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وكلم آدم، والله يتكلم بما شاء كيف يشاء -سبحانه وتعالى-, قال ربك للملائكة، الملائكة خلق عظيم من خلق الله -تبارك وتعالى-, هم عالم من العوالم التي خلقها الله -تبارك وتعالى- وصفهم الله –عز وجل- في كتابه وعلى لسان رسوله، جاء وصفهم في السنة بأنهم خلقهم الله –تبارك وتعالى- من نور، وجاء أن أعدادهم لا يمكن أن يُحاط بها كما في وصف النبي للبيت المعمور، الذى وصفه عندما عرج به إلى السماء، قال: {يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه أبدا}،  أنهم لا تأتيهم نوبة ثانية يصلون صلاة أخرى في هذا البيت المعمور الذى في السماء، ولا يمكن أن نتصور منذ خلق الله –تبارك وتعالى- السماوات, وخلق فيها البيت المعمور كم, وهذا لا يعرف عدده, سنين سبقت, كم جاء إلى هذا البيت المعمور؟ وصلى فيه؟، وقدرة هذه الملائكة فوق تخيل الإنسان، كما قال الله في جبريل {علمه شديد القوى}[النجم:5]، ومن شدة قوته أنه جاء في الحديث أنه رفع قرى لوط على طرف جناحه ثم أفكها،  قلبها على أهلها، هذه القدرة التي يقتلع ملك يقتلع بطرف جناحه يقتلع مدنا كاملة, ثم يحملها, ثم يأفكها على رؤوس أهلها, هذا أمر عظيم جدًا, وجاء {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}, نزع الجبل من مكانه ووضعه على بنى إسرائيل جميعًا عندما فرض عليهم العمل بما ألزمهم الله –تبارك وتعالى- بالتوراة، قال -جلا وعلا- {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأعراف:171]، نتقنا الجبل, كان جبريل، وأمر الله جبريل أن ينتق الجبل, يخرج من مكانه ويضعه فوق رؤوسهم؛ تخويفا وإلزاما لهم أن يأخذوا ما أمروا أن يأخذوا.

الشاهد أن قوة هؤلاء الملائكة شيء عظيم جدًا وقد جاء أن جبريل خلقه الله -تبارك وتعالى- وله ستمائة جناح، قد رآه النبي مرتين، مرة عند بدء الوحى, ومرة في السماء عندما عرج به -صلوات الله وسلامه عليه-, وهو الذى رعب منه عندما رآه في بدء الوحى, وخرج يرعب ويرعد فؤاده ويقول: زملوني ... زملوني، وأخبر أن منظر الملائكة شديد, وأن الكفار قال –جل وعلا- {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرًا محجورا}[الفرقان:22]، وهذه النار التي جعلها الله سجنًا وعذابًا للكفار, الذين لا يُحصِى عددهم إلا الله, {عليها تسعة عشر}[المدثر:30] فقط من الملائكة، قال: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} غير البشر، {وما جلعنا عدتهم إلا فتنة اللذين كفروا}[المدثر:31]، فالخلاصة أن الملائكة خلق عظيم من خلق الله –تبارك وتعالى- أقامهم الله –تبارك وتعالى- فيما أقامهم فيه من عبادته وطاعته, ووكل لهم أمورًا يقومون بها, هذا موكل جبريل موكل بالوحي, وهذا موكل بالسحاب بالمطر, ملك موكل بالأرواح وهو ملك الموت, {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم}[السجدة:11].

الله قال للملائكة جميعًا {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، جاعل مصيّر وخالق, في الأرض خليفة الأرض, هذه التي نعيش عليها، خليفة، قيل معنى خليفة، الخليفة من الذى يكون إثر أحد ويخلفه أحد كما قال –تبارك وتعالى- عن البنى آدم {وهو الذى جعلكم خلائف في الأرض}[فاطر:39]، خلائف في الأرض  جيل يخلف جيلا، جيل يموت ثم جيل آخر, ثم جيل ثم جيل وهكذا،،، فهذا الخليفة هو آدم, أو الخليفة هو اسم نكرة يعم على الإنسان كله, إنسان يخلف بعضهم بعضًا، هذا المعنى, أو آدم الذى هو خليفة في الأرض، قيل خليفة بعض الأجناس التى سكنت الأرض قبل ذلك, ولكن ليس على هذا دليل، المهم أن خليفة إنسان, هو آدم, يخلف ذريته بعضهم بعضًا جيلًا إثر جيل، قالوا: أي الملائكة للرب -جل وعلا- {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، قال: كأنهم مستعظمين أو مستنكرين خلق الله –تبارك وتعالى- لهذا الخليفة، أو لهذا الإنسان, وكأنهم رأوا أنه سيكون منه الإفساد, قالوا: أتجعل فيها في الأرض من يفسد فيها بالمعصية وصنوف الفسق والخروج عن الطاعة، {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}, يقتل بعضهم بعضًا، والسفك هو السفح والهدر, وهذا أمر عظيم، فإن المخلوق إذا كرم على هذا النحو, ثم قتل بعضهم بعض, هذا عدوان عظيم على خلق الله –تبارك وتعالى-, {وَنَحْنُ} أي الملائكة {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، التسبيح بمعنى التنزيه, نسبح بحمدك, نسبح حالك, وأننا قائلون ومتلبسون بحمدك, وعبادة الله –تبارك وتعالى- إنما تكون بهذين الأمرين, التسبيح تنزيه الله –تبارك وتعالى- عن كل عيب ونقص، وحمده إثبات المحامد له -تبارك وتعالى-.

فعندما تقول: إن الله لا شريك له, سبحته نزهته عن الشريك والضد، فعندما تقول الله هو الله الذى لا إله إلا هو يبقى أثبت له المحامد –سبحانه وتعالى- مثل قول الله –تبارك وتعالى- عن نفسه في آية الكرسي هذا تسبيح وتحميد، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255].

 تسبيح الرب تبارك وتعالى تنزيهه عن السِّنة وعن النوم, وكذلك إثبات المحامد له, {نحن نسبح بحمدك} فننزهك عن كل عيب ونقص, ونحمدك –سبحانه وتعالى- ونثنى عليك بما أنت أهله من صفاتك ومن أفعالك المجيدة, {ونقدس لك}, ونقدس لك, إما معنى ونقدس لك التقديس كذلك هو التنزيه, والقدوس هو المنزه عن كل عيب، فالله القدوس, من أسمائه القدوس –سبحانه وتعالى- وفى تسبيح النبي: {سبوح قدوس رب الملائكة والروح}، الله سبوح مسبح منزه عن كل عيب, قدوس مقدس عن كل  عيب ودنس –سبحانه وتعالى-, رب الملائكة والروح, {نقدس لك}, إما نقدس لك نقدسك –سبحانك وتعالى- وإما نتقدس لك, نتنزه ونتنظف من أجلك –سبحانك- ومن أجل أن نكون أهلًا لعبادتك –جل وعلا-, قال الرب -تبارك وتعالى- لهم لما قالوا هذا -وهنا دائما سؤال يأتي: كيف علموا هذا؟- والحال أن هذا الإنسان لم يوجد بعد؟، كيف علموا هذا من شأنه؟، الجواب هو إما أن يكون الله –تبارك وتعالى-  قد أعلمهم ما يكون من شأنه, وإما أن هذا فهموه باجتهادهم وبرأيهم وظنوا أن الله لما يخلق إنسانا من الطين ويكون له نسل ويكون له ذرية, وأنهم سيتنازعون في هذه الدنيا في مصالحهم, تختلف مصالحهم ونحو ذلك, فيكون منهم تنازع ويكون منهم سفك الدماء, فيكون قد وصلوا لهذا  بعلمهم واستنباطهم.

أما القول بأنهم قاسوا هذا الأمر على أنه قد كان قبلهم أجناس سفكت الدم وعاثت في الأرض فسادا, أجناس سموا أنهم من الحن, ليسوا بشرًا وليسوا جنًا, وإنما هم جنس آخر، وأنه ظن الملائكة أن هؤلاء سيكونون على أمثال بعض الأجناس التي خلقها الله قبل الإنسان, في الأرض, فهذا قول ليس عليه برهان ولا دليل, المهم أن الملائكة لا شك أنهم فطنوا أو رأوا أن هذا الإنسان سيكون منه شرور, فلم يعرفوا حكمة الرب –جل وعلا- في خلقه الإنسان على هذا النحو, يقع منه المعصية بالله على هذا, وهم استعظموا أنه مخلوق يعصى الإله –سبحانه وتعالى-, والحال أن الله –سبحانه وتعالى- خلقهم وفطرهم على الطاعة له سبحانه وتعالى, لا يتأتى منهم معصية, فكأنهم يستعظمون أن يوجد مخلوق يعصى الرب –تبارك وتعالى-,

  قال –جل وعلا- لهم: {إني أعلم مالا تعلمون}, إني أعلم من شأن هذا الإنسان ما لا تعلمونه, وقد علم الله تبارك وتعالى من شأن الإنسان أمورا عظيمة جدًا, فمنهم سيكون الأنبياء والمرسلون والشهداء والمجاهدون, ومن يقدم روحه أعز ما عنده لله –تبارك وتعالى-, ويجاهد في سبيله, ويفعل الخير, ويغالب كل شهواته لله ويقهرها لله –تبارك وتعالى-, يقارب وازع النفس, يكون منهم أمر عظيم جدا, أنواع من العبادة لا تتحصل حتى من الملائكة.

{قال إني أعلم ما لا تعلمون}, ثم أراد الله –تبارك وتعالى- أن يبين لهم فضل هذا المخلوق الذى خلقه, وأنه في بعض الصور, تعلو مكانته عليهم، قال –جل وعلا- {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:31]، علم آدم, علم الله –تبارك وتعالى- آدم الذى خلقه الله -تبارك وتعالى- من طين هذه الأرض وقد جاء في الحديث {أن الله لما أراد أن يخلق آدم قال لجبريل ائتني بتراب من الأرض فجمع من سهل الأرض وحزنها, من الأماكن العالية والوعرة ومن الأماكن السهلة، وأن الله –تبارك وتعالى- جبلها في السماء جعلها طينا, ثم سوى الله –تبارك وتعالى- هذا الإنسان بيديه –سبحانه وتعالى-} قال –جل وعلا- {وعلم آدم الأسماء كلها}، الأسماء كلها، قال ابن عباس: [أسماء كل شيء علمه أسماء كل شيء المسميات الموجودات وأسمائها] حتى قال ابن عباس: [علمه القصعة من القُصيعة]، قصعة بتكبير من القصيعة تصغير، {ثم عرضهم على الملائكة}, عرض هذه المسميات الشاهدة على الملائكة, {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين, قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا}, سبحانك تنزيهًا لك يا رب, لا علم لنا لا يمكن أن نتعلم شيئا إلا ما علمتنا, فكيف نعلم ما هذه الموجودات؟ ولم نتعلمها قبل ذلك ولم تعلمنا إياها، فقال {يا آدم أنبئهم بأسمائهم}، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، قال –جل وعلا- {فلما أنبئهم بأسمائهم}، لما أنبئهم آدم بأسمائهم. إذن ظهر فضله وعلمه مما علمه الله -تبارك وتعالى- أشياء لا يعلمها الملائكة قال الله -تبارك وتعالى- {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض} إني أعلم غيب السماوات والأرض, الغيب بالنسبة للمخلوقات, فخلق آدم وما يكون منه, وما تأتى من خلقه, هذا غيب بالنسبة للملائكة لم تعلمه الملائكة, الله لا غيب عنده, الله الوجود كله عنده شهادة, فالله شهيد على كل شيء, لا يغيب عنه شيء –سبحانه وتعالى- من خلقه لا ذرة صغيرة ولا مجرة كبيرة, كل شيء عند الله شهادة، فقول الله –تبارك وتعالى- {إني أعلم غيب السماوات والأرض} أي ما يغيب عنكم من أمر السماوات والأرض وإلى الله تبارك وتعالى, فإن الله مشاهد على هذا يعلمه –سبحانه وتعالى-, السماوات كل ما علانا السماء, {وأعلم ما تبدون} أعلم الذى تظهرونه {وما كنتم تكتمون}،  أن الله تبارك وتعالى لا يخفى عليه شيء من خلقه –سبحانه وتعالى-, فما تظهره الملائكة أو ما تكتمه, أو ما يكون في مستقبل الأيام, وما يكون من هذا المخلوق, إن هذا المخلوق يكون منه فساد, ويكون منه صلاح, ويكون منهم مهتدون, كل هذا علمه بالتفصيل إلى الله –سبحانه وتعالى-, وأما الخلق فإنهم لا يعلمون من علم الله إلا ما أعلمهم الله –تبارك وتعالى-, كما قال الله عن الملائكة كذلك قال: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} لا يحيطون أحدًا من  المخلوقين, لا ملائكة, ولا أي أحد, لن يحيطوا علمًا بشيء, إلا بما شاء الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا المخلوق  يعلم به.

ثم قال –جل وعلا- {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} اذكروا أو اذكر إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم لما خلق الله -تبارك وتعالى- آدم على النحو الذي خلقه, أخبر الملائكة, قال للملائكة كما جاء في الآية: {إني خالق بشرًا من طين}[ص:71] تسوية  تعديله وتصويره على الصورة التي يريدها الله –تبارك وتعالى- {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}[ص:72]، اسجدوا له بمجرد الخلق، {فقعوا له ساجدين}[ص:72]، قال –جل وعلا- {فسجد الملائكة كلهم أجمعون}[ص:73]، الله يقول: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} كان هذا السجود بعد تمام الخلق تماما أن يستوى, أمر الله تبارك وتعالى كل ملائكته أن يسجدوا له, قال –جل وعلا- {فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}[البقرة:34]، فسجدوا, وبيّن –سبحانه وتعالى- أن الملائكة كلهم سجدوا قال: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون}[الحجر:30] وأنه لم يبق ملك لم يسجد لله تبارك وتعالى, ثم استثنى الله إبليس وحده من سائر الملائكة, فهو الذى لم يسجد لله تبارك وتعالى، وقد أخبر أن إبليس  ليس من الملائكة خلقًا, وإنما كان معهم وجودًا, وإلا فخلقًا هو من الجن كما قال –جل وعلا- {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}[الكهف:50]، ففسق عن أمر ربه, فسق خرج عن أمر الله تبارك وتعالى, فلم يسجد، فسجدوا أي جميعهم إلا إبليس, اسمه هذا، هو قد كان في السماء عابدا لله –تبارك وتعالى- قال –جل وعلا- {إلا إبليس أبى}، الإباء الامتناع,  امتنع عن السجود, واستكبر, تكبر استكبر, وجد نفسه أنه يربأ بنفسه أن يسجد, والسجود انحناء, تعظيم لمن رآه دونه في الخلق, وأنه هو خير منه في الخلق, وكذلك في السابق, قال هذا ليست له سابقة في الخدمة, أنا عبدت الله طويلًا أما هذا لم يتأت منه شيء بعد، ثم إنه خير منه، قال {واستكبر وكان من الكافرين}؛ لأن الكفر جحود, فجحد أمر الله -تبارك وتعالى-, وكفر, ومن حق الله -تبارك وتعالى- على كل أحد أن يطاع فلا يعصى, وأن يسلّم له بالحكمة, فالسجود كان تعظيما لهذا المخلوق, والسجود طاعة لله -تبارك وتعالى-، فالذين أمروا بالسجود الملائكة, الذين أمروا بالسجود ابتلوا بطاعة الله –تبارك وتعالى- أن يطيعوا الله –عز وجل- فيما أمرهم وأن يكرموا هذا المخلوق، هذا المخلوق يُكرم, لما شاء الله -تبارك وتعالى- له من الكرامة، الله شاء أشياء عظيمة من الكرامة, فإن هذا المخلوق كرم عند الله -تبارك وتعالى- وكرم هذا التكريم العظيم لما سيكون فيه من الرسالة والنبوة والإيمان به والجهاد في سبيله ومنازعة نوازع النفس وقهرها؛ من أجل الله –تبارك وتعالى- وترك محبوبات النفس ومشتهياتها من أجل الله –تبارك وتعالى- كما في الحديث نسبة لفضل الصوم: [يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به]، ثم بيّن لماذا الله –تبارك وتعالى- يجزى به بغير حساب وبغير عد؟ وأن الله هو الذى يتولى  حساب الصائم دون عد ودون حساب, وليس بحساب محدد على الحسنات كما لكل الأعمال، قال {يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلى}، أنه من أجل الله يترك مشتهياته ومستلذاته ومستحباته، بل ضروراته يتركها من أجل الله سبحانه وتعالى، فهنا يقول الله –تبارك وتعالى-: {إلا إبليس} هذا الذى استكبر, أبى عن السجود, وامتنع واستكبر عن آدم, وكان من الكافرين لأمر الله –تبارك وتعالى- إذ رد الأمر ولم يمتثل لأمر الله –تبارك وتعالى-.

قال –جل وعلا- {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:35]، أن الله بعد ذلك قال لآدم {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} اسكن: سكن من السكينة؛ ولأن المكان الذى يحيا فيه الإنسان بيته وبستانه ومكانه سكينته وراحته، اسكن أنت بمعنى عش آمنًا مطمئنًا في الجنة, {أنت} خطاب لآدم وزوجه، خاطبه الله –تبارك وتعالى- هنا, وأظهر الضمير بعد الضمير المستتر؛ لأن الفعل أمر, فيه الفاعل موجود في الأساس تقديره أنت, لكن جاء هنا إظهار الضمير بعد ذلك لتأكيد الأمر، {اسكن أنت} فكأن الأمر في الأساس والسكن مخلوق له, وأن زوجه تابعة له, ما قال له: اسكن وزوجك أو اسكنا الجنة, لا بل قال {اسكن أنت}، فأكد على أنه هو المخاطب أولًا, ثم بعد ذلك زوجته تبع, وهذه الآية تدل على أن المرأة تابعة للرجل، تابعة في الخلق, وتابعة كذلك في السكنى, وأن المسئول الأول والمخاطب الأول والمكلف الأول هو الرجل، {اسكن أنت وزوجك الجنة}، {الجنة} هي هذه الدار العظيمة والبستان العظيم الذى لا تسعه عقول البشر سعة, كما قال –تبارك وتعالى- {وسارعوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض}[آل عمران:134]، قال: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض}[الحديد:21]، والسماء لا نعرف سعتها, فإذن الجنة لا يمكن معرفة سعتها على النحو الذى  خلقها الله –تبارك وتعالى-, الجنة العظيمة الواسعة {اسكن أنت وزوجك الجنة}، والجنة هي جنة السماء على الصحيح, وليس كما جاء فيما حرفه اليهود في التوراة أنها جنة في الأرض, كانت في عدن معروفة الآن, وأنه الله أوجده ليفلحها ويزرع فيها ويعيش فيها، بل هي جنة السماء, هي وطن للإنسان الذى جعله الله تبارك وتعالى وطنا للصالح بعد ذلك من بنى آدم، {اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا} {كلا منها}، ذلك أنه لا يمكن أن  يستنفذ ما في هذه الجنة {رغدًا} كثيرًا، طيبًا، موفورًا، فهذا الرغد، والرغد هو الكثير الطيب الذى يسعد به من يعيش فيه, فالعيش الرغيد هو الهنيء, الطيب, السعيد، {وكلا منها رغدًا حيث شئتمًا} في أي مكان تنزل من هذه الجنة, أباح الله تبارك وتعالى له كل الجنة، سهولها وقصورها, ثم {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}، أشار الله –تبارك وتعالى- إلى شجرة ما، ونهاهم أن يقتربا من هذه الشجرة، ولا تقربا من هذه الشجرة, القرب منها هذا أبلغ من أن ينهى عن الأكل منها, وإنما الابتعاد عنها، عن هذه الشجرة, وهذه الشجرة شجرة من أشجار الجنة, إشغال النفس بما هي هذه الشجرة؟ هذا من فضول العلم, ما دام لم يبينه الله -–تبارك وتعالى- فلا يجوز الاشتغال بمعرفة ماهية الشجرة، القمح, أو شجرة تين، هي شجرة من أشجار الجنة منعه الله –تبارك وتعالى- أن يقربها اختبارا وابتلاء له, وليست هي شجرة المعرفة, كما كذب في هذا اليهود فيما حرفوه من التوراة, فقالوا أنها شجرة المعرفة, وأن الله نهاها عنه حتى لا يعرف حقيقة أمره, وهذا ليس بصحيح, هذا من جملة الكذب, ينبغي أن نقول أنها شجرة من أشجار الجنة. قال له الله –تبارك وتعالى- كل من كل أشجار الجنة لكن لا تأكل من هذه الشجرة فتكون من الظالمين, الظلم وضع الشيء في غير محله, وهنا معصية الرب –سبحانه وتعالى- ثم قال –جل وعلا- {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، هذا تفصيله في الحقة الآتية إن شاء الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، صلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.