الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله الرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}[الأنعام:47]، {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأنعام:48]، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأنعام:49]، هذا من تنويع الخطاب وتصريفه من الرب -تبارك وتعالى- في خطابه لهؤلاء الكفار المعاندين المكذبين برسالة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، نحن في سورة الأنعام والسياق يسير في خطاب هؤلاء الكفار، قال -جل وعلا- قل لهم {أَرَأَيْتَكُمْ}: أخبروني، {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً}: لو جاءكم عذاب الله -تبارك وتعالى- بغتة وهو أحيانًا يأتي بغتة كأن يأتيهم وهم نائمون وهم غافلون، مثلما حصل للأمم السابقة, أو جهرة بالإعلان مثل ما فعل صالح، {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}[هود:65]: فجعلهم انتظروا ثلاثة أيام، العذاب سيأتيكم بعد ثلاث أيام، إذًا هم منذرين ويعلمون أن العذاب سيأتي في هذا اليوم سيحل عليهم العذاب، فالله -تبارك وتعالى- عاقب الأمم السابقة الكافرة بأنواع العذاب، أحيانًا يأتي الأمة عذابها بغتة، وأحيانًا يأتي الأمة عذابها بعد الإعلان، بعد الإعلان ويعلمون أنه سيأتي في اليوم الفلاني، {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ}: أخبروني، {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً}:، كما بغت به قوم نوح -عليه السلام- وبغت به عاد، أما ثمود فإنهم قد أُعلِنوا به، {أَوْ جَهْرَةً}، جهرة: علانية وظهور، {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}: أي هل يقع هذا العذاب إلا على القوم الظالمين؟ كما أوقع الله -تبارك وتعالى- العذاب في السابق فقط على الظالمين، وأنجى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين، {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:103]: أي هذا وعظ لهم، اعلموا أن العذاب؛ عذاب الله إن جاء فلن يخص غيركم، سيأتيكم العذاب وحدكم دون أهل الإيمان.
ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}[الأنعام:48]: نحن أي الرب الإله -سبحانه وتعالى- قد أرسلنا الرسل فقط أن يبشروا هذه كل مهمتهم مبشرين منذرين، البشارة: هي الإخبار بما يسر، يخبرون بالأخبار السارة المفرحة من يؤمن بالله -تبارك وتعالى-، فيبشرهم الله -تبارك وتعالى- برحمته وبإحسانه بتثبيتهم على هذا الأمر في الدنيا، بأنواع الرحمات التي خص الله -تبارك وتعالى- بها عباده المؤمنين، وكذلك إنذار للكل، منذرين يخوفون عذاب الله -تبارك وتعالى- هذا فقط، عليهم البلاغ بالإنذار والتخويف من عقوبة الله، الإنذار الذي هو التخويف من عقوبة الله، والبشارة: الإخبار بما يسر لأهل طاعته، فقط تنتهي يعني أن هذه مهمة الرسول بلاغ؛ وهذا البلاغ يحوي البشارة والنذارة، قال -جل وعلا-: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأنعام:48]، من استفاد بدعوة الرسل فآمن بالله -تبارك وتعالى- وأصلح في عمله، الإيمان هنا إذ اجتمع مع العمل فإنه ينصب على عمل القلب، أي خاف الله -تبارك وتعالى- واتقاه وتوكل عليه وكل معاني الإيمان بالقلب وأصلح في عمله، {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، هذا شهادة أمانة كاملة، شهادة تأمين كامل من كل شيء، ما يخاف على شيء فاته وضيعه في سابق عمره ولا من شيء سيأتي بعد ذلك، فلا خوف من المستقبل ولا حزن على شيء مضى بل له الأمان التام، {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، هذا أهل الإيمان.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأنعام:49]، الفريق الثاني الذي كذبوا بآياتنا، ومعنى أنهم كذبوا بيها علموا أنها صدق لكن قالوا هي كذب، فهذا معنى التكذيب، التكذيب: رد الصدق واتهام الصدق هذا والصادق بأنه كاذب، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، آيات الله -تبارك وتعالى- المتلوة والمنزلة على عبده ورسوله محمد، {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأنعام:49]، والمس الإحساس، وقوع العذاب بهم، العذاب بالألف واللام العذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}: بسبب فسقهم، فسقهم: خروجهم عن طاعة الله؛ لأن الفسق هو الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-.
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الكفار الذي كانوا يظنون أنه الله ما دام يختار عبد من عباد الله -تبارك وتعالى- ليكون رسول لابد أن يكون له شأن أخر، يكون مميز، الله يغنيه عن الكسب فيعطيه الأموال، ينزل عليه كنز ينفق منه، يجعل له قصر عظيم من ذهب، بجعل له بستان يعيش فيه، يجعل الملائكة من حوله يؤيدونه، خلاص يصير هو يتصرف تصرف المالك والملك، فبيَّن -سبحانه وتعالى- أن الرسل شأن الله -تبارك وتعالى- وسنة الله في الرسل أن يرسلهم بشر، وأنهم يعيشون كما يعيش البشر، ويتألمون كما يتألم البشر، ويقاسون ما يقاسوه البشر من شئون هذه الحياة، ولا يميزهم الله -تبارك وتعالى- إلا بالهداية والوحي الذي ينزله الله -تبارك وتعالى-، وبتثبيتهم وبالآيات التي يجريها الله -تبارك وتعالى- عليهم تأييدًا لهم، أما أن يجعله يعيش حياة تختلف عن حياة الأخرين لا، قال -جل وعلا-: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ}، أنا ما أقول لكم أنا رسوله، وبالتالي جعل الله -تبارك وتعالى- عندي الخزائن أنفق منها لأني رسوله، وخزائن الله -تبارك وتعالى- من الذهب، من الفضة، من الإنفاق، تأتيني زرع يكون لي بستان... لا، {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ}، لا لنفسي ولا لغيري كذلك، ما أستطيع أن أعطي أحد إلا ما يعطيني الله -تبارك وتعالى- وأقسمه، {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ}، وإنما عطاء الله وخزائنه للسماوات والأرض للدنيا والآخرة هي بيده -سبحانه وتعالى-، {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}: كذلك أنا لا أعلم الغيب فإن الله -تبارك وتعالى- هو المختص بعلم الغيب، فلا يعلم النبي من الغيب إلا ما يطلعه الله -تبارك وتعالى- عليه، بالحد الذي يطلعه سواء كان غيب سابق يطلعه الله -تبارك وتعالى- عليه، كما أطلع الله -تبارك وتعالى- رسوله على كل ما كان في السابق، من الأمور العظيمة التي تحتاجها الأمة لتعرفها، قال مثل خلق الله -تبارك وتعالى- لآدم في السماء، إسياد الملائكة له، معصية إبليس، إنزاله إلى هذه الأرض، الأمم التي كانت بعد ذلك، الرسالات التي كانت بعد ذلك، ماذا قالت الرسل لقومها، ماذا ردوا عليها، ماذا كان الشأن، كل هذي غيوب سابقة أخبر الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله بها، ليبين للمؤمنين الطريق، كما قال -جل وعلا-: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ}[ص:67]، {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ}[ص:68]، {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[ص:69]، {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[ص:70]، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ}[ص:71]، فهذا يقول أنا ما كان عندي علم بهذا الله هو الذي أعلمني بهذا، ثم كذلك الغيوب المستقبلة ما أخبره الله -تبارك وتعالى- بأنه سيكون من شأنه كذا ومن شأن الكفار كذا، هذا كذلك غيوب يعلمها الله -تبارك وتعالى- رسوله، أما علم الغيب أن النبي بنفسه قد أعطاه الله -تبارك وتعالى- خاصية بأن ينظر للمستقبل فيقول، وبأن ينظر للماضي فيقول، وبأن يعلم الغيب الإضافي كذلك، فيعلم ما في نفوس الناس وما في دورهم وما يخفي هذا وما سيكون من شأن هذا وهذا لا، فالنبي لم يكن يعلم لا الغيب الإضافي هذا الموجود، ما يغيب عن وما هو بعيد عن بصره وعن سمعه... لا، ولا كذلك الغيب الذي هو الغيب فيما مضى ولا الغيب في المستقبل.
{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}، ولا أقول لكم إني ملك أعيش كالملائكة، والملائكة لهم صفات طبعًا صفات في أذهان هؤلاء الكفار، وصفات حقيقية أخبر الله -تبارك وتعالى- بها، فالقوة الهائلة التي تكون للملائكة، الإمتناع عن الطعام والشراب والاستغناء بتسبيح الله -تبارك وتعالى- وذكره، هذه كذلك أقول لكم لا أنا بشر مثلكم، وليس في قوة الملائكة ولا قدرتهم ولا استغنائهم عن هذه الأمور التي لا يستغني عنها البشر لا، {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}: أنا فقط متبع لما يوحى إلي، أي فقط بشر يخبره الله -تبارك وتعالى- بأخبار، يأمرني بأوامر، أتبع فقط الذي يوحيه الله -تبارك وتعالى- إلي، ثم قال -جل وعلا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}، الأعمى: الذي عمي عن هذا الرسول، عمي عن أن محمد ابن عبد الله هو رسول الله حقًا وصدقًا، والبصير: الذي أبصر طريقه ودينه، علم أن هذا رجل صادق أمين -صلوات الله والسلام عليه-، دعى إلى الله -تبارك وتعالى- وجاء بالهدى والنور، {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}: ألا تعملون فكركم! فهذا النبي أمامهم وآياته قائمة وهم يعموا عنه؛ هذا أمر عظيم، أن يعمى الإنسان عن النبي الذي يراه ويتكلم أمامه ويسمعه ويحسه وأدلة صدقه كلها قائمة ولكنه يعمى عن هذا؛ لا يراها، سبحان الله العظيم، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}، وهم كما قال الله -تبارك وتعالى-: {........ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}[الأعراف:198]، ينظرون إليك هذا محمد ابن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم هم لا يبصرون، ويلفقون للرسول صفات من عندهم ليست هذه صفاته، شاعر، كذاب، كاهن، غير هذا مما يأفكونه عليه والحال أن الرسول أمامهم، عموا عن الحق؛ هذه عماية، عماهم الله -تبارك وتعالى- عن هذا الحق بسبب كفرهم وعنادهم، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}، دعوة للتفكر.
ثم قال -جل وعلا- لرسوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأنعام:51]: هؤلاء هم الذين تنفعهم دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسالة الله -تبارك وتعالى-، أنذر به: أنذر بهذا القرآن، الإنذار هو الإخبار بما يخوف، خوف به، عذاب الله -تبارك وتعالى- والوقوف بين يديه يوم القيامة، {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}، خص الله -تبارك وتعالى- بهؤلاء {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}، لأن هؤلاء هم الذي يستفيدون، {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}، هذا اعتقادهم أنهم سيحشرون إلى ربهم وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، ما في ولي يواليهم وشفيع يشفع لهم عند الله -تبارك وتعالى- تنفع شفاعته، بل قطعوا كل أملهم إلا من الله -تبارك وتعالى-، جعلوا كل مقصودهم وأملهم في النجاة والفوز هو ربهم -سبحانه وتعالى-، وليس لهم متعلق يتعلقون به غير ربهم -سبحانه وتعالى-، ما قالوا لينا ولي سيشفع لنا، نفعل ما نفعل وسنصير... لا، فهؤلاء الذين لا متعلق لهم تتعلق به قلوبهم في الفوز بالرضوان والخروج من النيران والبعد عن النار إلا ربهم -سبحانه وتعالى-، {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأنعام:51]، ولعل للترجي بحسب هؤلاء، أي إذا تمسكوا بهذا وعلموا أنهم ليس لهم من الله -تبارك وتعالى- أي ما لهم بعد الله ملجأ إلا هو، ولا ولي ينصرهم ولا شفيع يشفع لهم تنفع شفاعته عند الله إذا لم يرضى الله -تبارك وتعالى- بهذه الشفاعة، فهولاء هم الذين إذا اتخذوا هذا الطريق لعلهم يتقون، يخافون ربهم -تبارك وتعالى- هؤلاء هم الذين يستفيدون بالنذارة، أنذر به هؤلاء، أنذر بالقرآن هؤلاء؛ هؤلاء أهله، هؤلاء هم أهل القرآن الذين استفادوا به.
ثم قال -تبارك وتعالى- له: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:52]، ثم قال الله -تبارك وتعالى- لرسول الله {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}: هؤلاء الذين استفادوا بالنذارة، أهل الإيمان الذين يخافون الله ويعتقدون أن ليس لهم ولي، ما لهم متعلق إلا الله -تبارك وتعالى- إياك أن تطردهم، وهذه الآيات قيل أنها نزلت لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض عليه كبار كفار قريش وأغنيائهم أنهم لا يستطيعون أن يجلسوا مع عبيدهم وأرقائهم في مجلس واحد، وعند النبي ويسمعوا له ويكونون سواسية على هذا النحو، ولو أنه تفرغ لهم النبي وأصبح النبي يجلس لهم وحدهم ويكون هو معهم دون غيرهم يمكن أن يسمعوا له، ممكن أن يستجيبوا له، قالوا له أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قالوا يعني إحنا إذا أصبحنا جماعة واحدة معك وخلفك مع عبيدنا ومع أرقائنا إجترئوا علينا، ما يسمعوا لنا، لم ينظرونا نجلس مجلس واحد عندك ونقوم مقامًا واحد ونصلي جماعة واحدة يصبح يقول هذا رأسي برأس سيدي وأنا مثله، اجترئوا علينا، وقالوا إننا نسمع لك لو جعلت لنا مجلسًا من نفسك وجعلت لنا وجهك، يقول ابن مسعود وقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع، أن النبي يتفرغ لهم بعض الوقت، يعطيهم أهم شيء، يجعل لهم مجلس خاص، فنهاه الله -تبارك وتعالى- قال له لا، {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}، وبالغداة: وقت الصبح هذا وقت الغداة، والعشي: وقت المساء، ويبدأ العشي على الصحيح من أقوال أهل العلم بالعصر، فما بعد العصر إلى غروب الشمس هذا وما بعد هذا هو العشي، ولذلك المغرب تسمى العشاء الأولى والعشاء تسمى العشاء الثانية هذا وقت العشي, ووقت الغداة من بعد صلاة الصبح هذا، فهؤلاء الذين جعلوا طرف النهار وأوائل اليل فيدعون الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو، وهذا الذي قد خلق -تبارك وتعالى- العباد له، وهذا الذي يحبه -سبحانه وتعالى- من عباده، فهؤلاء الذين يقومون بما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليهم، ويأتون لله -تبارك وتعالى- ويدعونه على هذا النحو تطردهم أيًا كانوا، هؤلاء هم أولياء الله -تبارك وتعالى- وأحبابه.
{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، ما لهم هدف ولا غرض إلا أنهم يريدون وجه الله -تبارك وتعالى-، يريدون أن يصنعون هذا لله وحده -سبحانه وتعالى-، لا يبتغون من هذا إلا وجه ربهم -سبحانه وتعالى-، ثم قال -تبارك وتعالى-: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، هؤلاء حتى لو كان فيهم ممن كانت له سابقة كان له كان له... فهؤلاء بعضهم فقراء الناس وعبيدهم وأرقائهم قاله حسابهم سيحاسبهم الله -تبارك وتعالى-، قال {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، وذلك أن حساب العباد إلى الله -سبحانه وتعالى-، {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}: كذلك فإن الله -تبارك وتعالى- لا يحاسبهم بفعلك، وإنما يحاسب كلًا على فعله -سبحانه وتعالى-، {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}: أي لو طردتهم كنت ظالم لذلك، والنبي -صلوات الله والسلام عليه- لم يطردهم، إنما الأمر كان مجرد شيء وقع في نفسه من حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يؤمن هؤلاء الكبراء، وإن آمنوا فيكون هذا قوة ومدد للدين، لكن الله -تبارك وتعالى- أخبره بأن هؤلاء المستغنين فاستغني عنهم، هذا يُستَغنَى عن المستغني، المستغني عن الله -تبارك وتعالى- لا يريده الله -تبارك وتعالى-، وأما هؤلاء الضعفة والمساكين والفقراء الذين أتوا إلى الله -تبارك وتعالى- فإن محلهم هو الإكرام والإنعام وأن يكون هذا أبوههو الذي يحتويهم ويكون معهم ولا يكدر خاطرهم بشيء بمجرد الانصراف عنهم إلى غيرهم لا، ولذلك جاء بعد ذلك قال له الله -تبارك وتعالى- {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ........}[الكهف:28]، هذا الغني الذي أغفل الله -تبارك وتعالى- قلبه عن ذكر الله -عز وجل- ما يستحق، {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، هذا المفرط ترك الدين، ترك الرب الإله -سبحانه وتعالى-، انشغل بمشتهياته وملذاته هذا اتركه، هذا الذي كان هذا صنيعه اتركه، لكن هذا العبد الصادق المؤمن المخلص الذي جلس يذكر الله -تبارك وتعالى-، حريص على ذكر الله في الليل والنهار، أول النهار، آخر النهار، يريد الله، يريد الدار الآخرة لا، هؤلاء هم أحباب الله -تبارك وتعالى- وهم أوليائه.
ثم قال -جل وعلا-: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}[الأنعام:53]، قال -جل وعلا-: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، وكذلك: أي كهذا الأمر الذي فيه هؤلاء أغنياء يصرفون عن الحق لأنهم مشغولون بما عندهم من الغنى والترف، وفقراء يتوجهون إلى طريق الرب -تبارك وتعالى- ويلجأون إليه، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}: اختبرنا، اختبار هذا وابتلاء من الله -تبارك وتعالى- بالغنى والفقر، الغنى الذي أطغى هؤلاء وأبعدهم، والفقر الذي جعل هؤلاء من أهل المسكنة وأهل الخشوع فتوجهوا إلى ربهم -سبحانه وتعالى- وإلى الدين، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}[الأنعام:53]: أي ليقول لهؤلاء الأغنياء المترفين الذين طمس أبصارهم أهؤلاء، وهؤلاء يقولون طبعًا أ سؤال، هؤلاء للاستصغار, أي استصغارًا لشأنهم، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}، منَّ الله عليهم بالهدى والنور والدين من بيننا، استعظموا هذا وذلك أن قياسهم الفاسد أنه ما دام أن الله -تبارك وتعالى- قد أكرمهم بالأموال والجاه والسلطان والحالة الطيبة الغنية التي هم فيها، إذًا لابد أن يكرمهم بالهداية، فظنوا أن الهداية قاسوها على هذا، يكرمهم بالهداية والنور ويجعلهم من أهل هذا الدين إذا كان هذا من الله، ولذلك قالوا لو كان هذا خيرًا ما سبقونا إليه، فلو كان هو خير ما يسبقنا إليه هؤلاء، أولًا لأننا أحق به منهم، فنحن الذين أعطانا الله -تبارك وتعالى- هذ الأموال هذا الغنى وهذا الثراء وهذا المكان فهذا إذًا من باب العطاء يعطينا، ثم كذلك نحن أهل العقول الراجحة وأهل النظر وأهل الفهم وأهل العقل، أما هؤلاء عبيد وفقراء وأرقاء هذا ما عندهم حتى وقت يفكروا فيه، كما قال قوم نوح له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}، أي من اتبعك هؤلاء الأراذل؛ أراذل الناس، الذين هم سقطهم وفقرائهم, بادي الرأي: الذي مباشرة بمجرد ما يظهر رأي ويبدو رأي يتبعونه ويسيرون فيه، وهذا نفس الشأن الذي قيل لنوح هو الذي قيل لكل الرسل، وهو الذي قالوه هؤلاء كبراء قريش للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وظنوه في أنفسهم أن هذا لو كان خيرًا يقول أين هذا أبو الحكم ابن هشام، العاصي ابن وائل، وليد ابن المغيرة، أبية ابن خلف، زمعة ابن الأسود، ناس حلومهم تزن الجبال، إذا كان هؤلاء الذين عقولهم هذه الكبيرة والراجحة أين عقول هؤلاء من عقول الذي اتبع الرسول، من عمار وبلال وصهيل وغير هؤلاء، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}[الأنعام:53]: مستبعدين ومستنكرين، أهولاء أي منَّ الله عليهم من بيننا، سؤال منهم يريدون به الاستبعاد، أن هذا أمر مستبعد جدًا أن يكون الله قد منَّ على هؤلاء بالهداية من بيننا.
قال -جل وعلا- مبينًا حكمته –سبحانه وتعالى- فقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}: سؤال يراد به التقرير، أي أليس الله أعلم بمن يشكره -سبحانه وتعالى-، من يهديه فيقوم بحق شكره ويقوم بهذا الحق من عباده، فالعباد خلق الله -تبارك وتعالى- والله أعلم -سبحانه وتعالى-، فهو أعلم حيث يجعل رسالته وهو أعلم حيث يجعل هدايته، فالهدى الذي أدخله الله -تبارك وتعالى- إلى قلوب هؤلاء لاطلاع الله -تبارك وتعالى- على ما في هذه القلوب من الصفاء والنور والخلوص، وأنهم يقومون بحق هذه النعمة ويشكرونه، أما هؤلاء الذين انطمست أبصارهم وتكبروا عن الحق فإن الله -تبارك وتعالى- قد حرمهم من ذلك وهم يستحقون هذا الحرمان، فإن الله لا يضع الأمور إلا في نصابها -سبحانه وتعالى-، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}[الأنعام:53].
ثم قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام:54]: هنا وجه الله نبيه إلى كيف يعامل هؤلاء المؤمنين، {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ}: يسلم عليهم وسلام النبي وتسليم النبي عليهم ودعاء لله -تبارك وتعالى- لهم بالرحمة، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، كتبها: فرضها على نفسه، لا يفرض أحد على الله شيء وإنما الله فرض على نفسه الرحمة، وهذه من رحمته {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام:54]، أي واحد منكم أيها المؤمنون المخلصون يعمل سوء بجهالة ولا يعصي الله -تبارك وتعالى- إلا جاهل، {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ}: تاب من بعد هذا الذنب وأصلح، {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، بشرى من الله -سبحانه وتعالى-، يقبله الله -عز وجل-، غفور: يستر ذنبه، رحيم: يقبل توبته، وهذا من رحمته -سبحانه وتعالى-، أن يقبل توبته ويقيل عثرته ويقبله -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا-: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]: وكذلك كهذا التفصيل والبيان في بيان حال الكفار وحال المؤمنين، وصفات هؤلاء وصفات هؤلاء، لماذا هدى الله -تبارك وتعالى- هؤلاء وحرم هؤلاء، تفصيل هذا قال -جل وعلا- {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]، تستبين: تظهر وتبين وتتضح لكل أحد، سبيل المجرمين: طريقهم, وأن هؤلاء مجرمون نأوا بأنفسهم عن الدين كأنهم يرون أنه من واجب الله -عز وجل- ومن حقهم على الله أن يهديهم ما دام أنه قد أعطاهم في الدنيا كبرًا وأنفة واحتقارهم لأهل الإيمان فهذا من إجرامهم، قال -جل وعلا-: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]: للتتضح، وإذا اتضحت سبيل المجرمين كذلك تتضح سبيل أهل الإيمان والتقوى.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من أهل دينه وتقواه، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، -وصلى الله على عبده ورسوله محمد-, والحمدلله رب العالمين.