إن الحمد لله، نحمده ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد فكنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام:54]، وذكرنا أنّ هذا مما وجه الله -تبارك وتعالى- رسوله محمدَا -صلى الله عليه وسلم- إليه، فيما يتعلق بالمعاملة التي يتعامل بها مع هؤلاء المؤمنين، من الضعفاء والمساكين الذي آووا إلى الإسلام، والذين طلب كبراء قريش من النبي -صل الله عليه وسلم- أن يطردهم حتى يجلسوا إليه، وقالوا له فيما قالوا أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، أي حتى نجلس إليك، نسمع منك، نستجيب لأمرك، كيف نجلس مع عبيدنا وأرقائنا! فأنزل الله -تبارك وتعالى- على رسوله {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:52]، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}[الأنعام:53]، {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ}، وهذا معنى أن يسلم عليهم، بمعنى أن يقابلهم بكل بشر وترحاب، فإن الدعاء بالسلام هو دعاء لهم بأن يسلمهم الله -تبارك وتعالى- من كل شر وأذى، {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ}، ثم بشرهم {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، أنّ الله -تبارك وتعالى- أوجب على نفسه أن يرحم عباده المؤمنين، ومن رحمته {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ}، يعني بركوب رأسه وبتعد وبنوع من غلبة الشهوة وغلبة الشيطان ونسيان الحق هذه معنى الجهالة، {بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ}، تاب من بعد هذا الظلم، {وَأَصْلَحَ}، استقام على أمر الله، {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، سبحانه وتعالى يزيل عنه هذه الخطيئة التي وقع فيها، وهذا من عظيم رحمته وإحسانه -سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين.
ثم قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ}، كذلك كهذا التفصيل الذي فصل الله -تبارك وتعالى- به هذا الأمر تفصيلًا عظيمًا، في لِما أنّ الله -تبارك وتعالى- جعل الهداية تسرع في هؤلاء الضعفاء وأنّ أولئك الكبراء قد حرموا منها، وما هي السياسة التي يجب أن يتخذها النبي -صل الله عليه وسلم- مع هؤلاء المؤمنين، قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ}، هذا التفصيل يوضحها الله -تبارك وتعالى- ويبينها ويضع كل أمر في نصابه، قال -جل وعلا- {........ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]، تستبين تظهر تتبين، سبيل المجرمين طريقهم، وهؤلاء الذي طلبوا من النبي أن يطرد هؤلاء الفقراء والضعفاء من المؤمنين مجرمون، مجرمون يريدون أن يكون فضل الله -تبارك وتعالى- حكرًا على أناس دون أناس، والله -تبارك وتعالى- دعا إلى طريقه -سبحانه وتعالى-، وكل من لبى النداء ودخل في طريق الرب -تبارك وتعالى- فإنه تلقاه رحمة الله -تبارك وتعالى- ورعايته وإحسانه، فالمطلب الذي طلبه الكفار مطلب إجرام، مطلب إجرام وتعدٍ على أمر الله -تبارك وتعالى-، وغطرسة وكبر وكبرياء وليس فيه إذعان للرب -تبارك وتعالى- وهم يعلمون الهدى، يريدون أن يتنكبوا طريق الهدى لأن فلان وفلان قد سارا فيه، ممن آواهم الله -تبارك وتعالى- إليه وممن منَّ عليهم بالهداية، فقال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]، لتظهر سبيل المجرمين، وأنّ هؤلاء متعالون عن أمر الله -تبارك وتعالى-، كيف يرفضون طريق الرب لأنه قد سار فيه من سار فيه من الضعفاء.
ثم قال -تبارك وتعالى- {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[الأنعام:56]، {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ}، بالبناء لما لم يسم فاعله هو الذي ينهى النبي ويأمره هو الله -سبحانه وتعالى-، {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، نهاني ربي -سبحانه وتعالى- أن أتخذ إلهًا دونه وليًا دونه، أمرني بعبادته وحده لا شريك له، {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ}، يعني الذين تدعونهم من دون الله، تطلبون منهم هذه الآلهة الباطلة يدعونهم من دون الله، والذين تدعون يشمل كل الذي يدعونهم سواء كان دعائهم طبعًا للملائكة التي كانوا يعبدونهم، أو أصنامهم أو من زعموهم أنهم أولياء لله كاللات وغيره، {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ........}[الأنعام:56]، ومن الهوى هو أن يكون الدين لهم من دون ضعفاء الناس هذا اتباع للهوى، كيف يكون دين ولا يسيرون فيه إلا حسب أهوائهم هم وربعهم وجماعتهم وأشراف الناس فقط إذا كانوا في هذا الدين دخلوا فيه، وأما إذا كانت فيه ضعفاء الناس وسقطهم لا يدخلون فيه، قل لا أتبع أهوائكم في أي شيء مما يشير عليكم به شيطانكم وهواكم، {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، يعني لو فعلت ذلك، لو دعوت آلهتكم الباطلة واتبعت أهوائكم فيما تشرعونه لكنت بهذا ضالًا، قد ضللت إذن إن اتبعت أهوائكم وإن عبدت غير الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، لا أكون مهتديًا، إذن باختصار طريقكم غير طريقي، طريقي طريق الله -تبارك وتعالى- غير هذا الطريق، لأنّ هذا الطريق في عبادة الله -تبارك وتعالى- وحده، اتباع أمر الله -تبارك وتعالى- كما أمر الله -تبارك وتعالى- التزام طريقه، أما أنتم فتريدون أن تشرعوا لأنفسكم طريقًا بأهوائكم.
ثم قال -تبارك وتعالى- لرسوله {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}، أنا واثقٌ مما أقوم به وأدعوا له فأنا على بينة، البينة هي الأمر الظاهر القائم على دليل واضح لا شبهة فيه لا برية فيه، {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}، في كل ما أدعوا به، في إيماني بالله -تبارك وتعالى- وفي توحيدي له، في هذا الصراط الذي أسلكه، أنا على بينة من ربي أني رسول الله حقًا وصدقًا، لست شاكًا في أمر ولا مرتابًا في أمر من هذه الأمور، {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ}، والحال أنكم مكذبون به، وهنا قال كذَّبتم وذلك أنه صدق، يعلمون صدقه ولكنهم قالوا كذب فهذا تكذيب للصدق، {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}، ما عندي ما تستعجلون به العذاب، وذلك أنهم كانوا استهزاءً بالنبي واستخفافًا بالأمر يستعجلون العذاب، يقولوا له هات العذاب هذا الذي تتوعدنا به، فيقول لهم ما عندي ما تستعجلون به، يعني العذاب الذي تستعجلون أن ينزل عليكم بتكذيبكم وعلوكم وفجوركم ماهو عندي، وإنما هذا عند الله -تبارك وتعالى-، {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، الحكم وهو الفصل وإنزال القضاء في هذه القضية والخصومة كله لله، هذا الذي يحكم فيه الله، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}، هو يقص الحق، القصص يعني أن هذا الإخبار بالأمر والله -تبارك وتعالى- لا يقول إلا حقًا -سبحانه وتعالى-، فالله لا يقول إلا حقًا ولا ينزل إلا حقًا، {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}، بيني وبينكم، هو خير من يفصل في أي خصومة في أي خلاف في أي قضية، قد سلمت أمري إليه والأمر كله له -سبحانه وتعالى- فأنا عبده، فأولًا فأنا على بينة، {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}، ويتهددهم ، {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ}، يعني إعرفوا هذا، يعني ما موقعكم من هذا الأمر، {........ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}[الأنعام:57]، فهنا يتهددهم ويتوعدهم بالله -تبارك وتعالى- الذي بيده مقاليد الأمر كله، {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ........}[الأنعام:58]، قل لهم لو أن عندي ما تشتعجلون به العذاب وأنا أملكه لأنفذته، في التو واللحظة عندما تقولون هات هذا العذاب الذي تتوعدنا به لأنفذته، فإن حكمة الإنسان ليست كحكمة الرب -سبحانه وتعالى-، وصبر الإنسان على البلاء ليس كصبر الرب -تبارك وتعالى-، ولا أحد أصبر على أذى من الله -تبارك وتعالى- والله له الحكمة الكاملة والأمر الكامل، {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ........}[الأنعام:58]، وذلك أني سأنفذ ما تطلبونه، إذا طلبتم العذاب أتيتكم بالعذاب، {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}[الأنعام:58]، وهذا تهديد عظيم، يعني اعلموا أنّ الله -تبارك وتعالى- أعلم بالظالمين، والنبي محمد -صلوات الله عليه وسلم- ليس ظالمًا في شيء مما دعاهم إليه، وقد دعاهم إلى الله -تبارك وتعالى- وبيَّن لهم الأمر كما أمر -سبحانه وتعالى-، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}، تهديد يعني أن الله يعلم سرائركم وعملكم وبالتالي هو يتولى عقوبتكم بنفسه -سبحانه وتعالى-.
ثم هذا الرب -سبحانه وتعالى- قال -جل وعلا- {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}، هذا تعقيب على أن الأمر كله بيد الله -تبارك وتعالى- وأنّ الرسول -وإن كان هو رسول الله وهو مرسل من الله -تبارك وتعالى- فإنّ الله -تبارك وتعالى- لا يجعل له هذا الأمر، أن يكون هو متولي الكفار وهو الوكيل بهم وهو الذي ينفذ عقوبته إذا نكلوا عن أمر الله -تبارك وتعالى-، وهو العليم بما سيكون بينه وبينهم لا كل هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، فلا يعلم الرسول ما سيكون في مستقبل الأمر بينه وبينه، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ........}[الأحقاف:9]، فلا يعلم النبي نهاية الأمر كيف يكون الأمر وما الذي سيكون إلا الله -تبارك وتعالى-، كذلك ليس بيد النبي -صل الله عليه وسلم- عقوبة الكفار ولا محاسبتهم على عملهم، كما قال له الله -عز وجل- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}، لست موكلَا بهم فأمرهم إلى الله، بل لما دعى النبي -صل الله عليه وسلم- على قوم بالاستئصال أن يستأصلهم الله ويهلكهم، قال له الله -تبارك وتعالى- {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}[آل عمران:128]، فهذا الأمر كله لله، فقول الله {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}[الأنعام:58].
ثم إستطرادًا للأمر قال -جل وعلا- {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}، وعنده الرب الإله -سبحانه وتعالى-، {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}، يعني أخفاها -سبحانه وتعالى- عن كل خلقه، ومفاتح الغيب هي خمس كما جاء في قول نبينا «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم متى الساعة إلا الله، ولا يعلم متى ينزل المطر إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى ينزل المطر إلا الله -تبارك وتعالى-»، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ........}[لقمان:34]، فلا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا الله -سبحانه وتعالى-، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، من هذا الموجود، ما في البر من حيوان، نبات، دابة، إنسان، طائر، رزق، خير، شر، كل هذا الله أعلم به، ما في البحر من حياة، من موت، من زخائر، من تيارات، كل ما هو مزخور في هذا البحر، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه -سبحانه وتعالى- شيء منه، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا}، ورقة شجرة أي شيء، وهي أمر يعني في ذاته صغير تافه لا يأبه الناس إليه، سقوط ورقة من شجرة لكنها لا تسقط إلا بعلم الله -تبارك وتعالى-، لا تسقط إلا بعلمه –سبحانه وتعالى-، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ}، مختفية، {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ}، وهذا كل الموجود لأن الموجود هذا النقيضين الرطب واليابس، {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، يعني أنه بعلم الله -تبارك وتعالى- وأنه كذلك مسجل ومكتوب، متى تنبت هذه الورقة، متى تسقط هذه الورقة، هذا أمر منته ، فكذلك قد سجله الله -تبارك وتعالى- في كتاب مبين الذي هو كتاب الإحصاء، كتاب الأعمال مبين واضح بيِّن ما يختلط فيه شيء حتى من ذلك الأمر الصغير.
وهو الرب الإله -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الأنعام:60]، {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}، يتوفاكم بالليل أي ينيمكم، الوفاة بالليل هي النوم، والنوم وفاة لكنها وفاة صغرى، وأصل الوفاة هي الأخذ وافيًا، أخذ الشيء وافيًا يعني كاملًا، {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}، يعني ينيمكم، فالنائم تقبض روحه قبض جزئي هنا بالنوم، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}، يعلم الله -تبارك وتعالى- ما جرحتم ما كسبتم، والإنسان يكسب بجوارحه، اليد جارحة والعين والأذن وكل هذه والرجل هذه جوارح، يعني الذي تكسبونه بجوارحكم في النهار يعلمه الله -تبارك وتعالى-، دقه وجله، الصغير منه والكبير، {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}، يعني من النوم، يبعثكم الله -تبارك وتعالى- فيه؛ في هذا النهار، فالضمير راجع للنهار، {مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}، يعني يوقظكم في النهار، ويظل الأمر على هذا النحو، ينيمكم يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم الله -تبارك وتعالى- بالنهار ويعلم كسبكم فيه، وقد قدم علم الكسب على البعث لأنّ المقام مقام علم الله -تبارك وتعالى- بهذا الإنسان، وهذا أن لا يخفى عليه شيء من عمله -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ........}[الأنعام:60]، يعني هكذا الإنسان بين النوم وبين اليقظة والعمل في النهار، ويستمر على هذا ليُقضى أجل مسمى، يعني لتقضي كل نفس من بني آدم أجلًا قد سماه الله -تبارك وتعالى- كتبه، وهذه الكتابة تكتب مرات، كتبه الله -تبارك وتعالى- في اللوح المحفوظ وسماه، ثم يكتب كذلك في صحيفة هذا الإنسان يوم تنفخ فيه الروح، يوم يأتي الملك وينفخ فيه الروح يكتب الأجل الذي سيموت فيه، كما جاء في الحديث «إذا مضى على النطفة أربعون يومًا أتاها ملك فقال ربي ما أجله؟ ما عمله؟ ما رزقه؟ ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟»، فيكتب هذه النهايات وهذه المقادير على وجه الإجمال تكتب، ومنها الأجل يكتب في هذه اللحظة كتابة بعد كتابة، {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى}، قد سماه الله -تبارك وتعالى- وقد قضاه وأعطاه لهذا المخلوق، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ}، وذلك في الآخرة بالموت تموتون وتعودون إلى الرب -تبارك وتعالى-، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، يوم القيامة، ثم إليه مرجعكم بموتكم إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم يبعثكم الله ليوم القيامة لينبئكم بما كنتم تعملون، وطبعًا إذا أنبأهم بعملهم فإنه يجازي كل عامل بما عمل.
ثم وهو الرب الإله -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}[الأنعام:61]، {وَهُوَ}، كل هذه ضمائر، وهذه الآيات سرد الآيات كلها في بيان صفة الرب -تبارك وتعالى-، الذي يملك كل أمورهم وكل شئونهم، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، القهر الغلبة والملك والتصريف، فمن قهر شيئًا بمعنى أنه غلبه وملكه وملك تصريفه كما يشاء هو لا كما يشاء المقهور، فالله -تبارك وتعالى- هو القاهر فوق عباده، قهر كل شيء وذل له كل شيء وملك أمر كل شيء، ولا يملك شيء من هذه المخلوقات أمرًا من أموره بنفسه لنفسه، بل الله -تبارك وتعالى- هو مالك الأمر كله ومالك التصريف كله –سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، فالله فوق عباده لأنه مستوٍ على عرشه، وعرشه هو سقف مخلوقاته، السماوات السبع، العرش، الكرسي، الله -تبارك وتعالى- مستوٍ على عرشه فوق عباده -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، عباده من كل العالمين، فالله رب العالمين -سبحانه وتعالى-، عباده من الملائكة، من الإنس، من الجن، كلهم يعني عباد الله -تبارك وتعالى-، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ}، أيها المخاطبون من البشر، {حَفَظَةً}، حفظة يعني محصين يحصون أعمالكم بالليل والنهار، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ........}[يس:12]، كل ما قدموه يكتبه الله -تبارك وتعالى-، وقال -جل وعلا- {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، يعني محصي، ما من نفس خلقها الله -تبارك وتعالى- إلا وجعل عليها محصي يحصي كل أعمالها، صغيرها وكبيرها حتى الخطرات يكتبها عليه، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}، يعني في اللحظة والوقت الذي كتبه الله في نهاية الأجل المسمى، {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}، توفته أخذته وافيًا، رسلنا من الملائكة الذين يرسلهم الله -تبارك وتعالى- لأخذ روح هذا العبد، {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}، يعني لا تفريط تضييع، بمعنى أنهم لا يهملون هذا الذي كتب عليه الموت، لا يؤخرونه لحظة ولا كذلك يتقدمون لحظة عن الوقت المحدد الذي حدده الله -تبارك وتعالى-، وقد جاء تفسير هذا في قول النبي -صلوات الله والسلام عليه-، «إذا كان العبد المؤمن في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا أتاه ملك الموت فجلس عند رأسه، وأتته ملائكة من الجنة معهم حنوط من الجنة وكفن من الجنة فجلسوا منه مد بصره، ثم يقول ملك الموت لروحه أخرجي أيتها الروح الطيبة التي كانت تسكن في الجسد الطيب، فتفيض كما تفيض القطرة من في السقاء، فيقول النبي فلا يدعونها في يده طرفة عين فيأخذوها يحنطوها بذلك الحنوط، -الذين هم ملائكة الرحمة- ويصعدون بها إلى الرب -سبحانه وتعالى-»، الحديث بطوله، وقال -تبارك وتعالى- {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ........}[السجدة:11]، فملك الموت يتوفى الأنفس، الله -تبارك وتعالى- وكله بهذا، وطبعًا النسبة إلى الله، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}، الله يتوفى الأنفس حين موتها نسب الوفاة إليه والذي يباشر هذا هو الملك الذي وكله الله -تبارك وتعالى- بهذا الأمر، وهنا قول الله {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}، توفته رسلنا من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ومعنى توفيه الذي يقبض الروح هو ملك الموت، والذي يحمل هذه الروح صعودًا إلى السماء هم ملائكة الرحمة، فيصعدون بها إلى السماء السابعة، أو ملائكة العذاب يصعدون بها إلى السماء الأولى فتقفل في وجوههم أبواب السماء، وقد تلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بيَّن ذلك قال {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف:40]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ........}[الأنعام:61]، ومعنى جائه الموت جاءت اللحظة التي كتبها الله لتقبض روحه فيها، قال -جل وعلا- {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}، في الأمر، بل ينفذون الأمر كما قد كتب في الأزل، فيأخذون روحه في الوقت الذي حدده الله -تبارك وتعالى-.
قال -جل وعلا- {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}[الأنعام:62]، {ثُمَّ رُدُّوا}، الجميع، {إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ}، مولاهم؛ المولى في لغة العرب كل من قام بينك وبينه علاقة تجعله يواليك وتواليه، العرب تطلق المولى على الأخ والحليف والسيد والعبد، وذلك للعلاقة بين هؤلاء بعضهم مع بعض يجعل كل منهم يوالي الآخر، العلاقة بين العبد وبين ربه الله -تبارك وتعالى- هو ولي الذين آمنوا وهو مولاهم، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}[محمد:11]
، فالعبد لقيامه بعبادة الله -تبارك وتعالى- والإيمان به فهذه علاقة بين العبد وبين ربه، تجعل الله -تبارك وتعالى- يواليه لهذا، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}، العلاقة بين المشرك وبين إلهه علاقة ولاية، قد يحب بعضهم بعض من الرؤساء والمرؤوسين، من هؤلاء الذين دعوا إلى عبادة أنفسهم وعابديهم، ولكن هؤلاء ولايتهم باطلة تتقطع، كما قال -جل وعلا- {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67]، وقال -تبارك وتعالى- {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}، هذا يوم القيامة، هنا {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ}، هو المولى الحق هذا، يعني ولاية الله -تبارك وتعالى- هي الولاية الحقة أما ولاية غيره فباطلة، وذلك أنها تكون على باطل، على شرك وكفر وعلى مضادة وعلى معاداة لله -تبارك وتعالى-، ولذلك تنمحي وتزول بمجرد ما يقوم قائم الحساب وقائم الحق , كل هؤلاء الأولياء يتبرأ بعضهم بعضًا، كما قال -جل وعلا- {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]، هنا يقول الله {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ}، رد الجميع بعد هذا قبض الأرواح كل الجميع يردوا إلى الله مولاهم الحق؛ هو المولى الحق، فالولاية التي بين المؤمنين وبين ربهم هي الولاية الباقية وأما كل تلك الولايات فإنها تتقطع، {أَلا لَهُ الْحُكْمُ}، ألا إعلموا ألا الإعلامية، له الحكم في كل خلاف وكل قضية فالأمر و الحكم لله -تبارك وتعالى-، الحكم بدخول الجنة، بدخول النار، كله لله، {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}، المحصين فهو الذي أحصى كل أعمال عباده وهو الذي يحاسبهم عليها -سبحانه وتعالى- ولا أحد يستطيع أن يقوم بذلك، بل الله -تبارك وتعالى- وحده -جل وعلا-.
نقف عند هذا ونكمل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.