الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (172) - سورة الأنعام 62-70

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}[الأنعام:61]، {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}[الأنعام:62]، وبيَّنا أن هذه الآيات في سياق صفات الله -تبارك وتعالى-، التي يصف الله -تبارك وتعالى- بها نفسه وقدرته على خلقه -سبحانه وتعالى-، وبذلك هو الولي، وهو الإله الحق، وهو الذي يستحق وحده العبادة -سبحانه وتعالى-، وفي هذا رد على الكفار الذي اتخذوا لهم أولياء من دون الله -تبارك وتعالى-، أعطوهم حق الله -تبارك وتعالى- في العبادة.

ثم استطرادًا لهم في هذا يقول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأنعام:63]، {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}[الأنعام:64]، قل لهم يا محمد هؤلاء المشركون المعاندون {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، من عندما تكونون في البحر وتحيط بكم أسباب الموت من كل مكان تلجئون إليه وتدعونه؟ بأن يخرجكم من هذه الورطة التي أنتم فيها وهذا الموت المحقق الذي أنتم فيه، {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، ظلمات البر التيه إذا كنتم في صحراء موحشة مقحلة ثم تضيعون وتتيهون وتنقطع بكم السبل، وعند ذلك تلجأون إلى الله -تبارك وتعالى-، هذه هي ظلمات البر وكذلك ظلمات البحر كما قال -جل وعلا- عنهم {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}، كانوا في هذا الشأن على طول يتجهون بالدعاء إلى الله -تبارك وتعالى- ويلجئون إليه ويدعونه في سرهم و علانيتهم، يعني سرًا وجهرًا أن ينجيهم من هذه، {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ}، يعني حال كونكم في وقت هذه الشدة، {تَضَرُّعًا}، تضرعًا تذللًا، يعني بذل؛ بذل له، وأنتم حال كونكم ذليلين له، {وَخُفْيَةً}، يعني بالسر، وبالتالي من دعا الله بالخفية يعلم أن الله -تبارك وتعالى- يعلم سره، ويعلم كذلك يعلم حاله وأنه قادر على إنقاذه فإذن هذا اعتقاده في الله إيمانه فيه، إذن هم يعتقدون في الله هذا أنه يراهم في هذا المكان، أنه يقدر على إعانتهم، أنه يستطيع أن يزيل ما بهم من ضر ويكشف ما بهم من ضر إذن هذا إيمانكم بالله في هذا الوقت، {........ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأنعام:63]، يعني يشترطون على أنفسهم في هذا الوقت أنه لئن أنجانا الله -تبارك وتعالى- من هذه المهلكة التي نحن فيها وهذه الورطة العظيمة التي نحن فيها الآن، لنكونن من الشاكرين له، لنكونن يعني والله باللام الموطئة للقسم لنكونن يؤكدون هذا كذلك بالنون المؤكدة من الشاكرين لله، يعني من يعرف هذه النعمة للرب بقلبه يشكرها بلسانه يعمل بمقتضى شكر الله -تبارك وتعالى-، فيعود إليه وحده لا شريك له ويزعن لأمره، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.

ثم هذا السؤال طبعًا هو للتقرير ويجيب لأن هذا أمر معلوم بين الطرفين لا ينكرونه ولا يجحدونه، {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}[الأنعام:64]، {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ........}[الأنعام:64]، أي تكونون فيه غير أن يدرككم الموت والتيه في البر أو البحر بل من كل كرب، كرب في مرض، كرب في شدة، أي كرب تلجئون فيه إلى الله -تبارك وتعالى- وتدعونه فإنه يستجيب لكم، فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء -سبحانه وتعالى-، {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا}، الله هو الذي ينجيكم منها، {........ وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}[الأنعام:64]، يعني إنكم إذا جئتم إلى حال السعة والأمن والراحة وزال عنكم هذا الأمر الشديد، فإنكم ترجعون كذلك إلى شرككم وكفركم وترجعون إلى شكر هذه الآلهة المدعاة، وتنسون ربكم الإله الواحد الذي دعوتموه في حال الشدة وحال الكرب.

بعد هذا يأتي باقي الوعيد، يتوعدهم الله -تبارك وتعالى- قال –جل وعلا- {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}[الأنعام:65]، هذا بيان أن الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذي يؤمنون بأنه هو الذي ينجيهم من كل هذا الكرب وهو خالق السماوات والأرض، كذلك هو القادر عليهم في كل وقت، هو القادر عليهم في كل وقت -سبحانه وتعالى-، {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}، وإن كان في وقت أمنكم وراحتكم لكن يفاجئكم العذاب من فوقكم، بصاعقة تنزل من السماء، بظلة تأتي إليكم، بمطر عذاب يمطره عليكم، وقد وقع مثل هذا للأقوام الظالمين أو بعذاب يختاره الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، بخسف، بزلزال يزلزل الأرض التي تحت أقدامكم، ببركان يثار فيهلككم، بأي صورة من صور العذاب يأتيكم من الأرض التي تقفون عليها، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، يخلطكم شيعًا جماعات، ويقع الخلاف بينكم فيقتل بعضكم بعضًا ويسبي بعضكم بعضًا ويذيق بعضكم بأس بعض؛ شدة بعض، فيسلط عليكم العذاب في أنفسكم من أنفسكم، فالله قادر -سبحانه وتعالى- على عباده -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، انظر كيف نصرف الآيات تصريف الآيات تنويعها، وفي هذا التنويع بيان صور الخطاب، يعني صور الخطاب أولًا في بيان صفة الرب -تبارك وتعالى- وأنه القادر، بيان قدرة الرب -تبارك وتعالى- عليهم، وتوجيههم إلى أن الله -سبحانه وتعالى- قادر عليهم، فقول الله لهم أنا قادر على أن آتي بالعذاب لكم من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو  أعذبكم بأيدي بعضكم بعض، هذا كله من هذا الوعيد الإلهي لكم لبيان قدرته -سبحانه وتعالى- على خلقه، ليتعظوا، ليعتبروا، ليرجعوا إلى إلههم ومولاهم، ويعلموا ضعفهم أما قدرة وعظمة هذا الرب الإله -سبحانه وتعالى-، {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ}، ننوع ونلون في الخطاب، قال -جل وعلا- {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، لعل للترجي والترجي هنا بحسب هؤلاء العباد لعلهم يفقهون، الفقه هو الفهم، يفهمون هذه المعاني التي يخاطبهم الله -تبارك وتعالى- بها فيتخذوا طريقهم إلى الله -جل وعلا-.

قد دعا النبي -صلوات الله وسلامه عليه- لأمته المؤمنة بألا يهلكهم الله -تبارك وتعالى- بصورة من صور هذا الهلاك، لما نزل هذا {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}، فإن النبي استعاذ بوجه الله قال أعوذ بوجهك، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، قال أعوذ بوجهك، قال {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، أخذ جبريل بفم النبي -صل الله عليه وسلم- وعلم أن هذا لا تنجو منه هذه الأمة وأنه هو الواقع في هذه الأمة، فقال النبي -صل الله عليه وسلم- هذا أهون، هذا أهون، وقد ضمن الله -تبارك وتعالى- لأمة محمد -صلوات الله وسلامه عليه- ألا يهلكهم الله بصورة من صور العذاب، كما قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه- «إن الله كتب لي ألا يهلك أمتي بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح يبضتهم، قال الله -تبارك وتعالى- يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني قضيت لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة»، السنة العامة هي قحط عام حتى يستأصلهم، «وألا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم»، يعني عدو خارج فيستأصل بيضتهم، لكن عدو يأخذ منهم، يغلبهم أحيانًا نعم، أما أن يستأصل الإسلام استئصالًا فلا، «وألا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، حتى يكون بعضهم هو الذي يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا»، فهذا بقي في أمة الإسلام، يعني هذا الذي بقي في أمة الإسلام من العقوبة، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، قال -جل وعلا- {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}[الأنعام:66]، وكذب به الحال أنه قد كذب بهذا القرآن قوم النبي؛ وقوم النبي هم العرب، {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ}، العرب، {وَهُوَ الْحَقُّ}، يعني هذا الدين هذا القرآن هو الحق، وكلمة هو الحق جملة اسمية والجملة الاسمية راكزة في الإخبار، فهي خبر مؤكد وهو من الله هنا، وهو الحق يعني هذا الدين هو الحق من الله -تبارك وتعالى- الذي ليس فيه ريب ولا فيه شك، {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، وأنا أتنصل من مسئولية العقوبة لهؤلاء المكذبين وإنما الأمر كله بيد الله -تبارك وتعالى-، {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، يعني لست متوكلًا شئونكم، متولي أموركم، وإنما المتولي أموركم هو الله -سبحانه وتعالى-، {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، يعني لم يوكلنِ الله -تبارك وتعالى- في شأنكم، وإلا لو كان الله قد وكلني في شأنكم لكان لي القدرة والقوة على أن أعاقب من يكفر ومن يعاند، لكن هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، النبي عليه إبلاغ الرسالة والنذارة والبشارة ولم يجعل له الله -تبارك وتعالى- أن يعاقب المكذبين به والمعاندين، {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}.

{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:67]، ثم يأتيهم التهديد الإلهي {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ........}[الأنعام:67]، النبأ هو الخبر العظيم، وأعظم الأخبار هي هذه الأخبار التي جاء بها القرآن، وما أنزله الله -تبارك وتعالى- على رسوله نبأ عظيم، الحساب، البعث، النشور، الإخبار عن عظمة الرب وقدرته -سبحانه وتعالى-، ما ينتظر العباد من العقوبة الشديدة الهائلة في هذه النار الموقدة التي لا تنطفئ أبدًا، ولا يخرج منها أصحابها أبدًا ويعذبون فيها عذابًا سرمديًا لا انقطاع له، وهذه الجنة العظيمة البستان العظيم الكبير الذي عرضه كعرض السماوات والأرض، والذي من دخله لا يخرج منه ولا يرتحل ويعيش فيه حياة هنيئة طيبة أبدًا، جمعت فيها كل ألوان الحبور والسرور، أمر كبير هذا أنباء عظيمة، الله يقول {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ........}[الأنعام:67]، كل نبإٍ أخبر الله -تبارك وتعالى- به فله مستقر، ومعنى مستقر يعني أمر يعني نهاية يستقر فيها هذا النبأ، يعني يتحقق فيها وقع فيها، فما يتهددهم الله -تبارك وتعالى- به ويتوعدهم به واقع لا محالة؛ لا محالة واقع، وكذلك ما بشر الله -تبارك وتعالى- به عباده المؤمنين من الجنة والرضوان، سواء هذا في الآخرة أو من النصر والتمكين في الدنيا لابد أن يكون ولابد أن يقع، {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:67]، تهديد، هذا وعيد من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المكذبين، وسوف تعلمون أن هذا حق، وأن الذي هددكم الله -تبارك وتعالى- به وتوعدكم به كائن وواقع لا محالة.

ثم هنا بدأ الله -تبارك وتعالى- يبين لرسوله -صل الله عليه وسلم- السياسة التي يجب أن يتبعها مع هؤلاء المعاندين المكذبين، فقال -جل وعلا- {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:68]، هذا الخطاب وإن كان توجيهه المباشر إلى النبي -صلوات الله وسلامه عليه- إلا أنه طبعًا خطاب لكل المؤمنين، وإن كان موجه للنبي -صلوات الله وسلامه عليه-، كل خطاب موجه للنبي فهو موجه بالتالي إلى المؤمنين جميعًا، وقد يكون الخطاب موجه إلى النبي والنبي ليس داخلًا فيه بالضرورة، كقول الله -تبارك وتعالى- له {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}، ومعلوم أن والدي النبي قد ماتا قبل نزول هذه الآيات بزمن طويل، هنا يقول الله لرسوله {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}، خطاب للأمة ووجه الخطاب في شخص النبي -صلوات الله وسلامه عليه- وذلك لتشريف الأمر، ليبان أن هذا الأمر أمر عظيم وأمر شريف، وإذا كان النبي مخاطب بهذا طبعًا غير النبي -صلى الله عليه وسلم- بطريق الأولى، {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}، الخوض أصل الخوض هو السير في الماء الذي لا يعرف لا يرى الإنسان فيه الأرض؛ يعني الأرض التي فيها الماء، ومن سار في ماء على هذا النحو فإنه لا يأمن أن تكون ثمة حفرة فيقع فيها، حجر موجود فيصطدم به فيقال خاض في الماء بمعنى أنه دخله ومن يخوض في الماء لا يعرف ما به فهو ليس كالأرض الظاهرة التي يسير الإنسان عليها، فيعلم موضع قدمه فيها، واستعير هذا المعنى لكل من دخل في حديث لا يعرف عثراته ولا يعرف ما يتكلم فيه ويلقي الكلام على عواهنه بالظن بالتخمين، {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}، يعني يتكلمون في آيات الله -تبارك وتعالى- بغير علم، فيدخل في الكلام ولا يدري حقيقة ما يتكلم به، فقد يكذب الصدق وقد يصدق الكذب وقد يقول ما لا يعلم، والذين يخوضون في آيات الله طبعًا هم الذين يردونها ويستهزئون بها ويتكلمون بها ويتكلمون فيها بغير علم، {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}، آياتنا هذه المنزلة أو في آيات الله -تبارك وتعالى-، أي آية من آيات الله المنظورة، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}، الإعراض هو إعطاء العرض يعني التولي والترك، {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}، حتى في أي حديث غير آيات الله -تبارك وتعالى- الخوض فيها أقل ضرر، فإنه لو خاض أناس في شأن من شئون الدنيا وتكلموا في أمر من أمور الدنيا بغير علم فإن ضرر هذا قليل، أما أن يتكلم الإنسان في آيات الله في القرآن المنزل بغير علم، ويفتري على الله -تبارك وتعالى- ويرد كلام الله مثلًا أو يفسره على غير وجهه أو يقول فيه ما ليس بحق، فهذا كفر بالله -تبارك وتعالى-، {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}، هؤلاء الكفار المجرمون، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.

ثم قال -جل وعلا- {........ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:68]، {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ}، يعني هذه الوصية وهذا الأمر الإلهي، {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى}، بعد أن ذكرك الله -تبارك وتعالى- ونزلت هذه الآيات، {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، وسماهم الله بالقوم الظالمين لخوضهم في آيات الله -تبارك وتعالى- بغير علم، وهذا غاية الظلم.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأنعام:69]،  فالذين يخوضون في آيات الله بغير علم؛ هؤلاء الكفار، الرادون لكلام الله، المتكلمون فيه بغير علم، ذنبهم عليهم ومن جلس معهم من أهل الإيمان فإنه لا يتحمل إثمهم، وإنما الإثم على هؤلاء المتكلمين، قال الله {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ}، يتقون يخافون الله -عز وجل-، {مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، يعني لا يحملون وزر هؤلاء الكفار،  {وَلَكِنْ ذِكْرَى}، يعني إذا خرجوا من المكان الذي يخاض فيه بآيات الله يكون هذا ذكرى للكفار المعاندين الخائضين في ذلك، يعني يرون أن خروج المؤمن من مجلسهم وهذه صورة من صور الإنكار وإن كان هذا إنكار فقط بالقلب، لأنه ما تكلم عليهم ولا قال لهم أنتم كفار، أنتم تخوضون في آيات الله بغير علم ولكن خرج معرضًا عن هذا، فيكون هذا ذكرى لهم، تذكير لهم أنهم يفعلون الخطأ، يفعلون  الإجرام الذي لا ينبغي أن يجلس في مجلسهم من أجله وأن يسكت بهم فاخرجوا من هذا، ،  {وَلَكِنْ ذِكْرَى}، قال -جل وعلا- ،  {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، لعلهم إذا رأوا خروج المؤمنين من مجالسهم لخوضهم في آيات الله؛ لخوض الكفار في آيات الله تذكروا، وعلموا أنهم يفعلون الخطأ فيتذكرون بهذا، فيكون هذا صورة وإن كانت صورة مخففة جدًا من صور الإنكار، وهي الإنكار بالقلب، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، فهذا الخروج من مجلس الذي يخاض فيه إنما إنكار بالقلب وهذا أضعف الإيمان، قال -جل وعلا- {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[الأنعام:70]، ذر أترك، {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}، أترك هؤلاء، وسمى الله -تبارك وتعالى- الكفار هنا بعملهم ووصفهم أنهم اتخذوا دينهم؛ حياتهم لعبًا ولهوًا، الدين هو ما يدين الإنسان به من الحياة،  فيدخل فيه تشريعاته، عهوده، مواثيقه، نظام حياته، فيقال دين قريش ومن دان بديني هذه طريقتها ومعيشتها  في حياتها، سنتها التي تسير عليها، {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، هذا الكلام عن يوسف في دين الملك في شرعته، فإن شرعة ملك مصر في السارق لم تكن كشرعة بني إسرائيل، شرعة بني إسرائيل في السارق استرقاق؛ استرقاق السارق، ولذلك طبق يوسف -عليه السلام- شرعة بني إسرائيل حتى يستخلص أخاه، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}، لو سار بالتشريع المصري في هذا ما كان ليأخذ أخاه، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، فالدين هو الشرعة والمنهاج والصبغة العامة، فهؤلاء شرعتهم ومنهاجهم وصبغتهم العامة لعب ولهو، قال {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}، حتى في شأن عباداتهم وتقربهم مع الله فإنه قد كانت عبادتهم نوع من اللهو واللعب، كما قال -جل وعلا- {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ........}[الأنفال:35]، مكاء المكاء هو صوت القطط، كانوا يصفرون صفير أشبه بأصوات القطط التي تخرجها، وكذلك التصفيق فيصفقون ويصفرون وهم يطوفون ببيت الله -تبارك وتعالى-، فحتى شئون العبادة كانت على هذا النحو، وكذلك شرعتهم في الحياة ومناهجهم في الحياة إذا أخذت جملة حياتهم وجدتها أنها هي لعب ولهو.

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، التغرير هو الظن في الحقير أنه عظيم وكبير، ولذلك يسمى الطفل؛ الطفل الغرير، وذلك أنه يغر بمعنى أنه يُضحك عليه، يُوهم بالشيء أنه عظيم وليس بعظيم، وسهل خداعه، فهؤلاء خدعتهم الدنيا يعني أن الدنيا خدعتهم غرتهم، فحقتها وبهجتها وزينتها قد خلبت قلوبهم وأبصارهم، فجعلت كل إهتمامهم وكل بغيتهم في أن يعيشوا في هذه الدنيا، وتركوا لذلك أمر الآخرة، {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، هؤلاء اتركهم، السياسة الواجبة قال اتركهم، يعني أنذرهم واتركهم، {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}، ذكر به هؤلاء الذين يعتقدون هذه العقيدة، {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}، تبسل تحبس وتوقف، كما نقول هذا جندي باسل، باسل بمعنى أنه صامد لعدوه، لا تزحزح عن موقعه ولا يهرب، {تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}، يعني تحبس وتمسك خلاص، ما فعلته لا تستطيع أن تنفك منه، جريمتها هو مقبوض يوم القيامة محضر بجريمته قد أبسلته؛ قد حبسته ورهنته، كما قال -تبارك وتعالى- {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]، يعني محبوسة، {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}، طبعًا حبسها يحبسها الله -تبارك وتعالى- على عملها ما في فكاك، لا فكاك لك هذه جريمتك وتحاسب على هذه الجريمة، {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}، الله هو الذي يحكم فصل القضاء وليس لأي نفس من دون الله -تبارك وتعالى- ولي يواليها، و يدافع عنها، ولا شفيع يشفع لها، لأن الشفاعة كلها لله -تبارك وتعالى-، فلا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، و المشفع فيه لا يكون إلا بأن يأذن الله لهذا المشفوع فيه، {وَلا شَفِيعٌ}، لهذه النفس.

{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا}، العدل هو  الأمر المكافئ والموازي، يعني لو أتت بأي قيمة وزن فدية تكافئ إجرامها لا يقبل منها، ولا كفء لهذا الإجرام، لو قيل له لا تفتك من جراء جريمتك إلا بأن تأتي مثل الأرض ذهبًا، هذا فداء جريمتك، فإنه طبعًا لا يقبل منه، فلو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعًا ومثله معه ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم، فالله لا يقبل من أحد فديه مهما كانت، لو أتى فداء لجريمته بملء الأرض ذهب أو بالأرض وعشرة أمثالها ذهب ليفتدي من عذاب هذا اليوم فإنه لا يقبل منه، {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ}، يعني لو أتت بكل ثمن مقترح متصور متخيل فإن الله -تبارك وتعالى- لا يقبل من أحد عدلًا لجريمته، {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا}، أولئك هذي هؤلاء الكفار الذين أبسلوا؛ حبسوا، على ذنوبهم في النار بما كسبوا؛ بسبب كسبهم، {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ}، يشرب من حميم، الحميم الماء المغلي الحار، ولكنه ليس ماءًا كماء الدنيا وإنه ماء إذا قربه المعذب من وجهه سقطت فروة وجهه فيه من حره -عياذًا بالله-، كما قال -جل وعلا- {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ}، كالمهل كالمعدن المذاب، {يَشْوِي الْوُجُوهَ}، بمجرد أن يقترب هذا الماء من وجهه يشوي وجهه قبل أن يقطع أمعائه، قال -جل وعلا- {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}، بسبب كفرهم، وفي هذه الآية قفل أبواب النجاة كلها أمام من يموت على الكفر -عياذًا بالله-.

نقف هنا -وإن شاء الله- لهذه الآية المزيد تفصيل وبيان -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.