الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (173) - سورة الأنعام 71-73

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده و رسوله الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فقد وصلنا في الحلقة الماضية إلى قول الله -تبارك وتعالى- {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[الأنعام:70]، وذكرنا أنّ الله -تبارك وتعالى- وجه رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يترك هؤلاء، بعد هذه المناقشة الطويلة لهم في عقائدهم، هؤلاء الكفار الجاحدين قال {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}، دينهم حياتهم، فالدين هو الصبغة العامة والمنهج والشريعة وهؤلاء قد أخذوا حياتهم للعب واللهو، {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، ظنوا أنها نهاية المطاف وأنها هي كل الآمال فغروا بها عن العمل للآخرة، وعن العمل لتقوى الله -تبارك وتعالى- والنجاة من عذابه وعقابه -سبحانه وتعالى-، {وَذَكِّرْ بِهِ}، بهذا القرآن، {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}، هذا يوم القيامة، تبسل تحبس، والباسل نقول هذا جندي أو قائد باسل هو الذي يحبس نفسه على عدوه لا يفر منه، فتبسل نفس بما كسبت تحبس يوم القيامة، يحبسها الله كما قال -جل وعلا- {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]، أي أنها محبوسة على عملها، أن تبسل نفس يوم القيامة بما كسبت {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}، لا تجد من دون الله ولي يواليها ويحمو لها ويدفع عنها، ولا شفيع يشفع عنها عند الله -تبارك تعالى-، {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا}، إذا أرادت أن تأتي بفدية تعادل جريمتها فلا يقبل منها أي عدل، ولو كان ملء الأرض ذهبًا، كما جاء في الحديث أنّ الله -تبارك وتعالى- يقول للكافر «أرأيت لو كان لك مثل الأرض ذهبا أكنت تفتدي به من عذاب النار، فيقول إي وربي كنت أفتدي به، فيقال له كذبت، قد سألتك ما هو أهون من ذلك ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي شيئًا»، {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ}، في النار، وهذا الحميم أي الماء الحار المغلي الذي وصل حده في الحرارة والغليان، ولكنه ماء ثقيل كالمهل كما قال -جل وعلا- {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ}، والمهل هو كل معدن مذاب، {يَشْوِي الْوُجُوهَ}، إذا قرب منها، {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}.

ثم دعوة لهم وبيان الفارق بين الهدى والضلال، قال -جل وعلا- {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:71]، {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنعام:72]، قل لهم يا محمد أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا؟ كحالكم؛ حال المشركين، فإنهم يدعون من دون الله -تبارك وتعالى- ما لا ينفعهم ولا يضرهم، يدعون الملائكة يدعون أصنامهم هذه التي زعموها آلهة، والحال أنها ليست آلهة فهي لا تنفعهم ولا تضرهم، إن تركوا عبادتها ما هي بضارتهم شيئًا، وإن عبدوها مهما عبدوها ليست هي بنافعة لهم شيئًا، {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ}، نترك الهدى والدين والتوحيد والإيمان بالله -تبارك وتعالى- الذي هدانا الله -تبارك وتعالى- إليه ونرد إلى دينكم وملتكم على هذا النحو، فيكون حالنا {........ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:71]، مثل هذا ضربه الله -تبارك وتعالى- مما يعلمونه، {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ}، هناك نوع من الجنون تنسبه العرب إلى الشياطين، تقول ضربه الشيطان أو أخذه فيه هوى من الشيطان، والشخص الذي يصاب بهذا النوع من الجنون يفر من الناس ويهيم على وجهه، أحيانًا يذهب إلى الصحراء، يسير يمينًا يسير يسارًا، وإذا ناداه الناس وحاولوا أن يرجعوه إلى الحق فإنه لا يستجيب لهم يضل، فهذا الذي استهوته الشياطين في الأرض، يعني يضرب في الأرض على غير هدى، لا يعرف له طريقًا ، ويكون معه أهله أبوه أو إخوانه ويحاولون في أن يعود إلى عقله يعود إلى رشده يبعدون عنه هذا، لكن يكون قد تغلب عليه هذا الشيطان وأضل عقله وضيعه، فضرب الله -تبارك وتعالى- مثلًا بهذا الذي استهوته الشياطين في الأرض، يعني يضرب في الأرض فيها على غير هدى، أي أننا إذا تركنا الهدى الذي هدانا الله -تبارك وتعالى- به، الكتاب المنزل، الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، الصراط الذي عرفنا الله -تبارك وتعالى- به، تركنا هذا وذهبنا إلى طريقتكم كان حالنا مثل هذا الذي ضربته الشياطين، واستهوته في الأرض على هذا النحو، وجعلته يسير فيها على غير هدى، {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ}، يعني هذا الذي به هذا المس وهذا الجنون، {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا}، تعالى إلى الهدى هذا هو الطريق ولكنه لا يستجيب لهم، لهذه الشعبة من الجنونة فيه، قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}، قل إن هدى الله هو الهدى على الحقيقة، يعني الهدى هداه -سبحانه وتعالى-، الهدى بالألف واللام الذي هو الهدى استغراقًا هذا هو أن يكون من الله -تبارك وتعالى-، لأن الله -تبارك وتعالى- هو العليم بكل شيء، هو الذي عرفنا هذا الطريق، هو الذي أبانه، ومن أعلم من الله -تبارك وتعالى-، فإذن كل ما يزعم بأنه هداية لكن ليست عن طريق الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن تكون هداية، {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ}، الهدى المنسوب إلى الله وهذا القرآن المنزل من عنده فهو هداه، {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}، هو الهدى على الحقيقة، {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، وأمرنا بالبناء لما لم يسم فاعله ولا شك أن الآمر هو الله -تبارك وتعالى-، أمرنا لنسلم لنكون مسلمين لرب العالمين، والإسلام هنا بمعنى الاستسلام والإنقياد للرب -تبارك وتعالى-.

ثم وجه الله -تبارك وتعالى- المؤمنين إلى ما ينبغي عليهم، قال {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنعام:72]، يعني أنتم أيها الذين قد هداكم الله -تبارك وتعالى- إلى طريقه استجبتم لأمره، {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ}، عليكم أن تقيموا الصلاة، وإقامة الصلاة هي أدائها على الوجه الأكمل، أدائها على الوجه الذي يحبه الله -تبارك وتعالى- بشرائطها وبأركانها، {وَاتَّقُوهُ}، خافوه، قدم الله -تبارك وتعالى- الصلاة عماد الدين، وهي ترجمان الإيمان، ومن أجل ذلك كانت العناية بها أكبر عناية، هي عمود الدين، {وَاتَّقُوهُ}، خافوه في كل أعمالكم، خافوا الله -تبارك وتعالى-، اجعلوا حماية بينكم وبين عذابه -سبحانه وتعالى- ولا يكون ذلك إلا بإتباع أمره، واجتناب نهيه -سبحانه وتعالى-، ومراقبته دائمًا، {وَاتَّقُوهُ}، خافوه، {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، هو الله -سبحانه وتعالى- الذي يدعوكم لعبادته والذي تسلمون له، هو الذي إليه تحشرون، إليه لا إلى غيره، قدم هنا المعمول على العامل للحصر، يعني حشركم إليه، والحشر هو الجمع، يعني جمعكم يوم القيامة إليه -سبحانه وتعالى- لا إلى غيره، وإذا كان الجمع إليه فإنه سيتولى وذلك أنه الذي سيتولى -سبحانه وتعالى- بنفسه بدون وكيل منه -سبحانه وتعالى- حساب خلقه جميعًا، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}[الغاشية:25]، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:26]، فإياب الخلق رجوع الخلق كلهم إلى الله، وحساب الخلق كلهم إلى الله -تبارك وتعالى-.

استطرادًا للتعريف بالرب -سبحانه وتعالى- {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}، هو الله الذي أمرنا أن نسلم له والذي أمرنا أن نتقيه -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}، خلق؛ إخراج من العدم إلى الوجود، وتقدير؛ إعطاء كل جزئية من هذا الخلق قدره ومقداره وموضعه وحركته ومنهجه الدائم، فكل شيء كل صغير وكبير، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[يس:38]، هذه الكتلة الهائلة، هذه التي أكبر من الأرض مليون مرة هي في مدارها بتقدير العزيز الحكيم -سبحانه وتعالى-، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[يس:38]، تقديره بحسبان، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، والنملة الصغيرة والذرة الصغيرة، فالله هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، أعطاه خلقه صوره، أبرزه من العدم إلى الوجود وأعطاه صورته وقدره ومقداره، ثم أعطاه سبيله إلى الذي يسير فيه، من الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة إلى كل المخلوقات، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}، خلقها حق وهي مخلوقة بالحق، فقد خلقها الله -تبارك وتعالى- بالحق لتشهد؛ وتكون هذه شهادة بوجودها، على ربها وخالقها -سبحانه وتعالى-، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]، هذه كلها نصبها الله -تبارك وتعالى- آيات لذوي العقول، لتدل على أن الإله هو الإله الواحد -سبحانه وتعالى- {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، فخلقها بالحق لأنها دالة على الخالق -سبحانه وتعالى- ولأن هناك حكمة من وراء ذلك وغاية من وراء ذلك، وهو أن يقوم هذا الخلق كله بعبادة الله -تبارك وتعالى-، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، فهي قائمة بتسبيح ربها وخالقها -سبحانه وتعالى- تعظيمًا لشأنه، فهو الإله الرب العظيم الذي ملك كل شيء وخضع له كل شيء وذل له كل شيء والذي لا يشبهه شيء -سبحانه وتعالى-، فهو المستحق وحده للعبادة، ولذلك تقوم السماوات والأرض بالعبودية لله -تبارك وتعالى-.

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ}، يوم القيامة يكون كن فيكون، بأمره هذا الأمر الذي هو لا يتعدى حرفين من حروف الأمر كن فيكون، بالفاء تعقيب على طول فيكون الأمر كما شاء، انفجار هذا الكون كله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1]، {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2]، {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}[التكوير:3]، {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}[التكوير:4]، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}[التكوير:5]، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}[التكوير:6]، {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}[التكوير:7]، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}[التكوير:8]، {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:9]، {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة:1]، {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}[الزلزلة:2]، {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا}[الزلزلة:3]، {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}[الزلزلة:4]، {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:5]، ويوم يقول كن في هذا اليوم العظيم فكل هذه السماوات والأرض تتغير، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[إبراهيم:48]، فالأرض لا تكون هي الأرض والسماوات لا تكون هي السماوات وإنما خلاص ينفرط عقد هذا الكائن؛ عقد هذا المنتظم، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1]، {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2]، {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3]، {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:4]، {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}[الانفطار:5]، {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ}، بأمره -سبحانه وتعالى-، كن أي هذا يوم القيامة ، تتبدل كل هذا الموجودات إلى أمر آخر يريده الله -تبارك وتعالى- وذلك لقيام الناس لرب العالمين -سبحانه وتعالى-، {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ}، قوله  -تبارك وتعالى- هو الحق الثابت الذي ليس بباطل، إذا قال الله -تبارك وتعالى- شيء لا شك أنفذه -سبحانه وتعالى- ولا يقول باطلًا -جل وعلا-، {وَلَهُ الْمُلْكُ}، الملك كله له، والملك كل ما سوى الله، كل ما سوى الله ملك؛ وملك له -سبحانه وتعالى-، يملكه الله -تبارك وتعالى- ذاته يملك رقبته، وذلك الذي أوجده ثم يملك تصريفه، يعني ما أوجد هذه الذوات ثم هي تتصرف تسير كما تشاء ، الشمس تسير حسب مشيئته ، يعني هو خلق هذه السماوات ثم كل جزئية منها تسير كما تشاء لا بل كل مخلوق من هذه المخلوقات كتب الله -تبارك وتعالى- حركته وسكنته، من النملة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة كل شيء، سواء كانت له إرادة في نفسه كالإنسان، الإنسان مريد يسير هكذا يسير هكذا، يعمل هذا أو يعمل هذا، يعمل أو يترك، عنده إرادة في ذاته، لكن هذه الإرادة بإرادة الرب -جل وعلا- لا يمكن أن يريد شيئًا لا يريده الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الإنسان:30]، فلا مشيئة لأحد إلا بعد مشيئة الله -تبارك وتعالى-، كل شيء قد قدره الله -تبارك وتعالى-، فالمخلوقات التي لها إرادة من ذاتها كذلك إرادتها بعد إرادة الرب -تبارك وتعالى-، إذن الله -سبحانه وتعالى- له الملك، الملك هو أنه يملك هذا الخلق كله، الخلق خلقه ما أحد شاركه، لم يشارك الله -تبارك وتعالى- أحد في خلق شيء ولا ذرة، ولم يشأ الله -تبارك وتعالى- لأي مخلوق من مخلوقاته أن يخلق شيئًا، أن يوجد شيئًا من العدم وأن يملك تصريفًا , لا بل الله -تبارك وتعالى- يملك هذا الملك كله؛ يملكه ذاتًا، لأنه خالقه -سبحانه وتعالى- والله هو مصرفه، هو الذي يصرفه ولا يتصرف، فهو يملك هذا الملك {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1]، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك:2]، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3]، {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ........}[الملك:5]، نقرأ هذه السورة؛ سورة الملك، نعرف معنى الله -تبارك وتعالى- هو مالك الملك وهو مصرفه -سبحانه وتعالى-.

{قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ}، هذا النفخ في الصور هو إيذان بهذا تحقيق الأمر الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- عنه، والنفخ في الصور بأمره -سبحانه وتعالى-، يأمر الملك الذي وكل بذلك فينفخ في الصور نفخة واحدة، وهذه نفخة ملك تفعلها، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13]، {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14]، {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16]، {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17]، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، يومئذٍ تعرضون على الله للحساب لا تخفى منكم خافية، منكم يعني من جميعكم للتبعيض، خافية يعني ولا إنسان صغير، طفل رضيع، سقط، لا يخفى كله محشور، كل هذا محشور ليوم القيامة، {........ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، كذلك لا تخفى منكم خافية، لا تخفي منكم يعني في صدوركم خافية تخفونها عن الرب -تبارك وتعالى-، لا تستطيعون أن تخفوا شيئًا من أعمالكم عن الرب -جل وعلا-، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، الله هو عالم الغيب يعني هو عالم الغيب والشهادة، عالم الغيب والشهادة؛ الغيب والشهادة بالنسبة لمخلوقاته، وإلا فالله -سبحانه وتعالى- لا غيب عنده، يعني ليس هناك شيء يغيب عن الله -تبارك وتعالى-، بل كل شيء عند الله شهادة {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وأما الغيب والشهادة بالنسبة للمخلوق، فنحن ما نشاهده ويقع تحت حسنا هذا بالنسبة إلينا شهادة، وما هو خارج نطاق الحس ونطاق المعرفة كذلك والعلم هذا غيب، وكذلك الملائكة وكذلك كل خلق الله -تبارك وتعالى-، أما الله فإنه لا غيب عنده بل هو عالم الغيب كله، وإذا كان يعلم الغيب فإن الغيب هذا يصبح عند الله -تبارك وتعالى- شهادة، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}، الحكيم الذي يضع كل أمر في نصابه ما في شيء عبث ولا سدى وليس له موضوع، بل كل شيء له حكمة فالله -تبارك وتعالى- هو الحكيم الذي وضع -سبحانه وتعالى- كل أمر في نصابه، الخبير؛ الخبرة أخص من العلم وذلك أنها العلم بخفايا الأمور، فهو العليم بخفايا كل الأمور -سبحانه وتعالى-، فعلمه يشمل الظاهر والخفي فهو العليم الخبير -سبحانه وتعالى-.

هذا لما انتهى هذا النقاش مع الكفار على هذا النحو وفي آخره توجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- والفئة المؤمنة معه، إلى السبيل الذي يجب أن يتخذوه إلى الله -تبارك وتعالى-، أن يتركوا هؤلاء لا ينشغلوا بهم ليس بالدعوة ولكن بأمر جبرهم أو قهرهم إلى الدين بعد إقامة الحجة عليهم، وأن ينشغلوا كذلك بأنفسهم بأن قال {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنعام:72]، ويعرفوا ربهم -سبحانه وتعالى- فيتصوروه ويؤمنوا به ويعتقدوه على الوجه الذي أخبرهم به -سبحانه وتعالى-.

ثم جاء  فاصل جديد شرع الله -تبارك وتعالى- يناقش العرب في أبيهم الذي يزعمون أنه كان على ملتهم، أو هم على ملته وأنهم أتباع له، إبراهيم -عليه السلام- أبو العرب، فإبراهيم هو أبو إسماعيل وإسماعيل أبو العرب كلهم؛ قحطانيهم وعدنانيهم، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أكثر نسل إسماعيل بعد أن تزوج بامرأة من جرهم، وجعل نسله كما جاء في التوراة يعني يملأ كمثل حصى الأرض، فنسله هو الذي بقي وهو الذي انتشرت ذريته في هذه الجزيرة بعد أن أسكنه الله -تبارك وتعالى- في مكة، العرب توارثوا الدين وكانوا على التوحيد دهرًا من زمانهم، ثم بعد ذلك جاء من غير دين العرب وهو عمرو بن لحي الخزاعي؛ من خزاعة، خزاعة غلبت على البيت زمانًا وجاء زعيمهم عمرو بن لحي الخزاعي قال إنه ذهب إلى بلاد الشام إلى مدينة الحمة، وكان به مرض في بدنه في جلده واغتسل بالماء الحار الموجود هناك وبرأ من هذا المرض، ورأى أنهم  صابئة يعبدون الأصنام وسأل عن هذا الأمر ، ثم حمل بعض هذه الأصنام وأتى بها إلى مكة ونصبها بعضها على الكعبة، ثم بدأت العرب تقلد في صناعة الأصنام وفي عبادتها، ويقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «أول من بدل دين العرب عمرو بن لحي الخزاعي، ولقد رأيته يجر قصبه في النار»، والقصب هي الأمعاء، ثم هو الذي جعل النذور والهدايا لهذه الأصنام، فهو الذي قال بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، شرع لهم هذه التشريعات من الأنعام التي يهدونها لهذه الأصنام وتذبح عندهم، وانتشرت بعد ذلك عبادة الأصنام في العرب وتبدل دين العرب، من أمة على التوحيد بعد إسماعيل -عليه السلام-، الذي قال الله -تبارك وتعالى- فيه هو وإبراهيم {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف:28]، كلمة التي هي كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، ففي فرع إسحاق توارث يعني هذا الفرع النبوة والهداية والتوحيد، نرى مثلًا هذا يوسف -عليه السلام- يقول لصاحبي السجن، قال {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}[يوسف:38]، وفرع ثاني فرع إسماعيل يعني بقي أبنائه كذلك على التوحيد وظلوا على ذلك زمانًا، قلنا إلى أن جاء عمرو ابن لحي الخزاعي وغير دين العرب، ترك العرب التوحيد وأصبحت أمة مشركة ونشأت لهم أفكار كذلك ظنون وثنية ، أيضًا هي تلقيح من أفكار الصابئة وهي أن الملائكة الذين في السماء هم بنات وليسوا ملائكة خلق مستقلة، إنما هم بنات لله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وبدأوا يعبدوا هؤلاء البنات تقربًا إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم تناقص علمهم في الآخرة حتى نسوها نسيانًا كاملًا وجحدوا وجود الآخرة.

الفاصل الجديد في هذه السورة؛ سورة الأنعام، الله -تبارك وتعالى- هنا يناقش العرب في إبراهيم، فيقول -جل وعلا- {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأنعام:74]، وذلك ليقيم الحجة عليهم ويبين أن إبراهيم كان على التوحيد، ولم يكن على دين الشرك الذي هم عليه.

يأتي -إن شاء الله- تفصيل هذا في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.