الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأنعام:74]، {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75]، {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}[الأنعام:76]، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}[الأنعام:77]، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:78]، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:79]، قلنا في الحلقة الماضية إنّ الله -تبارك وتعالى- بعد أن ناقش الكفار في عقائدهم الباطلة، وأقام الحجة -سبحانه وتعالى- عليهم، وظهر لكل ذي عينين أن الله -سبحانه وتعالى- خالق السماوات والأرض الذي بيده مقادير كل شيء، هو الرب الإله الذي لا إله إلا هو الذي يستحق وحده العبادة، وأن ما يعبدونه من دون الله -تبارك وتعالى- باطل، شرع الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك يوجه مشركي العرب، إلى أن إبراهيم -عليه السلام- الذي ينتسبون إليه نسبًا ويحبون هذه النسبة، يفخرون بهذه النسبة يوثنون عليه، ويزعمون بأنهم على دينه وعلى طريقته، فإنهم قد صوروه في جوف الكعبة هو وإسماعيل، وصورهما وهما يستقسمان بالأزلام، حتى إن النبي لما دخل -صلوات الله وسلامه عليه- مكة فاتحًا ودخل الكعبة ورأى هذه الصور، رأى أنهم قد صوروا إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، ومعنى يستقسمان بالأزلام يعني يطلبان القسمة بهم سواء كان البخت أو قسمة الجذور، على عادتهم في اشتراك العشرة كلٌ بسهم ثم بعد ذلك تكون هناك ثلاثة أسهم رابحة وسبعة خاسرة، أو الاستقسام بالأزلام كما هو شأن الكاهن، الصنم يكون عنده ثلاثة أسهم عبارة عن ألزام الواحد بدون سن، ويكتب على كل واحد يقول هذا افعل ولا تفعل وواحد غفر ليس عليه شيء، ثم يضعها في كيس أو شيء يخلطها، ثم من أراد زواجًا أو أراد سفرًا أو أراد تجارةً في المستقبل يأتي إلى هذا الكاهن وينقده شيء له وللصنم الذي هو عنده، ثم يقول انظر لي هل أنا أسير في هذا الموضوع هذا المشروع أم لا، فيأتي يضرب له هذه السهام ويسحب، فإذا كان خرج افعل يقول له الآلهة راضية عنك وافعل، وإذا لم تكن طلع الثاني لا تفعل يقول له لا الآلهة غير راضية أو الإله غير راضي وهو ينصح لك فلا تفعل هذا، وإذا خرج السهم الذي ليس عليه كتابة فيعيد السحب مرة ثانية، شهد النبي ذلك قال تالله ما استقسما بهما قط، يقصد إسماعيل وإبراهيم -عليهما السلام-، الخلاصة بأن العرب كانت تفخر بنسبها إلى إبراهيم، وقلنا أن العرب كلهم؛ العرب القحطانيون منهم والعدنانيون، وكلهم من نسل إسماعيل، فإن الله -تبارك وتعالى- أبقى نسله وكثره.
فهنا يبين الله -تبارك وتعالى- أن إبراهيم إنما كان حنيفًا مسلمًا، وكان على التوحيد ولم يكن على الشرك ولم يعبد الأصنام قط، وإنما عاش عمره يدعوا إلى ترك هذه الأصنام ولقي في ذلك ما لقي، قال -جل وعلا- {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}، النبي أبو الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليه- الرسول من أولي العزم من الرسل، {لِأَبِيهِ آزَرَ}، ذكر الله -تبارك وتعالى- اسم أبيه، ليكون هذا حجة لهم على أن هذا إخبار حقيقي بتفاصيله، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ........}[الأنعام:74]، سؤال للإنكار، {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}، تجعل الصنم الذي هو كل ما بني ونصب على صورة الحيوان مما يعبد، مما يتخذ للعبادة، الحيوان يعني إنسان أو ملك أو حيوان من حيوانات الأرض صقر أو غيره، والوثن عام فالصنم ما كان على صورة شيء حي فيه حياة، والوثن أعم فالشجرة مثلًا إذا عبدت وثن والحجر إذا عبد يسمى عند العرب أوثان، {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}، تجعل هذا الصنم إله، ومعنى آلهة الإله هو من يستحق العبادة، لأن الإله هو مألوه يعني يعبد، والعبادة أشرف ما يأتيه الإنسان من العمل وأعلاه، لأن فيها ذل وخضوع ورغبة ورهبة وطلب لآخر، فكيف الصنم الذي تصنعه بيديك وأنت المتفضل عليه هو تجعله إلهك، الذي تألهه وتعبده وتطلب منه وتخافه وترجوه، {........ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأنعام:74]، إني إبراهيم يقول لأبيه، أراك رؤية عقلية وكذلك رؤية بصرية، وقومك القوم هم جماعة هؤلاء الذي ينتمي إليهم الشخص، قد يجمعهم نسب واحد دين واحد لغة واحدة، إني أراك وقومك يعني هؤلاء المشركين في ضلال مبين، الضلال البعد عن الحق، كما نقول ضل الطريق يعني ترك الطريق المستوية الصالحة الموصلة وتاه إلى غيره، في ضلال مبين ضلال معنوي، مبين بيِّن واضح لا خفاء فيه.
ثم قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75]، الإشارة هنا قالوا إلى هذا الذي ذكره الله -تبارك وتعالى-، من توجيه الله -تبارك وتعالى- بصر عبده ورسوله إبراهيم إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، ليصل إلى اليقين بأن مدبر هذا الملكوت إنما هو الله، الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[الأنعام:75]، على هذه الصورة، {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، وليكون إبراهيم بعد أن يريه الله -تبارك وتعالى- ملكوت السماوات والأرض حتى يكون من الموقنين، اليقين هو غاية العلم ونهايته، وذلك بأن الله هو الإله الواحد الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-.
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا}، كان قوم إبراهيم ممن يعبدون الأصنام، وهذه الأصنام كانت هي تماثيل يتمثلونها لهذه النجوم والكواكب، فكان نظرهم أن هذه النجوم والكواكب التي يرونها إنما هي أعظم الخلق الذي يرونه، وهذا الخلق طبعًا لا يرونه، يرون أنه هو مؤثر وخالق ومدبر لشئون الناس على الأرض، فالقمر يدبر شأن الناس على الأرض والشمس كذلك ، فيرسمون لهؤلاء ويتخيلون أن له روح؛ روح القمر وروح الشمس، وينصبون أصنام لهم على الأرض ويعبدونها، يقول هذه روح الأرض أو روح الشمس ، وأن هذه إذا عبدوها فإنها هي المتصرفة في حياتهم، {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75]، {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا}، جن عليه جاء الليل، وأصل الجنَّ هي جنن بمعنى ستر، جنَّ عليه الليل يعني ستره الليل وغطاه، {رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي}، قال هذا ربي ليس على اليقين وإنما على النظر، يعني أهذا ربي على مقالة هؤلاء المشركين والكفار، فإنهم يعبدون النجوم، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}، فلما أفل وأفول النجم هو غروبه وذهابه عن وجه السماء، {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}، بمعنى أن هذا الذي يظهر ويأفل إذن مقهور، مربوب، ليس فاعلًا باختياره، وإنما هو يفعل فعل من يديره ويقهره غيره.
قال -جل وعلا- {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}[الأنعام:77]، القمر آية الليل بالنسبة لنا نحن الذين نعيش على هذه الأرض العظمى، فهو أضوأ عندنا من كل النجوم وأكبر من كل النجوم التي نراها، فتلك النجوم بعيدة ولذلك القمر بالنسبة لنا أكبر من كل النجوم، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}[الأنعام:77].
{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً}، هذا في النهار، {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ}، هذا ربي بمعنى أنه خالقي ومتولي شئوني هذا أكبر من كل ما يرى من أجرام هذه السماء بالنسبة لساكن الأرض، قال -جل وعلا- {........ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:78]، قال بعض أهل العلم في التفسير أن هذا التدرج من إبراهيم إنما هو تدرج مع قومه للحجاج؛ ليحاجهم، وإلا فإن الله -تبارك وتعالى- قد هداه إلى الإيمان به وتوحيده وأن هذه مخلوقات لا تنفع ولا تضر، وإنما قوله هذا ربي إنما تنزل مع قومه في حجاجهم إياه، {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}، وعلى القول الأول أن الله -تبارك وتعالى- أراه ملكوت السماوات والأرض، وذلك انتقالًا من جرم من أجرام السماء إلى آخر ليتنقل فيها وينظر ويتفكر، حتى يصل بذلك إلى المعرفة واليقين بالرب الإله الواحد -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- عن الشمس {فَلَمَّا أَفَلَتْ}، وهي الآية العظمى بالنسبة لأهل الأرض، {قَالَ يَا قَوْمِ}، يعني يا قومي، ، {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، البراءة هي البعد والانقطاع وقطع كل الصلة، {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، من الذي تشركونه من هذا الذي تعبدونه.
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:79]، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}، الوجهة هنا وجهة الدين والعبادة والتوحيد، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ........}[الأنعام:79]، ومعنى فطرها خلقها، هذه كلها مخلوقات مقهورة مربوبة لابد أن هناك ورائها من خلقها وقهرها وسيرها في أماكنها، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي}، للرب الإله -سبحانه وتعالى- الذي فطر السماوات والأرض، وقلنا فطرها بمعنى أنه شقها وأخرجها من العدم إلى الوجود وسواها على ما هي عليه، {حَنِيفًا}، أصل الحنف في لغة العرب هو الميل، والعرب تسمي الذي يولد وقدمه مائلة تسميه أحنف، حنيفًا يعني مائلًا، قالوا مائلًا عن كل طرق الشرك، يعني مائلًا عن كل طرائقكم في شرككم وعبادتكم لغير الله -تبارك وتعالى-،{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، إعلان أنه ليس على شيء من الشرك الذي يشركون به، ومعنى مشركين أنهم يعبدون الله -تبارك وتعالى- ومعه هذه الأصنام والآلهة التي اتخذوها.
قال -جل وعلا- {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ}، الحِجاج هو الجدال، كل من الحجة كل يدلي يعني بحجته، يعني أدلوا بحججهم وهو أدلى بحجته -صلى الله عليه وسلم-، {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}، يعني تجادلون في الله، تأتون بحجة لتدحضوا عندي إيماني بالله الواحد -سبحانه وتعالى-، وقد هداني الله -تبارك وتعالى- إليه، {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}، خوفوه آلهتهم وأنا تصنع وتضر من يسبها أو يشتمها أو يبتعد عنها أو لا يعبدها، فقال {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}، ثم علق الأمر على مشيئة الرب -تبارك وتعالى- أنه إن يصبه شيء فإنه لا يصبه كذلك كمان ليس بهؤلاء وإنما بمشيئة الرب -تبارك وتعالى-، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}، أن يصيبني شيء من الضرر فإن هذا بمشيئة الله وليس بمشيئة هذه الأصنام، {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}، وسع رب كل شيء علمًا يعني أنه علم كل شيء، وأن علمه قد وسع هذه المخلوقات بمعنى أنه أحاط بها، وهي داخلة كلها في علمه ولا يضيق علمه عن شيء من مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}، يعني أليس عندكم عقول تتذكرون بها، والتذكر عملية إعمال فكر من أجل استحضار هذه المعاني، {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}.
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}، سؤال للاستنكار، {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ........}[الأنعام:81]، أنا أخاف هذه الآلهة التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم لا تخافون الإله الواحد الأحد -سبحانه وتعالى- الذي له ملك السماوات والأرض، وكيف أخاف ما أشركتم من آلهة باطلة لا نفع لها ولا ضرر منها، ولا تخافون أنتم أنكم أشركتم بالله؛ الله -سبحانه وتعالى-، وعندما يقال الله فإن هذا الاسم الأعظم الذين يندرج تحته أسماء الله -تبارك وتعالى- وصفاته العظمى الله، {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}، الله ربكم وخالقكم ثم أشركتم به، عبدتم غيره -سبحانه وتعالى- مما لم يأذن لكم به الله ولم ينزل به عليكم سلطانًا، السلطان حجة قاهرة، يعني كتاب من عنده، أمر من عنده، سماح من عنده، علم علمكم إياه، لتتخذوا هذا حجة في عبادتكم ما تعبدون من هذه الأصنام، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي الفريقين مني ومنكم أحق بالأمن؛ أحق أن يشعر بالأمن، الذي عبد الله -تبارك وتعالى- هم مطمئنون إليه، مطمئنون إلى وعده وموعوده -سبحانه وتعالى-، وبالتالي لا يخاف من هذه الأصنام أن تضره بشيء لأن لا ضرر لها، أم أنتم الذين عبدتم هذه الأصنام التي لا تنفعكم ولا تضركم، وتركتم عبادة الإله الواحد -سبحانه وتعالى- الذي بيده النفع والضر، الذي عنده جنة ونار، فمن الذي يحق له أن يأمن أنا ولا أنتم.
{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، ثم قال -جل وعلا- وبيَّن من له الأمن، قال {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام:82]، هذه آية جملة إخبارية تخبر بميزان الرب -سبحانه وتعالى-، من يستحق الأمن؟ هي عبارة عن جواب عن هذا {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، قال الرب -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ........}[الأنعام:82]، الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى- هذا الإيمان المعهود معلوم، {وَلَمْ يَلْبِسُوا}، يخلطوا ويدخلوا، {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، بظلم جائت هنا نكرة أي ظلم، والظلم يشمل كل معصية وأعلى هذه المعاصي الشرك بالله -تبارك وتعالى-، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ و سألوا النبي عن هذه الآية وقالوا الله -تبارك وتعالى- يقول {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام:82]، الأمن من العقوبة، أن لا يعاقبهم الله -تبارك وتعالى- ويدخلهم النار، ، {وَهُمْ مُهْتَدُونَ}، حالهم في هذه الدنيا وفي الآخرة هم على طريق الهداية، فقول الآية أنها جائت عامة بظلم فقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ يعني قد يكون نحن من أهل الإيمان لكن وقعنا في شيء من المعاصي، عصينا الله -تبارك وتعالى- ولو في دقيق الأمر، فقال النبي -صل الله عليه وسلم- مفسرًا هذا «إنما هو الشرك»، بيَّن أن المقصود بهذه إنما هو الشرك، قال أبو بكر الصديق عندما قال يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فقال «يا أبا بكر إنما هو الشرك»، ألم تقرأ قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، فالظلم هنا المقصود به الشرك بالله -تبارك وتعالى-، فمن أتى ربه -تبارك وتعالى- يوم القيامة بشرك هذا خلاص؛ هذا هلك، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ........}[النساء:48]، لكن من أتى الرب -سبحانه وتعالى- الإله ولم يكن قد أشرك به فهذا له الأمن، كما جاء في الحديث «عبدي لو أيتني بتراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة»، وقرابها بما يقاربها، فقول الله {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام:82]، فمن أتى الله -تبارك وتعالى- مؤمنًا به موحدًا لم يكن مشركًا، فهذا الله -تبارك وتعالى- أعطاه الأمن؛ الأمن من عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، {وَهُمْ مُهْتَدُونَ}، على طريق الهداية، فانقطعت بهذا حجة الكفار لما حاج إبراهيم بهذا انقطعت حجتهم، ما أصبح لهم على هذا الجواب بعد هذا الفصل والبيان جواب لهم وحجة لهم يدلون بها.
قال -جل وعلا- {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام:83]، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا}، أشار الله -تبارك وتعالى- إلى ما علمه إبراهيم وأجراه على لسانه مما يحاج به قومه، ومما أفقدهم كل حجة وألزمهم الصغار، فأنهم في نهاية الأمر قد قالوا له {........ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}[الأنبياء:65]، لما قال لهم في آلهتهم الباطلة {........ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}[الأنبياء:65]، {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ}[الأنبياء:66]، {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء:67]، فعند ذلك لجأوا إلى القوة، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[الأنبياء:68]، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:69]، وفي الآية الأخر لما انقطعت حجتهم قالوا {........ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}[الأنبياء:65]، الله يقول {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}[الأنبياء:64]، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ........}[الأنبياء:65]، أي يا إبراهيم، {مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ}[الأنبياء:66]، {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء:67]، عند ذلك {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ ........}[الأنبياء:68]، فيشير الله -تبارك وتعالى- إلى هذه الحجة التي علمها إبراهيم والتي حاج بها قومه، قال -جل وعلا- {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}، تلك حجتنا نسبها الله -تبارك وتعالى- هذا إلى نفسه -سبحانه وتعالى-، وذلك أن الله علمها إبراهيم، هو الذي هداه لهذا، هو الذي هدى إلى أن يحاج إبراهيم قومه على هذا النحو ويدحض باطلهم، {آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}، أعطيناها إبراهيم ليظهر بها على قومه، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}، علل الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر وبيَّن حكمته وأن الله -تبارك وتعالى- من يشاء أن يرفع درجته رفعه، وقد شاء الله -تبارك وتعالى- أن يرفع درجة إبراهيم في الدنيا والأخرة، فقد رفعه الله -تبارك وتعالى- بالإيمان به، وكذلك رفعه بالحجة القاهرة التي هي الحجة البيانية التي أعطاه إياها فحاج بها قومه، {........ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام:83]، إن ربك يعني يا محمد حكيم في أين يضع الأمر؟ يضع الأمر في نصابه، فإبراهيم جعله نبيه ومختاره ومصطفاه وعلمه وهداه يستحق هذا، هذه عناية من الرب -تبارك وتعالى- والله أعلم حيث يجعل رسالته -سبحانه وتعالى-، وكذلك الضلال عندما وقع؛ وقع كذلك حيث يشاء الله -تبارك وتعالى-، ويكن بحكمة الرب –تبارك وتعالى-، {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، فهذا كان من حكمته وعلمه -سبحانه وتعالى- أن وضع كل أمر من هذه الأمور في نصابه.
ثم قال -جل وعلا- {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الأنعام:84]، {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}[الأنعام:85]، {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}[الأنعام:86]، {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام:87].
وهذا -إن شاء الله- تفصيله في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.