الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام:83]، {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الأنعام:84]، {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}[الأنعام:85]، {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}[الأنعام:86]، {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام:87]، {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:88]، ذكرنا أن هذه الآيات من قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ........}[الأنعام:74]، في سياق سورة الأنعام وهي سورة مكية نزلت جميعها من السماء دفعة واحدة، هذه الآيات في نفس السياق، هذا كله من سياق خطاب العرب في دينهم الباطل، وبيان من أنهم ليسوا على دين حق لا في عقائدهم ولا في انتسابهم إلى إبراهيم -عليه السلام-، وأن إبراهيم أبوهم الذي يفخرون به نسبًا، ويظنون ويعتقدون أنهم كانوا على منهجه وطريقه في الدين كذلك، إن إبراهيم لم يكن كذلك، بيَّن الله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات احتجاجًا على العرب المشركين المفتخرين بنسبتهم إلى إبراهيم أن إبراهيم لم يكن على الدين والملة التي كانوا هم عليها.
فبعد أن ذكر -تبارك وتعالى- حجاج إبراهيم مع قومه وانقطاع قومه أمام حجته، قال -جل وعلا- {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا}، يعني هذه الحجة التي نسبها الله لنفسه لأنه هو معلمها -سبحانه وتعالى- وهو هادي إبراهيم، قال -جل وعلا- {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}، لينتصر بها على قومه وليدحض بها باطلهم، ثم قال -جل وعلا- {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}، رفع درجات في المنزلة في الجنة، من نشاء من يشاء الله رفعته رفعه، {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، وذلك بيان أن إبراهيم هو من هداه الله -تبارك وتعالى- أن هذا الفعل واقع بحكمة الله -تبارك وتعالى- وعلمه، الله يعلم حيث يجعل رسالته.
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- كذلك من عطاياه وهبه لعبده إبراهيم، قال {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ}، ابن من أبنائه، وهو ولده من زوجته سارة؛ زوجته الأولى، ويعقوب بن إسحاق؛ وهو حفيد إبراهيم، وجعله الله -تبارك وتعالى- له لأنه أيضًا هذا حفيده من نسله، {كُلًّا هَدَيْنَا}، يعني كل هؤلاء هداهم الله -تبارك وتعالى-، إسحاق هداه الله -تبارك وتعالى- إليه وجعله نبيا، ويعقوب هداه الله -تبارك وتعالى- وجعله نبيًا كذلك، فأصبح الجد والابن والحفيد كلهم أنبياء، هذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- وعطائه لعبده إبراهيم -عليه السلام-، {كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ}، نوح هذا طبعًا أبو إبراهيم الأعلى، هداه الله -تبارك وتعالى- من قبل ذكر الله -تبارك وتعالى- هدايته، الآيات هنا في معرض من هداهم الله -تبارك وتعالى- من الأنبياء والرسل إلى هذا الدين، وأن هؤلاء هم صفوة خلق الله -تبارك وتعالى-، هم الذين هداهم الله -تبارك وتعالى- وأن الخارج عن هؤلاء خارج على الدين كله، {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ}، يعني من قبل إبراهيم هداه الله -تبارك وتعالى- فهو آدم الثاني، وهو أبو كل من جاء بعده من البشر، {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ}، من ذرية إبراهيم داود -عليه السلام-، آتاه الله -تبارك وتعالى- النبوة وآتاه الملك كذلك، وسليمان بن داود، وأيوب نبي من أنبياء بني إسرائيل، ويوسف بن يعقوب، ويعقوب بن إسحاق وابن إبراهيم، لذلك فيوسف تسلسل رابع، ولذلك لما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أكرم الناس قال أكرم الناس يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم، نبي بن نبي بن نبي بن نبي، فهذا كرم ككرم أصل... نعم، ويوسف وموسى من أنبياء بني إسرائيل، وهو كذلك من الذين جاءوا بعد يوسف، وهارون أخو موسى، وقد كانت نبوة هارون بدعاء موسى لربه -تبارك وتعالى-، ولذلك قيل إن أعظم منة منّها أخو على أخيه أو أتى بها أخو على أخيه منة موسى على هارون، لأنه طلب له النبوة من الله وقد كانت، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، وكذلك هذا الجزاء نجزي المحسنين، انظر كيف جازى الله -تبارك وتعالى- إبراهيم بأن جعل من نسله كل هذه الصفوة من الرسل، وكذلك كهذا الجزاء الذي يخبر الله -تبارك وتعالى- به نجزي المحسنين، فيثبت الله -تبارك وتعالى- أن إبراهيم كان من المحسنين فعل الإحسان، توحيد الله -تبارك وتعالى- والإيمان به والاستقامة على أمره هذا الإحسان.
كذلك {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى}، وكلهم من أنبياء بني إسرائيل، من نسل إبراهيم -عليه السلام-، {........ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}[الأنعام:85]، كذلك هؤلاء، وإسماعيل هذا الابن الأكبر لإبراهيم، وهو ابنه البكر، يعني ولد له من زوجته المصرية هاجر -عليها السلام-، قبل أن يولد له إسحاق، فإن أم إسحاق وهي سارة مكثت عقيمًا إلى أن كبر إبراهيم وكبرت هي وشاخت، ثم إن الله -تبارك وتعالى- رزقهم الولد بعد، كما في بشرى الله -تبارك وتعالى- لهم، قال {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}[هود:72]، {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}[هود:73]، فبكر إبراهيم هو إسماعيل؛ وهو أبو العرب، وإسماعيل من زوجته هاجر -عليها السلام-، أسكنهما إبراهيم في أرض فاران مكة بأمر الله -تبارك وتعالى-، ومن نسل إسماعيل كانت العرب كلهم، {وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا}، ابن أخ إبراهيم، كل هؤلاء الأنبياء قال -جل وعلا- {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}، كلًا من هؤلاء الأنبياء المذكورين فضلهم الله -تبارك وتعالى- على العالمين، فلوط كذلك ينسب إلى إبراهيم بأنه ابن أخيه، وابن الأخ كأنه من الذرية، {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}.
قال -جل وعلا- {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ}، يعني كذلك من آباء هؤلاء المذكورين ومن ذريات المذكورين هؤلاء وإخوانهم مهتدون إلى التوحيد، هداهم الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ}، الاجتباء هو الاصطفاء والاختيار، يعني اختارهم الله -تبارك وتعالى- واصطفاهم لهذا الدين، كما في وصية يعقوب لبنيه {........ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[البقرة:132]، اصطفى لكم الدين اختار الله -تبارك وتعالى- لكم الدين واختاركم له، هذا نعمة عظيمة من نعم الله -تبارك وتعالى-، أن يصطفى الله -تبارك وتعالى- عبدًا لدينه وهدايته، {........ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام:87]، وهو صراط الله، سمي هذا الطريق طريق الحق طريق الله صراط مستقيم لأنه لا ميل فيه ولا عوج فيه.
قال -جل وعلا- {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ........}[الأنعام:88]، ذلك المشار إليه إلى هذه الهداية وهذه الصفوة من هؤلاء الأنبياء والرسل، هُدى الله الذي هدى به هؤلاء الأنبياء ودينه الذي دان به هؤلاء الأنبياء والمرسلون، {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، يهدي الله -تبارك وتعالى- به من يشاء الله من عباده، قال -جل وعلا- {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، لو أشرك هؤلاء لو الشرطية وهي حرف امتناع لامتناع، فامتنع شركهم فامتنع إضلال الله -تبارك وتعالى- لهم، وذلك أنهم ثبيتوا على التوحيد، {وَلَوْ أَشْرَكُوا}، لو أشرك هؤلاء، {لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، لكان كل عملهم حابطًا، وأصل الحبط في لغة العرب هو داء يصيب الإبل تنتفخ بهذا الداء بطونها، فيظن من ينظر إليها أنها سمينة، والحال أن هذا النفخ الذي فيه إنما هو نفخ مرض، ثم بعد ذلك تسقط مرة واحدة وتموت، اُستُعير هذا الوصف الحبط لعمل الكافر والمشرك، فإن عمله يظهر منتفخًا منتفشًا كأنه شيء مفيد ونافع، لكنه في الحقيقة مرض شرك ثم ينتهي، إذا اكتشف حقيقته و علم أنه لا شيء، {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، يعني لهلك واضمحل ولذهب عملهم الذي عملوا بالشرك، فإن الشرك شيء لا يقبل الله -تبارك وتعالى- معه عمل قط، أي عمل من الأعمال الصالحة يصاحبه الشرك فإنه يهلكه ويحبطه، الله –تبارك وتعالى- لا يقبل من مشرك صرفًا ولا عدلًا، لا يقبل منه عملًا، {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}، أولئك يعني هؤلاء المذكورين السابقين، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}، يخبر الله -سبحانه وتعالى- أنه هو الذي آتاهم الكتاب، الكتب المنزلة كما أنزل صحفًا على إبراهيم، التوراة على موسى -عليه السلام-، الإنجيل على عيسى، الزبور على داود، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} ، جنس الكتاب الكتب، {وَالْحُكْمَ}، الحكم يعني على الأمور فهذا حكم، وكذلك الحكم الفصل في أي خصومة، فالحكم على الأمور طيبها وخبيثها، الشرك والتوحيد، الهدى والضلال، الحق والباطل، الصراط المستقيم والصراط الأعوج، الله -تبارك وتعالى- أعطاهم الحكم في هذا؛ الفصل في هذا، {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}، النبوة أصل النبوة من النبأ، والنبأ يعني النبي المنبأ، المنبأ يعني الذي أتته الأنباء، والنبأ هو الخبر العظيم، والنبوة يعني هذه الأخبار العظيمة من الله -تبارك وتعالى-، باختيارهم الله -تبارك وتعالى- واطلاعهم على ما شاء من غيبه وهدايتهم إلى طريقه -سبحانه وتعالى-، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ ........}[الأنعام:89]، هؤلاء المشار إليهم هؤلاء العرب، هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم على دين إبراهيم وعلى ملة إبراهيم وعلى منهجه ويفخرون بذلك، {........ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}[الأنعام:89]، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا}، بهذه الأمانة وبهذه الرسالة وبهذا الدين، {قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}، وهم من هداهم الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -جل وعلا- اصطفى لهذا الدين من أخذه وتمسك به تمسكًا عظيمًا من أجناس كثيرة غير العرب، أخذه الفرس وآمنوا به، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- «لو كان الدين في الثريا لأدركه قومًا من هؤلاء»، وأشار إلى سلمان -رضي الله تعالى عنه-، وأخذه من الأمم كلها من القبط ومن السريان ومن الكرد ومن الترك، أخذ هذا الدين من كل جنس من آمن به و اعتقده وجاهد في سبيله، وهذا إخبار غيبي من الله -تبارك وتعالى- وقد تحقق كما أخبر الله -تبارك وتعالى-، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ}، هؤلاء العرب المخاطبون بهذا القرآن بلغتهم، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}، أولئك المشار إليهم هؤلاء الأنبياء المذكورون، {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}، يعني الذين هداهم الله -تبارك وتعالى-، {هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}، قال الله لرسوله {فَبِهُدَاهُمُ}، يعني بهدى هؤلاء الأنبياء، {اقْتَدِهِ}، يعني اقتدي ، والاقتداء يعني اتخاذ الأسوة والمثل والقدوة، فخذ قدوتك وأسوتك بهؤلاء، {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}، قل للعرب المشركين لا أسألكم عليه أجرًا، لا أسألكم على هذا الدين أجرًا، علمًا أن هذا أعظم ما يمكن أن ينفع به إنسان إنسانًا، في أن يرشده إلى الطريق الذي به فلاحه في الدنيا والآخرة، ويبين له الطريق ويعلمه إياه، فالمهمة التي يقوم بها الرسول والنفع الذي ينفع به الناس هذا لا يوجد ما يماثله قط، فإن من أرشدك إلى طريق فلاحك ونجاحك في الدنيا والآخرة إلى أن تصل الجنة وتنجو من النار ما يمكن أخر يعطيك مثل هذا، فالطبيب يكشف علتك ويقول والله علتك ومرضك في كذا ، خذ هذا الدواء لتنتفع به؛ وقد تنتفع به، هذا هداك إلى شيء من نفع في بدنك نفع جزئي جدًا، هذا لا يمكن أن يقارن بهداية الرسول، وكذلك لو جاءك مهندس لو جاءك خبير لو جاءك من أعطاك ومن علمك ما ينفعك بأي نافعة لك في هذه الدنيا قدم لك معروف، فكل هذا شيء جزئي جدًا لا يساوي شيء، فأنت إذا أعطيت الطبيب على مشورته لك وعلى توجيهه إلى العلة التي بك والمرض الذي بك وطريق الشفاء مما أنت فيه، أو المهندس الذي صمم لك بيتك أو غيره ، تعطيه أجر يستحق هذا الأجر على عمله هذا، لكن أعظم من هؤلاء كلهم الرسول؛ الرسول الهادي، الذي هداك ويعلمك ويأخذك إلى طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ}، قل لا أسألكم أيها الناس على هذا الأجير أجر، على تعريفي إياكم بطريق الفوز في الدنيا والآخرة والنجاح وتعليمه لكم لا أطلب منك أجر على ذلك، أجري على الله.
{........ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}[الأنعام:90]، إن هذا القرآن المنزل وهذا الدين ذكرى للعالمين؛ لكل الأمم، لكل الأمم والشعوب، وقد أُرسل النبي للعالمين -صلوات الله وسلامه عليه-، كل من على الأرض من وقته ومن زمانه وإلى يوم الساعة، انظر هذا التشريف العظيم من الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلوات الله وسلامه عليه-، أنه لم يأت رسول لمهمة محدودة ولقوم محدودين لا هذه نذارة للعالمين، ومع هذا النذارة للعالمين والهداية للخلق أجمعين فإنه لا يطلب من أحد من هؤلاء أجرًا -صلوات الله وسلامه عليه-، أجره على الله لذلك فإن الله -تبارك وتعالى- يكافؤه المكافأة العظمى في أن كل من يهتدي لهذا الدين بدعوة هذا النبي الكريم -صلوات الله و سلامه عليه -، وبالدين الذي جاء به فللنبي أجر مثل أجر الفاعل، من دل على الهدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه لا يُنقص ذلك من أجورهم شيئًا، فله الأجر العظيم والمثوبة العظيمة من الله ولذلك ما يتقاضى أجر من أحد على هذا العمل يعني في هذه الدنيا، {........ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}[الأنعام:90].
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، خطاب كذلك جاء لهؤلاء اليهود والنصارى، الذين كانوا يكذبون ويدعون في حجاجهم وكذبهم مع النبي -صلوات الله وسلامه عليه- وكذلك في كذبهم على العرب، أنهم ينفون إرسال النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ورسالته، وأحيانًا ينفون كل الرسالات، قال -جل وعلا- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، قال -جل وعلا- {........ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}[الأنعام:91]، فالخطاب موجه إلى هؤلاء، انتقل الخطاب من الخطاب للعرب إلى الخطاب لهؤلاء اليهود الجاحدين، الذين قالوا في معرض الحجج والجدال قالوا {قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، يعني أن الله أرفع وأعظم من أن يعتني بهؤلاء البشر ويرسل لهم رسالة ، وإنما خلقهم هكذا ولم يرسل لهم شيء، ولهذا قال الله -عز وجل- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، فإن هذا اتهام لله -تبارك وتعالى- بالعبث، واتهام له -سبحانه وتعالى- بسوء الحكم تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فإذا كان الله لا يرسل على بشر ما أنزل رسالات ولا يأمر عباده بما يجب عليهم نحو إلههم ومولاهم -سبحانه وتعالى-، ولماذا وجدوا هنا في هذه الأرض وما هو الطريق الصحيح وما هو الطريق الباطل، وإنما خلق خلقه هكذا عبثًا وسدًى، فهذا اتهام لله -تبارك وتعالى- بالجهل والتضييع واللعب والسفه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فبهذا يأكل قويهم ضعيفهم ويفسق منهم من يفسق ويفجر من يفجر ويسرق ويفعل، وتفعل المنكرات ، ويتقاتل الناس ثم لا يكون حكومة ولا يكون بيان - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-.
قال -جل وعلا- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، الله -تبارك وتعالى- منزه عن العبث وعن اللعب، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115]، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون:116]، ينهى هؤلاء اليهود المجرمين مع انتمائهم في معرض اللجج والحجاج والكذب وهم قوم بهت، يقولون {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، فأنكروا الرسالات كلها التي أنزلها الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، بشر منهم، وقد كان أيضًا في اعتقاد العرب أن البشر لا يمكن أن يكونوا رسلًا ، فلا يمكن أن يختار الله -تبارك وتعالى- رسولًا بشرًا ويجعله بين الناس، بل لو كان الله يريد رسالة؛ أن يرسل رسالة إلى أهل الأرض، فينزل ملك حتى يعلمهم هذه الرسالة، أمّا أن يكون بشرًا فلا، قال -جل وعلا- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، البشر إنسان، وسمي البشر بشر قيل لأن بشرتهم ظاهرة بخلاف الحيوانات الموجودة على الأرض، فإن كل حيوان يغطي بشرته شيء، شعر، وبر، صوف، هذا يغطي بشرة الحيوانات أما الإنسان من جملة هذه الحيوانات فإن بشرته ظاهرة، {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، قال -جل وعلا- {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}، احتجاج على اليهود، من أنزل الكتاب وهو التوراة الذي جاء به موسى -عليه السلام- النبي من أولي العزم من الرسل، نورًا وهدًى للناس حال كونه نورًا وهدًى للناس التي هي التوراة، كما قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}، فهي حكم ونور وهداية ودعوة إلى طريق الرب -جل وعلا-.
{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}، فهذا الكتاب لا تجعلونه مجموعًا بين دفتين وإنما يجعلونه في أوراق متفرقة، حتى يحتجوا بما شاءوا على الناس ويخفوا ما شاءوا، وهذا من مكر أساطيرهم وكبرائهم على صغارهم وضعفائهم وعامتهم، فحتى لا يحتج عليهم بما في التوراة من شيء يكونوا هم مخالفين أو يفتوا بخلافه في أمر من الأمور، فيأتوا بالورقة أو القرطاس الآية التي تناسب قولهم ويخفوا الباقي، {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ}، يعني أوراق متفرقة، {تُبْدُونَهَا}، يعني هذه القراطيس، {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}، من هذه الأوراق القراطيس التي فيها آيات أخرى، وهذا طبعًا فضح لعملهم هذا وأنهم يعملون هذا ليحتجوا بما شاءوا على عوامهم، {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ}، علمتم ما لم تعلموا من الدين المنزل، {مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ}، إلا بهذا الطريق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-، و كذلك آبائكم لم يكونوا يعلمون الطريق إلا بما أنزله الله -عز وجل-، {قُلِ اللَّهُ}، قل الله الذي أنزل هذا -سبحانه وتعالى-، {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}، يعني إذا احتججت عليهم بهذا فاتركهم في خوضهم يلعبون و لا تسافههم ، وإنما اتركهم، {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}، الله هنا جواب على هذا السؤال الذي هو للتقرير، {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}.
ثم قال -جل وعلا- {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[الأنعام:92]، وهذا الإشارة إلى القرآن، الكتاب سماه الله -تبارك وتعالى- كتاب لأنه مكتوب في السماء، ثم أنزله الله -تبارك وتعالى- قراءةً من جبريل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم كتبه النبي في الأرض فهو مكتوب، قال -جل وعلا- {وَهَذَا كِتَابٌ}، القرآن، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ}، أنزله الله -تبارك وتعالى-، {مُبَارَكٌ}، حال كونه مبارك، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}، صفة للكتاب أن هذا الكتاب مبارك، {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، البركة هي الزيادة والخير والقرآن مبارك في كل شيء، بركة القرآن أولًا في زيادة من يؤمن به، فلا يوجد كتاب أنزله الله -تبارك وتعالى- في الأرض له من القارئ ومن الكاتب ومن التابع ومن الحافظ ومن التالي كهذا القرآن، فهو أعظم كتاب كُتب وأعظم كتاب قُرئ وأعظم كتاب ذُكّر به وأعظم كتاب اهتدى به المهتدون، وأعظم كتاب خشع لقرائته الخاشعون وبكى من مواعظه الباكون، ما في كتاب له مثل هذا، فبركته في زيادة وكثرة من آمن بالله -تبارك وتعالى- عن طريقه وعن موعظته، كذلك هو كتاب مبارك في ثماره، فإن الله -تبارك وتعالى- جعل من قرأ حرفًا من هذا القرآن له عشر حسنات، كما جاء في الحديث «من قرأ حرفًا في كتاب الله أعطاه الله عشر حسنات، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، لام حرف، ميم حرف»، فهذه البركة في قرائته وتلاوته وحفظه، البركة والزيادة والنماء في حفظه أمر عظيم، كما قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه- «الذي يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه له أجران، والماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، يقال لقارئ القرآن اقرأ ورتل وارتقي كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عن آخر آية تقرأها»، فهذا أمر عظيم، بركة القرآن بالتعليم، فإن هذا القرآن أنزله الله -تبارك وتعالى- تبيانًا لكل شيء، فبركات القرآن لا تعد، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[الأنعام:92].
لأن الوقت أدركنا فإن شاء الله نكمل في بيان هذه الآية في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.