الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (176) - سورة الأنعام 91-94

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فإن خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمد -صل الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

وبعد فقد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك تعالى- {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[الأنعام:92]، وقلنا أن هذه الآية جائت في معرض رد الله -تعالى- على هؤلاء المشركين واليهود، الجاحدين المعاندين من أهل الكتاب الذي قالوا {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، فأنكروا أن يتخذ الله -تبارك وتعالى- من البشر رسلًا إلى الناس، وأن هذا لا يتأتى من فعل الله -تبارك وتعالى-، شأنهم في ذلك شأن من مضى من المكذبين بالرسل، من أنهم أنكروا أن يختار الله -تبارك وتعالى- رسولًا من البشر، يرسله الله -تبارك وتعالى- إليهم، قال -جل وعلا- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، وكونهم أنهم لم يقدروا الله حق قدره وذلك أن عدم إرسال الرسل إلى الناس لبيان الطريق؛ طريق الرب -تبارك وتعالى- وهدايته وصراطه المستقيم, معناه أن الله -تبارك وتعالى- قد خلا خلقه هملًا، وتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم، وبالتالي  يكون هذا الكون ليس له هدف وليس له غاية، يكون قد خلقه الله -تبارك وتعالى- عبثًا ولعبًا، تعالى الله عن ذلك، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115]، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}، فإن الله -تبارك وتعالى- لم يخل عباده من الرسالة، بل قبل أن ينزل آدم ويهبطه إلى هذه الأرض قال {........ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:123]، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ........}[طه:124]، وهذه السماوات والأرض لم تخلق إلا بالحق، قال {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27]، فهؤلاء الذي أنكروا الرسالات إنما يطعنون في حكمة الرب -تبارك وتعالى-، وينسبونه –سبحانه وتعالى- إلى السفه وإلى اللعب، وأنه خلق خلقًا بلا هدف وبلا غاية وبلا نظام وبلا تشريع، تعالى الله عن ذلك.

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، إحتج الله -تبارك وتعالى- اليهود، قال {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ}، أي أوراق متفرقة تبدونها, ليوافق هذا أهوائهم ويفتوا لأقوامهم بما يشاؤون، {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}، مما قد يحتج به عليهم، ولترك عامتهم في جهالة، ويبقى علم الشريعة عند طائفةٍ خاصة منهم يتلاعبون بالدين كما يشاؤون، {........ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}[الأنعام:91]، هذا الخوض الشديد جدًا سماه الله -تبارك وتعالى- لعب؛ لأنه قول بلا علم كفعل اللعب، وويل لهم من هذا، قال -جل وعلا- {وَهَذَا} أي المنزل القرآن {وَهَذَا كِتَابٌ}، مكتوب، سماه الله -تبارك وتعالى- كتابًا لأنه كتبه -سبحانه وتعالى- في السماء في اللوح المحفوظ، نزل مقروءًا, كلام الله -تبارك وتعالى- على سمع جبريل، وجبريل أتى بهذا القرآن وألقاه على سمع النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وأمر النبي بكتابته في الأرض، فهو كتاب لم يكتب كتاب في الأرض مثل كتابته ولم يقرأ مثل قراءته.

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}، حال كونه مبارك، وصف الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب أنه مبارك، {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، وبركة الكتاب من نواحي كثيرة، أول شي الكثرة الهائلة العظيمة في من يؤمنون بطريقه، فإن هذا الكلام لا يلامس القلب الواعي إلا وحوله إلى الدين، فهو كتاب هداية وهو كتاب بصائر، هدى الله -تبارك وتعالى- به من شاء من عباده. هذا الجم الغفير والكثرة الكاثرة من الناس كانت بسبب إنزال هذا الكتاب، كذلك هو معجزة قاهرة باقية إلى يوم القيامة، فبركته في إعجازه الباقي إلى يوم القيامة، بركته في الثمار المترتبة عليه عظيمة، من قرأ حرفًا من كتاب الله أعطاه الله عشر حسنات، ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة))، ((يقال لقارئ القرآن إقرأ وإرتقي ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها))، فهذه بركة عظيمة للقرآن، بركات القرآن لا تنحصر.

{مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، يعني أن الأخبار التي جائت فيه من أخبار السابقين تصدق ما أنزله الله -تبارك وتعالى- في الكتب التي سبقته، فإذا قرأنا ما الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- عن نوح وعن إبراهيم وعن موسى وعن يوسف -عليه السلام-، وقارنا هذا المنزل في القرآن بما كان في الكتب السابقة لوجدنا تطابق, تصديق لهذا، مع تصحيح القرآن لما إفتراه اليهود والنصارى في كتبهم عن الله -تبارك وتعالى-، {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، أي من الكتب بأن يصدقها في الصدق الذي جائت به، من الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وتوحيده وعبادته والأخبار السابقة، سواء كانت الأخبار من أول آدم أو الأخبار التي قبل آدم من خلق السماوات والأرض وخلق الله -تبارك وتعالى- لآدم، وإنزاله إلى الأرض وخلق الجنة وخلق النار، {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}.

ثم قال -جل وعلا- {........ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[الأنعام:92]، يعني أنزلنا هذا القرآن؛ هذا المبارك لتنذر أم القرى مكة، سماها الله -تبارك وتعالى- أم القرى أولًا لإختيارها، إختيار هذا المكان منذ خلق السماوات والأرض إختار هذا المكان وفضله على كل الأمكنة، كما قال النبي «إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض»، ثم لجعل الله -تبارك وتعالى- الرسالة الخاتمة من رسالاته في هذا المكان، والتي تنطلق منه إلى كل العالم، فأصبحت هذه الأم؛ أم العالم، أم قرى العالم كلها هذه لأن منها تنطلق رسالة الله -تبارك وتعالى-، التي يؤمها بعد ذلك كل من شاء الله -تبارك وتعالى- هدايته من أفراد العالم، التي ينطلق الشعاع والنور منههنا. سماها الله أم القرى، كذلك قد قال النبي «حُولت إلى قرية تأكل القرى المدينة»، فمن أم القرى مكة بعث الله -تبارك وتعالى- هذا النور المحمدي، نور الإسلام ليغطي الأرض، {وَمَنْ حَوْلَهَا}، ومن حول مكة من القرى، {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}.

قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}، حصر الله -تبارك وتعالى- الذي يؤمنون بالقرآن هم الذي يؤمنون بالآخرة، وذلك أن الإيمان بالآخرة وما فيها من الحساب والوقوف والقيام بين يدي الرب -تبارك وتعالى-، هذا من آمن به قدَّر كل شيء، فيؤمن بالقرآن, يؤمن أن هذا كتاب الله -تبارك وتعالى-، أما الذي لا يؤمن بالآخرة فإنه يصم آذانه ويعمي بصره عنها، لا يسمع لكلام الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، وفي هذا كذلك تعريض بهؤلاء أنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولذلك لا يؤمنون به، لأنهم لما استحال عندهم - عند العرب- أن يعيد الله -تبارك وتعالى- الخلق مرة ثانية،  حيث إنه قد كان هذا الأمر محال على الله عندهم؛ يعتقدون أنه يستحيل على الله مع إعتقاد أنه خالق السماوات والأرض أن يعيدهم مرة ثانية إلى الحياة والوجود؛ ولذلك لما كانت هذه القضية عندهم عقيدة مستقرة ثابتة في كيانهم، يرون أن الإيمان بها يخالف العقل ويخالف المنطق, فقد كانوا يقولون }أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ{ [المؤمنون:82], {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ........}[السجدة:10]، هذا أمر يروه في غاية المستحيل، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس:78]، هذا يقوله هذا الكافر إستبعادًا لأن يكون الله -تبارك وتعالى- عنده القدرة على أن يعيدهم مرةً ثانية، وأصبح هذا الدين عامٌ لهم، كما قال الله عنهم {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ}، إدارك يعني تناقص شيئًا فشيئًا، {........ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}[النمل:66]، وصل الحال إلى العمى الكامل عنها، فلما كانوا ينكرون الآخرة والبعث والنشور أنكروا بعد ذلك كل ما يترتب على هذا الأمر، من تصديق النبي -صل الله عليه وسلم-، من تصديق القرآن، عموا عن كل هذا، رأوا أن هذا أمر يخالف المنطق ويخالف العقل ولذلك لم يأبهوا به، فالله يقول -سبحانه وتعالى- {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، الذين يعتقدون بالآخرة حقيقة، {يُؤْمِنُونَ بِهِ}، وذلك أن من آمن بالآخرة آمن بالبعث وبالنشور لا شك أنه يصدق كلام الله -تبارك  وتعالى-، ويسهل عليه أن يفهم أن هذا محمد إبن عبد الله وهو رسول الله، ويسهل عليه أن يرى أن هذا القرآن هو من عند الله -سبحانه وتعالى-.

{........ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[الأنعام:92]، يعني ليس فقط مجرد تصديق لهم بل هم كذلك مستقيمون على أمر الله، ويحافظون على صلاتهم, والصلاة هي عماد الدين، وهي أعظم ما وضع الله -تبارك وتعالى- لعباده في الأرض من العمل، الصلاة خير موضوع، {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}، فهم مؤمنون مصدقون عاملون بمقتضى هذا التصديق، ثم هذا عملهم أنهم محافظون على صلاتهم لله -تبارك وتعالى-، فهم في قلوبهم مؤمنون وبعملهم هذا الترجمة العملية؛ الصلاة هي الترجمة العملية لهذا الإيمان، {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}، ومعنى المحافظة على الصلاة المداومة عليها ما يقطع شيء منها، كذلك أدائها في أوقاتها، فعل شرائطها، القيام بأركانها، كل هذا يأتي من معاني المحافظة على الصلاة، {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعا:93 و94].

 قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، سؤال يراد به التقرير يعني لا أحد أظلم من هذا، والافتراء هو اختلاق الكذب، يختلقه من عند نفسه، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، أي كذب على الله، لو قال أحل الله كذا، حرم كذا، يريد كذا، لا يفعل كذا، لا يفعل كذا، وهو كاذب في هذا؛ لا أحد أظلم من هذا، لأن يكذب على الله -سبحانه وتعالى- هذا أعظم الذنب، وأعظم الفرى الكذب على الله -تبارك وتعالى-، لأن كلام الرب هداية وتشريع؛ هذا كلام الله، فإذا قيل أن هذا كلام الله, فهو كلام منسوب إلى الله عندما يأمر الله خالق السماوات والأرض فإذا كان قال أمر الله بهذا؛ هذا لازم، نهى عن كذا هذا لازم، أحل كذا هذا حلال، حرم كذا هذا حرام، فعل الله -تبارك وتعالى- فعله تشريع وهداية وحكم، فإذا نسب أي كلام اختلقه من عند نفسه ونسبه إلى الله -تبارك وتعالى- يبقى جعل هذا الكلام حكم وهداية وتشريع.

{أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}، هذا من الكذب على الله، وهذا النوع من أنواع الكذب أكبر كذلك؛ أكبر الكذب، يعني الكذب على الله -تبارك وتعالى- كله من أي فردٍ كان من أعظم الذنب، ومن أعظم الكذب أن يقول شخصٌ إنني نبي أوحي إلي يعني أوحى الله إلي، والحال أن الله -تبارك وتعالى- لم يوحي إليه، لأن من قال ذلك أوحي إلي معناه أن الله قد إختاره ويصبح كلام هذا المختار دين وتشريع، ما دام أن الله قد إختاره هذا وأرسله أو جعله نبيًا فإذن جعله مثالًا للناس، جعل كلامه دينًا، تشريعه دينًا، قوله دينًا، إذا قال هذا حلال أو هذا حرام فهذا حكم، وبهذا يكون قد نسب نفسه للرب -تبارك وتعالى- ويتكلم وكأنه يتكلم بإسم الله -تبارك وتعالى-، {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}، يعني لا أحد أظلم من هذا، {وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ}، هذا في الطرف الأخر الذي هو ما نسب نفسه لله ولكن تحدى الرب -تباك وتعالى-، وقال أنا سأنزل مثل ما أنزل الله حكمًا، تشريعًا، هدايةً، نظامًا، قصصًا، كلامًا، فإذا تحدى وقال {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ}, قال أعارض القرآن بمثله في إعجازه، فلا أحد أظلم من هذا، أعارض القرآن بمثله في تشريعه، الله يشرع كذا أنا أشرع تشريع مثل ما شرع الله، آتي بكلام حسن وجميل, فيه قصص وحديث أجمل مما أنزل الله، كما قال بعض كفار مكة : (تعالوا ) كان إذا النبي -صل الله عليه وسلم- إنتهى من مجلسه، في تعليم الناس ووعظهم، في قراءة القرآن عليهم، يقول لهم تعالوا أنا عندي من أخبار رستم وسفنديار وأخبار حكماء الهند كلامًا أجمل وأحسن من كلام محمد، ثم يأتي ويقص عليهم من هذه القصص، فمن {قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} في أي صورةٍ من صور هذا التشبيه بين ما أنزله الله -تبارك وتعالى- تشريعًا أو قصصًا أو حكمًا أو إعجازًا، {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ}، لا أحد أظلم من هذا كذلك، المتحدي للرب -تبارك وتعالى-  الذي يقول {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ}.

قال -جل وعلا- {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}، أي ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والجواب محذوف تقديره لرأيت أمرًا مهولًا. هنا يذكر الله -تبارك وتعالى- بهم في حال ضعفهم، وفي حال قبض أرواحهم، هذا حال الذي يُنتزعون من هذه الأرض، طبعًا الحال الأولى هذه حال وهم في الحياة الدنيا, يقولون ويفتخرون ويكذبون على الله -تبارك وتعالى- يتبجحون بما يتبجحون، هذه الحال الأولى، الحال الثانية عندما يأتي هؤلاء الموت، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ}، سماهم الله -تبارك وتعالى- بالظالمين لأن كل هؤلاء ظالمون، الذي إفترى على الله كذبًا، الذي قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، مثل الذين إدعوا النبوة مثل سيلمة الكذاب، سجاح، الأسود العنسي، المختار إبن أبي عبيد الله الثقفي وغير هؤلاء ممن إدعى النبوة، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ}، أي هؤلاء الذين إفتروا على الله -تبارك وتعالى-، والذين تبجحوا وقالوا سننزل مثل ما أنزل الله، {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}، غمرات جمع غمرة، والغمرة ما يأتي على الشخص ويغطيه؛ أي شيء يغطيه، والموت له سكرات إذا جاء بثقله على الإنسان عند نزع الروح فإنه يذهب إحساسه؛ يغمى عليه، ثم قد يفيق ثم يأتيه شدة أخرى من شدة نزع الروح فيغمى عليه، فقال -جل وعلا- {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}، أي في سكراته وحال كونه يغطي على عقولهم عند نزع الروح.

{وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ}، الملائكة؛ ملائكة العذاب باسطوا أيديهم لهؤلاء الذين تأتي لأخذ أرواحهم، باسطوا أيديهم بالضرب، البسط بسط اليد هو مدها، وهنا يمدونها بالضرب كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ........}[الأنفال:50]، {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ}، يعني الملائكة يتوفون الكفار يضربون وجوههم، وأدبارهم أي خلف ظهورهم، {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ}، بالضرب لهم، {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ}، هذا أمر للإستهزاء بهم، أي أخرجوا أنفسكم من سكرات الموت، من الموت وأنتم تنُزع منكم الروح، هل تستطيع أن تخرج نفسك وترجع إلى الحياة مرةً ثانية، يقول لهم {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ}، من العذاب والهلاك الذي أنتم فيه وقادمون عليه، {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}، اليوم عندما تنُزع أرواحكم وترجعون إلى الرب -تبارك وتعالى- تجزون؛ الجزاء هو أن يأخذوا نصيبهم مكافأة عملهم الذي عملوه، {عَذَابَ الْهُونِ}، الهون الذلة أي عذاب تذلون فيه، وذلك أن عذاب الله -تبارك وتعالى- له ألوانه، فهو مؤلم وهو في ذات الوقت مهين لهم، المؤلم مثلًا الوضع في النار إيلام، لكن عندما يوضع في النار دزًا فهذه إهانة، أو يؤخذ إليها سحبًا على وجهه فهذه إهانة، وعندما يطرق بمطرقة الحديد على رأسه هذه إهانة، وعندما يصب من فوق رؤوسهم الحميم يكون هذا إيلام وإهانة ففيه إهانة، ثم عندما يبكت ويعير ويقال له {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، يقول له {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}[الدخان:50]، يقول له {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:15]، فكذلك يقرع بأنواع التقاريع، ويذكر بما سلف من إجرامه ومن تكذيبه، وعندما يحتقر نفسه وهو في النار يقول له الله يمقتك أكثر من مقتك لنفسك، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}[غافر:10]، فالملائكة تقول لهم {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}، عذاب الذلة والهوان، {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ}، بما: بسبب أي بسبب قولكم على الله غير الحق، إذ أنكم كنتم تقولون على الله غير الحق، {وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}، أي عن آياته هذه المنزلة من عنده -سبحانه وتعالى-، تستكبرون أن تخضعوا لها، أن تذلوا لها، أن تؤمنوا بها،  فتكبرتم وتعاليتم أن تؤمنوا بآيات الله وأن تسلموا لها.

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، إعلام من الله -تبارك وتعالى- أن يقال لهم {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا}، أي أيها المفترون المكذبون، {فُرَادَى}، واحدًا واحدًا، فردًا فردًا، {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي عرايا غير مختونين, حفاةً بلا أنصار وبلا جنود وبلا حشم وبلا خدم، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى}، وهذا منتهى الضعف والذلة، بدون الحاشية والأعوان والجنود والأبناء، {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، عريانين كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إنكم تحشرون إلى الله –تبارك وتعالى- حفاة عراة غرلا»، ثم قرأ النبي قال {........ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]، {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}، {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ}، ما خولناكم الخول هو إعطاء، ما أعطيناكم في هذه الدنيا، وأنها أي كل الذي يعطاه الإنسان إنما هو أمر عارض يأخذه ثم يأخذه غيره وهكذا، {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ}، أي من المال والدور والقصور والزوجات والأولاد والخدم وغير ذلك كله تركتموه، {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}، أي في الدنيا، {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}، {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ}، هذا إستهزاء بهم، إستهزاء بهم يعني ما نرى معكم شفائكم، سموهم شفعاء وذلك أنهم ظنوا أن هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله -تبارك وتعالى- تشفع لهم عند الله، كما الشأن في كفار العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله يشفعون لهم عند الله، وأن هذه الآلهة التي يعبدونها كذلك هم شفعاء عند الله، كما قال -تبارك وتعالى- {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، فقالوا أن هؤلاء  لا نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله -تبارك وتعالى- فهم شفعاؤنا، وقال -تبارك وتعالى- {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، أي عبدناهم ليشفعوا لنا عند الله، فالله يقول {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}، أي أن هؤلاء الآلهة فيكم شركاء لله، أن لهم شرِكة مع الله سواء كانت هذه الشركة شركة خلق وتصريف, كما يقول النصارى في عيسى إبن مريم -عليه السلام-، أو شركة شفاعة وشفاعة لازمة عند الله -تبارك وتعالى-, كما يقول مشركوا العرب، أو شركة صفات كما عُبد من عبد من البشر ومن غيرهم وإعتقد عبّادهم أنهم يشركون الله -تبارك وتعالى- في صفاته، يعني أن لهم شيء من الخلق، من الرزق، من الإحياء، من الإماتة، من التصريف، وأنهم يتصرفون ولو في بعض المخلوقات كتصريف الرب -تبارك وتعالى-، ومن أجل هذا عبدوهم من دون الله.

{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}، قال -جل وعلا- {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}، الأسباب كلها، كل أسباب المودة والصلات والمحبة التي كانت بينكم تقطع بينكم، {وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، أي ضاع وذهب عنكم ما كنتم تزعمون، كل الذين تزعمونه من أن هولاء هم أوليائكم وهم شركائكم وهم سيشفعوا لكم عند الله -تبارك وتعالى-، كل هذا تركتموه، وضل عنكم, بمعنى أنكم لم تعودوا تفكروا فيه، وإنما أصبح فكركم الآن في كيف المخرج مما أنتم فيه الآن بعد أن ظهرت الحقائق، كما قال -جل وعلا- {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]، وتقطعت بهم الأسباب بين هذه الآلهة التي كانت تعبد وبين من يعبدها، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ}، لو أن لنا كرة إلى الدنيا، ، {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}، قال -جل وعلا- {........ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]، فهنا يقول لهم الله -عز وجل- {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}، أيها الأتباع والمتبوعون الذين تناصرتم وتعاقدتم على الباطل، وهؤلاء الأتباع الذين إتخذوا متبوعيهم أولياء لهم من دون الله، {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}.

الحمد لله رب العالمين، نقف هنا ونكمل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.