الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا ومحمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فقد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:94]، خطاب من الله -تبارك وتعالى- إلى هؤلاء الذين ادعوا أن لآلهتهم التي يعبدونها شريكًا مع الله -تبارك وتعالى-، وهو تهديد منه -سبحانه وتعالى- إلى الذي افتروا على الله الكذب، قال {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ}، وبيَّن الله -تبارك وتعالى- حالهم حين الموت، فقال {........ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}[الأنعام:93]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى}، لما متم؛ متم واحدًا واحدًا وأتوا إلى الله -تبارك وتعالى- {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، عرايا هذا بعثهم يوم القيامة يأتون ويحشرون إلى الله عراة حفاة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}، {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}، الآلهة التي عبدتموها من دون الله، واعتقدتم أن لها شراكة مع الله -تبارك وتعالى-، شرِكة في صفاته، شريكة في حقوقه، شريكة في خلقه -سبحانه وتعالى-، تعالى الله عن ذلك، يقال لهم أين هؤلاء الشركاء الذين زعمتهم أنهم شركاء لي؟!، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي}، الذي زعمتم، {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}، وجاءت هذه العبارة بهذا السياق للاستهزاء بهم والسخرية بهم، أينكم ما نشوف معكم ولا نرى معكم هؤلاء الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء في الدنيا، ثم قال -جل وعلا- {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، هنا بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- هوان العابد والمعبود التابع والمتبوع، العابد والمعبود من هؤلاء الذي عبدوا غير الله -تبارك وتعالى-، التابع والمتبوع ممن تناصروا على الباطل، وتركوا دين الله -تبارك وتعالى-، هوانهم وذلتهم يوم القيامة.
شرع الله -تبارك وتعالى- يبين عزته أنه الرب الإله، الذي يستحق وحده العبادة -سبحانه وتعالى-، فقال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}، الله الذي يدعوكم لعبادته هذه صفاته، {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[الأنعام:95]، هذا الرب؛ هذا هو الرب الإله الذي يستحق العبادة -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ} -سبحانه وتعالى- الله الاسم الأعظم على ذات الرب -تبارك وتعالى-، والذي ترجع بعد ذلك كل الأسماء إليه، ومعنى الله الإله، ومعنى الإله يتضمن تحت معنى الإله كل معاني أنه الخالق الرازق القوي المتصرف المدبر، أن هذا كل الوجود مدين له يصمد إليه، هذا معنى الألوهية؛ لأنه لا إله إلا كذا، لا إله إلا هكذا، لا يكون الإله إلا خالقًا رازقًا متصرفًا مالكًا لعابده، مالكًا لنفعه وضره فهذا الذي يستحق الألوهة، ولذلك كان اسم الله هو الاسم الأعظم لله -تبارك وتعالى-، قال إن {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}الله هذا فالق الحب والنوى، الحب هذا البذر لكل هذه الزروع الصغيرة كالقمح والشعير والفول والعدس، هذا حب, والنوى هذه البذرة لكل الأشجار كالنخلة والمشمش، التفاح، هذه الثمار داخلها نوى، فالبذرة التي في داخل هذه الثمار نوى، والحب الذي نأكله وهو بذور هذه المزروعات حب، وعلى الحب والنوى أي الزروع والثمار يحيا الخلق، الحيوان الإنسان.
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}، دل الله -تبارك وتعالى- على شيء هنا في هذا الخلق من عظيم قدرته -سبحانه وتعالى-، وهي فلق الحبة وفلق النواة، عملٌ عظيمٌ جدًا وسرٌ كبير من أسرار الخالق -سبحانه وتعالى-، فإن الحبة توضع في باطن الأرض ثم تنفلق، فيخرج منها الساق الذي يدفع التربة صاعدًا إلى أعلى، ويخرج منها الجذر الذي ينزل إلى أسفل التربة ليتمكن فيه، الذي يفلق الحب على هذا النحو ويخرج منه الزرع، ويفلق النواة؛ النواة الصلبة نواة النخلة مثلًا أو نواة المشمش مثلًا، تُفلق هذه النواة ويخرج جنينها ساق الشجرة إلى أعلى وجذرها إلى أسفل، هذا فعل لا يقدر عليه إلا الله -تبارك وتعالى-، هذا فعل الرب -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ}، وكم في هذه الأرض من هذا الحب الذي يفلقه الله، وكم فيها من نوى يفلقه الله -تبارك وتعالى- للنبات، {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}، والله الذي يفعل هذا كما قال -جل وعلا- في آية أخرى {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ(64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}[الواقعة:63-65]، {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}.
أنظر ما بعد فلق الحب والنوى من بديع الخلق لله -تبارك وتعالى-، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}، الحي الزرع، والميت الحب, والنوى كان ميت مستكن، فهذا في استكنانه موت، وكذلك {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}، فالله -تبارك وتعالى- كذلك هو مخرج الميت من الحي. الحب والنوى من الزرع والثمار، وكذلك كلمة الحي والميت تشمل أكثر من هذا، كل حياة سواءً للحيوان أو للنبات هذا كلها يخرجها الله -تبارك وتعالى- من موت قبلها، وكذلك هذا الحيوان وهذا النبات بعد حياته يتحول بعد ذلك إلى الموت، فالإنسان -نحن- كنا أموات فأحيانا الله -تبارك وتعالى-، ثم بعد ذلك بعد هذه الحياة يميتنا الله -تبارك وتعالى-، ولذلك الكافر يعترف يوم القيامة {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}[غافر:11]، أمتنا اثنتين الموت كنا أمواتًا، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة:28]، كنا أمواتًا لم نكن شيء، أو كنا من مواد هذه الأرض، ثم بعد ذلك أحيانا الله –تبارك وتعالى- في بطون أمهاتنا، ثم يميتنا ونقبر ثم يحيينا الله -تبارك وتعالى-، فالله يخرج الحي من الميت نباتًا وحيوانًا، {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ}، ذلكم بالإشارة للبعيد تعظيمًا لشأن الرب -تبارك وتعالى-، {اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، فأنى تؤفكون أنى كيف؛ كيف تؤفكون؟ الإفك هو أصل الإفك أفكه بمعنى قلبه، يعني تنقلبون على رؤوسكم هكذا شأن من لا يفقه، فأنى تؤفكون أي تنكسون على رؤوسكم فلا تفهمون، بمعنى كن مستويًا حتى تفهم ما يقال لك، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، تصرفون وتقلبون عن هذا الحق الواضح، هذي صنعة الرب -تبارك وتعالى- وهذه آلائه وهذا فعله، هل يصرف الإنسان عن هذا الإله ليعبد غيره مما لا يخلق شيئَا! {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[النحل:17]، {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[الأنعام:95].
{فَالِقُ الإِصْبَاحِ}، الليل يغطي بظلمته الأرض، ثم يأتي النهار فيشق هذه الظلمة من الأفق، يشقها ثم يزيح الليل شيئًا فشيئًا حتى يزيحه، فظهور نور الفجر في الأفق نجد أنه يفلق جسم الليل المظلم، فيشقه ثم بعد ذلك يزيحه، فالق إذ سُمى الله -تبارك- بهذا, فلق الصبح، فلق لأنه شق وأزاح هذا الليل عن وجه الأرض، {فَالِقُ الإِصْبَاحِ}، الذي يفعل هذا الأمر العظيم، هو الله. وقد رأى البشر بعد تقدم علومهم أن هذا الأمر كائنٌ بأن هذه الأرض التي يعيش عليها كل هؤلاء البشر في حركتها نحو الشمس يكون فعل الليل والنهار، وهذا أمر يفوق الوصف، إذ قدرة الرب -تبارك وتعالى- في حمل هذه الأرض كلها لتبقى كرة هكذا معلقة في هذا الفضاء، وتدور دورتها حول نفسها ثم دورتها بعد ذلك حول الشمس على هذا النحو في حسابٍ دقيق، هذا أمر لا يقدر عليه إلى الرب -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر:41]، {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ........}[الأنعام:96]، جعل الليل سكنا للمخلوقات، النبات يسكن فيه، والحيوان يسكن فيه، والإنسان يسكن فيه، والسكون هو الهدوء والراحة، والظلمة مناسبة للهدوء والراحة، فجعل بمعنى أنه خلق؛ خلق الله -تبارك وتعالى- الليل سكنا لكم، وهذا السكن والراحة لازمة للإنسان، لولاها لما بقي الخلق؛ الخلق لا يبقى، فإنه لو كان النهار مستمرًا أبدًا لانتهت قدرة هذا الإنسان، لاحترقت الأرض، لم يجد الإنسان وقت لراحة قواه، لهُدت قواه في وقت قصير ينتهي بعدها ويهلك بعدها، فالله جعل لكم الليل سكنا، أنظروا هذا؛ هذا فعل الرب -تبارك وتعالى-.
{وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا}، الشمس التي هي وراء هذا الليل والنهار، والقمر الذي هو آية الليل، جعله الله -تبارك وتعالى- حسبانا، حسبانا مبالغة من الحساب، لم يقل حساب قال حسبانا، وهذا الوزن الذي هو على وزن فعلان يأتي للمبالغة الامتلاء، وحسبانا أي أنه حساب دقيق لا يتخّلف ولا يتغير، وقد علم البشر اليوم من تتبعهم لحركة الشمس والقمر أن هذه الحركة منضبطة، بحيث أن الشمس لا تتخلف ولا تتغير في دورانها ونظامها وجريانها ولا جزء من مليون جزء من ثانية، وكذلك أمر القمر في دورته حول هذه الأرض، ودورة الأرض كذلك حول نفسها وحول الشمس بقمرها هذا الذي يدور حولها، كله منضبط انضباطا يفوق الوصف في الحساب، فالله يقول {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي بحساب دقيق، كما قال -جل وعلا- {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، أي هذا الضبط الهائل وأنه كل شيء يجري في مساره في وقت محدد لا يتخلف، {تَقْدِيرُ}، إعطاء كل شيء قدره ومقداره، {الْعَزِيزِ}، الغالب الذي لا يغلبه شيء -سبحانه وتعالى-، فالله هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، ولذلك هو قهر الشمس وقهر القمر وقهر النجوم وقهر هذي وقهر الأرض، كل شيء من هذا مقهور مربوب يسير في حسابه الدقيق، كما قال -جل وعلا- {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11]، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ........}[فصلت:12]، فالسماء والأرض تأتي الله -تبارك وتعالى- طائعة مسخرة مذللة لأمره -تبارك وتعالى، لا تتخلف بشيء عن أمره -سبحانه وتعالى-، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ}، العز الغلبة، يعني الغالب, العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه أحد، فالله هو العزيز -سبحانه وتعالى-، العزة في لغة العرب هي الغلبة، ولذلك يقولون من عز بز يعني من غلب أستلب، {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، وهذا من علمه -سبحانه وتعالى-، هذا من علمه أن يجعل هذه المخلوقات بهذا الحساب الدقيق هذا من كمال علمه -سبحانه وتعالى-.
ثم من صفاته وهذا كله توجيه، الله -تبارك وتعالى- يخبرنا بصفاته -سبحانه وتعالى-، ويرينا مخترعاته ومصنوعاته وأفعاله لنستدل بها عليه، لأن الصنعة تدل على الصانع فهذه صنعة الله -تبارك وتعالى-، قل هذا الذي صنع هذا هو الذي يستحق العبادة لا هؤلاء الآلهة الذين تعبدونهم من دون الله -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ........}[الأنعام:97]، أي الله الذي يدعوكم إلى عبادته وحده لا شريك له، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، فهذا جعلها الله -تبارك وتعالى- من فوائدها، والهداية بالنجوم أمرٌ عظيم جدًا قد عرف الناس هذا من قديم الزمان، وخريطة هذه النجوم أيضًا خريطة منتظمة لا تتخلف ولا تتغير، فكل نجم بمطلعه ومغربه ومجموعته في حركة منتظمة لا تتخلف، وبهذا استطاع الناس على هذه الأرض أن يعرفوا اتجاهاتهم في هذه الأرض، وأن يعرفوا كذلك المواقيت, يعني بطلوع النجم الفلاني بغروبه بأفوله بالتقاء هذا النجم بهذا النجم، بالثوابت من هذه النجوم كالنجم الذي يسمى بالنجم القطبي، فهذا نجم ثابت في السماء لا يتغير موقعه أبدًا في أي مكان من الأرض، وبالتالي يعرف فهذا علامة موجودة في مكان واحد بالنسبة للأرض، فعند ذلك كل من في الأرض يستطيع أن يهتدي بهذا النجم, ثم السيارات وكل شيء منضبط، حتى ما يسمى بالمذنبات التي تخرج ليس في مدارًا مثلًا دائري أو إهليجي وإنما في سريان متعرج، فإنها كذلك تسير بسيرها هذا المتعرج لا تتخلف عنه أبدًا، بل تعيد دورتها هذه كما هي في كل مرة بنفس الوقت، بنفس الميقات، بنفس التحديد، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ........}[الأنعام:97]، حتى تهتدوا بها في الطرق في ظلمات البر، سواء كان في الليل الشديد نرى النجم نعرف أننا نتجه في الشرق, في الغرب, إلى الشمال, إلى الجنوب, إلى الجهات التي بين الشرق والغرب، فيعرف الإنسان وجهته، وكذلك في ظلمات البحر عندما تكون في أرض البحر لأن البحر مياهه ممتدة أينما توجهت ترى زرقة البحر، فلا تعرف, عند ذلك تنظر إلى السماء فتعرف الجهة التي تسير فيها.
{........ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[الأنعام:97]، قال -جل وعلا- {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ}، فصلها أنه بيَّن حكمته في هذه الآية وفي هذه الآية وفي هذه الآية, وخلق هذه الآية, فذكر هذه الآيات بالتفصيل آية آية، {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ}، فصلها قطع هذه الآية عن آية حتى يتبين لكم حكمة الرب وفعله في هذه الآيات التي خلقها، آياته هذه المنظورة في السماوات والأرض، وكذلك قد فصل الله -تبارك وتعالى- الآيات في البيان فيما أنزله من القرآن، هذه آياته مفصلة ومبينة وموضحة قد فصل الله -تبارك وتعالى- فيها في الذكر والبيان بين هذا وهذا. وهذا، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، ولكن هذا لقوم يعلمون، ناس عندهم علم، أما الذين يجهلون ولا يتعلمون ولا يسمعون فإنهم لا يستفيدون بهذا القرآن المنزل من الله -تبارك وتعالى-.
ثم استطرادا كذلك ليعرفنا الله -تبارك وتعالى- بصفاته، قال {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، وهو الله -تبارك وتعالى- الذي أنشأكم يعني أيها المخاطبون أيها البشر من نفس واحدة؛ هو آدم هذا أصل البشر، هذا أصل البشر خلقه الله -تبارك وتعالى- من طين هذه الأرض، خلقه في السماء من طين هذه الأرض وأسجد له ملائكته، وخلق زوجته منه بضلع من أضلاعه، أنامه الله -تبارك وتعالى- وأخذ ضلعًا من أضلاعه فخلق له حواء، فلما قام من نومه وجدها بجواره وزوجها الله -تبارك وتعالى- له، من رحمة الله -تبارك وتعالى- وإحسانه به، ثم نشر في من كل بشر بعد ذلك الذين انتشروا في هذه الأرض بهذه الأعداد الهائلة جيلًا بعد جيل من هذه النفس الواحدة، كما قال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، اللي هو حواء، {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}، بث نشر، فهذا النشر لكل هذا البشر؛ الآن الأرض يعيش عليها ست مليارات من البشر، وفي كل مئة سنة يتجدد من على الأرض؛ فإنه كل مئة سنة تقريبًا يكون كل من على الأرض أصبحوا في بطنها، ونشأ قرنٌ جديد وجيل جديد، وهذا أمر عظيم جدًا، قدرة هائلة للرب -تبارك وتعالى- على الفعل، {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
ثم قال -جل وعلا- {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}، مستقر للنطفة، ومستودع للغذاء، انظر كيف أن الله -تبارك وتعالى- يعني خلق البشر من نفس واحدة، وأنه -سبحانه وتعالى- جعل قرار لبذرة الإنسان في رحم هذه المرأة، وأحاط هذه الرحم بهذه العظام القوية، كما قال -جل وعلا- {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}[المؤمنون:13]، قرار مكين هذا مستقر ومستودع، مستودع للغذاء وهو ثدي المرأة، جعله الله -تبارك وتعالى- هذا مستودعًا، على طول المرأة بمجرد أن تضع مولودها عند ذلك يخلق الله -تبارك وتعالى- طعام هذا الجنين في ثديها يجعله مستودع، وقت ما يأتي هذا الطفل يرضع يجد المستودع هذا الذي أودع فيه هذا الغذاء موجود، طاهر نظيف كامل سبحان الرب -سبحانه وتعالى-، سبحان الخلاق العليم، معقم موجود جاهز لإطعام هذا الطفل، سبحان الله العظيم، {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}[الأنعام:98]، يقول الله {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ}، انظروا كيف يفصل الله -تبارك وتعالى- لكم الآيات فيبين آية آية، لكن لقوم يفقهون, لناس عندهم فقه، عندهم فهم لما يخبر به الله -تبارك وتعالى-، وللنظر في هذه الآيات بعين الفهم والفقه، أما الذي لا ينظر إلى هذه الآيات أعمى. فيرى هذا يعلم كيف يكون خلقه، أنه كان نطفة في رحم أمه وأنه تدرج بهذه الحياة ونزل، وأن الله -تبارك وتعالى- يجعل لهذه المرأة هذا الطعام لأبنها، ويهيئ الطفل لأنه بدون تعليم يأتي ويلقم ثدي أمه، ما الذي يعلمه بأن هذا المكان هو مكان الطعام؟ ما الذي يُعلمه بأن هذه الحركة؛ حركة المص التي يمص بها، هي التي يستطيع أن يستنبط بها الحليب من ثدي الأم، من يعلمه هذا؟ الرب -سبحانه وتعالى-، لكن المؤمن عندما ينظر إلى هذا؛ ينظر بعين الفهم والفقه، فيستفيد من هذه عندما تقع عينه على آيات الله -تبارك وتعالى-، ولكن الكافر والغافل ينظر إلى هذه الآيات وهي لا تعني عنده شيئًا، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}.
ثم استطرادا كذلك لتعريف صفة الرب -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:99]، هذا كذلك جانب من آيات الله -تبارك وتعالى- في الخلق، وهو الله الضمير يعود على الله -تبارك وتعالى-، الذي يعرفنا بنفسه من خلال مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، آياته في الخلق، {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، ماء المطر، وسمي من السماء لأن السماء في لغة العرب هي كل ما علاك، والمطر في أقرب نقطة عندنا من هذا العلو، {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا}، يقول الله -جل وعلا- {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}، أخرجنا بهذا المطر أي من الأرض، {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}، أكثر من اثنين مليون نوع من النباتات موجودة على هذه الأرض، وما يجهل الإنسان لليوم من أنواع النباتات أمر كثير جدًا لعله أكثر مما يعرفه، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ}، أي من هذا النبات {خَضِرًا}، الخضر هو بداية الثمرة، {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا}، بداية الثمرة تكون خضر كمادة رقيقة هلامية، ثم يخرج الله -تبارك وتعالى- من هذا حبًا متراكبا، كما هو في سنبلة القمح أو في سنبلة الأرز أو في الذرة، حب يركب بعضه بعضًا وكذلك هذه، فهذا الحب الذي يتراكب, ومن عجب تركيب هذه السنابل لو أن إنسان أتى بنفسه أخذ مجموعة هذه الحبات ويرص هذا الرص، لا يستطيع أن يضعها في هذا الحجم ويضع هذه الحبات، هذا أمر لا شك أنه حتى هذا الأمر الذي هو عمل تركيب, هذا لا يستطيعه البشر، كل هذا بفعل الخالق –سبحانه وتعالى- .
ثم قال -جل وعلا- {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}، يعني خلق لكم -سبحانه وتعالى- من النخل من طلعها، الطلع وهو ما يكون في بداية طلع النخلة في هذا الغلاف والحفظ، {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}، يطلع القنو عند ذلك بعد أن ينشق غلاف النخلة ويخرج القنوة، القنو هو مجموع العذق مع الشماريخ مع البلح أو الرطب، قنوان جمع قنو، {دَانِيَةٌ}، قريبة، النخل يبدأ الثمار وهو على وجه الأرض، ممكن أن القنو يصل إلى وجه الأرض بداية، ثم بعد ذلك تصعد النخلة وتظل قريبةً قريبة، ثم إذا صعدت كذلك تكون كذلك دانية، فإنه بما خلق الله -تبارك وتعالى- له من الكرب ومن .... انتهت الحلقة