الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (178) - سورة الأنعام 99-102

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فكنا وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:99]، هذه الآيات استطرادًا من الله -تبارك وتعالى- لبيان عظيم صفاته -سبحانه وتعالى-، وأنه الرب الإله الخالق لكل شيء، المبدع لهذا الخلق كله -سبحانه وتعالى-، وهو بالتالي الذي يستحق وحده العبادة، وأن ما يعبد من دونه مما لا يخلق شيئًا ولا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا باطل، وهو الله -سبحانه وتعالى-، يوجه الله -تبارك وتعالى- نظر عباده إلى صفاته -سبحانه وتعالى-، أي هذا هو ربكم الذي هذه صفاته، وبالتالي هو الذي يستحق وحده العبادة -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، ماء المطر، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}، كل أنواع النباتات مختلفة الألوان والطعوم والخصائص والأشكال والمنافع الهائلة المتعددة، يقول علماء النبات أن أكثر من اثنين مليون نبتة الآن التي عرفت، وهناك عدد كبير جدًا من النباتات الغير معلومة على الأرض لوقتنا الحاضر، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ}، أي من هذا النبات، {خَضِرًا}، بداية الثمرة، {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا}، حب يركب بعضه بعضًا مصفوف كما المشاهد في سنابل القمح وسنابل الأرز وكيزان الذرة، {حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}، كذلك من النخل يخرج الله -تبارك وتعالى- لها قنوان، القنو يعني هو العذق بما فيه الشماريخ والعرجون والثمرة، دانية قريبة متناولة، {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ}، أي أخرج الله -تبارك وتعالى- من ماء المطر النازل، الذي ينزله من السماء جنات جمع جنة بساتين، من أعناب أنواع العنب المختلفة، كذلك الطعوم والأشكال والألوان، ثم {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}، الزيتون والرمان مشتبه يعني أنه في الشكل الخارجي من حيث الشجرة ومن حيث أوراقها حتى من حيث زهورها قد تكون تشبه بعضها بعضا، ولكنه غير متشابه في خصائص الثمار فإن هذه الرمان تجد هذا حامض وهذا حلو وهذا حامض حلو، وهذا مختلفة كذلك درجات اللون بعضها مع بعض في داخل حب الرمان، كذلك الزيتون قد تشتبه شجرة الزيتون بهذه الشجرة لكن يختلف عند الثمار مختلفة تمامًا، في إختلاف كبير بين زيتون وزيتون، قال -جل وعلا- {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}، جمال الثمرة عندما تبدأ طلوعها, وينعه اليانع الذي قد صح وزكى وملأته النضارة والخضرة، وكذلك رقته فإنه يكون غضٌ طري يانع عند بدء ظهور الثمرة، {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}، عندما يبدأ أول الثمرة، {وَيَنْعِهِ}، أي رقته ونُضرته في أول الثمرة، {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، في كل هذا الخلق الذي هو النبات المتعدد على هذا النحو، والمختلف الأشكال والألوان والخصائص فيما بعد، لآيات أكثر من آية لقوم يؤمنون، لكن لأهل الإيمان، آية على قدرة الله -تبارك وتعالى- في أن يخرج من هذه الأرض هذه الأزواج من النبات ذات البهجة، فما هذه القدرة! الرحمة بعباده -سبحانه وتعالى- أنه رزقهم هذا الرزق الواسع المتعدد الألوان والأشكال، ليكون في هذا كثير من التنوع والتفكه لهم، كذلك كون لهذا مواسمه وأوقاته هذا أمر عظيم جدًا، كذلك تعدد المنافع الهائلة من ثمرة يخرج منها زيت، ثمرة بعصيرها، ثمرة بإدخارها، أمر عظيم من الرزق الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو، {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، لكن لأهل الإيمان، يصدقون ويعلمون أن هذه آيات الرب -تباك وتعالى- وهذا خلقه.

هذي بعد هذا البيان من صفات الله -تبارك وتعالى- بدءًا بقوله {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[الأنعام:95]، كيف تقلبون وتعبدون غيره وتذهبون إلى سواه، {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[الأنعام:96]، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[الأنعام:97]، {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}[الأنعام:98]، {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، إلى آخر الآية هذا كله خلق الرب وفعله -سبحانه وتعالى-.

ثم بعد ذلك يأتي المقارنة بما يعبد من دون الله -تبارك وتعالى-، فقال -جل وعلا- {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنعام:100]، أنظر ظلم الإنسان الكافر المشرك، كيف ينصرف عن الرب الإله خالق هذا الخلق بهذا الإبداع، وما فيه من هذه الآيات وينصرف، فيقوم يجعل لله -تبارك وتعالى- الجن يجعلهم شركاء لله -تبارك وتعالى- في الخلق، في الحق، فيصرف من هذا الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- ويقربه قربانا لهذه الشياطين، يعتقد بأن هؤلاء الجن هم شركاء لله -تبارك وتعالى-، فإن العرب كانت تعتقد بأن الله قد تزوج بالجن وولد له الملائكة، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}، أي الجن يجعلوهم شركاء لله -تبارك وتعالى- { وَخَلَقَهُمْ }، والحال أن الله -تبارك وتعالى- خالقهم، ليسوا شركاء له -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، خرقوا نسبوا لله -تبارك وتعالى- وسمى الله نسبتهم هذه البنين والبنات أنه خرق، وأن هذا أمر لا يقوله إلا أخرق فاقد العقل فاقد الفهم، {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، خرقوا لله -عز وجل- بنين وبنات، بنين مثل ما قال النصارى بأن عيسى إله من إله، هو ابن الله البكر، هو ابنه بكره الذي أحبه من كل قلبه، فكيف يكون لله ولد -سبحانه وتعالى-، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وبنات: كلام العرب، فإن العرب زعموا أن الملائكة بنات الله -تبارك وتعالى-، أن الله تزوج بالجن وولد له الملائكة، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، بالجهل والتقول على الله -تبارك وتعالى- والكذب والإفتراء، قال -جل وعلا- {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}، تنزيهًا له -سبحانه وتعالى-، التسبيح التنزيه والإبعاد، أي أن الله -تبارك وتعالى- منزه بعيد عن هذا الوصف الخبيث الذي يصفونه لله -تبارك وتعالى-، بأنه تزوج وأنه يولد له، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى}، تعالى الرب -تبارك وتعالى- مكانًا ومقامًا عن أنه يكون على هذا النحو الذي يصفه به هؤلاء المجرمون، الكاذبون على الله -تبارك وتعالى-، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}، وصفهم هذا، يعني وصفهم الرب -تبارك وتعالى- بهذه الصفات التي هي من صفات المخلوقين، التي يتعالى الله -تبارك وتعالى- عنها، صفات النقص والله -تبارك وتعالى- الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء -سبحانه وتعالى-، كيف يكون لهذا الإله خالق السماوات والأرض الملك الذي لا ملك غيره -سبحانه وتعالى- أن يكون بهذا الوصف، الذي يصفه به هؤلاء المجرمون.

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، الإبداع هو الخلق على غير مثال، فالله -تبارك وتعالى- خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق، أي لم يكن هذا المثال موجود والله -تبارك وتعالى- نقله، تعالى الله عن ذلك، بل هو أبرز السماوات والأرض من العدم إلى الوجود بغير مثال سابق، هو الذي أبدعها ونظمها ورتبها على هذا النحو البديع الذي به كانت -سبحانه وتعالى-، {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ........}[الأنعام:101]، أنى كيف، كيف يكون لله ولد كما يقول النصارى في عيسى واليهود في عزير ومشركو العرب في الملائكة، أني يكون له ولد يولد له ولم تكن له صاحبة، ليس لله صاحبة يعني زوجة، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك، فهو الفرد الصمد -سبحانه وتعالى-، ولم تكن له صاحبة زوجة، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}، كل شيء خلقه الله، فكل ما سوى الله فهو مخلوق، ملائكة، الجن، الإنس، عيسى، العزير، البشر، السماوات، الأرض، كل ما سوى الله فهو من خلق الله، أبرزه من العدم -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- عن عيسى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عمران:59]، فكل ما سواه خلقه -سبحانه وتعالى-، وليس منها شيئًا ولده أو منه -سبحانه وتعالى-، فلم ينفصل عن الله شيء، وليس له جزء -سبحانه وتعالى-، سبحان من لا جزء له -سبحانه وتعالى-، {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}[الزخرف:15]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:1-4].

{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنعام:101]، فمع خلقة لكل شيء لا يغيب عنه في هذه المخلوقات شيء، هو بكل شيء عليم ليس علم لفترة محدودة من الزمان، علمه يوم خلقه ثم نسيه بعد ذلك, لا، وإنما علم كامل دائم علم إحاطة في كل وقت وكل لحظة، قبل أن يخلقه وبعد أن يخلقه وإلى زمانه المستقبل، ومحصي لكل عمل يقع من كل مخلوق، سواء كان مخلوقًا مريدًا كالإنسان يفعل بإرادة، أو مخلوقًا لا إرادة له في الظاهر كالحجر والشجر والنهر والقطر، كل شيء قد علمه الله -تبارك وتعالى- وعلم حركته، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا}، فسقوط الورقة تسقط بعلم الله -تبارك وتعالى-، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، بل هو مع كل أحد في كل همسة من همسات لسانه وفي كل خطرة من خطرات قلبه، وكم يمر على القلب من خطرات، لو أن إنسانًا ذهب ليسجل ما يخطر بباله كل يوم لأخرج مجلدات في اليوم الواحد، خواطرك انظر خواطرك، ما يرد على قلبك في الليل والنهار من أحاديث، ما يسميه الناس أحلام اليقظة، ما تتمناه، ما تريده، صراعك مع هذا، خصومتك مع هذا، كلها بقلبك، تخاصم هذا وتصالح هذا وتحب هذا وتتمنى هذا ولا تتمنى هذا ويخطر ببالك هذا ويخطر ببالك ...، فالقلب من التقلب، القلب متقلب دائمًا ويفكر دائمًا وترد عليه خواطر هائلة جدًا، كل هذا مدون محسوب علمه الله -تبارك وتعالى-، فالله عليم بذات الصدور، كل هذه الخطرات ليس لمخلوق واحد وإنسان واحد في الوجود ولكن كل هذه المخلوقات الموجودات أحصاها الله -تبارك وتعالى-، أحصاها الله -تبارك وتعالى- إحصاءًا، ويذّكر ويُعلم الله -تبارك وتعالى- كل إنسان بما مر عليه، {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284]، فالله خلق كل شيء، كل شيء من خلقه وهو بكل شيء عليم -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الأنعام:102]، {ذَلِكُمُ}، المشار إليه هنا تعريف الله -تبارك وتعالى-، بمعنى عرفنا الله -تبارك وتعالى- بنفسه، بدءًا من قوله -سبحانه وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}، إلى هذه،  ففاعل هذه الأفعال كلها هذا الخالق المتصف بهذه الصفات {ذَلِكُمُ}، وبالإشارة إلى البعيد تعظيمًا للرب -تباك وتعالى-، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}، مالككم، خالقكم، متولي شئونكم، ما لكم رب غيره، سيدكم، فهو السيد الإله المطاع الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى! {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لا إله إلا هو على الحقيقة، لا إله يستحق أن يكون إلهًا والإله هو المعبود، لا إله إلا هو حقيقة، إذن كل من ينسب له الألوهية غير الله فباطل، فلا إله إلا هو على الحقيقة، وأما غيره فإدعاء وكذب وزور، فالشمس سميتوها إله لكن هي ليست إله أنتم سميتموها هذا، واللات إله والعزة إله وهبل إله وعيسى إله والعزير إله والشجر إله والبقر عند أناس إله وهكذا...، ما من شيء من هذه الأشياء إلا وجد من يعبده من البشر، فالبشر ضلالهم في هذا الباب لا حد له، فالبشر عبدوا كل شيء, وقع الضلال من المشركين حتى عبدوا كل شيء، يعبدون الشمس والقمر والهواء والريح والملائكة والجن والإنس والبحر والشجر والثمار إلى أن عبدوا حتى الأعضاء الخسيسة من الإنسان؛ عورات الإنسان، عورة الرجل وعورة المرأة وجد لها من البشر من يعبدها، وجد من البشر من يعبد الحيات والثعابين والقرود و...، فهذا الضلال في هذا الباب لا حد له، وكل هذه سموها آلهة، يعني أنها تعبد من دون الله -تبارك وتعالى-، كل إله ما عبد من دون الله، فكل ما يعبد فهذا إله، الذي يؤله بمعنى أنه يقصد ويعبد ويطلب منه ويخاف منه ويرجى وينسب له النزاهة هذا إله، كما قال المشركون {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ........}[ص:6]، ما هذا الذي سيصبروا عليه! اللات والعزة ومناة!!! هذه هي آلهتهم التي أمروا أن يصبرا عليها وأنها آلهة حق!!، فالله لا إله إلا هو، لا إله على الحقيقة يستحق أن يسمى إلهًا إلا هو -سبحانه وتعالى-.

{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، هذا أخص صفات الإله بأنه خالق كل شيء، إذن كل ما سواه مخلوق حتى هذه الآلهة الباطلة هي مخلوقة من الله -تبارك وتعالى-، ويخلقها أحيانًا من يعبدها، فالإنسان يصنع التمثال، ولذلك قال إبراهيم لقومه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96]، هذه الآلهة التي تعملونها أنتم, الله هو خالقكم وخالق ما تعملون، خالق ما تعملون ذاتًا وخالق ما تعملون لأنه في النهاية هو الذي خلقكم، فإذن خلقكم خلقه -سبحانه وتعالى-، ولا تقدرون أن تخلقوا إلا بأمره ومشيئته -سبحانه وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- خالق كل شيء، لا خالق إلا الله -سبحانه وتعالى-، إذن فاعبدوه ما دام هو المتصف بهذه الصفات, -سبحانه وتعالى-، أمرٌ منه -سبحانه وتعالى- وتوجيه العباد أن يعبدوه إذ هو وحده الذي يستحق العبادة.

ثم قال -جل وعلا- {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، أي خلقٌ وتصريفٌ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، أي أنه المتوكل بكل شيء، والوكيل بالشيء هو القائم به، أقول هذا الموكل بهذا الأمر يعني هو المتصرف فيه والقائم به، فالله على كل شيء وكيل بمعنى أنه هو القائم بكل شيء والمتصرف في كل شيء، وليس وكيل بمعنى أنه هناك من وكل الرب فيه وفوض الأمر منه إلى الله, لا، الله -تبارك وتعالى- متوكل به بمعنى أنه هو المتصرف فيه -سبحانه وتعالى-، فالله على كل شيء وكيل المتصرف في كل شيء، وهذان طرفي المُلك للرب -تبارك وتعالى-: الخلق ثم لم  يترك خلقه -سبحانه وتعالى- ويوكِّل به غيره، بل تولاه -سبحانه وتعالى-، الله خالق كل شيء {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.

وهنا قال {........َاللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الأنعام:102]، فالله -سبحانه وتعالى- هو المتوكل بكل شيء، بالشمس، بالقمر، بالسماوات، بالأرض، بكل العالمين، الملائكة، الجن والإنس، الله -تبارك وتعالى- يملك تصريفهم، فلا يتصرف مخلوق من كل هذه المخلوقات أي تصرف إلا بأمره الكوني القدري، حتى الضحك والبكاء { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) }. فالغنى منه والقنية منه، اقتنيت سيارة بيتًا كلها منه –سبحانه وتعالى-، { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى }[النجم: 42-55]، الفعل كله له -سبحانه وتعالى-، فلا خالق إلا هو ولا متصرف إلا هو -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- من صفاته {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ........}[الأنعام:103]، هذا الذي هو الإشارة إلى الله {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:102-103]، لا تدركه لا تحيط به -سبحانه وتعالى-، لا يمكن أن يدركه بصر فيحيط به -سبحانه وتعالى- ويراه، يرى الله -تبارك وتعالى- كما تُرى هذه المخلوقات، بل الله -تبارك وتعالى- أعظم وأجل أن تدركه الأبصار، وليس الإدراك بمعنى اللحوق هنا، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- لا شك أن أهل الإيمان يرونه في الآخرة -سبحانه وتعالى-، فإنه يُرى كما جاء في الحديث أن الصحابة سألوا النبي -صلوات الله والسلام عليه- فقالوا له «يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال لهم هل تضامون في رؤية القمر ليس دونه سحاب أو حجاب؟ أو هل تضارون -تضارون من الزحام والضُر يعني- في رؤية الشمس ليس دونها حجاب أو سحاب؟ ثم قال لهم النبي إنكم سترون ربكم كذلك»، سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر كلٌ في مكانه، دون زحام ودون تضام، وقد قال -تبارك وتعالى- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، تنظر إلى الرب -تبارك وتعالى-، وهنا أثبت الله -تبارك وتعالى- وذكر النظر للوجوه، وقول الله -تبارك وتعالى- {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى}، الجنة، {وَزِيَادَةٌ}، قال المفسرون من السلف الزيادة النظر إلى وجه الله -تبارك وتعالى-، ولا شك أن الرؤية ممكنة لكنها في الآخرة، أما في الدنيا فإن الله -تبارك وتعالى- محتجب عن خلقه -سبحانه وتعالى-، وأخبر أنه لا يراه في الدنيا أحدًا من خلقه، كما قال الله -تبارك وتعالى- لموسى لما طلب أن يراه {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}، فقال له الله -عز وجل- {........ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي ........}[الأعراف:143, 144]، اخترتك هذا وفضلتك بهذا، بالرسالات المرسلة إليه وبكلامي أنه سمع كلام الله، {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ}، أي لا تطلب المزيد، {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.

ولا شك أن نفي أن يكون الله -تبارك وتعالى- يرى هو من الكذب على الله -تبارك وتعالى-، فالذين قالوا أن الله لا يرى وأن من صفاته ألا يرى إنما هم: أولًا يكّذبون الله، يكّذبون الرسل، يُجّهلون مثل موسى الذي {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}، لو كان الله -تبارك وتعالى- من صفاته أنه لا يرى لكن طلب موسى الرؤية من المحال ومن أجهل الجهل، من رسول يعلم أن من صفة الله -تبارك وتعالى- أنه يرى، وكذلك سؤال الصحابة النبي -صل الله عليه وسلم- كما في حديث أبي ذر أنه قال للنبي «هل رأيت ربك - وذلك في المعراج- فقال النبي نور أنى أراه»، فلو كان الله من صفته –سبحانه وتعالى- أنه لا يرى لكان سؤال أبي ذر سؤال جهل وكان النبي زجره على هذا السؤال، كيف تسأل هذا السؤال إن الله من شأنه أن لا يرى، فتعالى الله-تبارك وتعالى- عما يقول الجاهلون علوًا كبيرًا، بل الله -تبارك وتعالى- من صفته -سبحانه وتعالى- أنه يرى، ولكن رؤيا الله -تبارك وتعالى- إنما هي منَّة عظيمة وكرامة، شاء الله -تبارك وتعالى- ألا تكون لأحد في هذه الدنيا، كما قال النبي «واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا»، أي لا رؤية لله -تبارك وتعالى- إذن بعد هذا بعد الموت ستكون الرؤية، الرؤية لأهل الجنة كما ثبت في هذا.

فقول الله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، فسر هنا في ضوء الآيات والأحاديث بمعنى أنه لا تدركه ليس بمعنى لا تلحقه، وإنما لا تحيط به، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ........}[الأنعام:103]، هو محيط بالأبصار كلها لا يخفى عنه شيء -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، اللطيف بمعنى -سبحانه وتعالى- اللطف هنا بعباده؛ يعني لطف ذات ولطف مقادير، فهو الله -تبارك وتعالى- لطيف، فإنهم مع غاية وضوح الرب -تبارك وتعالى- إلا أن خلقه لا يرونه، فإن حجابه قد حجبه عنهم -سبحانه وتعالى-، معتزًا بكبريائه وعظمته –سبحانه وتعالى-، كما قال النبي «حجابه النور لو كشفه لأحرقت صبحات وجهه ما إنتهى إليه سمعه وبصره»، وهو الخبير بعباده -سبحانه وتعالى-، فمع أنه الرب الإله الظاهر فوق كل شيء إلا أن علمه بكل دقيق وصغير من خلقه -سبحانه وتعالى-.

نقف -إن شاء الله- عند هذه الآية، ولها -إن شاء الله- مزيد -إن شاء الله-، يعني نأتي إلى مزيد من التفسير والبيان في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده رسوله محمد.