الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (179) - سورة الأنعام 102-110

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فكنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، ذلكم المشار إليه هو الآيات السابقة، التي وصف الله -تبارك وتعالى- بها نفسه، من قوله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)  َفالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[الأنعام:95-97]، إلى قوله -جل وعلا- {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنعام:101].

ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}، ذلكم هذا الله -سبحانه وتعالى-، ربكم الموصوف بهذه الصفات التي ذكر لكم -سبحانه وتعالى-، من صفاته ومن خلقه الدالة على صفاته -سبحانه وتعالى-، فإن خلقه من أثر صفاته -سبحانه وتعالى-، ذلكم الله المشار إليه الله -سبحانه وتعالى- ربكم سيدكم خالقكم بارئكم مصوركم، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، على الحقيقة, كل ما يدّعى له الألوهية غيره فباطل، فكل ما سماه البشر إلهًا غير الله -تبارك وتعالى- ليس بإله على الحقيقة وإن سموه إلهًا، لأن الإله الذي يستحق أن يكون الإله ويطلق عليه هذا الاسم؛ لابد أن يكون خالقًا رازقًا متصرفًا له منته على عابده، فهو الذي خلقه, ويدبر شأنه, منه نفعه, منه ضره، أما الذي لا يملك لغيره نفعًا ولا ضرًا ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فكيف يكون إلهًا! كيف يعبد! كيف يقصد! كيف يهاب! كيف يخاف! كيف يطلب منه! وليس عنده شيء ولا يملك شيء، كيف يرهب ولا يملك لنفسه فضلًا عن ضره لغيره، فلا إله إلا هو على الحقيقة، ثم جمع الله -تبارك وتعالى- مقتضى صفات الألوهية, فقال {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، كل شيء كل ما سواه -سبحانه وتعالى- فمخلوق، {فَاعْبُدُوهُ}، إذن هذا هو الإله الحق فاعبدوه، ثم {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، فهو خالق كل شيء وهو المتوكل بكل شيء، والمتوكل بالأمر هو الذي له التصريف فيه.

{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، أبصار الخلق لا تدركه -سبحانه وتعالى-، فإنه محتجب عن خلقه بكبريائه وعظمته، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «حجابه النور لو كشفه لأحرقت صبحات وجهه ما إنتهى إليه بصره من خلقه»، والله -تبارك وتعالى- لا يغيب عن بصره شيء من خلقه -جل وعلا-، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، تحيط به، ولكن يراه المؤمنون في الآخرة، كما ثبت بذلك الأحاديث وكما جاء أيضًا نصوص القرآن بهذا كقوله -تبارك وتعالى- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22]، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:23]، وقوله -تبارك وتعالى- {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، والزيادة هي النظر إلى وجه الله -سبحانه وتعالى-، وقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لما سئل يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب أو حجاب؟ هل تضامون في رؤية القمر ليس دونه حجاب أو سحاب؟ فإنكم سترون ربكم كذلك»، أي يعني أن كلٌ يراه وهو في موقعه في الجنة، يرى ربه -سبحانه وتعالى- دون تزاحم ودون مضار ودون أن يضر بعضهم بعضا ليروا ربهم -سبحانه وتعالى-.

{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ........}[الأنعام:103]، أي أنه -سبحانه وتعالى- محيط، يحيط بصره بكل خلقه -سبحانه وتعالى- لا يغيب شيء ولو قليل, لا عن بصره ولا عن سمعه ولا عن علمه -سبحانه وتعالى-، بل قد أحاط بكل شيء علما، بصره يدرك كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، سمعه في كل مكان فيسمع مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، على اختلاف اللغات واللهجات بجميع الأصوات في كل الأوقات، الله -سبحانه وتعالى- هو على كل شيء شهيد هو السميع البصير، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7].

 {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، اللطيف حيث يرى الكل ويعلم الكل ولا يراه خلقه -سبحانه وتعالى-، الخبير العليم -سبحانه وتعالى-، العليم -سبحانه وتعالى- العلم الكامل الخفي بكل خفاياهم -سبحانه وتعالى-، فالخبرة أخص من العلم.

ثم قال -جل وعلا- {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ}، بعد هذا البيان المستوفى لأسماء الله -تبارك وتعالى- وصفاته، وبعد هذا المقارنة بين الرب الإله الذي لا إله إلا هو وهذه صفاته، وبين ما يعبد من دونه -سبحانه وتعالى-، ماذا يعبد من دونه؟! ماذا يمكن أن يعبد البشر من دون الله -تبارك وتعالى-؟! عباد، إناث، مخلوقات لا تنفع لنفسها لا نفع ولا ضر، أشرفها الشمس، أشرف ما عبد الناس من المخلوقات الشمس، وأشرفهم الملائكة، هذا أشرف ما عبد البشر من المخلوقات، وكان مشركوا العرب يفتخرون على المسلمين، ويرون أنهم أحسن حالًا من النصارى، {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}، أألهتنا التي نعبد الملائكة خير أم هو؛ أم عيسى ابن مريم، قال -جل وعلا- {........ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}[الزخرف:58]، فإن الله -تبارك وتعالى- لم يجعل شيئًا سواه يعبد من دون الله -تبارك وتعالى-، {........ أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}[الزخرف:45]، تعالى الله عن ذلك، فالله يقول {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ}، الله –تبارك وتعالى- وصف لكم نفسه -سبحانه وتعالى- بهذه الصفات المفصلة، ليعرفكم بنفسه -سبحانه وتعالى- من خلال إخباره عن نفسه، ومن خلال بيان مخلوقاته ومخترعاته ومصنوعاته هذا الذي تعيشون فيه، وأنتم كلكم من مخترعات هذا الرب ومن مصنوعاته، {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ}، آيات تبصرون بها تعرفون بها الحق من الباطل، وأعظم الحق الله، لا حق أكبر من الله -سبحانه وتعالى-، وأعظم الباطل كل ما يدعى له الألوهية من دون الله -تبارك وتعالى- هذه أعظم فرية، أكبر فرية ممكن أن تفترى في الأرض أن يقال أن هناك إله مع الله -تبارك وتعالى-، {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ........}[الأنعام:104]، تهديد، هذا تهديد ونظام الجزاء عند الله -تبارك وتعالى-، قال من أبصر الحق فلنفسه نفع ذلك، اتخذ الطريق إلى الله -تبارك وتعالى-، عرف ربه وعبد الإله الذي يستحق الألوهة وهو الله -سبحانه وتعالى- وحده فهذا لنفسه، هذا توحيده وإيمانه بالله -تبارك وتعالى- وتوحيده لله راجع لنفسه لأن منفعة هذا ستعود عليه، {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}، من عمي بعد هذه البصائر من بعد أن بينت له فعليها، أي على نفسه إثم ذلك، فجريرة هذه إنما عليها فإنها لا تضر الله، والأول لا ينفع الله، فمن عبد الله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له قد أبصر، ولكنه لا ينفع الرب -تبارك وتعالى- بهذا وإنما ينفع نفسه، ومن عمي عن هذه البصائر وعبد غير الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يضر الله -تبارك وتعالى- وإثمه على نفسه، {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}، قل لهم هذا، قل لهم هذا يا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}، النبي ليس حفيظًا عليهم بمعنى أنه محصي، يحصي أعمالهم ويكتبها ويحاسبهم على هذا... لا، وإنما الذي يحفظ أعمالهم ويعلم من آمن على الحقيقة ومن كفر على الحقيقة فإنما هو الرب –سبحانه وتعالى-، القائم على كل نفس بما كسبت، فهو القائم على كل نفس بما كسبت الله -تبارك وتعالى-، ورسوله إنما هو منذر ومبلغ؛ مبلغ رسالة، وليس مرسلًا ليحاسب الناس على أعمالهم -صلوات الله والسلام عليه-، {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}[الأنعام:104].

قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[الأنعام:105]، وكذلك كهذا البيان الواضح الذي لا يترك في الحق لبسا، الذي يصف الله -تبارك وتعالى- بما يليق به -سبحانه وتعالى- وهو الحق، ويصف هذه الآلهة الباطلة كذلك بما هي عليها، ويقارن بين هذا وهذا، ويفصل الأمور على هذا النحو، وكذلك يعني كذلك التفصيل، {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ}، نصرفها التصريف تنويعها، بين الوعد والوعيد وبين المقارنة هنا وهنا، وبين بيان أن هذا هو الطريق، ومن اتخذ هذا الطريق فلنفسه ومن تنكبه فعليها، بهذا التنويع للخطاب وتصريفه أي تنويعه، {نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}، أي إذا رأوا هذا ورأوا هذا البيان المعجز وهذا الوصف البالغ البليغ للرب -تبارك وتعالى-، وكذلك الوصف الحقيقي لآلهتهم الباطلة يقولوا درست، يقولوا هذا مُعَلَّم، ولذلك كانوا يقولوا على النبي {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان14]، وهذا من تناقضهم إذ كيف يكون مُعَلَّم ويكون مجنون! يعني كل معلم كيون مجنون؛ معلم بالبناء للمجهول، ما قالوا علمه الله... لا، وإنما قالوا يعلمه بشر، وقالوا {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5]، فهذا الكلام الذي يقوله محمد –صلى الله عليه وسلم-  يقولوا كلاما بليغا وفصيحا وواضحا وبيِّنا ولا يترك في الحقيقة، لكن هذا مجنون؛ لكن الذي أتى به مجنون ليس عاقلًا، فتناقضوا بهذا.وهذا دليل على كفرهم وعنادهم وتناقضهم.

 {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}، يقولوا للنبي درست إن هذه دراسة، أنك أتيت بهذا تعليم ودرسته لكن ليست دراسة من الله جعلوها، وإنما دراسة جعلوها من قوم، إما بعض الأعاجم الذين اتهموهم في مكة وإما إنه يقول سمع من هنا أو سمع من هنا، أو ألقاها عليه جني أو نحو ذلك، فينسبون مصادر النبي -صل الله عليه وسلم- إلى هذه المدعاة، أو من مصدر لا نعلمه -تملى عليه-، هذه أمور تملى عليه، {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ........}[الأنعام:105]، عندما يروا تنويع الخطاب وبلاغة الخطاب وإعجاز القرآن على هذا النحو فيتهموا النبي بأنه درس هذا القرآن وأوتيه، لكنهم لا ينسبونه إلى مصدره الحقيقي وأنه من الله -تبارك وتعالى-، الإله خالق السماوات والأرض وإنما ينسبونه إلى غيره، قال -جل وعلا- {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، نبين هذا القرآن؛ هذا البيان الواضح، لكن لقوم يعلمون، لأهل العلم، لمن يعلمون الحق ويتبعونه فيكون هذا هدى لهم وبصائر لهم.

ثم بعد هذا البيان والإيضاح وقطع العذر وإقامة الحجة على هذا النحو، على هؤلاء المعاندين الكفار المشركين، قال -جل وعلا- لرسوله {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، إذن خذ طريقك بقى، خذ طريق الله -تبارك وتعالى-، {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:106]، أي تمسك بهذا الصراط، اتبع وخذ هذا الصراط، الذي أوحي إليك من ربك وهو هذا القرآن الموحى إليه، وقال من ربك وأوُحي: الله -تبارك وتعالى- هو الذي يوحي لعبده -سبحانه وتعالى-، {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ........}[الأنعام:106]، تأكيد هذه الحقيقة أنه لا إله إلا الله، لا إله على الحقيقة يستحق أن يعبد إلا الله، إذ هو خالق هذا الكون وهو مدبره ومصرفه -سبحانه وتعالى-، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، الإعراض يعني أعطهم عرضك؛ اتركهم.

{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، ثم قال –جل وعلا- {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}، هذه مشيئته، هذه مشيئته الكونية القدرية أن يقع هذا وأن يكون هذا في ملكه -سبحانه وتعالى-، وأن الله -تبارك وتعالى- لو شاء أن يجعلهم على الهدى والتقى والتوحيد لفعل، ولكنه ابتلاهم -سبحانه وتعالى-، ابتلاهم بهذا التخيير ليأخذوا الطريق وقد اختاروا طريق الشر, فدعاهم، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}، أي أن يمنعهم من الشرك وأن يشرح قلوبهم للإسلام وأن يجعلهم على التوحيد لفعل الله -تبارك وتعالى-، ولكن الله -تبارك وتعالى- خذلهم وخلاهم بكفرهم وكذبهم واختيارهم الطريق المعوج، إذ يبصرون  طريق الهدى ولكنهم يتبعون الطريق المعوج، فإن الله -تبارك وتعالى- خلاهم –جل وعلا-، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}.

 ثم قال -جل وعلا- {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}، لم نرسلك حفيظًا عليهم، الحفيظ؛ المحصي القائم على الأمر يحفظه، يعني لم نجعلك عليهم حفيظًا تحفظهم من أن يقعوا في كفر أو شرك لا، وإنما أنت قد أرسلت مبلغًا ومنذرًا وبشيرًا ومعلمًا، ولست قد أعطاك الله -تبارك وتعالى- القوة والقهر والسلطان لهم، لتحفظ عليهم أعمالهم وتلزمهم طريق الحق، {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}، حفيظًا من الحفظ أن يشركوا وكذلك حافظًا لأعمالهم، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}، وما أنت عليهم بوكيل يعني متولي شئونهم،  لم نولك شئونهم ونجعلك قيما عليهم فلا يتصرفوا تصرفا إلا بأمرك وإذنك, لا، ما أقامك الله -تبارك وتعالى- وكيلًا على الناس، وإنما أنت رسوله تبلغ دعوته، وأما الموكل بهم والحافظ لأعمالهم والمحاسب لهم هو ربهم خالقهم -سبحانه وتعالى-، ولم يشأ الله -تبارك وتعالى- أن يقيم غيره على هذا الأمر، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:108]، هذا إرشاد من الله، بعد أن اتضح سبيل الله وسبيل الشيطان، الله الإله الحق الذي لا إله إلا هو وما يعبد من دونه يصبح هناك إزدراءً وبغضًا وكرهًا لآلهة الكفار، فقد يقوم أهل الإيمان بسب هذه الآلهة، إنها ليست آلهة فيسبونها، وإذا سبوها أمام من يعبدها أو يعظمها من هؤلاء عَظُم عليهم الأمر، هذه مقدساتهم وهذه الذي عاشوا عمرهم ودهرهم يقدسونها ويحفظونها ويهابونها ويجلونها، هذا إلههم ومعبودهم، الذي هو في أقدس المواضع عنده في قلبه يحفظه، وهو مستعد أن يموت في سبيلها، فالله قال لا تسبها، السب هو الشتم، {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، الذين هذا اسم موصول على هذه الآلهة، الآلهة التي يدعونها من دون الله، {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، إذا سببت آلهتهم قد يدفعهم هذا إلى أن يسبوا إلهك، فتكون متسبب في سب الإله -سبحانه وتعالى-، قال {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، في مجال شتمهم وعيبهم ومناظرتهم لا تسب آلهتهم فإن هذا قد يستدعيهم في مجال الخصومة أن يسبوا الله -تبارك وتعالى-، فتكونوا متسببين في سب الرب -جل وعلا-، {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا}، اعتداءً، {بِغَيْرِ عِلْمٍ}، بجهالة، هذا الذي يسب الله -تبارك وتعالى- من أجهل الجهال، كيف يُسب الرب الإله! الذي هو إلهك ومالكك وكل شأنك بيده -سبحانه وتعالى-، أكبر تعدي، {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وأكبر جهالة التعدي إلى سب الرب -سبحانه وتعالى-.

{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}، هذا من سنة الله -تبارك وتعالى- ومن عقوبته لأهل الضلالة، أنه يزين لهم عملهم. التزيين التحسين والتجميل، عمل الكفار أخبث العمل وأسوأ العمل وأنجس العمل، فالشرك أنجس الأعمال وأضلها، كيف يدعو الإنسان ما لا ينفعه ولا يضره ولا يفيده بشيء، ويعطيه ثمرة قلبه، يسجد له، يقدسه، يهابه، يخافه، يرجوه، وليس عنده شيء من هذا. هذا المعبود لا يصلح لشيء من ذلك ولا ينفع لشيء من هذا. هذا العمل السيء الذي هو في منتهى الضلال والسوء يصبح في عين المشرك حسن وجميل وهو الحق، ومستعد أن يبذل روحه في سبيل ذلك، وهو مطمئن القلب إليه وفرح به، فهذه عقوبة، الذي هم فيه من هذا الضلال ومن تحسين القبيح وعبادتهم لهذه الأصنام واحتفائهم بها، زين في قلوبهم فهذا عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-، والمباشر للتزيين شيطانا؛ وهو بتسليط من الله -تبارك وتعالى- يسلطه على هؤلاء، {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:63]، الشيطان زين لهم هذه الأعمال وهذا بتقدير الله -تبارك وتعالى- الكوني القدري، لأن الله سلط عليهم الشياطين عند هذا، لهذا لما تخلى الله -تبارك وتعالى- عنهم كما قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36]، نقيض؛ نهيئ له،  ونجعل له شيطانا فهو له قرين؛ مقارن له، {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ........}[الزخرف:37]، سبيل الهدى والحق والتوحيد، {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:37]، يحسب هذا الضال أنه مهتدي وذلك بتزيين هذا الشيطان.

فقال -جل وعلا- هنا يقول الله لرسوله {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ ........}[الأنعام:108]، في النهاية إلى ربهم؛ خالقهم وبارئهم -سبحانه وتعالى-، له مرجعهم؛ رجوعهم يوم القيامة إلى الحساب إلى الله لا إلى غيره، فإن الله –سبحانه وتعالى- هو الذي يتولى حساب خلقه، ولا يقيم الله -تبارك وتعالى- أحدًا غيره يتولى حساب أحد من الخلق، بل الله هو الذي يتولى حساب خلقه جميعًا؛ كل الخلق، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:25و26]، حساب الخلق إلى الله -تبارك وتعالى-، هنا يقول الله -تبارك وتعالى- {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ينبئهم؛ يخبرهم الله، أنتم فعلتم كذا وفعلتم كذا، حتى لو أنكروا أمام الرب فإن المشركين في بعض الأحوال يقولون { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، قال -جل وعلا- {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:24]، يخرج لهم الله -تبارك وتعالى- من يشهد عليهم، آلهتهم التي تتبرأ منهم، الأرض التي أقاموا عليها كفرهم كذلك هي تخبرهم بأعمالهم، أيديهم وأرجلهم وجوارحهم تشهد عليهم بفعلهم هذا، فالله -تبارك وتعالى- هو يتولى حسابهم وينبئهم بما كانوا يعملون، يقول لهم فعلتم كذا وكذا، وإذا أنبئهم بهذا يلزمهم نتيجة هذا العمل وهو العذاب -عياذًا بالله-.

هنا فاصلٌ جديد من السورة، وبيان مدى تعنت هؤلاء الكفار وسيرهم في هذا الطريق الخاطئ بإصرار عليه، قال -جل وعلا- {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:109]، {وَأَقْسَمُوا}، الكفار، القسم الحلف، {بِاللَّهِ}، معظمينه -سبحانه وتعالى-، وقد كان مشركوا العرب يؤمنون بالله الخالق، لكن لا يؤمنوا به باعثًا لهم ومحاسبًا لهم، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، أي غاية أيمانهم، يبذلون غاية الجهد في تأكيد هذه الأقسام، {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، يحلفون مرات ومرات مخرجين هذا من صلب قلوبهم، مقسمين بهذا كأنهم مخلصين في قسمهم يريدون الحق بهذا القسم، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، قائلين والله لئن جاءتنا آية لنؤمن بها، {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، تأكيد هذه مؤكده بالقسم, باللام الموطئة للقسم، بالنون؛ بنون التوكيد كذلك, كل هذه مؤكدات، فبجهد اليمين وبالقسم بالله وبهذه التأكيدات أنهم إن جاءتهم آية ليؤمنن بها ويتبعون طريق الحق، كل هذا الذي يقولونه كذب، الآيات كلها جاءت، كل الآيات جاءت, ولكن كل هذا إنما هو كذب منهم، قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}، ليست عندي، الآية التي تطلبون مني أن آتيكم بها ليست عندي هذه الآيات، ما أنا متوكل بهذه الآيات وإنما كل الآيات التي تقترحونها والتي تظنونها كلها هي بيد الله -تبارك وتعالى-، فهو الذي يملك ذلك، {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ}، وما يشعركم؛ خطاب للمؤمنين، أنها إذا جاءت الآيات التي يقترحونها ويطلبونها لا يؤمنون، بعد هذا التأكيد والحلف والأيمان المغلظة التي يحلفون بها يقول الله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ}، هذا كلام العليم بهم -سبحانه وتعالى- والعليم بقلوبهم.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- سبب ذلك، لماذا لو جاءتهم الآيات كلها والتي اقترحوها لا يؤمنون، قال -جل وعلا- {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110]، نقلب هذا مبالغة من القلب؛ والقلب معروف، هو وضع الشيء بدل أن يكون رأسه إلى أعلى يجعل رأسه إلى أسفل، وهذا كناية عن استحالة الفهم فإن القلب المنكوس يفهم الأمور على غير صورتها، يفهم الأمر منكوسًا كذلك، فالحق يصبح عنده باطلا والباطل يصبح عنده حقا، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ}، ننكسها على هذا النحو فلا نجعلهم يفهمون الأمر على حقيقته، {وَأَبْصَارَهُمْ}، وإذا انقلب البصر فإذا رأى الشيء يراه منكوسًا فهنا يختل عنده كل الموازين، {وَأَبْصَارَهُمْ}، قال -جل وعلا- {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، لأنه لما عرض عليهم الدين ورأوه وعرفوا أن هذا الحق لم يؤمنوا به، قالوا كذب مع علمهم أنه صدق، فلما قالوا للصدق أنه كذب وكذبوا الصادق النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- بعد أن علموا يقينًا صدقه وقالوا كذب، عند ذلك انطبعت قلوبهم، عاقبهم الله -تبارك وتعالى- بأن جعلهم يعتقدون الكذب، وأصبح الكذب عندهم هو الصدق والصدق عندهم هو الكذب، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110]، نتركهم في هذا الطغيان الذي ساروا فيه، طغيانهم في الشرك، طغيانهم في الكفر في رد الحق، {يَعْمَهُونَ}، العمه هو الولادة أعمى، فمن ولد أعمى لا يعرف شيئا؛ إذا ذكر له الأشياء لا يعرفها، لأنه لم يراها قبل ذلك فلا يتصورها، فهذا هو الذي يسير في ظلمة ماحقة، وكأنه لم يرى شيئا من الحق أبدًا، ولم يرى شيئًا من هذا الواقع أبدًا، ولذلك مهما خاطبته فإنه لا يفقه، هذه عقوبة من الله {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110].

نقف عند هذا ونكمل الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله على عبده ورسوله محمد.