الجمعة 11 شوّال 1445 . 19 أبريل 2024

الحلقة (18) - سورة البقرة 35-39

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد... أيها الإخوة الكرام يقول الله –تبارك وتعالى- {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:34]، {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:35]، {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[البقرة:36].

يخبر –سبحانه وتعالى- أنه أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم بعد أن خلقه الله –تبارك وتعالى-, كما قال –جل وعلا-: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ}[ص:71] {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[ص:72]{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}[ص:73]. يخبر – سبحانه وتعالى- أن الملائكة جميعًا سمعوا الأمر الإلهي ونفذوه, جميعهم إلا إبليس، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} سجود تكريم وتعظيم وامتثال لأمر الله –تبارك وتعالى-, {فسجدوا} أي كلهم إلا {إبليس} استثناه الله –تبارك وتعالى-.

أبى أن يمتثل لأمر الله, واستكبر, ورأى أنه أفضل من هذا الذي أمر بالسجود له, كما قال لله –تبارك وتعالى- {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62]، وذلك لجحوده لأمر الله –تبارك وتعالى- وعدم امتثاله له، هذا كفر، كفر بإبائه واستعلائه عن أمر الله –تبارك وتعالى-.

قال –جلا وعلا- {وَقُلْنَا يَا آدَمُ} نادى الله –تبارك وتعالى- آدم فقال: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، إباحة له من الله –تبارك وتعالى- أن يسكن الجنة، جنة السماء التي أعدها الله –تبارك وتعالى- لعباده المتقين, وليس جنة بستان في الأرض, كما ادعى اليهود في كتابهم هذا، {وكلا}، أي هو وزوجه, أي من الجنة, {رغدًا كثيرًا} طيبًا {حيث شئتما} إباحة أن ينزلا أي مكان شاء من الجنة، أن يأكلا من كل ثمارها.

{وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، نهاهما الله –تبارك وتعالى- عن شجرة بعينها أن يقتربا منها فيكونا من الظالمين، وذلك لأنه معصية لأمر الله –تبارك وتعالى-, هذا أمر إلهي وجه لهما، وإذا عصيا الأمر الإلهي هنا فيكون هذا ظلم؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير محله، وقد وضعوا هنا  المعصية في محل الطاعة {فتكونا من الظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم لله –تبارك وتعالى-.

قال –جل وعلا- {فأزلهما الشيطان عنها}، أزلهما الزلل هو الزلق، الإبعاد، زلت القدم بمعنى أنها لم تثبت على مكانها, وإنما حولت وزلقت إلى مكان آخر. فأزلهما الشيطان عنها, أبعدهما عن هذه الجنة التي كانت هي دار الأمن والراحة والطمأنينة, كما قال له الله –تبارك وتعالى- عن الجنة، {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى}[طه:118]{وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}[طه:119]، قال الله –تبارك وتعالى- محذرًا آدم من إبليس الذى لم يسجد له وحقد عليه وأضمر الشر له، وقال لله: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62]، ولذلك الله –تبارك وتعالى- بيّن لآدم أن هذا عدو, وأنه سيحاول أن يخرجه من الجنة, فإياه أن يفعل. قال: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[طه:117] {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى}[طه:118] {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}[طه:119] ثم قال –جل وعلا{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}[طه:120] {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}[طه:121] فأزلهما الشيطان عنها أي بالمعصية، لما عصى آدم, فإن الله –تبارك وتعالى- عند ذلك أمره بالخروج من هذه الجنة وحكم عليه بالبقاء هنا في الدنيا في هذه الأرض, دار يأكل طعامه بعرق الجبين، لابد أن يشقى ويتعب ويبذل السبب؛ ليعيش, فيها شرور, ولابد أن يحمى نفسه من الوحش, ومن الآفات, ومن الأمراض, ويسعى في كسب قوته وعيشه, وفى جلب المنافع ودفع المضار، وهذا لم يكن، وكان كل هذا مكفولًا له في الجنة، أما في الأرض فلا. قال –جل وعلا- {فأزلهما الشيطان عنها} وأخبر –سبحانه وتعالى- في آيات أخرى كيف أزل الشيطان آدم عن الجنة, وذلك بأن دلاهما بغرور. قال –تبارك وتعالى- {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}[طه:120]، فحسَّن له وزين له الأكل من هذه الشجرة, وأنها شجرة الخلد، وقال –تبارك وتعالى- فى آية أخرى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف:21] ، وقال: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]، {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}، فدلاهما بغرور  استنزلهما من الثبوت والتمكن بالطاعة إلى الانزلاق إلى المعصية، وقال –جل وعلا- {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}، قاسمهما  حلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا}[الأعراف:22].

هنا يقول الله {فأزلهما الشيطان عنها}، عنها، أي عن الجنة {فأخرجهما مما كانا فيه} من النعيم المقيم والراحة والطمأنينة, وكفالة العيش على أتم صورة، عيش الجنة، {وقلنا} أي الرب –جل وعلا- معظمًا نفسه –سبحانه وتعالى- {اهبطوا} أي من السماء إلى الأرض {بعضكم لبعض عدو}، أي أن إبليس وذريته قد تكفل إبليس بأن يكون عدوًا دائمًا, يسعى بكل سبيل للغواية, هذا الشيطان, وكذلك أهل الإيمان يكونون أعداءً لهؤلاء الشياطين, يلعنونهم ويزجرونهم بالله –تبارك وتعالى-, ويستعيذون بالله –جل وعلا- من شرهم، فالشياطين أعداء لأهل الإيمان، وأهل الإيمان أعداء للشياطين, {بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}، ولكم جميعًا الإنسان والشيطان وذريته, {في الأرض مستقر} فكان القرار {ومتاع إلى حين}، إلى حين موت كل واحد منكم, فيمتعه الله –تبارك وتعالى- بما شاء, إلى حين موته، وحين آخر, وهو الوقت النهائي, لإنهاء وجود هذه الأرض, وحساب الجميع, ورد كلٍ إلى داره التي هي داره في نهاية المطاف، أهل الجنة إلى الجنة, وأهل النار إلى النار، أهل الجنة من أهل الإيمان إنسًا وجنًا، وأهل النار من أهل الكفر كذلك إنسًا وجنًا في النار كما قال –جل وعلا- {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}[الشعراء:94]{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}[الشعراء:95].

 فهذا إلى حين، إلى حين أن ينهى الله –تبارك وتعالى- وجود هذه الأرض، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1]{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}[الأنعام:2].

{ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} أن تكون الأرض دار استقرار ومتاع للجميع، ثم بعد ذلك ينهى الله –تبارك وتعالى- هذا إلى يوم القيامة.

قال –جل وعلا- {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:37]، آدم لما وقعت منه المعصية وفقه الله –تبارك وتعالى- إلى المبادرة بالتوبة, وهذه الكلمات التي تلقاها آدم من الله –تبارك وتعالى-؛ لتكون اعتذارًا, ولتكون هذه الكلمات اعتذارا ورجوعًا إلى الله –تبارك وتعالى-, وهو ما أخبر الله –تبارك وتعالى- عنه في سورة الأعراف. قال –تبارك وتعالى- {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23]، قال –جل وعلا- {وناداهما ربهما}، ناداهما أي آدم وحواء {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الأعراف:22]، {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23]، فهذه الكلمات كلمات الاعتذار والاستغفار التي ألهمها الله –تبارك وتعالى- آدم بمنه وكرمه –سبحانه وتعالى-, هو وحواء، فتوجه تبارك وتعالى بقولهم {ربنا ظلمنا أنفسنا}، أي خالفنا أمرك, وإن لم تغفر لنا وترحمنا عن هذا الذنب الذى ارتكبناه, لنكونن من الخاسرين, الخسارة الكبرى، {قال اهبطوا منها}، فالله يقول {فتلقى آدم من ربه كلمات}، كلمات التوبة فتاب عليه، ومحا الله –تبارك وتعالى- ذنبه, وغفر له, إنه هو التواب الرحيم، قال الله –تبارك وتعالى- غفرت لك لما رجع إليه، وهذه المعصية من آدم غير المعصية التي وقعت من إبليس، فإن إبليس عاند, وقال له الله –تبارك وتعالى- {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف:12]، فإبليس لم يلهم توبة, ولم يرجع إلى الله –تبارك وتعالى-, إنما عاند وأصر واستكبر, وضرر عمله الخبيث بمعصية الله –تبارك وتعالى-؛ فكانت النهاية أن طرده الله –تبارك وتعالى- من رحمته.

قال: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}[الأعراف:13]، {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[الحجر:34]{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[الحجر:35]، فمعصية إبليس وهي سابقة عن معصية آدم, كان منها بعد أن عصى إبليس, أن أصر على المعصية, وتمسك بها, فكان من شأنه أن حرمه الله –تبارك وتعالى- من العودة والتوبة وإقالة العثرة وبقي في جرمه وذنبه أبدا. {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[الحجر:34]{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[الحجر:35]

 أما آدم لما عصى فإنه عاد إلى الله –تبارك وتعالى-, واعترف بذنبه، اعترف بخطيئته، ندم على فعله، وقال {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23]، فأقال الله –سبحانه وتعالى- عثرته وقال –جل وعلا- {فتاب عليه إنه هو التواب}، التواب صيغة مبالغة من التائب والمعنى  هذا وصف يوصف به العبد ويوصف به الرب، فنقول عبد تواب، كثير التوبة والرجوع إلى الله –تبارك وتعالى-. والله هو التواب،  أنه تواب يقبل توبة عبده –سبحانه وتعالى-، بل يحب العبد إذا تاب ورجع إليه، التواب الرحيم بعباده –سبحانه وتعالى-، فمع معاصيهم إذا استغفروه ورجعوا إليه، قال الله –تبارك وتعالى- {قلنا} قول من الله –تبارك وتعالى- إثر القول {اهبطوا منها جميعًا}. وهذا يدل على أن الجنة في علو في السماء، اهبطوا منها الهبوط، لأن الهبوط هو النزول من مكان عال إلى أسفل، اهبطوا منها من هذه الجنة جميعًا، آدم وزوجه وإبليس، {فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون فإما إن جاءكم منى هدى وقد أخبر –سبحانه وتعالى- هنا بأنه سيأتيهم هدى من الله –تبارك وتعالى-، الهدى هو الرسالة التي يبين الله –تبارك وتعالى- بها الطريق الحق ويعرف العباد بها بنفسه وبصفاته وحقه -سبحانه وتعالى- ويشرع لهم ما شاء -سبحانه وتعالى- من الشرعة والصراط المستقيم.

هذا هدى الله –تبارك وتعالى-، {فإما يأتينكم منى هدى} عندما يأتيكم منى هدى، {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، {فمن تبع هداي} مَنْ -بفتح الميم- مِنْ صيغ العموم، كل من تبع هدى الله –تبارك وتعالى ومن تبعهم بمعنى سار فيه وتبعه, وكما أمر يسير، كما في قول الله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}[الأعراف:3]،  اتبعوه وسيروا فيه وانطلقوا كما أمركم الله –تبارك وتعالى- {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، الخوف والحزن، الخوف هو استشعار شر قادم، فالإنسان ينقبض منها ويخاف منه، والحزن إنما هو الأسى والتألم لأمر سابق، هذا تأمين من الله –تبارك وتعالى- وأمان من الله –عز وجل-, أن عبادَه الذين يتبعون هداه, لا يكون لهم ما يخيفهم في المستقبل, ولا ما يحزنهم مما مضى، فلا خوفٌ عليهم فيما يأَتي, ولا هم يحزنون في أمر مضى منهم، {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} تأمينٌ تامٌ لهم من الله –تبارك وتعالى-، هذا من اتبع هدى الله –عز وجل-

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:39]، إخبارٌ منه –سبحانه وتعالى أن مَن كفرَ وكذَّب بآيات الله.

عرفنا الكفر في اللغة هو الستر والتغطية، وأن الكفر هنا في كلام الله, وكلام النبي -صلوات الله وسلامه عليه- هو جحد الحق بعد ظهوره، جحده ورده وتغطية أدلة توحيد وأدلة الصدق، وكذبوا بآيات ربنا آيات الله صدق، هو كذبها، قال لهذا الصدق أنه كذب، {وكذبوا بآياتنا}، آياتنا، الآيات آيات الله –تبارك وتعالى- تطلق على الآيات المتلوة وهى التى جاءت على ألسنة رسله، وآيات الله –تبارك وتعالى- كذلك،  المنظورة، فكل ما خلق الله –تبارك وتعالى- هذه آية، كل جزء مما خلق الله –تبارك وتعالى- فهذه آية من آياته، {كذبوا بآياتنا} المتلوة {أولئك} بالإشارة البعيدة تحقيرًا لهم، {أولئك أصحاب النار}.

النار هذه نار الآخرة، ومعنى أصحابها الملازمون لها؛ لأن الصحبة ملازمة, وأصحاب النار بمعنى أنهم الملازمون لها, والباقون فيها بقاءً لا ينقطع، أخبر الله –تبارك وتعالى- بأن أهلَ النارِ الذين كفروا وكذبوا بآيات الله –عز وجل- يظلون مصاحبين لهذه النار, باقين فيها بقاء لا انقطاع لها كما قال –جل وعلا- {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}[هود:106]، {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}[هود:107]، ما بقيت السماء والأرض, فهم باقون فيها إلا ما شاء الله, واستثناء من الله –تبارك وتعالى- وكل أمر بمشيئته، وقد بيّن -سبحانه وتعالى- أن هذه مشيئته, وأن أهل النار لا يخرجون منها أبدًا، كما قال –جل وعلا- {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}[الحجر:48]، ليس لهم خروج منها، وأنها كذلك لا تفنى، ولا تبيد كما قال –تبارك وتعالى- {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}[الإسراء:97].

{كلما خبت} خفت حرارتها {زدناهم سعيرًا}, ازدادوا سعيرا بعد السعير -عياذًا بالله-، {فهم أصحاب النار} الباقون فيها ويأتي كذلك أصحاب، صاحب يأتي هنا بمعنى المالك، كما نقول أنا صاحب هذه السيارة أو هذه الدار, أنا مالكها فكأنهم ملكوها أو ورثوها لا يخرجون منها -عياذًا بالله-، أولئك أصحاب النار، {هم} إعادة الضمير هنا بدءًا بـ هم فيها خالدون الإخبار بالجملة الإسمية التي هي مستقرة في الفعل، هم هؤلاء الموصوفون فيها في النار خالدون, أنهم ليسوا زوارًا للنار, ويخرجون أو يذهبون، يعذبون فيها ثم يخرجون إلى مكان آخر، لا، بل خلودهم وبقاؤهم في هذه النار، فإذا دخلوها أغلقت عليهم إغلاقًا لا يفتح بعده أبدًا، كما قال –جل وعلا- عن النار {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}[البلد:20]، مؤصدة  مغلقة {في عمد ممددة}، سنين طويلة لا تنقطع، {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}[النبأ:23]{لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا}[النبأ:24]، لابثين فيها في داخلها لا يذوقون فيها بردًا ولا شراب.

هذه قصة الخلق من البداية، قص الله –تبارك وتعالى- علينا قصة الخلق، ما بداية الأمر؟، هذه بداية الأمر أن الله –تبارك وتعالى- أراد أن يخلق آدم, فعرض الأمر على الملائكة، قالت الملائكة معترضين {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}، فرد الرب عليهم بأنه يعلم إنشاء هذا الإنسان, ويعلم ما لا يعلمون، ثم كان من شأن هذا الإنسان أن الله –تبارك وتعالى- أمر الملائكة أن يسجدوا له, فسجدوا إلا إبليس؛ حسدًا لآدم, قياسا بالباطل أنه أفضل منه, فكان من شأنه أن لعنه الله –تبارك وتعالى- وطرده. وأصر إبليس على أن يمكر بهذا الإنسان. وأن يحاول أن يأخذه إلى النار معه بكل سبيل.

قال: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62]{قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء:63]{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}[الإسراء:64]

حذر الله –تبارك وتعالى- آدم في الجنة من الشيطان, وكان من شأن آدم أنه في لحظة نسيان لأمر الرب –تبارك وتعالى- وتصديق لهذا الكذاب إبليس, الذى أقسم له بالله بأنه ناصح له، قال: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}، ولم يتصور آدم أن مخلوقًا يمكن أن يحلف بالله كذبًا. {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الأعراف:22]، {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23]، قال: {فاهبطوا}، أخبرهم الله أنه سيهبطهم الأرض, وأنه سيأتيهم هدًى, وأن مآل الجميع إلى قسمين: من اتبع هدى الله –تبارك وتعالى- فهذا {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، هذا أمنه الله –تبارك وتعالى- أمنا كاملا في الدنيا وفى الآخرة،  فهذا نفى لأى نوع من الخوف فيما مضى وما يستقبل، وأما الذين كذبوا بآيات الله –تبارك وتعالى- فأخبر أنهم هؤلاء هم أصحاب النار الذين هم أصحابها هم فيها خالدون.

 انتهى هذا الفاصل من هذه السورة العظيمة سورة البقرة، ثم يبدأ هناك فاصل جديد وهو أن الله –تبارك وتعالى- يوجه نداءه ودعوته من خلال هذا القرآن الكريم وهذا النبي الذى أرسله رسولًا خاتمًا إلى بنى إسرائيل خاصة فيقول: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40]، من هذه الآية الأربعين من سورة البقرة إلى الآية واحد وأربعين ومائة، أي نحو مائة آية كلها خطاب لبنى إسرائيل وهى تستغرق نحو أكثر من ثلث سورة البقرة.

ذكرنا في مقدمة هذه السورة أن هذا الخطاب الطويل كان مع بنى إسرائيل موجهًا الله –تبارك وتعالى- الخطاب لهم ليؤمنوا بهذا النبي لأسباب: - أولا: - أنهم هم كانوا وراث هذا الدين والأنبياء السابقون جميعًا منذ إسحاق وإسرائيل -الذي هو يعقوب وينتمي إليه بنو إسرائيل في النهاية-، فهو أبوهم وجدهم، والأنبياء السابقين كلهم كانوا منهم إلى عيسى عليه السلام, فهو نبي آخر نبي من أنبياء بنى إسرائيل كانت وراثة الدين عندهم.

الدين انتقل بعد ذلك من هذا الفرع فرع إسحاق إلى فرع آخر، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو من نسل إسماعيل، وهذه نقلة في نسب النبوة ثم كذلك بعد ذلك نقلة إلى شريعة أخرى مستجدة غير الشريعة التي نزلت لموسى، فإن الأنبياء كلهم الذين جاءوا بعد موسى إنما كانوا على شريعته إلى عيسى عليه السلام، وإنما جاء على شريعة موسى كذلك.

جاء نبي جديد بشريعة جديدة لابد أن يخاطب هؤلاء الذين كانوا يتوارثون هذه النبوة ويدعوهم إلى الدخول في هذا الدين، إرادة الله –تبارك وتعالى- أن يتحول أولًا، الدين إلى نسب جديد من نسب أهل الأرض, ثم إلى دعوة جديدة ليست هذه الدعوة الجديدة المستقلة عن تلك, فأصل الدين واحد، وإنما شريعة جديدة, ورسول جديد يرسله الله –تبارك وتعالى- إلى العالمين، فلذلك  هؤلاء سيكونون أكبر عدو يقف في وجه هذا الدين؛ لأنهم يشعرون بأن هذا النبي جاء يسلبهم ملكهم ورئاستهم وسيادتهم ويحول أعظم أمر وهو أمر النبوة والرسالة منهم إلى العرب الذين منهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا أكبر عدو إلى هذا الدين فلذلك وجه الحديث  إليهم {يا بنى إسرائيل}، وسنسير مع هذا مع سياق الآيات لنرى كيف خاطبهم الله –تبارك وتعالى- وكيف دعاهم إلى هذا الدين؟ وكيف أقام الحجة عليهم؟ وبين أن هذا المسار هو المسار الذى أخذ على موسى وعلى الأنبياء أن يسيروا فيه, وأعلمهم الله –تبارك وتعالى- بأنه سيرسل الرسول الخاتم من هنا وأنهم يجب عليهم إذ أخرج هذا النبي أن يؤمنوا به وأن يتبعوه.

نكتفي بهذا ونقف عند هذه الآية وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد والحمد لله رب العالمين.