الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (180) - سورة الأنعام 110-115

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فكنا وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}[الأنعام:190-113].

في فاصل جديد في سياق هذه السورة يبين الله -تبارك وتعالى- فظاظة وغلظ وظلم أهل الكفر، وأنهم كاذبون فيما يدعون أنهم يريدوا الحق، قال -جل وعلا- {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، يعني حلفوا بالله حلف يبذلون فيه جهدهم في تأكيد هذا الحلف، جهد أيمانهم آخر ما عندهم من الجهد يبذلونه في تأكيد أيمانهم، {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}، أي ليس عندي الآيات التي تقترحونها، ما أنا بالذي أستطيع بأن آتيكم بالآيات التي تقترحون، وإنما الآيات كلها عند الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ}، خطاب لأهل الإيمان، ما يشعركم يعني أيها المؤمنون أنها إذا جاءت الآيات التي يقترحون هم لا يؤمنون؟ والسبب, قال {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ........}[الأنعام:110]، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- عاقبهم فقلب أفئدتهم، الفؤاد المنكوس والعين المنكوسة البصر المنكوس الذي يرى الأمور على غير صورتها الحقيقية، يراها مقلوبة فالحق يراه باطلا والباطل يراه حقا عقوبةً له، أخبر الله -تبارك وتعالى- أن هذه عقوبة من الله، قال {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ........}[الأنعام:110]، لأنهم لما عرض عليهم القرآن وعرفوا أنه الحق، وأنها هذا محمد ابن عبد الله ورسول الله حقًا وصدقًا، علموا هذا فكذبوه وردوه، فعاقبهم الله -تبارك وتعالى- بأن نكس قلوبهم نكس أبصارهم فأصبح الكذب الذي افتروه أصبح هو الحق عندهم، والصدق الذي ردوه أصبح هو الكذب عندهم، واعتقدوا هذا وتصوروا هذا عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، نتركهم نذرهم نتركهم ونمهلهم يسيرون في هذا العمى الذي ساروا فيه والذي اتخذوه، والذي جعلهم الله -تبارك وتعالى- فيه، عقوبة لهم منه -سبحانه وتعالى- فلا يفهموا الأمور على صورتها الحقيقية.

ثم يبين الله -تبارك وتعالى- أن هذه الآيات كلها مادام أن الله -تبارك وتعالى- صنع بهم هذا الصنيع وعاقبهم هذه العقوبة لا تنفعهم الآيات، قال {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ}، كما طلبوا فإنهم قد طلبوا أن تنزل إليهم الملائكة حتى يرونهم، قال -جل وعلا- {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ}، في هذه الأرض ورأوها، {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى}، أخرجنا لهم الموتى من قبورهم ليكلموهم وكانوا قد اقترحوا هذا، فإنهم قد قالوا للنبي -صل الله عليه وسلم- ابعث لنا قصي، قصي ابن كلاب ابعثه، وهو الرأس العظيم عند قريش، فهو الذي وحد كلمتهم وهو الذي أخرج خزاعة من الحرم من مكة، وأعاد سلطان قريش إلى الحرم، وكانت العرب وقريش يعظمون قصي أعظم التعظيم، قالوا ابعث لنا قصي، إن جاء قصي وأحييته وكلمته وآمن بك آمنا كلنا، كل القبيلة تدخل معك في الدين، فيخبر -تبارك وتعالى- بأنه لو أخرج الموتى من قبورهم وكلموهم، {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}، كل شيء من الغيب حشرناه عليهم، قبلًا في المقابلين يعني يرونه في مقابلتهم أمامهم، قال -جل وعلا- {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، أنظر هذه الآيات التي هي أكبر الآيات والتي اقترحوها، يخبر -تبارك وتعالى- أنه لو فعل هذا لهم فإنهم لن يؤمنوا إلا إذا شاء الله -تبارك وتعالى- إيمانهم، حتى هذه كذلك يرون هذي كلها ولا يؤمنوا إلا أن يشاء الله، قال -جل وعلا- {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، بأن يشرح صدورهم للإيمان وأن يقبلوا الحق، وإلا فهذه الآيات كلها مع حرمان الله -تبارك وتعالى- هذه الآيات لا تفيدهم ولا تنفعهم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}، أكثر هؤلاء أي المشركين أكثر هؤلاء الناس يجهلون، هذه حقيقة عن الله -تبارك وتعالى-، وأن الله هو الذي بيده هذا الأمر كله، وأنه عاقبهم –سبحانه وتعالى- هذه العقوبة لما أنكروا الحق وردوه فإنهم عوقبوا على طول، فإن الرب -تبارك وتعالى- سريع العقاب، لما عرفوا الحق؛ عرفوا إن هذا حق ولكن كذبوه وردوه فإن الله -تبارك وتعالى- حال بينهم وبين أن يؤمنوا.

ثم قال -جل وعلا- أن هذي سنته، قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:112]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}، الجعل هنا بمعنى التصيير والخلق، خلق هذا وصير هذا –سبحانه وتعالى- أنه جعل لكل نبي عدو، هيأ لكل نبيًا عدوًا بمقاديره -سبحانه وتعالى-، هذا هي مشيئة الرب –سبحانه وتعالى- وتقديره أن يكون ذلك، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}، لابد, فما في رسول يدعو إلى الله -تبارك وتعالى- إلا لابد أن يكون له أعداء، يقومون في وجهه, سنة الله -تبارك وتعالى-، ثم وصف الله هؤلاء الأعداء وصف بيان، قال {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ}، شياطين جمع شيطان، والشيطان هو المتمرد العاتي، العرب تطلق على كل متمرد شيطان من أي جنس، فالمتمرد من الجن شيطان، والمتمرد من الحيوان تسميه شيطان، والمتمرد من الإنس تسميه شيطان، وبهذا نزل القرآن, تسمية المتمرد والعاتي من أي جنس شيطان، كما قال النبي مثلًا في الكلب الأسود، قال «ما بال الكلب الأسود من الأصفر والأحمر أو الأبيض فقال الكلب الأسود شيطان»، يعني أنه متمرد، هذا اللون من جملة الكلاب متمرد، وقال عمر ابن الخطاب لما ركب على برذون فهملج به ((إنما أركبتموني على شيطان))، وقال -تبارك وتعالى- {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ}، وقال {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس:6]، فمن الجنة والناس موسوسون أي شياطين، وهذا أيضًا أسلوب مازال الناس يستخدمونه إلى يومنا هذا، فيسمون المتمرد شيطان حتى يسمون الولد إذا كثر شغبه شيطان، {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ}، أي متمردين عاتين من الإنس ومن الجن، أعداء يقومون في عداوة الأنبياء، فهذا نوح خرج له من يعاديه حياته كلها ويحذر منه، كما قال {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}، الآباء يحذرون الأبناء، وكذلك هود وصالح وموسى وعيسى -صلوات الله والسلام عليهم- جميعًا، والنبي -صلوات الله عليه وسلم- هو من جملة هؤلاء الأنبياء، قد هيأ له كذلك من هؤلاء الأعداء شياطين الإنس والجن، فإبليس على رأس شياطين الجن كان عدوًا للنبي، حتى إنه عاداه في صلاته -صل الله عليه وسلم-، وكذلك شياطين الإنس والذي كان على رأسهم من أمثال عمرو ابن هشام الذي سماه النبي أبا جهل، والعاصي ابن وائل السهمي والوليد ابن المغيرة المخزومي, وأمية ابن خلف وغيرهم هؤلاء شياطين الإنس، كل منهم شيطان متمرد عاتي قام في وجه النبي -صل الله عليه وسلم- وناصبه العداوة، وكذلك من شياطين الإنس كبراء اليهود، الذي قالوا والله عداوته ما حيينا، مثل حيي ابن أخطب الذي قال لأخيه هل هذا الرجل هو رسول الله؟ قال نعم هو هو، يعني هو رسول الله الذي أخبرنا به في التوراة، قال فما صنيعك به؟ ماذا تصنع به؟ قال عداوته والله ما بقيت، يعني أنا أعاديه طالما أن حي فلابد من عداوته، فهذا أمرٌ قد جعله الله -تبارك وتعالى- سنةً جارية في كل الرسل، ومنهم نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ........}[الأنعام:112]، الوحي هو الإعلام بطريق خفي، وهؤلاء شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس بطريق خفي، وكذلك شياطين الإنس الذين يوحي بعضهم لبعض ويتكلمون سرًا أو جانبًا بطريق خفي لنصب العداوة للأنبياء والرسل، {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، العرب تسمي الذهب زخرف، وذلك أنه زينة ولمعان، فالقول المزخرف هو القول المزين، قد يزين من الخارج يعجب ويبهر الناظر إليه، وفي حقيقته هو ليس ذهبًا وإنما هذا قول باطل زور، فهو ليس حقا وإنما هو مزور، كما يطلى أحيانًا أي معدن من المعادن الرخيصة بالذهب، فيزخرف من خارجه ولكنه في حقيقته ليس ذهبًا، ومن أمثال العرب ((ليس كل ما يلمع ذهبا))، ما كل ما يلمع يكون ذهبا، كذلك في أقوال تكون مزينة الظاهر، من رآها في ظاهرها اقتنع بهذا القول أن هذا القول حكمة وعلم، لكن عند اختباره ونقده ومعرفة حقيقته يتبين أنه قول زائف، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ........}[الأنعام:112]، القول المزخرف المزين بظاهر من الزينة ولكنه في حقيقته زائف، غرورًا تغريرًا يغرر بعضهم بعض، والتغرير هو إيهام المغرر به والموحى إليه بأن هذا حق وليس بحق، ذهب وليس بذهب، ومنه يسمى الطفل الصغير غرير لأنه يغر، من السهل أن تغره وأن توهمه بالأمر وليس على الحقيقة، غرورًا تغريرًا, فإظهار الباطل في قالب حق فيظن أنه حق وليس كذلك.

قال -جل وعلا- {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، ولو شاء ربك يا محمد, هنا قال ربك وما قال ولو شاء الله، وإنما قال ربك؛ لبيان أن الصلة وثيقة, خاصةً في مقام المحنة للرسول، ولكن يقول له لا تحزن؛ ربك الذي شاء هذا، شاء أن يقع هذا الأمر ربك إلهك ومولاك الذي أرسلك، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، ما فعل هؤلاء الشياطين في عداوتك ما يفعلون، فإن هذا واقع بمشيئته -سبحانه وتعالى-، واقع بأمره الكوني القدري، ولو شاء الله -تبارك وتعالى- أن يمنعهم من ذلك وأن يجمعهم على الهدى لفعل، لكن الله -تبارك وتعالى- ابتلاهم بما ابتلاهم به ليستحق الجنة من يتخذ طريقها، ويستحق النار كذلك من يتخذ طريقها، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، توجيه من الرب الإله –سبحانه وتعالى- لنبيه -صلوات الله والسلام عليه- أن يتركهم، {وَمَا يَفْتَرُونَ}، والذي يفترونه، والترك هنا بمعنى ترك المحاسبة وترك العقوبة لهم على هذا الأمر، أن يترك هذا لله -تبارك وتعالى-؛ يتركون هذا لله، وليس معنى ذرهم أن لا تنذرهم ولا تحذرهم ؟؟؟؟؟؟لا، وإنما اتركهم وما اتخذوه في هذا الأمر، لا تحاسبهم على ذلك فإن حسابهم ومردهم إلى الله -تبارك وتعالى-.

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- بعد ذلك حكمته كذلك -سبحانه وتعالى- في أن يأخذ أهل الباطل هذا الطريق الباطل، قال -جل وعلا- {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}[الأنعام:113]، {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ}، إلى هذا القوم المزخرف المزين الظاهر الذي حقيقته الكذب والزور، فالشرك كذب وزور وبهتان ولكنه يطلى بهذا الطلاء من القول الباطل، من إن هذا إله وأنه ينفع وأنه وأنه ...، وأن هذا تراث الآباء والأجداد فيطلى بهذا الطلاء الزائف، والله يقول {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ}، تصغى تستمع، والإصغاء هو الاستماع بدقة وبحضور قلب. لما يرى هذا القول المزخرف يصغي إليه، {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، ليس آذانهم بل قلوبهم، لما يروا من حلاوة وقع هذا القول المزخرف عليهم يستمعون إليه بقلوبهم، {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، وهنا الله قال {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، هذا السبب؛ السبب أنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولو كانوا يؤمنون بالآخرة لما استمعوا لهذا الباطل، لقدروا موقفهم بين يدي الله -تبارك وتعالى-، ولكن لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، يظنون أن حياتهم الدنيا فقط، ينظرون إلى قوتهم وإلى تمكنهم في الأرض وإلى ضعف النبي -صل الله عليه وسلم- وإلى عدم تمكنه، فيقولون... ليس له سبيل، أين سيذهب, نحن المنتصرون، وبالتالي يظلون على باطلهم هذا، ويعلمون أن المسألة في الدنيا وأنهم سيسحقون هذا الدين وينهونه من الوجود، والغلبة لهم في النهاية وأن النبي لا سبيل له لأن يتغلب عليهم، لكن لو كان هؤلاء يؤمنون بالآخرة، يؤمنون إنهم وإن ماتوا وهم في حال غلبهم وفي حال قوتهم والنبي مازال في حال ضعفه أنهم سيبعثون يوم القيامة، وأنهم سيحاسبون أمام الرب، لقدروا الموقف ولراجعوا أقوالهم التي يقولونها، لكن لا يؤمنون بالآخرة ولذلك ساروا في الباطل الذي هم فيه؛ ويعلمون أنه باطل، لكنهم ساروا متمسكين به، قال -جل وعلا- {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ}، إليه إلى هذا الباطل الزور المزخرف.

{أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ}، هذي هي مصيبة المفتتن، فإنه مع تكرر القول الباطل وأخذه وزخرفته فإنه بعد ذلك يرضاه، يؤمن به حتى وإن كان هو مفتري الكذب، هو المفتري لهذا الكذب ولهذا الزور يأتي الوقت الذي يقتنع فيه ويصدق ما افتراه هو من الكذب، تصبح هذه الكذبة كذبةً افتراها ولكنه بعد ذلك يصدقها، {وَلِيَرْضَوْهُ}، قال -جل وعلا- {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}، اتركهم  ليقترفوا؛ ليعملوا من الأعمال، الاقتراف هو العمل الذي هو إثم وفيه ما فيه من الحساب، اتركه يقترف، يفعل ما يفعل، فإن هذه مشيئة الرب فيهم، {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}، مهما كان، سب النبي، سب الله -تبارك وتعالى-، فعل ما يفعلوه، محاربة دينه، القيام في وجهه، {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}، يعني أن هذه مشيئة الرب -سبحانه وتعالى- وإرادته الكونية القدرية في هؤلاء، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ}، هذا الجعل الكوني القدري، {........ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
(
112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}[الأنعام:113]، هذا غاية التهديد، عظيم التهديد من الرب -تبارك وتعالى- لهؤلاء، وأن الله -تبارك وتعالى- أرخى لهم الحبل على هذا النحو، وأمدهم في هذا الطغيان يفعلوا به ما يشاؤوا، وأن هذه إرادة الرب -تبارك وتعالى- ليكون بعد ذلك إثمهم وحسابهم عليهم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يقول {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)}[الأنعام:114-117].

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا}، بعد هذا البيان والتفصيل لحال النبي -صل الله عليه وسلم-، وحال هؤلاء الكفار وما اتخذوه من طريقهم الباطل، يبقى هنا الحكم إلى الله -تبارك وتعالى-، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ}، أي هل هناك إله غير الله -تبارك وتعالى- أو حاكم غير الله احتكم إليه، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا}، أطلب حكمًا بيني وبينكم أيها الكفار المعاندون، {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا}، الله هو الذي أنزل إليكم الكتاب ليكون حجة عليكم وبيان ومعجزة، وهو الله -سبحانه وتعالى- {الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ}، القرآن، سمي كتاب؛ فهو مكتوب في السماء وكذلك يكتب في الأرض، ولا كتاب أعظم من كتاب الله -تبارك وتعالى- كتابة في السماء والأرض، ولا قرآن أعظم كذلك من قرآن يقرأ في السماء ويقرأ في الأرض، {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ}، الذي لا يستحق أن يسمى كتاب إلا هذا، {مُفَصَّلًا}، المفصل الذي فصل فيه بين كل أمر وتاليه حتى تتضح الأمور، التوحيد بأقسامه، الشرك بأنواعه، كل بيان، اليوم الآخر، حدود الله -تبارك وتعالى-، شرائعه، فصل الله -تبارك وتعالى- فيه كل شيء، من مسائل الإيمان ومن مسائل الأخلاق ومن مسائل الدين مفصل تمامًا، {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا}.

قال -جل وعلا- {........ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[الأنعام:114]، {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}، الكتاب؛ الكتب المنزلة قبل النبي -صلوات الله والسلام عليه- التوراة والإنجيل، ممن عرفوا الدين وممن يؤمنون، فهؤلاء يعلمون أن هذا القرآن هو منزل من الله -تبارك وتعالى- بالحق، كما كان أول واحد منهم ورقة ابن نوفل -رضي الله تعالى عنه-، فهذا من أصحاب النبي -صل الله عليه وسلم-، وإن لم يكن قد علم نبوءة النبي لم يؤمن به لأن لم يرسل النبي بعد -صلوات الله والسلام عليه-، لكنه عزم على إتباعه ونصره عندما يرسله الله -تبارك وتعالى-، فإنه لما سمع فقط الآيات الأولى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }[العلق:4-5]، هذه الآيات التي نزلت على النبي أول ما نزل عليه وسمعها ورقة ابن نوفل -رضي الله تعالى عنه-، كان رجلًا قد قرأ التوراة، قرأ الإنجيل وكان يكتب بالعبرية ما شاء الله أن يكتب، كان يكتب تعلم العبرية، قال له ((يا بني إن هذا والذي جاء به موسى ينبع من مشكاة واحدة))، قاله ضوء واحد هذا مصباح واحد، هذا الكلام الذي جئت به والذي جاء به موسى يضيء من مشكاة واحدة، ينبع من مشكاة واحدة، ثم قال له متحسرًا ((ليتني أكون فيها جذعًا إذ يخرجك قومك))، يقول يا ليتني شباب، ليتني أكون شابًا عندما يخرجك قومك من مكة، فقال النبي «أومخرجي هم؟»، فقال له ((يا بني إنه لم يأتي أحد بمثل ما جئت به إلا عودي))، قاله يا بني كان طبعًا صغير السن، النبي يعني في سن الأربعين وهذا كان رجلًا كبير كان قد شاب وعمي -رضي الله تعالى عنه-، قاله إنه وهذا يدل على أن النبي لم يكن يعلم بشأن الرسالات السابقة شيء، قال له إنه لم يأتي أحد بمثل ما جئت به، يعني هذه النبوة والرسالة إلا عودي، لابد أن يكون له أعداء، وبالتالي أهل مكة سيعادونك ويخرجونك من مكة، يقول يا ليتني أكون شبابا إذن لنصرتك نصرًا مؤزرًا، لوقفت معك وشددت من أمرك ونصرتك نصرًا مؤزرًا، فهذا أول واحد، هذا أول رجل من أهل الكتاب لامست أذناه كلام الله -تبارك وتعالى- المنزل في القرآن، فقال هذا والذي جاء به موسى ينبع من مشكاة واحدة، وكذلك أهل الكتاب الذي اختارهم الله -تبارك وتعالى- واصطفاهم لدينه من اليهود والنصارى، فإنهم بمجرد ما قرئ عليهم هذا القرآن علموا أنه كتاب الله -تبارك وتعالى-.

فيخبر -سبحانه وتعالى- فيقول {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}، أي من قبلك، {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}، يعلمون أن هذا القرآن منزل من ربك، نازل من الله -تبارك وتعالى- عليك يا محمد من ربك بالحق، حال كونه ملبس بالحق وحال كون الموجود في القرآن هو الحق، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، فلا تكونن للنبي -صل الله عليه وسلم- من الممترين؛ من الشاكين، والنبي لا يشك -صلوات الله والسلام عليه-، ولكن هذا لكل من يمتري في القرآن من أنه من الله -تبارك وتعالى-، ووجه الخطاب إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وإن كان النبي لا يمتري -صل الله عليه وسلم- لتشريف الخطاب، ولبيان أن الجميع مخاطب بذلك، وأن من يمتري في هذا القرآن يخرج من الدين من يمتري فيه، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.

ثم {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنعام:115]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}، كلمة مفرد مضاف إلى معرفة الرب -جل وعلا- فتعم جميع كلمات ربك، والكلمة أيضًا في لغة العرب ليست الكلمة المفردة وإنما الكلمة من معنى الخطبة، كما يقول ألقيت كلمة في الحفل والمقصود بكلمة خطبة طويلة، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}، كلمات ربك، {صِدْقًا وَعَدْلًا}، صدقًا في الأخبار، كل أخبار الله -تبارك وتعالى- صدق، وعدلًا في الأحكام، فهذا كلام الله -تبارك وتعالى- القرآن المنزل على النبي -صلوات الله والسلام عليه- صادق في كل ما يخبر به، عادل في كل حكم يحكم به، لأنه من الله -تبارك وتعالى-، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}، وكذلك لا أحد أعدل من الله -تبارك وتعالى- وأحق منه بالعدل -جل وعلا-، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنعام:115]، لا أحد يستطيع أن يبدل كلمات الله -تبارك وتعالى-، كلماته الكونية القدرية لا يمكن تبديلها، يعني إذا حكم الله -تبارك وتعالى- بأمر، أي حكم برفع، بخفض، بذل، بغيره، بعز، فإن كل كلماته -سبحانه وتعالى- في عباده الكونية القدرية لا يستطيع أحد تبديلها، فما حكم به الله -تبارك وتعالى- لابد أن يكون، وكذلك كلماته المنزلة -سبحانه وتعالى- لا يستطيع أحد أن يبدلها، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أذن بحفظ هذه الكلمات المنزلة منه -سبحانه وتعالى- وهي القرآن، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} السميع لكل خلقه -سبحانه وتعالى-، العليم بكل خلقه -سبحانه وتعالى-.

إذن ما الذي يريده هؤلاء الكفار من آية بعد القرآن؟! يعني أي آية يريدون بعد هذا القرآن الذي تمت كلماته، صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام، لا شك أن تجاوز هذا القرآن وطلب آيات غير الآيات المنزلة من الله -تبارك وتعالى- الواضحات البينات، التي هي إعجاز في نزولها متحدًا بها، كلها صدق وكلها عدل، فما الذي يريد هؤلاء الكفار من آية بعد ذلك؟! {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ........}[الأنعام:115]، في كل هذه الأحكام التي حكم الله -تبارك وتعالى- بها، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، ثم قال الله لرسوله {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الأنعام:116].

وهذا -إن شاء الله- نعيش في ظلاله ومعه -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قول هذا، وأستغفر الله لي ولكم.