إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد فإن خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمد -صل الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ(124)فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ(126) لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:124-127].
الآيات من سورة الأنعام في سياق حِجاج الله -تبارك وتعالى- وخطابه للمشركين وإقامة الحجة عليهم، دعوتهم إلى عبادته وتوحيده لا شريك له، وترك ما يعبدون من دونه -جل وعلا-، هنا السياق في بيان تعنتهم وأنه مهما أعطوا من الآيات فإنهم مكذبون متعنتون، قال -جل وعلا- {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}، {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ}، من الله -تبارك وتعالى- آية من آياته المقروءة منزلة من عنده، وكل الآيات المنزلة من عنده هذا القرآن آيات وعلامات واضحات أن هذا خطاب الله -سبحانه وتعالى-، فلا يستطيع أحد أن يصوغ بهذه اللغة العربية كلامًا كهذا الكلام المنزل من الله -تبارك وتعالى-، وقد تحداهم الله به وأعجزهم أن يأتوا بكلام مثله ولو مفترى، {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}، صياغةً وحلاوةً وطلاوةً كما القرآن، كذلك أي آية من آيات الله -تبارك وتعالى- مما يجريها الله -تبارك وتعالى- على يد رسوله، كما كان في مكة انشقاق القمر, والأخبار الكثيرة التي أخبر النبي بها وأتت كما أخبر، وعلم السابقين الذي أتى به هذا النبي الأمي الذي لم يقرأ كتابًا قبل ذلك، {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:197]، هذه أليست آية من الآيات؟ كل هذه الآيات التي جاءتهم من الله -تبارك وتعالى- على صدق النبي محمد -صل الله عليه وسلم- وعلى حقيقة ما يدعوهم إليه، مع هذا, كل هذه الآيات رفضوها.
{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ}، لن بنفي حدوث الفعل في المستقبل مطلقا، {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}، لن نؤمن بهذه الرسالة، بأن محمدا رسولا بما جاء به إلا إذا أوتي كل منا مثل ما أوتي رسل الله أي من الوحي، يعني أن يوحي الله -تبارك وتعالى- إلى كل فرد منهم بذاته، ويأتهم خطاب خاص من الله -جل وعلا- إليه، {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}، قال -جل وعلا- {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، الله -سبحانه وتعالى- أعلم حيث يجعل رسالته، من الذي يستحق هذه الرسالة فينزلها عليه –سبحانه وتعالى- ويرسله بعد ذلك إلى من يرسله إليهم -جل وعلا-، وهذا الكلام الذي قالوه إنما هو دليل كِبر، ولو أعطي, مثالا في الأرض كأن يأتي شخص رسالة من الملك ترسل عن طريق شخص (رسول)، يرسل الملك رسولا إلى شخص يقول يأمرك الملك بكذا وكذا وكذا وكذا، فيقول لا؛ لا أقبل هذا حتى يأتيني الملك بنفسه، وحتى يكلمني بذاته، أما أن يرسل لي فلا، كبر وتكبر فقد طلبوا من النبي -صل الله عليه وسلم- أن يروا الله جهرة، وأن يأتيهم الله -تبارك وتعالى-، أو أن يروا الملائكة عيانًا بيانًا يكلمونهم هم وهؤلاء، قال -جل وعلا- {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}.
هنا يقول الله -تبارك وتعالى- {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، فينزل رسالته -سبحانه وتعالى- على من يختاره من عباده -جل وعلا-، ثم قال -جل وعلا- {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}، هذا وعيد من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المتكبرين، الذي أبوا أن يتقبلوا رسالة الله الذي اختار لهم رسولًا من أنفسهم ليبلغهم رسالة الرب -جل وعلا-، فقال {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}، وسماهم هنا بالمجرمين، المجرم فاعل الإجرام، والجرم هو الذنب العظيم، وهذا أعظم ذنب التعالي على أمر الله -تبارك وتعالى-، أن يحتقر الرسول الذي يرسله الله -تبارك وتعالى- إليه، ويقول لا أقبل حتى يرسل لي أنا رسالةً خاصة مثل ما أرسل لهذا الرسول، يرسل ملكه إلي، قال -جل وعلا- {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ}، الصغار الذلة، يعني يذلون يهانون، وهذا الصغار الذي يكتبه الله -تبارك وتعالى- عليهم يوم القيامة، ويلاقون ذلة ما بعدها ذلة، الخزي الأكبر خزي النار ولكنهم يدخلونها أذلة، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}[القمر:48]، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[الطور:14]، {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأحقاف:34]، {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ}، ذلة ومهانة، {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}، وعذاب شديد؛ عذاب النار عياذًا بالله، وما ذكره الله -تبارك وتعالى- من أنواع العذاب طعامًا وشرابًا وحممًا وتقريعًا وتأنيبًا، فهذا عذاب -عياذًا بالله- عذاب الله -تبارك وتعالى- شديد، ثم قال -جل وعلا- {بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}، سمى الله -تبارك وتعالى- فعلهم هذا مكر، وذلك أن قولهم إذا جاءتنا رسالة من الله -تبارك وتعالى- لنؤمن فنحن مستعدون للإيمان، وهم لم يقولوا هذا لأنهم يريدون أن يؤمنوا بالفعل ويحتاجون إلى هذه الرسالة ليؤمنوا، وإنما قالوا هذا تعنتا وكبرا وعنادا، فلذلك هذا مكر، هذا إظهار خلاف ما يبطنون، فهم يبطنون الكفر مهما كان، لكنهم قد يظهرون لغيرهم ممن دونهم من الناس أنهم على استعداد لهذا الإيمان، وأنهم مستعدون له لو أن الله خاطبهم بنفسه أو جاءهم أو أرسل لهم رسالة منه -جل وعلا- رأسًا بالملائكة، فنؤتى مثل ما أوتي محمد، كما نزل الملك على محمد فلينزل علينا كذلك ليدعونا إلى الله فنؤمن بذلك.
ثم قال -جل وعلا- {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:125]، هنا رد الله -تبارك وتعالى- أمر الهداية والإضلال إلى إرادته ومشيئته -سبحانه وتعالى-، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال -جل وعلا- {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ}، أي من خلقه، {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}، الشرح هو التوسعة والفسح، يشرح صدره للإسلام يعني يجعل صدره واسعًا فسيحًا، فيتقبل هذا الدين ويحبه ويصدق بالصدق, هذا صدق فيصدق الصدق، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ}، يعني يوفقه إلى طريقه، {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}، وشرح الصدر انفتاح القلب ومحبته وإشراقته بنزول كلام الله -تبارك وتعالى-، بورود كلام الله -عز وجل- عليه، والإسلام الانقياد والإذعان لله -تبارك وتعالى- لأن هذا هو الدين، الانقياد لله -تبارك وتعالى- والإذعان له هذا يحبه ويرضى به ويطمئن إليه، ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، من يرد الله -تبارك وتعالى- أن يضله فالأمر بإرادته -سبحانه وتعالى-، والضلال هو الغياب عن طريق الهدى، {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، الحرج كذلك بمعنى الضيق والتألم والعنت من الأمر، {حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، الإنسان إذا تصعد في السماء كأنه يرتفع إلى جبل عالٍ فإنه يصيبه التعب والإرهاق وضيق النفس ويصبح متضايق من هذا الأمر، إما تعبًا وإما كذلك ضيق تنفس عند كل من يصعد إلى طبقات الجو العليا فإنه يضيق تنفسه ويشعر بضيق الصدر ويتمنى أن يخرج من هذه الحالة، {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ}، يصعد يعني يصعد المرة بعد المرة في السماء، ثم قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}، كذلك كهذا الفعل من عقوبة الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء، {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}، فهذا السبب، فهذا سبب إرادة الله -تبارك وتعالى- لهم هذا الضلال أنهم لا يؤمنون، لا يصدقون، جاءهم الصدق من الله -تبارك وتعالى-، جاءهم البرهان والدليل عرفوا هذا ثم لا يصدقون، فماذا يكون؟ ما دام أنهم قد تلبسوا بهذا التكذيب ورد الحق فإن الله -تبارك وتعالى- يعاقبهم هذه العقوبة فيضلهم عن الحق، فعند ذلك يعرف الحق ولكن يضيق صدره به، لا يطيقه كما قال -جل وعلا- {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[الزمر:45].
ثم قال -جل وعلا- {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}[الأنعام:126]، {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ}، الصراط الطريق، {صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا}، والمشار إليه هذا الدين الذي جاء به النبي -صل الله عليه وسلم-، وهو صراط الله –تبارك وتعالى- قد بيَّنه الله -تبارك وتعالى- وقد أوضحه، {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا}، أي قد فصلناه وقد بيناه، {........ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}[الأنعام:126]، قد تحقيق، (فصلنا) التفصيل هو البيان لكل أمر على حده حتى يصبح كل أمر بيِّن، الشرك بطرقه وأنواعه وأعماله، التوحيد؛ ما معنى توحيد الله -تبارك وتعالى- والإيمان به -تبارك وتعالى-، مسائل الإيمان، أنواع الضلال، حال الضال في الدنيا والآخرة، حال المؤمن، طريقة معاملة الرب -تبارك وتعالى- لهؤلاء وهؤلاء، أمثلة ممن ذهبوا، أمثال يضربها الله -تبارك وتعالى- لتقرب الأمور، مواعظ اخبار الناس ماذا سيكون من مآلهم، الحساب بين يدي الرب -تبارك وتعالى-، كل هذا بينه الله -تبارك وتعالى-، بيَّن الطريق، وبين الله -تبارك وتعالى- الطريق لكل من سلك، هذا طريق الخير، هذا طريق الشر، هذا الذي يسلك هذا مآله، الذي يسلك هذا الطريق هذا مآله، كل الأعمال التي يعملونها ضرب الله -تبارك وتعالى- لها الأمثال بالخير والشر، {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43]، ففصل الله -تبارك وتعالى- الأمر تفصيلًا كاملًا، {........ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}[الأنعام:126]، لكن هذا التفصيل لا يصلح إلا لقوم يذكرون، والتذكر هو استحضار المعاني والعيش فيها والامتثال لها، أما من لا يتذكر ويلقى عليه الكلام ولا يعيره اهتمام ويتركه ولا يتفكر فيه ولا ينظر إليه ولا يتمثله في عقله ويستعيد المعنى ويتبصر فيه، كل هذا بمعنى الذكرى فهذا لا يفيده شيئا، فآيات الله -تبارك وتعالى- لا تفيده، {........ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}[الأنعام:126]، يتذكرون.
{لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، هؤلاء الذين يتذكرون قال -جل وعلا- {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ}، الجنة، سماها الله -تبارك وتعالى- دار السلام لأنه لا حرب فيها ولا شتم فيها ولا عداوة فيها ولا خصومة فيها، بل هي سلام دائم، ثم هي سلامة، السلام أيضًا بمعنى سلامة، هي سلامة من كل شر، فلا مرض فيها ولا موت فيها ولا رحيل فيها ولا ألم يتألمه الإنسان، ولا حزن يحزنه، هي قد سلمها الله -تبارك وتعالى- من كل الآفات، دار مسلّمة من كل آفة؛ لا آفة فيها، بل أدنى القذارات لا أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتنخمون ولا يبصقون، رشحهم المسك، يعني عرقهم رائحته رائحة المسك، فهذا هي دار مسلّمة من كل آفة، لا آفة فيها من الآفات التي يعرفها الناس في الدنيا بكل آفة هذه نزهها الله -تبارك وتعالى-، {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، ثم قول الله -تبارك وتعالى- {عِنْدَ رَبِّهِمْ}، إذن هي في الحفظ والصون ثم هي في الضمان، وفي الوعد الأكيد، فالأمر إذا كان عند الله إذن لا يضيع ولن يفلت، فلذلك هذا مضمون، هذا أمر مضمون تمامًا لهؤلاء القوم الذين يذكرون، واستقبلوا آيات الله -تبارك وتعالى- وآمنوا بها فهذه دار السلام عند ربهم، ثم هو ربهم: الله -تبارك وتعالى- هو ربهم ما قال عند الله قال عند ربهم، ليبين أنهم قريبون إليه فهو ربهم -سبحانه وتعالى-، بمعنى أنه سيدهم، متولي شئونهم -سبحانه وتعالى-، مدبر أمرهم، ثم القربى هنا إضافتهم إلى الله -تبارك وتعالى- إضافة القرب والتشريف من ربهم -سبحانه وتعالى-، {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ........}[الأنعام:127]، وهو الله -تبارك وتعالى- وليهم، الولي الناصر، الولاية عند العرب هو كل من تقوم بينك وبينه علاقة تجعله يواليك وأنت تواليه، والولاية فيها النصرة والمحبة والتضامن والتعاون، ولذلك العرب تطلق الولي على عدة أفراد، تطلق الولي على الحليف من كان بينك وبينه حلف سموه ولي، هؤلاء أولياء، وتطلق الولي على السيد وتطلق الولي على العبد وذلك أن بين السيد والعبد في ولاية، في رابطة تربط بينهما، وتطلق الولي على الأخ وأخيه فهم أولياء، فالأخ وأخيه؛ وذلك أن بينهم علاقة الأخوة يجعل كل منهم ولي الأخر، الله -تبارك وتعالى- ولي الذين آمنوا، وليهم وولاية الله -تبارك وتعالى- الله يتخذ أولياء له من الخلق، يحبهم ويحبونه، ينصرهم ويؤيدهم ويهديهم.
ومن صور هذه الولاية قال الله -تبارك وتعالى- {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، فهذا رحمةٌ بهم، هذا من ولايته -سبحانه وتعالى-، والله لا يتخذ وليا من الذل، كل الخلق عندما يتخذ ولي فإنما يتخذه ليستعين به وليعينه لأنه فقير إليه، فالإنسان فقير إلى الأخ، فقير إلى الحليف، فقير إلى السيد الذي يواليه، إلى الخدم الذي يواليهم، عجز الإنسان وفقره وحاجته إلى هؤلاء حتى الملك يكون في ملكه محتاج إلى أولياء، أنصار وحلفاء ووزراء يوالونه ويقومون معه، أما الله لا، الله لا يتخذ وليا لأنه في حاجة إلى من يواليه من خلقه -تعالى الله عن ذلك، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ........}[الإسراء:111]، لا يتخذ وليًا لأن الله -تبارك وتعالى- لا يحتاج لأن يستعين بأحد,كلا، بل الله -تبارك وتعالى- مستغنٍ عن خلقه جميعًا -سبحانه وتعالى-، فهو الغني عن كل خلقه، وإنما يتخذ وليا لأنه يحبه؛ يحب المؤمنين، يحب عباده المؤمنين فيواليهم -سبحانه وتعالى-، ليس استكثارا بهم ولا استقواء يتقوى بهم ولا يستغني بهم ولا يستنصر بهم لينصروه ,لا، وإنما هو ناصرهم وهو رازقهم وهو متولي شئونهم وهو المنعم عليهم -سبحانه وتعالى-، فولايته لخلقه إنما هي تفضل منه -سبحانه وتعالى- على الخلق، والخلق في حاجة إلى ولايته، كل الخلق في حاجة إلى ولايته -سبحانه وتعالى-، إذ هو الرب الصمد الذي بيده الأمر كله -سبحانه وتعالى-.
هنا عندما يقول هذا فهذا بشرى من الله للذين يذكرون، قال الله {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ........}[الأنعام:127]، وهو الله -سبحانه وتعالى- وليهم بمعنى مؤيدهم وناصرهم ومثبتهم، وكل معاني الرحمة من الرب لعبادة المؤمنين هنا مندرجة تحت الولاية؛ ولاية الرب لهم، {........ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:127]، يعني أن الله -تبارك وتعالى- والاهم وجعل هذه دار السلام بعملهم، لأنهم كانوا يعملون، {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وعملهم هذا الإيمان به -سبحانه وتعالى- ونصرته وعبادته، إيثار محبته على كل شيء، فهذا بعملهم هذا الطيب وعملهم الصالح فإن الله -تبارك وتعالى- من أجل هذا والاهم، كما جاء في الحديث مثلًا أن الولاية بأسباب، قال في الحديث الصحيح لأبي هريرة في الصحيح «من عاد لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»، فالله يحامي ويحارب عن أوليائه، «من عاد لي وليًا فقد آذنته بالحرب»، يعني أعلنت بأني أحارب له، ثم يبين طريق الولاية الرب -جل وعلا- يقول «وما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه»، فأحب الأمور الذي يريد القرب من الله لحصول ولاية الرب له أن يتقرب أولًا أن يفعل فرائضه، ثم النوافل «ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته»، كنت سمعه، كنت بصره، كنت يده، كنت رجله، فيكون هذا العبد: الله -تبارك وتعالى- صون له وحفظ له ونور له، ينير الله -تبارك وتعالى- كل كيانه، فيكون هذا الكيان قائم في طاعة الله -تبارك وتعالى- مسخر في طريق الرب -جل وعلا-، قال {........ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:127].
ثم فاصل جديد، ينقلنا الله -تبارك وتعالى- إلى فاصل, فبعد أن بين مصير أهل الإيمان الذين أمنوا بهذا، وذكر صورة لتعنت هؤلاء الكفار الذين قالوا {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}، فلنرى ما موقع هؤلاء الكفار في الآخرة:
قال -جل وعلا- {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأنعام:128-129]، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}، يوم القيامة، نحشرهم نجمعهم، هؤلاء الكفار يجمعون جميعًا، ثم يخاطب الله -تبارك وتعالى- الجن الذين أضلوا هؤلاء، لأن هؤلاء الكفار والمشركين بتعنتهم هذا إنما كانت بينهم وبين هؤلاء الجن ولاية، أطاعوا الشيطان وهو أعدى عدوهم، أعدى عدو للإنسان هو هذا الشيطان، أطاعوه في معصية الله -تبارك وتعالى-، فالله يجمع هذا؛ يجمع الكفار من الإنس وهؤلاء الكفار من الجن الذين أضلوهم، يجمعهم بعضهم مع بعض ثم يخاطب الجن، يخاطب المعلمين؛ معلمي الشر، وأساتذته، قرنائهم هؤلاء الذين أضلوهم، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}، الضالين من الإنس والذين أضلوهم من الجن.
يخاطب الله -تبارك وتعالى- الجن، يقول لهم {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ}، يا جماعة الجن، {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ}، قد استكثرتم يعني جمعتم جمعًا كبيرًا جدًا من الإنس، أضللتم العدد الغفير، أخذتم منهم عددًا هائلًا كبير أخذتموهم، هذا الذي أخذه إبليس على نفسه يوم طرده الله -تبارك وتعالى-، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62]، جمع الذرية، أكثر الذرية سوف آخذهم معي إلى النار، {إِلَّا قَلِيلًا}، {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ........}[الإسراء:63-65]، أخذوا كثيرا، فيقول لهم {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ}، استكثرتم يعني أخذتم أضللتم عددا كبيرا جدًا من الإنس، فيتكلم, أنظر الخزي والعار يبدأ الآن؛ الإنس الضالين هم الذين يتكلمون ويقرون على أنفسهم بهذه الجريمة، قال -جل وعلا- {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ}، يعني أولياء الجن من الإنس يتكلمون، {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا}، يقولون هذا للأسف اعتذارا، كأنهم يعتذرون بهذه الخيبة والعار الذي جاءوا به، {رَبَّنَا}، يعني يا ربنا، {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}، كل منا استمتع بالأخر، نحن اتبعنا الجن فزينوا لنا الشر والأهواء، استمتعنا بالمعاصي وأنواع الفجور التي ساقنا الجن إليها، والجن استمتعوا بنا بأن هذا هو يعني هدفهم ومقصدهم منا إضلالنا، فارتاحوا واستأنسوا, لأنهم عندما الإنسان يستجيب لهم فإنهم يفرحون بهذا.
ولأن هذه الآية فيها -إن شاء الله- مزيد تفسير وبيان نرجوها إلى الحلقة الآتية -إن شاء الله-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.