الخميس 09 ذو القعدة 1445 . 16 مايو 2024

الحلقة (184) - سورة الأنعام 136-140

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فإن خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمد -صل الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام:136-139].

 هذا سياق جديد. مقطعٌ جديد في هذه السورة العظيمة؛ سورة الأنعام، التي نزلت كلها من السماء على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهو في مكة دفعة واحدة، هذا الفاصل من السورة بيان سخافة عقول هؤلاء المشركين المعارضين لهذا الدين، والصراط المستقيم المنزل من الرب الرحيم -سبحانه وتعالى- العزيز الحكيم، على محمد سيد الأولين والآخرين -صلوات الله والسلام عليه-، بعد أن انتهى الفاصل السابق بالمفاصلة لهم فقال -تبارك وتعالى- {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[الأنعام:135]، هذا في نهاية الخطاب السابق بعد أن أبطل الله -تبارك وتعالى- كل ما احتجوا به، ودعاهم إليه الرب الإله وحده -سبحانه وتعالى-، فقال لهم سيروا؛ سيروا في دربكم وطريقتكم ومكانتكم التي أنتم عليها، من الشرك والكفر والعناد لله -تبارك وتعالى- فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار، النصر والتمكين في الدنيا والفوز والسعادة في الآخرة، ثم قال -جل وعلا- مبينًا الحكم الذي عنده {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، إنه الحال والشأن أن الظالم لا يفلح، وهؤلاء يرتكبون أكبر الظلم بكذبهم على الله -تبارك وتعالى- وافترائهم وردهم الحق، وتكذيبهم بالحق المنزل لهم من الله -تبارك وتعالى-، وأكبر الظلم الشرك بالله -تبارك وتعالى- الذي يفعلونه.

وهذا فاصل لبيان سخافة عقولهم فقال -جل وعلا- {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا}، أن الافتئات على الله -تبارك وتعالى- والتعالي عليه وإظهار التفضل له، جعلوا له؛ الجعل هنا بمعنى أنهم خصصوا –بناءً على اعتقادهم- وصيروا، {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا}، لله قربى منهم، قربانا يتقربون به إلى الله، {مِمَّا ذَرَأَ}، خلق؛ مما خلق الله -تبارك وتعالى-، {مِنَ الْحَرْثِ}، الزراعة، {وَالأَنْعَامِ}، بهيمة الأنعام المأكولة، الثمانية أزواج التي خلقها الله -تبارك وتعالى- لعباده، التي هي الغنم والماعز والإبل والبقر هذه بهيمة الأنعام، فهؤلاء جعلوا لله -وهو خالق الحرث والزراعة- جعلوا لله نصيبا، قالوا هذا النصيب لله، كأن هذا أولًا الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- وأعطاهم إياه ظنوا أنه استحقاق لهم وأنهم هم أهله هم ملاكه، وتفضلوا بجزء منه على الله -تبارك وتعالى-، كأنهم متفضلون بجزء منه على الله، فبدلًا من أن يقروا بأن هذا ملكه وخلقه وعطائه لهم وينتظروا في ذلك أمره -سبحانه وتعالى- فيما يجعل من القربان من الزكاة، وما يحل لهم أن يأكلوه ويشكروا الله -تبارك وتعالى- عليه...لا، بل ظنوا أن هذا ملكهم وهذا حقهم ثم أنهم تفضلوا بشيء منه على الله -تبارك وتعالى-، لا حول ولا قوة إلى بالله.

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ}، قال -جل وعلا- {بِزَعْمِهِمْ}، فقالوا هذا لله يعني هم الذين اشترعوه وخصصوه وقسموه لله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {بِزَعْمِهِمْ}، الزعم هو الاعتقاد الباطل أو القول الباطل، وهذا قسم أخر من القرابين قالوا {وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}، وهذا لشركائنا آلهتنا، وسماهم الله -تبارك وتعالى- شركائهم لأنهم اعتقدوا أنهم شركاء لله، إما شركاء في الحق كما ظنوا الملائكة، قالوا لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، فجعلوا الملائكة شريكا لله -تبارك وتعالى-، قالوا إلا شريكا لك، قالوا لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، وهم الملائكة فجعلوهم شركاء لله، وكانوا يتقربون إليهم كما يتقربون لله، يقولون هذا لله وهذا قربان الملائكة، كذلك هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله -تبارك وتعالى-، سواء كانت آلهة لما يعتقدونه من الشمس والكواكب أو لبعض الصالحين الذي ظنوهم كاللات، أو لبعض الجن كما كانت العزة، فيتقربون كذلك إلى هؤلاء الذين جعلوهم شركاء لله -تبارك وتعالى- في حقه وفي التقرب إليه وفي عبادته -جل وعلا-، {وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}، أنظر أيضًا هذه جريمة؛ جريمة أخرى، قال -جل وعلا- {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ}، اختلطت هذه القرابين بعضها ببعض، وضاع شيء مثلًا مما هو لله مع ما جعلوه لشركائهم، الله يقول {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ}، فإنهم إذا ضاع شيء مما خصصوه للأصنام ودخل في حق الله -تبارك وتعالى- لابد أن يأخذوه يقولوا لا، الله غني وأما هؤلاء الشركاء ففقراء ولابد أن نرجع هذا الحق إليه، أو هلك شيء مما جعلوه لله أو اضمحل فإنهم لا يهتمون به، لكن إن هلك شيء من هذه القرابين قبل أن يؤدونها لشركائهم فإنهم لابد وأن يعوضوها وأن يضعوا محلها، قال -جل وعلا- {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ}، لا يمكن عند التقرب يأخذوا شيء مما خصصوه للأصنام ويذبحونه ويتقربون به إلى الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ}، أما إذا احتاجوا أن يأخذوا مما جعلوه قربانًا لله يذبحونه لأصنامهم فلا بأس عندهم يجوزون ذلك، قال –جل وعلا- {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، يعني هذا الحكم حكم جائر باطل، حكم يقدمون فيه هذه الآلهة المخترعة المصنوعة التي افتروها من عند أنفسهم على الرب الإله -سبحانه وتعالى-، إذن ما اعتقادهم بالله، فالله -تبارك وتعالى- عندهم في المنزلة الثانية بعد هذه الآلهة المدعاة، قال -جل وعلا- {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.

أكثر من هذا قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:137]، وكذلك يعني كذلك في شأن ضلالهم وشأن حكمهم السيئ، {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}، هؤلاء الشركاء الذين عبدوهم من دون الله -تبارك وتعالى- وخاصة من الجن، زينوا لهم أي جملوا لهم وحسنوا لهم أن يتقربوا بأبنائهم إلى الأصنام، وكذلك أن يذبحوا ويقتلوا بناتهم ويدفنونها أحياء وهي الموؤدة، وهذا من أضل وأظلم التشريعات أن يشرعوا لهم هذا النحو، سواء أكان هذا قربى لهذه الأصنام فأولادهم التي هي أولادهم يتقربون بها إلى غير الله -تبارك وتعالى-، وكذلك تأمرهم هؤلاء الشركاء بأن يقتلوا أولادهم على هذا النحو من الظلم، فقد كان العرب يئدون البنات خوفًا من الفقر أو خوفًا من العار، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}، قال -جل وعلا- {لِيُرْدُوهُمْ}، هذا من الردى من الهلاك، هلاك في الدنيا وهلاك في الآخرة، ليردوهم بهذه الخسارة في الدنيا، الخسارة في الآخرة عند الله -تبارك وتعالى-، لأن هذا الذي ساروا فيه من الشرك بالله -تبارك وتعالى- والافتئات عليه وتشريع ما لم يشرع والحكم على الرب -جل وعلا- بهذه الأحكام السيئة هذا يوصلهم الردى، {لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}، يخلطوا عليهم دينهم، دين مختلط ومبتدع، دين ملبَّس يظنونه حقًا وهو باطل، فهو أمر قد يكون في ظاهره أنه من الحق، وأن هذا نحن نعطي لله ونعبده -سبحانه وتعالى-، ونعطي للآلهة وهذه الآلهة هي توصلنا لله -تبارك وتعالى-، ففي الظاهر يقنعون أنفسهم بهذا بأنه حق وهو أمر قد التبس عليهم، يعني لبِّس عليهم وأصبح هذا الحق هذا الكذب لبس في ظنهم لباس الحق على هذا النحو، والتبس عليهم طريق الرب -سبحانه وتعالى-.

{وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}، قال -جل وعلا- {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ}، لو شاء الله -تبارك وتعالى- ألا يفعلوا هذا وأراده أن يكون هذا كونًا وقدرًا لفعل، والله -تبارك وتعالى- قادر، فنواصي العباد كلها بيده -سبحانه وتعالى- وقلوب العباد بين أصبعين؛ أصبعين من أصابعه -سبحانه وتعال-، وهو يصرف القلوب والأبصار، فلو أراد الله -تبارك وتعالى- تصريفهم إلى الطاعة والعبادة وتوحيد الله -تبارك وتعالى-، وألا يفعلوا هذا؛ أي هذا الكفر السخيف وهذا الشرك وهذا الحكم الرديء، لفعل الله -تبارك وتعالى-، ولكن الله -تبارك وتعالى- لم يرد هذا، إنما خذلهم -سبحانه وتعالى- باتخاذهم هذا الطريق ورضائهم به، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ}، قال -جل وعلا- {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، ذرهم اتركهم، وما يفترون والذي يفترونه، فهذا افتروه لأن هذا كله كذب، هذا كله كذب افتروه على الله -تبارك وتعالى-، فإن الله لم ينزل لهم سلطانًا من عنده، كتابًا من عنده، وحيا من عنده، حكما من عنده يحكمون به هذا الحكم، وإنما هذا ما أملته عليهم أهوائهم وما وسوست به إليهم شياطينهم.

أيضًا تتمة من سخافة عقولهم في التشريع قالوا، قال -تبارك وتعالى- {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ}، هنا خصصوا أنعاما؛ بعض الأنعام، حرث من الزراعة، {حِجْرٌ}، الحجر محجورة يعني ممنوعة، فهذه يحجرونها يمنعونها ويقولون هذه {لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ}، يعني من ضيف أو أهل أو غير ذلك هذه يقول حكمها في هذه المحجورة الذي يخصونها ويحجرونها، هؤلاء هم الذين يخرجون لها الحكم الذي يريدون، {لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ}، قال -جل وعلا- {بِزَعْمِهِمْ}، أي أن هذا كذلك تحريم هذه الأنعام وثمرات الزرع جعلو حكمها لهم، وتحريمها على من لا يريدون. حكم من عندهم وتشريع من عند أنفسهم، قال -جل وعلا- {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا}، أنعام يحرمون ظهروها أي ركوبها، كما فعلوا مثلًا في الفحل الذي يخرج عشر بطون، فهذا يقولون حما ظهره لا يركب هذا، هذا لا يركب ويجعلونه لأصنامهم، {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا}، أي ركوبها، {وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ}، أنعام عندما يذبحونها؛ يذبحونها لأصنامهم وأوثانهم، ولا يستحلون ذكر اسم الله -تبارك وتعالى- عليها، لأنهم يرون أن هذا من الإثم, هذه خصصت للأصنام فلا يذكر اسم الله -تبارك وتعالى- عليها، قال -جل وعلا- {افْتِرَاءً عَلَيْهِ}، يعني أنهم نسبوا  هذا الأمر والذي فعلوه بأهوائهم وبكذبهم ونسبوه إلى الله -تبارك وتعالى-، فأصبح هذا افتراءً عليه، افتراءً كذبًا، الافتراء اختلاق الكذب، اختلاق هذا الكذب المختلق ونسبوه إلى الله -تبارك وتعالى- افتراءً على الله -تبارك وتعالى- . قال -جل وعلا- {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}، تهديد، وعيد منه -سبحانه وتعالى- على إثر ذلك، بأن الله سيجزيهم بما كانوا يفترون بافترائهم هذا، بسبب افترائهم هذا سيجزيهم الله -تبارك وتعالى-، وهذا أكبر الذنب، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، فلا أحد أظلم ممن يفتري على الله الكذب، وهؤلاء افتروا على الله الكذب في هذه التشريعات الباطلة، التي شرعوها وجعلوها من تشريع الرب -سبحانه وتعالى-.

أمر جديد من تشريعاتهم الباطلة، قال -جل وعلا- {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا}، يختارون أنعام مخصوصة كأن تكون ناقة حامل أو شاه حامل، ويقولون الذي في بطن ناقتي هو لأولادي الذكور خاصة وليس للإناث منه شيء، فيحكمون هذا الحكم، {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}، يعني على نسائنا، أما إذا نزل ميتًا فيأكله الجميع، يأكله الذكور والإناث، {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ}، إذا نزل ميتًا وكانت العرب تأكل الميتة، سواء كانت هذه الميتة مما هو مولود أو من الذي يموت في بطن أمه فإنهم كذلك يأكلونه، {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ}، قال -جل وعلا- {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ}، أي حكمهم هذا وتقسيمهم هذه التشريعات على هذا النحو، هذه {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ}، هذا الوصف والتفصيل لهذه الأحكام وكونها من أهوائهم ومن عند أنفسهم، الله يقول هذا الوصف الذي يصفونه وهذا التشريع الذي يشرعونه على هذا النحو سيجزيهم الله -تبارك وتعالى- عليه، {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، حكيم يضع كل أمر في نصابه -سبحانه وتعالى-، لا شيء من أفعاله وأقواله خارج الحكمة، والحكمة هي العلم الذي به تضع كل أمر في نصابه، والله -تبارك وتعالى- هو المحيط علمًا بكل شيء، الحكيم الذي لا يفعل أمر إلا لحكمة -سبحانه وتعالى-، العليم بخلقه كلهم -سبحانه وتعالى-.

ثم ختم الله -تبارك وتعالى- هذا الفاصل بهذا الحكم العام عليهم، قال -جل وعلا- {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، {قَدْ خَسِرَ}، حكم الله -تبارك وتعالى-، قد التحقيقية، {خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، الخسارة ضد الكسب، والخسارة هنا لهم بكل أنواع الخسارة، أولًا في قتل الولد خسارة، خسارة للولد وخسارة لهم هم، ثم الخسارة في الآخرة، خسارة الآخرة الدارة الآخرة عند الله -تبارك وتعالى-، وذلك بأنهم أوردوا أنفسهم النار، سخط الله -تبارك وتعالى-، غضب الله -عز وجل- عليهم، خسروا رضوان الله -تبارك وتعالى- والجنة، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، فإنهم لم يستفيدوا بهذا، قدموا قربانا لما قدموه ولم يستفيدوا من وراء ذلك شيئًا قط، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، والسفاهة الطيش والخفة، {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ}، حرموا على أنفسهم كثير من هذه الطيبات، وجعلوها للأصنام هذه وللآلهة الباطلة وسيبوها وتركوها، فعندهم السائبة كانوا يسيبونها لأصنامهم، والحامي هذا حما ظهره فيتركونه فلا يركبونه ولا يأكلونه، فالله قال -جل وعلا- {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ........}[الأنعام:140]، كذبًا عليه -سبحانه وتعالى-، {قَدْ ضَلُّوا}، قد للتحقيق، ضلوا عن طريق الحق والصواب، {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}، ولم يكونوا مهتدين، هذا من عند قول الله -تبارك وتعالى- {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا}، إلى هذه الآية، قول الله -تبارك وتعالى- {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}، هذا بيان سخافة عقول هؤلاء المشركين في تشريعاتهم، في ما يظنونه قربى إلى الله -تبارك وتعالى-، والحال أنه كله تشريع لا يؤدي إلا إلى الخسارة في الدنيا والمحق -عياذًا بالله- في الآخرة، وهذا بيان مدى عقولهم ومستوى فهمهم، وبالتالي كيف يكون مثل هذا حكم أو أهل لأن يسمع عن الله -تبارك وتعالى-، وأن يفقه عن الله -عز وجل- وأن يتبع طريق الحق.

ثم بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- ما أضلت به آلهة المشركين المشركين، وما ساروا فيه من هذا الغي والضلال شرع الله -تبارك وتعالى- يقارن بين هذه الآلهة المدعاة وبين ما تشرع لأوليائها، وبين ماهي ذاته العلية -سبحانه وتعالى-، فقال –جل وعلا- {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأنعام:141]، هذا هو الرب الإله الذي يستحق العبادة -سبحانه وتعالى-، انظروا ما خلق لعباده وما شرع لهم -سبحانه وتعالى- من خلقه ومما أباحه لهم، {وَهُوَ}، الله -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ}، جنات جمع جنة، والجنة هي البستان، سمي البستان هذا جنة إذا كانت أشجاره وأغصانه ملتفة، التفت أغصانه فهو يجن من يدخل في داخله بمعنى أنه يستره، {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ}، معروشات يعني لها عرائش، لها أعمدة وعرائش تمتد عليها كما الأعناب، أحيانًا يكون بعروش يصنعها البشر بها لتمتد عليه، وأحيانًا يكون من غير عروش ويمتد على الأرض، {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ}، النخل معروف، والزرع كل ما يزرع وليست له ساق من الحبوب والقوت الذي عليه قوام حياة الناس.

قال -جل وعلا- {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ}، فالنخل متعدد الأكل، جنس واحد ولكنه مئات وعشرات المئات من الأنواع، كما قال -تبارك وتعالى- {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ}، فبين هذا الصنف وهذا الصنف من الفروق يعني في الطعم والخواص أمر بعيد جدًا، علمًا أنه قد يكون في أرض واحدة ويسقى بماء واحد، {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}، هذه كذلك من دلائل عظمة الله -تبارك وتعالى- وقدرته، فإن الزيتون والرمان متشابهًا قد يكون متشابه من حيث أنه نوع واحد، ولكنه غير متشابه في الخواص وفي الطعم، فهذا زيتون أسود وهذا بنفسجي وهذا أصفر، وهذا زيته كثير وهذا زيته قليل، وهذا رمان حلو وهذا رمان حامض وهذا مر مع اختلاف درجات الألوان، فهذا أمر عظيم جدًا هذا التنويع والتفريق للتفكه وكذلك لبيان دلائل قدرة الرب -تباك وتعالى- على الخلق، {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا}، في الشكل شكلًا، {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}، في الخواص والموضوع، قال -جل وعلا- {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}، إباحة، هذه إباحة منه -سبحانه وتعالى- وهذه الإباحة من الذي خلق، فالذي خلق هذا هو الذي يبيحه -سبحانه وتعالى-، فيقول {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، فيأمرنا -سبحانه وتعالى- بأن نؤتي حقه يوم الحصاد، فهذا تشريعه -سبحانه وتعالى-، وهذا الحق هنا لم يأتي مفصلًا وقد جاءت السنة بتفصيله، فمن حيث الزروع والثمار التي تجب فيها الزكاة، قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «ليس فيما دون خمس أوسق صدقة»، فخمس أوسق فما فوقها فيها الصدقة، وشرع النبي -صل الله عليه وسلم- فيما يسقى من السماء العشر، وفيما يسقى بالآلة نصف العشر، هذا الحق بينه الله -تبارك وتعالى- على لسان رسوله -صلوات الله والسلام عليه-.

{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا}، ولا تسرفوا في الأكل وفي الإنفاق منه يعني في غير الباب المشروع، {وَلا تُسْرِفُوا}، أي حافظوا على هذه النعمة التي خلقها الله -تبارك وتعالى- لكم فلا تضيعوها في غير فائدة، لأن الإسراف إما أنه هدر بغير فائدة وإما أنه وضع في الحرام، لا شك أن الإسراف كله حرام صغيره وكبيره، وكذلك مجاوزة الحد في الاستمتاع بالحلال كالأكل زيادة عن الحد والشرب زيادة عن الحد فهذا إسراف، فقال -جل وعلا- {وَلا تُسْرِفُوا}، أي في هذا الرزق الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- لكم، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، إنه الرب الإله -سبحانه وتعالى- لا يحب أن تكونوا من المسرفين أي الذين يجاوزون الحد.

ثم قال -جل وعلا- {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الأنعام:142]، فهذه الآية {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ}، بيَّن الله -تبارك وتعالى- فيها قدرته على هذا الزرع، وتشريعه -سبحانه وتعالى- فيما ينبغي على المؤمنين نحوه، ما أباحه لهم وما يعطى لحق الله -تبارك وتعالى-، والله الخالق هو الذي له حق أن يشرع لعباده ما يشاء، ما يأكلونه وما يتصدقون به، ثم الآية الأخرى تأتي لبيان حكم الله -تبارك وتعالى- في الأنعام.

وهذا -إن شاء الله- نكمله في الحلقة الأتية، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.