الخميس 09 ذو القعدة 1445 . 16 مايو 2024

الحلقة (185) - سورة الأنعام 140-145

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول -تبارك وتعالى- {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(143) وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:141-144].

 بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- فساد عقول هؤلاء الكفار وما شرعوه من تشريعات باطلة سخيفة، في جعلهم نصيبا لله -تبارك وتعالى- مما خلقه وجعلهم نصيبًا لآلهتهم وأصنامهم، ثم تسلطهم على نصيب الله وإعطائه للأصنام وعدم إباحتهم واستنكافهم واستكبارهم أن يتحول شيء مما خصوه لأصنامهم فيكون قربانًا لله -تبارك وتعالى-، وفيما شرعوه من قتل أولادهم سواءً كانوا لألهتهم أو قتل أولادهم للتخلص منهم، وأن هذا بتشريع الآلهة وهؤلاء الشركاء الذين اتخذوهم شركاء لهم مع الله -تبارك وتعالى-، شرعوا لهم حتى أن يقتلوا أبنائهم، قال -جل وعلا- كل هذا  {سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنهم قد ضلوا بهذا، كذلك تشريعاتهم السخيفة في أن يقولوا {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ........}[الأنعام:139]، قال -جل وعلا- {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، وقال {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[الأنعام:140]، بيَّن -سبحانه وتعالى- أنه الرب الإله خالق هذا الرزق لعباده، وبيَّن -سبحانه وتعالى- تشريعه الحكيم لعباده فيما يقدمونه قربانًا لربهم -سبحانه وتعالى-، مع ما فيه من المنافع للفقراء والمساكين وبين ما أباحه لهم -سبحانه وتعالى-.

قال -جل وعلا- {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ}، جنات بساتين معروشات يعني تقوم على عروش كالأعناب الممتدة على عرائش، {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ}، من أنواع البساتين أنواع الفواكه، {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ}، نخل جنس ولكنه مئات وعشرات المئات من الأنواع، ويختلف طعم كل نوع عن النوع الأخر، {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا}، شكلًا وغير متشابه في الخواص وفي الطعوم وفي المنافع، قال -جل وعلا- {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}، تناول هذا وأكله عند بدء ثماره شكرًا لله -تبارك وتعالى-، وتذكر لنعمه العظيمة -سبحانه وتعالى-، ومعرفة هذه النقلة الهائلة أنظر هذه النبتة تخرج من هذه الأرض ثم في كل حين من أحيانها تخرج هذه الثمار رزقًا للعباد لتذكر هذا، {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}، الأمر هنا بالأكل للإباحة، وكذلك لأن عند بدء الثمرة وظهورها فيها ذكرى عظيمة لتذكر نعمة الله -تبارك وتعالى- عند هذا الظهور، كالآية عندما تظهر الشمس في شروقها وفي غروبها آية، مجيئ الليل آية، فكل آية من آيات الله -تبارك وتعالى- والخلق عند ظهورها لابد في هناك شيء يذكروا بها، فالتذكير الأكل منها عند بدء الثمرة وعند ظهور الثمرة تذكير بنعمة الله -تبارك وتعالى- في مجيئ وخروج هذا الرزق من الله -تبارك وتعالى- لعباده، {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، يوم الحصاد قدموا حق الله -تبارك وتعالى-، حقه وذلك أن هذا حق الله، والله سمى حقه لأن الله هو الذي أخرجه لكم -سبحانه وتعالى- وحق جزء منه لهذه المصارف النافعة للعباد، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ ........}[التوبة:60]، هنا قدم الإنسان أن يأكل من الزرع الذي زرع ومن الثمار الذي أثمرها، وحق الله -تبارك وتعالى- عند الحصاد، هذا عند الحصاد عن القطع والادخار أعطي حق الله -تبارك وتعالى- عند ذلك، وهذا أيضًا من رحمة الله ومن فضله -تبارك وتعالى- وإحسانه بعباده، {وَلا تُسْرِفُوا}، الإسراف مجاوزة الحد، سواءً كان بالإهدار؛ تهدر النعمة، أو تجاوز الحد في الطعام والشراب أو بوضعها في الحرام، {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وعلى ذكر الإسراف أنظر ما يفعله التجار المحتكرون الذين يحتكرون هذه المحاصيل، ثم يغرقون ويتلفون معظمها ويبقون ما تحتاجه الأسواق فقط، لا شك أن هذا من أعظم الإتلاف والإسراف لما خلق الله -تبارك وتعالى- ولما أخرج لعباده، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا}، خلق لكم من الأنعام بهيمة الأنعام، سميت الأنعام هذه الإبل والبقر والغنم لما فيها من كثير النعم؛ نعم الله -تبارك وتعالى-، حمولة تعملون عليها كالإبل، وفرشًا؛ الفرش قيل هو الصغار منها، فالحمولة التي تكون معدة للركوب والفرش الصغيرة التي لم تبلغ بعد الحمل، ولكن حمولة نوع منها يحمل عليه كالإبل، وفرش وهو كل ما يفترشه الإنسان إنما هو من الأنعام، صوفها، وبرها، جلودها، شعرها، هذه كلها أصبحت فراش يفترشه وأثاث له، {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً}، يعني خلق الله -تبارك وتعالى- من الأنعام ما تحملون عليه وتسيرون به وتقطعون به المسافات، وفرشًا هذا كذلك من الأنعام تأخذون جلودها وأصوافها وأوبارها فهي فراشكم، {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}، من الأنعام لحومها، ألبانها كلوا من هذه، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، لا تتبعوا خطوات الشيطان فيما يشرع لأتباعه وأوليائه، خطوات جمع خطوة، والخطوة هي واحدة الخطى التي هي نقلة واحدة من الأرجل، وهذه الخطوة كأن من يسير في تشريع الشيطان كأنه يسير خلفه ويمشي خلفه في خطواته، وخطوات الشيطان هنا في هذا التشريع ما شرعه لأوليائه من هذا الحرام، شرع لهم الوصيلة والحام، هذا لله هذا للشياطين، تذبح بغير أن يذكر اسم الله -تبارك وتعالى- عليها، قال -جل وعلا- {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[المائدة:103].

 {........ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الأنعام:142]، إن الشيطان لكم عدو مبين فيشرع لكم ما يرديكم في الدنيا ويهلككم، وكذلك ما يسخط الله -تبارك وتعالى- عليكم في الآخرة، عدو بيِّن العداوة، عدو؛ وذلك قد أخذ على نفسه أن يضل بني آدم عن طريق الله -تبارك وتعالى-، وأن يأتي بهم إلى النار، مبين بيِّن يعني عداوته بينة لكل ذي عينين، وقد أبان الله -تبارك وتعالى- كل طرائق الشيطان وما يصنعه لإضلال بني آدم وحذر منه -سبحانه وتعالى- كل التحذير، حذر من الشيطان يوم أن أبى عن السجود لآدم والله -تبارك وتعالى- حذر آدم منه، {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[طه:117]، هذه بدايةً ثم قال -تبارك وتعالى- أيضًا لآدم لما أهبطه إلى الأرض {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[طه:123-126]، وحذرنا الله -تبارك وتعالى- من الشيطان وحذر كل أمةٍ من الشيطان بكل سبيل، قال {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ .........}[يس:60]، أعهد إليكم في كل الرسالات، قال -جل وعلا- {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}[الكهف:50]، فالله يقول {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، لا تسيروا خلف الشيطان فيما يشرعه لكم من هذه التشاريع الباطلة، {إِنَّهُ لَكُمْ}، إن الشيطان لكم يعني، {عَدُوٌّ مُبِينٌ}.

ثم هذه الأنعام التي خلقها الله -تبارك وتعالى-، قال {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا}، قال -جل وعلا- مبينًا إياها قال {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}، الزوج هو الفرد الذي له شبيه من جنسه فهذا يسمى زوج، فإذا قلت عندي مثلًا زوج حمام أي عندك واحدة، فالأنثى زوج والذكر زوج، فإذا كان عندك اثنين تقول عندي زوجين من الحمام، فالرجل زوج وامرأته زوج أو زوجة وهما الاثنين زوجين، فالرجل والمرأة زوجين، {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}، يعني ثمانية أفراد، وذلك أن كل اثنين ذكر وأنثى، {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}، هذه أربعة، {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ}، هذه الثمانية أزواج، قال -جل وعلا- {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ}، الذي هو الكبش والنعجة، {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}، التيس والعنز، {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ}، يعني اسألهم هل حرم الله -تبارك وتعالى- الكبش والتيس أو النعجة والماعز، كما هم يقسمون هذا, فأحيانًا يحلون هذا ويحرمون هذا، ويجعلون هذا للأصنام ويجعلون هذا حلا وهذا حرام، {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ}، الأرحام التي هي منبت الولد، يقول لهم هل الله -تبارك وتعالى- حرم يعني ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني كما هم قالوا {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ}، فهذا التشريع يخبر الله -تبارك وتعالى- الله هو الذي خلق هذه الأنعام، هل هذا التشريع الذي تشرعونه هو الذي شرعه الله -تبارك وتعالى- لكم، وهو الذي أوصاكم الله به، {........ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الأنعام:143]، {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ}، اخبروني، النبأ هو الإخبار بالأمر العظيم، بعلم؛ هل عندكم علم من الله -تبارك وتعالى- في تشريعاتكم الباطلة التي شرعتموها من عند أنفسكم، هل عندكم بها أمر من الله، حكم من الله، وحي من الله، سلطان من الله، أنزل الله -تبارك وتعالى- لكم حتى تفتروا على الله وتقولوا هذا تشريع له، أو هذا تشريع يرضيه، أو أن الله -تبارك وتعالى- أوصانا بهذا، {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، في نسبتكم هذا التشريع لله -تبارك وتعالى-، أو أنكم شرعتموها والله رضي عنها وأحبها.

كذلك مما خلق الله لنا قال {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ}، الذي هي فحل الإبل والناقة، {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ}، الثور والبقرة، {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ}، منهم الفحل والثور، {حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ}، أي الناقة والبقرة، {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ}، كما تدعون، {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا}، كنتم شهداء حاضرين، الشهادة حضور ورؤية، {إِذْ وَصَّاكُمُ}، هل كنتم حاضرين عندما وصاكم الله -تبارك وتعالى- بهذا الأمر، وقال لكم افعلوا كذا وكذا وصية من الله -تبارك وتعالى-، {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا}، طبعًا هذا السؤال هنا هو بيان ليقروا على أنفسهم أنهم لم يكونوا شهداء ولا حضروا هذا، إذن لم يبق إلا أن هذا قد افتروه من عند أنفسهم، فقال -جل وعلا- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، سؤال جاء في صيغة التقرير ليكون الجواب لا أحد أظلم من هذا، من أظلم ممن افترى على الله كذبًا؟، هل هناك أحد أظلم ممن يفتري يختلق على الله -تبارك وتعالى- الكذب؟، فيقول إن الله فعل هذا وأوصانا بهذا وقال لنا هذا، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ}، إما ليضل الناس, بلام العاقبة, لأن كل افتراء كذب على الله من شأنه وعاقبته أن يكون هذا إضلال عن طريق الرب -جل وعلا-، لأن الله لم يشرع ذلك، فكل كذب على الله -تبارك وتعالى- فنهايته الحتمية ومآله أن هذا إضلال عن طريق الله، أو أن يكون هو مريد لهذا ليضل الناس، لام التعليل, فهو قد افترى الكذب هذا وهو يريد وينوي أن يضل الناس عن طريق الله -تبارك وتعالى-، وسوء كان هذا أو هذا فلا شك أن لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبًا، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.

 قال –جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، هذا حكمه -سبحانه وتعالى- في هؤلاء {اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وهؤلاء سماهم الله هنا بالظالمين لأن الظلم وضع الشيء في غير محله، وهذا من أظلم الظلم افتراء الكذب على الله -تبارك وتعالى-، والقول إن الله شرع هذا ولم يشرعه -جل وعلا-، الذي يفعل هذا لا يهديه الله -تبارك وتعالى- ما دام متلبس بهذا، يعني إن الله لا يهديه ما دام ظالمًا، ما دام في ظلمه متمسكا بظلمه بافترائه على الله -تبارك وتعالى- كيف يهديه الله -عز وجل-، فلا يهدى إلا من يبتعد عن الظلم ويبتعد عن التكذيب ويبتعد عن الكفر، عند ذلك يهديه الله -تبارك وتعالى-، أما إذا هو يرى الحق ويتخذ سبيل الباطل ويفتري على الله؛ كيف يهديه الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، أي ما داموا على الظلم.

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- تشريعه في بهيمة الأنعام، فقال -جل وعلا- {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام:145]، قل لهم هذا تشريع الله -سبحانه وتعالى- في بهيمة الأنعام التي خلقها لعباده، {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، وجاء هذا الأمر بهذه الصيغة أنا لا أجد فيما أوحي إلي؛ لبيان أن الله -تبارك وتعالى- لم ينزل على رسوله -صل الله عليه وسلم- تحريمًا إلا هذه المحرمات فقط، {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، طاعم أي طاعم، {يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}، من هذه أي بهيمة الأنعام، والميتة هي ما فارقت الحياة حتف أنفها، حتف أنفها بمعنى أنها بدون الذكاة الشرعية، وقد فصل الله -تبارك وتعالى- أنواع الميتات، وهي ما يموت بغير الذكاة الشرعية، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}، فهذه ألحقت بجملة الميتات، هذه آية الأنعام وآية المائدة متأخرة عن آية الأنعام، ففيها تفصيل لأنواع الميتات؛ أن هذه كذلك من الميتات، المنخنقة ما تخنق وتموت شنقًا، سواء بنفسها أو بفعل الإنسان، والموقوذة المضروبة بشيء على رأسها فتموت، والمتردية ما تقع من جبل تتردى من مكان عالٍ فتموت، والنطيحة ما تنطحها أختها أو غيرها كان ثورا مثلًا ربما ينطح شاه فيرديها، فهذه النطيحة التي ماتت بالنطح، {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}، ما نهشها السبع كذئب أو كلب وعدى عليها وماتت بهذا فإنها تبقى ميتة، قال -جل وعلا- {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}، يعني إلا ما أدركتموه فذكيتموه من هذه. فهذه الميتة.

{إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}، دم وقيد هذا الدم بأنه مسفوح، المسفوح يعني الذي يسفح بمعنى أنه يهدر ويخرج، كما يقال سفح الجبل بمعنى أنه يراق، لأن سفح الجبل مائل فكل ما يوضع عليه يسفح ويسيل، فالدم هذا الذي يسيل من البهيمة سواء عند ذبحها أو وهي حية، كما كانت العرب تصنعه حيث كان دم الذبح يأخذونه وكذلك كانوا إذا جاعوا يقطعون ويفصدون عرقا من البعير مثلًا، ثم يستقبلونه بإناء حتى ينزل الدم فيه إذا امتلأ هذا الإناء يداوون هذا الجرح، وإذا تجمد الدم أكلوه، فهذا الدم المسفوح سواء كان من البهيمة وهي حية أو عند ذبحها كل هذا المسفوح حرمه الله -تبارك وتعالى- حرم الدم، ومفهوم الوصف هنا الذي هو الدم الذي ليس بمسفوح كالدم الذي يبقى في العروق أو يبقى على اللحم، يعني إذا بقي شيء من الدم على اللحم أو بقي في العروق فهذا لا شيء فيه -إن شاء الله-، وقد جاء في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: (لا نعد الدم الذي يفور باللحم ويبقى في القدر شيئًا)  فيؤكل هذا.

 {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ}، فهذا كذلك من المحرمات وإن كان الخنزير ليس من بهيمة الأنعام، ولكنه فرد خاص وهو نجس بالعين؛ يعني نجس عينًا، هو خلق الله -تبارك وتعالى- لكن الله -تبارك وتعالى- حرمه حرمةً مطلقة في كل دين، {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}، هنا لما كان لحم الخنزير ليس من بهيمة الأنعام فإن الله -تبارك وتعالى- بيَّن أن هذا الحيوان بذاته حرمه الله -تبارك وتعالى-، فقال {فَإِنَّهُ رِجْسٌ}، كله والرجس النجس، فهو نجس كله، فقال -تبارك وتعالى- {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}.

ثم قال -جل وعلا- {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، {أَوْ فِسْقًا}، وقدم الله -تبارك وتعالى- وصفه هنا، والفسق هو الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، الإهلال هو رفع الصوت وهو مأخوذ من الهلال، والهلال هو أول ظهور القمر عندما يكون في أول الشهر فهذا هلال، وكانت العرب عند أول ما يظهر الهلال يقومون يرفعون أصواتهم بالفرح والسرور أن هذا شهر جديد، وسمي بعد ذلك رفع الصوت عند حدوث شيء إهلال، فذكرهم لآلهتهم أو أصنامهم عند الذبح يرفعون بها أصواتهم هذه للات أو للعزة أو لهبل أو لغيره يرفعون بها أصواتهم سمي إهلال، {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ}، أي صرخ وذكر اسم غير الله -تبارك وتعالى- عليه عند ذبحه، فهذا مذبوحًا لغير الله، فهذه بهيمة الأنعام التي ذبحت لغير الله ورفع باسم غير اسم الله عند ذبحها، هذه نجسة حرمها الله -تبارك وتعالى- وهذه من جملة المحرمات، ثم قال -جل وعلا- {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، {فَمَنِ اضْطُرَّ}، أي إلى الأكل من واحدة من هذه الأربعة، {غَيْرَ بَاغٍ}، باغٍ يعني مريد أن يأكل هذا، وإنما هو ملجأ له ومضطر له، فيأكله ويعلم أن هذه ضرورة، وليس في نيته ولا في قصده أنه يحبه ويشتهيه ويريده، {وَلا عَادٍ}، ولا عاد من العدوان المجاوز للحد كأن يأكل ويدخر ويأخذ معه ويتزود ويزيد عن حد دفع الضرورة وإمساك الرمق، فمن اضطر أي للأكل منها لإبقاء ضرورة الحياة؛ {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}، قال -جل وعلا- {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وهنا يقول فإن ربك هنا ما قال فإن الله غفور رحيم، قال فإن ربك لأن المقام مقام بيان رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده في التشريع، وأن هذا المنزل على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- إنما هو من الرب الرحيم القريب من عباده -سبحانه وتعالى-، فإن ربك يا محمد غفور، المغفرة الستر والتغطية للذنوب، رحيم بعباده -سبحانه وتعالى-، ومن أجل ذلك شرع هذا التشريع العظيم، وهو أنه حصر المحرمات في هذه الأمور الأربعة التي فيها الفساد بيِّن بالعقل ممكن إدراك فسادها بالعقل، فالميتة يمكن أن يصل البشر بعقولهم دون أن ينزل عليهم تشريع من الله -تبارك وتعالى- أنها نجسة، وأنها ما ماتت ربما ماتت بعلة فيها، وأن الأكل من هذه التي ماتت على هذا النحو وبقي دمها فيها وبقيت علتها فيها أنها أمر سيء وضار، والدم وهو مجرى الغذاء ومجرى كذلك النفايات، كل ما تفرزه الخلايا من هذه النفايات والبول هو مجراه فهذا شيء نجس وضار، وكذلك ما ذبح لغير الله -تبارك وتعالى- فإن الله الخالق للأمر لا يحل هذا، فكيف يؤكل هذا، وكذلك هذا المخلوق أو هذا الحيوان الذي هو نجس بالعين الخنزير، فلا شك أن تحريم هذه من رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده، ثم أن يبيح الله -تبارك وتعالى- الأكل منها بقدر الضرورة المضطرة، فهذا كذلك من رحمته -جل وعلا- قال {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

مازلنا في سياق ما شرع الله -تبارك وتعالى- لعباده من بهيمة الأنعام، وهذا -إن شاء الله- نكمله في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.