الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (186) - سورة الأنعام 145-150

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فإن خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمد -صل الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:145-147].

 بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- أنه خالق الأنعام لعباده -سبحانه وتعالى-، وأنه لم يحرم منها ما افتراه المشركون من التحريم، وما أباحوه بأهوائهم دون شرعة من الله -تبارك وتعالى-، {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[المائدة:103]، هنا بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- إنعامه على عباده -سبحانه وتعالى- بالأنعام، {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ}، إنكار عليهم لتحريم الذكور أحيانًا والإناث أحيانًا، واشراكهم الذرية من الذكور والإناث في شيء وحرمان الإناث منها في شيء أخر، {........ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(143) وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا ........}[الأنعام:143-144]، بهذا الكذب والإفتراء الذي تفترونه على الله -تبارك وتعالى-، فتحلون من هذه الأنعام وتحرمون بأهوائكم، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، لا أحد أظلم من هذا، هذا سؤال يراد به التقرير أنه لا أظلم ممن يفتري الكذب على الله -سبحانه وتعالى-، ليكون عاقبة ذلك أن يضل الناس بغير علم، أو مريدًا أن يضل الناس بغير علم، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

ثم قال -جل وعلا- {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، هذا أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يتلو عليهم هذا، وأن يبين أن الله -تبارك وتعالى- لم ينزل على رسوله -صل الله عليه وسلم- من تحريم شيء إلا هذه الأربعة أشياء، {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ}، ما أوحاه الله -تبارك وتعالى- لي سواء كان هذا الوحي هو الوحي هذا المقروء، كتابه كلامه -سبحانه وتعالى-، أو وحي أوحاه الله -تبارك وتعالى- لرسوله ليخبر به الناس بألفاظ من النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}، ما ماتت حتف أنفها من بهائم الأنعام دون زكاة شرعية، {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}، وقد كانت العرب تحل هذا وهذا، يعني تأكل الميتات وتسفح الدم، الدم المسفوح دم سواء كان في وقت الذبح أو من البهيمة وهي حية، {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}، وقارن الله -تبارك وتعالى- لحم الخنزير قال فإنه رجس بهذه الجملة الوصفية التي تصف لحم الخنزير، وطبعًا يدخل فيه كل شيء, شحمه وكبده وكل ما يدخل في باب الأكل منه، {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، وسماه الله -تبارك وتعالى- فسق لأنه خروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- وذلك بذبح بهيمة الأنعام للأصنام، لمن لا يخلق ولا يرزق والحال أن الله -تبارك وتعالى- هو خلقها، فهو الذي عندما يبيح لعباده ذبحها فإنما يبيحه لهذه المنافع، إما أن يطعم عباده –سبحانه وتعالى- فيما أحل لهم، وإما أن يتقربوا بها إلى الرب الإله -سبحانه وتعالى-، أما أن يتقربوا بها لأعدائه؛ للأصنام التي تعبد من دونه فهذا إجرام، فهذا إجرام وفسق عن طاعته -سبحانه وتعالى-، {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، أهل رفع الصوت عند ذبحه بإسم غير إسم الله، قال -جل وعلا- {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}، إضطرته ضرورة الأكل إلى شيء من هذا ضرورة الموت، أي أن ضائقة الجوع أحلت به في قفر أو برية أو حاضرة وشح الطعام إلى درجة أنه يفضي إلى الهلاك فمن اضطر للأكل من ههذ المحظورات -هذه الأربعة- غير باغٍ، باغٍ يريده مشتهٍ لهذا الأمر ومريدٍ له، وطبعًا بعض هذه عند بعض الناس تشتهى كالخنزير وغيره والدم وغيره، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} أي مجاوزًا حد الضرورة، بل هذا حد, فيأخذ هذا لا يريد الأكل بهذا ولا هو كذلك معتدٍ في أكله، {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، لهذا المضطر الذي دفع غائلة الجوع بشيء من هذه المحرمات ليمسك الرمق.

ثم قال -جل وعلا- {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، يخبر -سبحانه وتعالى- على أن تشريعه على السابقين الذي هادوا، وطبعًا تشريع الله -تبارك وتعالى- على اليهود كذلك منسحب على النصارى لأن الشرعة واحدة، شرعة موسى وعيسى شرعة واحدة، وإنما جاء عيسى -عليه السلام- طبعًا متممًا ومكملًا لشرعة موسى، هو لم يأتي فقط إلا برفع بعض الآصار التي كانت على اليهود، كما في قول الله -عز وجل- {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، هذا كلام الله -تبارك وتعالى- لعيسى {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، فهي شريعة واحدة، الله يقول {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، ظفر يصطاد به وهذا من الجوارح، {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا}، حرم الله -تبارك وتعالى- عليهم شحوم البقر والغنم، قال -جل وعلا- مستثنيًا من هذه الشحوم {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}، ما كان في الظهر ممن هو حول الكلى، {أَوِ الْحَوَايَا}، التي تكون حول الأمعاء، {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}، أو ما كان هذا الشحم مختلط بعظم ويصعب نزعه منه فهذا يؤكل منه، قال الله -جل وعلا- مشيرًا إلى هذا قال {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}، يعني هذا من الطيبات، هذه الشحوم؛ شحوم البقر والغنم إنما هي من الطيبات وقد حرمها الله -تبارك وتعالى- عليهم ببغيهم بظلمهم؛ البغي هو الظلم، كما قال -جل وعلا- {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا(160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ........}[النساء:160-161]، فلما فشا فيهم ووقعت فيهم هذه المنكرات عاقبهم الله -تبارك وتعالى-، بأن حرم عليهم تحريمًا شرعيًا وليس تحريمًا كونيًا قدريًا، تحريمًا شرعيًا, هذه الطيبات لتكون زيادة في التكاليف الشاقة ليؤاخذهم بها، فإن فعلوها سيكون قد ارتكبوا حرامًا، فيكون هذا تضييق دائرة الحلال عليهم والتشديد عليهم ببغيهم، قال -جل وعلا- {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}، وإنا الله -سبحانه وتعالى- لصادق فيما يخبر به عباده -سبحانه وتعالى-، فهذه المحرمات أي هذه هي التي حرمها الله -تبارك وتعالى- على عباده، فأربعة أشياء وكلها من الرجس والنجاسة، الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، هذا المنزل في شريعة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وهذه الآيات مكية، نزل بعد ذلك من حديث النبي -صل الله عليه وسلم- وهو تحريم الحمر الأهلية فتزايدت إلى هذا، وجاء تحريمها والنبي في غزوة خيبر، فإنه نادى «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس»، والحمر الأهلية هي الحمر المستأنسة وأما حمار الوحش فإنه صيد، وجاء كذلك تحريم كل ذي ناب من السباع، السباع يعني التي لها أنياب تفترس بها، وكل ذي مخلب من الطير والذي يصطاد به كذلك الجوارح، وهذه جاء أيضًا تحريمها بالسنة بعد هذه، وقول الله {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، وقت تنزيل هذه الآية لم يكن محرمًا إلا هذه، ثم بعد ذلك نزل الوحي على النبي -صلوات الله والسلام عليه- بتحريم هذه الحمر الأهلية، وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلبٍ من الطير.

قال -جل وعلا- {فَإِنْ كَذَّبُوكَ}، وإدعوا أن هذا ليس تحريم الله –تبارك وتعالى- وليست شرعته، {........ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:147]، وهذه الآية فيها مفاصلة وإيقاف على الطريق، وبيان أنه إن  رجعتم إلى طريق الرب -تبارك وتعالى- فإن الله ذو رحمةٍ واسعة، لمن عاد إلى طريقه ومن التزم حدوده ومن تمسك بشريعته، فقل؛ قل لهم ربكم إلهكم خالقكم مولاكم الذي خلقكم ذو رحمة واسعة، له رحمةٌ واسعة, ومن رحمته -سبحانه وتعالى- أنه يقبل العائد إليه والتائب من ذنبه، ثم {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}، البأس الشدة والعقوبة، بأس الله -تبارك وتعالى-، عقوبته الشديدة إذا أنزلها فإنها لا ترد، ليس هناك من يرد بأس الله -تبارك وتعالى-، وعن مَن؟ عن القوم المجرمين فهؤلاء هم الذين يخصهم الله -تبارك وتعالى- بالعقوبة عنده دون المؤمنين. والمجرمين جمع مجرم، والمجرم هو فاعل الإجرام، والإجرام الذنب العظيم، {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}، أي فارجعوا إليه والتزموا طريقه، {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}، اعلموا هذا أنه مع استكباركم وبعدكم عن طريق الرب -تبارك وتعالى- فإنه ليس هناك من يمنع بأس الله -تبارك وتعالى- عنكم.

فاصل آخر من احتجاج هؤلاء المشركين وجدالهم بالباطل، قال -جل وعلا- {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:148-149]، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}، وهذا يدل على أنهم لم يقولوه بعد وإنما سيقولوه، والله -تبارك وتعالى- يأتي بالشبهة وبالحجة والجدال الذي يريد للمشركين أن يقولوه ثم يقول الجواب عليه، وهذا تعليم لرسوله وتعليم للمؤمنين لرد شبهات هؤلاء المجرمين، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}، أي في المستقبل، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}، إما أنهم كانوا يعتقدون هذا ثم يحتجون به وإما أنهم لم يفهموا ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به عن قضائه وقدره، وأن كل شيء عنده بقدر، فالله -تبارك وتعالى- خالق كل شيء بقدر، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}[القمر:49-50]، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}، سيقولون ما دام الأمر أن الله -تبارك وتعالى- هو مقدر الأشياء وهو صاحب الأسباب وهو الذي إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، وكل أمر واقع في هذه الأرض وهذا الكون إنما هو واقع بمشيئته وإرادته فإذن نحن منفذون، يقولون نحن منفذون لأمر الله، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، فنسبوا هذا الأمر إلى إرادة الله -تبارك وتعالى- وقولهم هذا هو قول إبليس، هو قول إبليس الذي احتج بالقدر على أن ما فعله إنما هو إرادة الرب فيه كما قال ابليس الملعون، قال {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:39]، بما أغويتني فنسب ما وقع فيه من الإغواء وما فعله من الإغواء أي الإمتناع عن السجود لآدم بعد أمر الله -تبارك وتعالى- أن هذا هو فعل الله –تبارك وتعالى- به، قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}، الذين قبلنا، {وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، من هذه التي حرمناها وأحللناها؛ هذا أمر الله.

قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، لا شك أن هذا الذي يقولونه إنما هو تكذيب، فإن الله -تبارك وتعالى- لم يرد منهم هذا إرادة شرعية يريد منهم هذا، وإنما أمر -سبحانه وتعالى- بأمره، وأن هذا الذي فعلوه إنما فعلوه بأهوائهم افتراءً على الله -تبارك وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- لم يجبلهم على هذا ولم يجبرهم عليه -سبحانه وتعالى-، وإنما بيَّن لهم وهم الذين اتخذوا هذا الطريق، ثم إن في مكنتهم وفي إرادتهم أن يسلكوا طريق الرب -تبارك وتعالى- ولكنهم اختاروا طريق الشيطان بأهوائهم، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، يعني كهذا التكذيب، رد الحق والإصرار على الباطل وأخذ ما هم عليه هذا هو نفس فعل الذين من قبلهم من الكفار، فإنهم ردوا رسالة الرسل وتمسكوا بما هم عليه من الباطل ورفضوا أن يذعنوا للحق، ونسبوا فعلهم هذا واجرامهم هذا إلى الرب، وإن هذه إرادته أنها نافذة فيهم وأنه لا حيلة لهم في الأمر، وأنهم متبعون ما يريد الرب -جل وعلا- منهم، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، بالحق فردوه، {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}، حتى نزلت بهم عقوبة الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}، هل عندكم من علم في أن الله -تبارك وتعالى- أوحى لكم، أراد منكم -سبحانه وتعالى- تحلوا ما أحللتموه وتحرموا ما حرمتموه، أم أن هذا من افترائكم الكذب على الله -تبارك وتعالى-، وأن هذا فعلتموه بأهوائكم وبأنفسكم ثم الآن تنسبونه إلى الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}، علم بأن الله -سبحانه وتعالى- أوحى لكم بهذا أو أراد منكم هذا وهو الذي قال لكم افعلوا هذا، أحلوا هذا وحرموا هذا، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، في تحليلكم وتحريمكم، إنما تتبعون الظن، والظن أول شيء الظن رجحان، الظن إنما هو تخمين فتخمينكم في الأمر نظرتم أن الميتة يمكن أنها تؤكل، وأن الله يكون هو الذي كتم موتها في الليل فتؤكل على هذا النحو، واستبرأتم الدم فأكلتموه، ورأيتم الخنزير يرتع في الأرض فأكلتموه، وقالت لكم شياطينكم بأن التقرب إلى هذه الآلهة نافع عندها ذبحتم عندها. أهواء وظنون فبظنونكم أنتم اتخذتم هذه الشرعة.

{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ}، أي من الله، أن الله -تبارك وتعالى- أنزل لكم أو أوحى لكم أن تشرعوا هذه التشريعات، {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، في عقائدكم وشرائعكم، {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}، بالحصر، يعني ما أنتم إلا ظانين، الخرص هو الظن والتخمين، يعني مخمنوه فقط، فكل الأمور التي تجرون عليها من التشريع والإعتقاد إنما هو تخمين لا يستند إلى دليل ولا برهان، {قُلْ}، لهم، {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}، لله -سبحانه وتعالى- على عباده الحجة البالغة، الحجة يعني البرهان الذي يطرق فيبين الحق، البالغة, مبلغ أنا تدمغ الباطل وتظهر الحق فهي هكذا، كما نقول خطبة بليغة يعني واصلة حدها في البيان في السحر، وكذلك البالغة التي تبلغكم بمعنى الواصلة لكم، التي تصلكم ويتضح لكم بها السبيل ويقام عليكم بها البرهان، فيظهر لكم الحق من الباطل والهدى من الضلال وطريق الله من طريق الشيطان، فكل شيء يظهر لكم، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ........}[الأنعام:149]، البالغة لكم أو البالغة حدها من البيان والوضوح، {........ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:149]، هذه كذلك يعني هذه إرادته ومشيئته، فلو شاء أن يهديكم جميعًا لهداكم، ولكن الله -تبارك وتعالى- أراد أن يبتليكم بالخير والشر بهذا الأمر، وينظر هل تطيعوه أم تعصوه -سبحانه وتعالى-، فلو شاء الله -تبارك وتعالى- لهداكم أجمعين وإنما إختبركم وإبتلاكم بالطاعة، ولو شاء الله -تبارك وتعالى- أن يحولكم جميعًا ويصرف قلوبكم إلى طاعته لفعل، وهذا كثير في القرآن كقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، وقوله -تبارك وتعالى- {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ........}[هود:118]، أي في الهداية، {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، فخلقهم ليبتليهم على هذا النحو، بأن يبين لهم طريق الخير وطريق الشر لينظر الله -تبارك وتعالى- من يسلك هذا الطريق ومن يسلك هذا الطريق، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:149].

{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا}، هلم بمعنى اجمعوا، كما أقول هلموا إلى هذا المكان بمعنى اجتمعوا وتعالوا إلى هذا المكان، {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ}، يعني اجمعوا ونادوا شهدائكم، {الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا}، شهدائكم يعني أساطينكم وكبرائكم الذين شرعوا لكم والذين تشهدون أنتم أنهم هم القائمون بهذا الأمر وحكمائكم وعلمائكم، {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا}،أي اجمعوا جمعا من الجميع، من الكبراء والزعماء والمراجع الذي ترجعون إليهم وهاتوا شهادتهم، {الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا}، الإفك وهذا الذي تحرمونه من بهيمة الأنعام.

 قال -جل وعلا- {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}، أي إن شهد هؤلاء المفترون وقالوا إن الله -تبارك وتعالى- هو الذي أنزل هذا وهو الذي شرع لنا هذا وتغالوا في الكذب على هذا النحو والبهتان فلا تشهد معهم، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله بأن يتخذ طريقه إلى الله -تبارك وتعالى- ولا يتبع هؤلاء، لأن هؤلاء إنما يتبعون الهوى والهوى ما تشتهيه النفس، وسمي هوى لأنه يهوي بصاحبه، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، والتكذيب هو ردهم هذا الحق والصواب وقولهم عنه أنه كذب، {بِآيَاتِنَا}، آياتنا هذه المنزلة عليك يا محمد -صلوات الله والسلام عليك-، {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، هذا وصفهم، فهذا وصفهم أنهم لا يؤمنون، فيهم التكذيب بآيات الله -تبارك وتعالى- ورد الآخرة، عدم الإيمان بالآخرة فاعتقادهم إنما كان لهذه الحياة الدنيا فقط، ولذلك كانت مقاييسهم وتشريعاتهم هي نابعة عن هذه, يعني هذا حدها، فهذا حد الإنسان عندهم أنه بعد الموت لا حياة بعد ذلك، ولذلك كانت مقاييسهم في معاملة الرب لهم على هذه الدنيا فقط، فلما رأوا أنهم مع كفرهم وعنادهم يرزقهم الله ويعافيهم ويقويهم ويعطيهم اغتروا بهذا، كان هذا من أكبر غرورهم ولذلك لم يؤمنوا بطريق الرب -سبحانه وتعالى- ورسالة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قياسًا على دينهم الباطل هذا وأنه لا بعث ولا حكومة أمام الله ولا موقف عند الله -تبارك وتعالى-.

{وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}، هم هؤلاء الكفار بربهم يعدلون، بربهم بخالقهم وإلههم ومولاهم -سبحانه وتعالى-، يعدلون أي يجعلون له مساويًا عدلًا لله، مساويا إما في الصفة وهذا قد فعله كثيرًا من المشركين، فإنهم قد زعموا أن آلهتهم الباطلة هي مساوية لله -تبارك وتعالى-، كما قال النصارى في عيسى أنه إله من إله خالق، رازق، محيي، مميت، فكل صفات الأب عندهم هي صفات الابن بل هما شيء واحد تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، أو أنهم يعني من المشركين من يعدلون غير الله -تبارك وتعالى- في الحقوق، أي يجعلون حقوق هذه الألهة المدعاة كحقوق الرب، فكما يذبحون وينذرون ويعبدون ويتقربون بصنوف التقربات إلى الله كذلك يتقربون إلى غيره من هؤلاء المشركين بمثلها، بل أحيانًا يقدمون هذه الآلهة فيخافون منها ويعظمونها ويجلونها أكثر مما يخافون الله -تبارك وتعالى- ويعظمونه ويجلونه، فهؤلاء يعدلون بربهم -سبحانه وتعالى-، والذين هم بربهم يعدلون؛ والحال أنه لا كفؤ لله، فكل ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى- ليس كالله، أولًا في أخص صفات الربوبية الخلق {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ........}[النحل:17]، فإنه لا يخلق إلا الله، ثم التقدير فإن المقادير كلها لله، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} المتوكل بكل شيء، وأما غير الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يخلق شيئًا بل لا يخلق نفسه فضلًا أن يخلق غيره، ثم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا من التصريف فضلًا عن أن يملكه لغيره، فإذن كيف يكون لله -تبارك وتعالى-  مكافئ، { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }[الإخلاص:1-4]، فلا كفؤ لله -تبارك وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- يقول لرسوله دع هؤلاء؛ دع هؤلاء، قال {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، هؤلاء إنما يتبعون أهوائهم، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، إذن فهم يتبعوا الهوى، ثم هم يكذبون بآيات الله، ثم هم لا يؤمنون بالآخرة، ثم هم بربهم يعدلون، أربع جرائم تتلبس فيهم تجعلهم بعيدين كل البعد عن طريق الهداية، فيتبع هواه ما عنده شرعة يتبعها وإنما يتبع الهوى، يكذب بالحق يرد الحق من الله -تبارك وتعالى-، ويكذب بآياتنا نسب الآيات إليه -سبحانه وتعالى-، ثم هو لا يؤمن بالآخرة، ثم هو يجعل لربه الذي خلقه عدلًا له، ولذلك جاء في الحديث ، حديث عبد الله ابن مسعود «يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ أن تجعل لله ندًا وهو خلقك»، فالذي خلقك كيف تجعل له ندا هذا أكبر الذنب، فلما كانوا متلبسين بهذه الذنوب العظيمة جدًا أمر النبي -صل الله عليه وسلم- أن يبتعد عن طريق هؤلاء.

نقف هنا -إن شاء الله- وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.