الخميس 09 ذو القعدة 1445 . 16 مايو 2024

الحلقة (187) - سورة الأنعام 151

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد:

 فبعد أن أجاب الله -تبارك وتعالى- ورد مقالة المشركين، وقولهم {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، قال -جل وعلا- {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، ويعنون أن ما هم عليه من الكفر والشرك إنما شاءه الله وارتضاه لهم، وأن هذا إرادته ومشيئته الشرعية الدينية، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، ردوا الحق الذي جاءت به الرسل وظنوا أن ما هم عليه إنما هو ما أمرهم الله -تبارك وتعالى- به وارتضاه لهم، قال -جل وعلا- {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}، هل عندكم من علمٍ من الله -تبارك وتعالى- أن الله ارتضى لكم هذا وشاء لكم هذا وكتب لكم بهذا، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، في كل اعتقاداتكم وتشريعكم، {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}، لله -سبحانه وتعالى- أن يقيم عليكم الحجة البالغة التي تبلغ إلى القلوب والأسماع وتقيم الحق بلا لبس، ثم قال -جل وعلا- {........ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:149]، لو شاء الله -تبارك وتعالى- أن يشرح صدوركم وأن يجمعكم على الهدى لفعل، ولكن الله -تبارك وتعالى- شاء أن يبتلي عباده بالأمر، يبين لهم طريق الخير ويبين لهم طريق الشر ويأمرهم -سبحانه وتعالى- أن يسيروا في الطريق الذي ارتضاها وهي طريقة شرعه ودينه-سبحانه وتعالى-، ولكنه يخذل من لا يستجيب لأمره ومن اختار طريق الغواية سلمه الله -تبارك وتعالى- إياه ويسره له، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:5-10].

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:149]، {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا}، يعني ادعوا من حبركم وادعوا  كبرائكم ومشرعيكم الذين يشهدون أن الله –تبارك وتعالى- حرم هذه الأشياء التي حرمتموها بأهوائكم وظنونكم، قال -جل وعلا- {........ فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:150]، هذه جرائمهم الأربعة، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا}، أولًا هم يتبعون أهوائهم، هم يكذبون بآيات الله، هم لا يؤمنون بالآخرة، هم بربهم يعدلون، لما اجتمعت فيهم كل هذه الجرائم والعلل اتخذوا هذا الطريق الذي اتخذوه، وافتروا على الله -تبارك وتعالى- ما افتروا.

ثم ناداهم الله -تبارك وتعالى- إلى شرعه ودينه -سبحانه وتعالى- في هذه الوصايا العشر في ثلاث آيات،  الآية الأولى تضمنت خمس وصايا، والآية الثانية تضمنت أربع وصايا، والآية الأخيرة تضمنت وصيةً واحدة، وكلها جمعت الدين، فهذا طريق الله وشرعته -سبحانه وتعالى-، وهذه وصاياه العشر لعباده -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، تعالوا هلموا أقدموا، وجاء (تعال) في اللغة العربية من العلو وكأن المنادي ينادي من يناديه إلى السمو والرفعة بهذه الأوامر والنواهي التي يدعونهم إليها، تعالوا أي أيها الناس وذلك أن النبي قد بعث للناس جميعًا، {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، أتل أقرأ، التلاوة القراءة، وسميت تلاوة لأنه يتبع بعضها بعضًا، {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، هذه الأمور التي حرمها الله -تبارك وتعالى- عليهم، ثم قال -جل وعلا- {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، هذا أعظم المحرمات وأعلاها على الإطلاق وهو أعظم الذنوب، الشرك بالله -تبارك وتعالى- أعظم الذنوب وبدأ الله -تبارك وتعالى- بها على أنها أعظم المحرمات، وذلك أن أعظم الذنب أن يجُعل لله ندا، كما في الحديث «أن عبد الله ابن مسعود –رضي الله تعالى عنه- قال يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال أن تجعل لله ندًا وهو خلقك»، أن تجعل لله ندا، ندا في ذاته، الند هو المساوي، الله لا مساوي له، والكفؤ لا كفؤ له -سبحانه وتعالى-، واتخاذ ندا لله إما في ذاته وإما في صفاته وإما في أفعاله وإما في حقوقه، فكل من جعل ندًا لله –تبارك وتعالى- في واحدة من هذه فقد اتخذ لله ندًا -سبحانه وتعالى-.

فالله -تبارك وتعالى- {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}  الإخلاص: {1-4}, هذا نسب الله، الله -تبارك وتعالى- أحد، وهو الأحد في كل الوجود، فإنه ما من شيء غير الله -تبارك وتعالى- إلا وله من جنسه نظير وشبيه، ملك, في ملك أخر ملائكة كثر، فالملائكة ليست فرد وإنما هي أزواج شتى من الملائكة، كل ملك له نظير وشبيه فمن جنسه شتى، بشر كذلك من جنسه، جن من جنسه شتى، شمس قمر في آلاف الشموس ملايين الشموس والأقمار، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الذاريات:49]، {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ}[يس:36]، فالله -تبارك وتعالى- كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى- لها أشباهها ونظائرها، كل جنس كل نوع له شبيهه ونظائره، ولا ينفرد مخلوق قط عن سائر المخلوقات بصفاته... يستحيل هذا، بل أنت إنسان كل الأرض مثلك، الأرض كلها مليئة، أما الرب الإله -سبحانه وتعالى- فهو الفرد الصمد،  الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، الله واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله يعني أفعاله لا يقدر عليها إلا هو -سبحانه وتعالى-، فمثلًا الله خالق كل شيء، الخلق كله له، ولم يجعل الله -تبارك وتعالى- لأحد من خلقه خلق شيء، لا خلق نفسه ولا خلق ذرة، لو اجتمع كل من في السماوات والأرض من الملائكة والجن والإنس على أن يخلقوا ذرة؛ يخرجوا ذرة من العدم ذرة واحدة من العدم إلى الوجود لا يستطيعوا، بل الله خالق كل شيء -سبحانه وتعالى-، من الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة، ثم هو المتصرف في كل شيء، في كل المخلوقات التي يصرفها الله، السماوات والأرض الكبيرة، الإنسان، الملائكة، كل شيء، لا يوجد شيء يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا تصريفًا إلا بأمر الله وإقامته، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر:41]، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ........}[آل عمران:6]، الله هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، فالله هو المصور، {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:6-8].

 فالله -تبارك وتعالى- هو الخالق من العدم، هو المصور، هو المركب لهذه الصورة على ما تشاء، لا يصنع هذا لا ملك ولا جن ولا شيء يخلق مع الله -تبارك وتعالى-، {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ........}[النحل:17]، الزرع نحن نضع البذور في الأرض، نحرث الأرض ونضع البذر فيها لكن الله هو الذي يزرع، { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:57-74]، الله واحد في ذاته، واحد في أفعاله وصفاته -سبحانه وتعالى-، صفات الله لا يشركه فيها أحد، خدنا صفة؛ صفة السمع مثلًا، صفة البصر، لا يشرك الله -تبارك وتعالى- في صفته، يعني ليس هناك من الخلق من يسمع كسمع الله، من يبصر كبصر الله.

انظر كل هذا الوجود الذي لا يعرف الناس له حدود، بل لا يعرف حتى الملائكة له حدود، ملائكة الرب -تبارك وتعالى- كما قال –صلى الله عليه وسلم- «والعرش لا يقدر قدره إلا الله»، العرش الذي هو سقف هذه المخلوقات هذا لا يستطيع أحد من خلق الله أن يقدر قدره، يعني أن يحسب أبعاده، يبدأ من هنا يعني طرف من هنا إلى هنا وطرف من هنا إلى هنا يعرف كيف بعده، بل لا يعرف ذلك ولا يعلم ذلك إلا الله -سبحانه وتعالى-، الملائكة لا تعرف هذا، لا يمكن أن تعرف مقدار هذا الخلق، فالله -سبحانه وتعالى- وحده -سبحانه وتعالى- الصفة هذه؛ صفة العلم والسمع، هذا الكون كله يسمعه الله -تبارك وتعالى- كل ما فيه، النملة الصغيرة على الأرض، هذه الأرض التي هي ذرة صغيرة في هذا الوجود الكبير وعليه هذه المخلوقات الدقيقة الضعيفة لما تقارن بالأرض الكبيرة، الأرض تقارن بمجموعتها الشمسية، المجموعة الشمسية بمجرتها، المجرة بتلك المجرات، تلك المجرات وما فوقها من السماوات وكرسي الله وعرش الله، تبقى هذه أمور يعني لا يمكن المقارنة بين هذه وهذه، وهذه الأشياء الصغيرة انظر كل مخلوق من هذه المخلوقات له فكره وعمله وآماله وطريقته في الحياة، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ........}[هود:6]، المستقر المكان الذي تقر فيه وتختبئ فيه، والمستودع ما تخفي فيه ما تخاف عليه، وهذي الحيوانات الصغيرة تخاف على بيضها، على صغارها، على طعامها، فتقوم تخفيه عن الأخرين، فهذا المستودع؛ مستودع النملة الصغيرة هذه، الذي تخفي فيه صغارها وتخفي فيه طعامها يعلمه الله -تبارك وتعالى- ويسمعه ويبصره -سبحانه وتعالى-، {........ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7].

انظر هذه القلوب؛ قلوب بني آدم، القلوب جمع قلب، والقلب هو هذه العضلة التي نحن نراها مضخة دم، وقد أخبرنا –سبحانه وتعالى- أنها محل الفكر والعقل، هذا القلب ترد عليه من الخواطر والوساوس والأفكار والآلام أمور عظيمة جدًا، وهو سمي قلب لكثرة تقلبه من كثرة تقلبه، سواء تقلبه تنقله، أنت في دقيقة واحدة قد تتنقل من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، يسرح بك الفكر في ماضٍ بعيد ثم تأتي إلى الحاضر، ثم إلى كذا، ثم إلى خصومة، ثم إلى ضحك، ثم إلى بكاء وهكذا، وهذه الخواطر التي تتوارد لو كانت تسجل على شريط ثم بعد ذلك تخرج كتاب لكان كل إنسان يمكن أن يخرج له في اليوم الواحد مجلدين ثلاثة أربع مجلدات، من الخواطر التي ترد على قلبه وتسير، والتي أحيانًا يصيدها أهل المعرفة تكون خواطر جيدة جدًا وأحيانًا تذهب، ولذلك بعض أهل العلم لما كتب كتاب في هذا الوارد الذي أحيانًا يكون واردا جيدا، سماه صيد الخاطر يعني يصيد من الأفكار الطيبة ما يأتي في خاطره وأخرج مجلدات بهذا, الشاهد من كل هذا أن الرب الإله -سبحانه وتعالى- مع كل قلب في كل تنقل له، قال -جل وعلا- {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ........}[البقرة:284]، إن أظهرتم ما في هذه النفوس أو أخفيتموه يحاسبكم به الله، {........ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284]، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أنه قدير على إحصاء عمل الإنسان الظاهر بل خواطر الإنسان الباطنة التي يمكن أن ترد على الإنسان وينساها الإنسان، كما قال الله في عمل شخص {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}، أحصاه الله عده عليهم وهم نسوه لكن يحاسبهم الله -تبارك وتعالى- به يوم القيامة، فالله لا شبه له، لا أحد يعلم كما يعلم الله، لا أحد يسمع كما يسمع الله، لا أحد يبصر كما يبصر الله، وكل صفات الله -تبارك وتعالى- من هذا النوع، فالله لا شبيه له لا في ذاته فالله لا جزء له، لا ولد له، لا ولد له لأن الولد هو جزء مضغة من الوالد، ولو كان له ولد لكان هذا الولد بالضرورة أن يكون فيه صفات الأب، خالقًا، رازقًا، محييًا، مميتًا، تعالى الله -تبارك وتعالى- أن يكون له شبيه من جنسه -سبحانه وتعالى-. الله هو الفرد الأحد -سبحانه وتعالى-.

كذلك لا ند لله -تبارك وتعالى- في الحقوق، لأن ما دام أنه -سبحانه وتعالى- هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ثم هو المتفرد بكل هذا الخلق، ثم هو لم يخلق الخلق ويتركهم عبثًا، بل هو الذي يرزقهم، يحييهم، يميتهم، كل قيامهم به، لا أحد يقوم إلا بالله فلا حول ولا قوة إلا به فلا قيام إلا به، فطعام العبد وشرابه وكل ما يحتاجه ليقوم ويحيا هو بالله، إذن هذا الرب الإله -سبحانه وتعالى- له حقوق على خلقه، منه -سبحانه وتعالى- على خلقه الذي حقه هو أن يعبدوه لا يشركوا به شيء، ومن أعظم الباطل أن يُعبد غيره، وأن تدّعى الألوهية لسواه، لأن سوى غير الله لا يخلق، لا يرزق، لا يحيي، لا يميت، لا يملك لمن يريد أن يعبده، من يعبده ما يملك له شيء. لا ينفعه ولا يضره، فإذا وضعت العبادة في غير الله وضعت في باطل، من وضع العبادة في غير الله وضعها في باطل، ولذلك كان ظالم لأن الظلم في لغة العرب هو وضع الشيء في غير محله، وهذا أعظم ظلم لأن العبادة أشرف الأعمال وأعلاها، فهي ثمرة القلب وهو خضوع وذل لمن يعبد، فكيف يذل الإنسان ويخضع ويطيع ويستجيب ويخاف وهذه صنوف العبادة يعطيها لمن لا يستحق ذلك، هذا أكبر ظلم، ثم أن يصرف هذه العبادة عن الرب الإله -سبحانه وتعالى- إلى غيره ظلم عظيم جدًا، أو أن يجعل لله ندا فيشرك غيره معه في العبادة، فيعبد الله ويعبد معه غيره فهذا يعني إجرام وظلم كبير، أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، ند في أي شيء، في صفاته لأن الذي يخلق ليس كمن لا يخلق، فإذا جعلت من لا يخلق ندًا لمن يخلق فهذا أكبر الظلم، وكذلك إذا عبدت من لا خلقك ولا سواك ولا رزقك ولا أحياك ولا يميتك مع الذي يحيك ويميتك ويطعمك ويسقيك فهذا يعني أنت أكبر مجرم، ويعتبر هذا أكبر الإجرام.

فكان أول أمر نهى الله -تبارك وتعالى- عنه هو الشرك، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، أول شيء {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، أي شيء؛ أي شيء سوى الله، ولو كان شيء شريف كالملائكة، لكن لا يستحقوا العبادة، الله يقول عن الملائكة {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]، الملك لا يمكن أن يكون إلهًا معبودًا، لأن هو في ذاته عابد لله -تبارك وتعالى-، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ}، يعني الملائكة، {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، هم نفسهم عباد لله -تبارك وتعالى-، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ........}[الأنبياء:26]، الذين هم الملائكة، قال -جل وعلا- { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:25-29]، فهذا حال الملائكة مع الله -تبارك وتعالى- أنهم عباد له، فكيف يعبدون من دونه -جل وعلا- وكذلك غيرهم، إذن أول أمر هنا ينهى الله -تبارك وتعالى- عنه قال {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، ملك، إنسان، شمس، قمر، نجم، أي شيء لا تجعله شريكًا لله -تبارك وتعالى- في هذه الأمور، في ذاته، في صفاته، في أفعاله، في حقوقه، كل هذا إذا وقعت هذه فهذه شركة، جعلته شريكًا مع الله -تبارك وتعالى-، {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}.

ثم قال -جل وعلا- {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وبالوالدين إحسانًا جاء هذا في سياق النهي يعني الآن {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، كان بحسب السياق ولا تعقوا آبائكم فهذا نهي عن العقوق، لكن هنا الله -تبارك وتعالى- جعل المنهي عنه مفهوم المخالفة لهذه الآية {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وأتى بمنطوق الإحسان والمنهي عنه إنما هو العقوق، والحكمة في هذا أن الله -تبارك وتعالى- جعل المنطوق هنا والمنصوص عليه الإحسان لأن هذا هو المطلوب في النهاية، وأن المنهي عنه الذي هو العقوق هو لازم له، لأن من لم يحسن بالوالدين فقد عقهما وهذا المنهي عنه، وليس المطلوب فقط بالنسبة للوالدين النهي عن العقوق بل المطلوب الإحسان؛ الإحسان إلى الوالدين، والنهي ليس عن العقوق ولكن النهي عن مطلق الإساءة ولو كانت شيء يسير، وهو إظهار الضجر من الوالدين، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:23-24]، فقول الله {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}، يعني أحسن إليهما والمنهي عنه ولا تقل لهما أف، وأف اسم فعل بمعنى أتضجر أو أسأم، أنا سئمٌ أو ضجر من حالكما وذلك يعني عند الكبر، إذا كبر عاد إلى حال صغره، {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ........}[يس:68]، من ضعف القوى وخَرف العقل، خلق الطفل ونزقه وتغير إراداته وصغر طلباته، فإن الكبير قد يطلب ما يطلبه الصغير الطفل، فهنا قال -جل وعلا- {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}، فقول الله هنا {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، يعني أحسنوا بالوالدين إحسانًا، والمنهي عنه هو المضّمن أي مفهوم المخالفة للإحسان وهو عقوق الوالدين، والمنهي عنه ليس العقوق قطع وإنما مطلق الإساءة.

ثم الأمر الثالث قال -جل وعلا- {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}، نهي من الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر الثالث الذي ينهى الله –عز وجل- عنه، وهو في ترتيب الذنب ترتيب تنازلي، الشرك بالله -تبارك وتعالى-، عقوق الوالدين، ثم قتل الأولاد من إملاق، قال {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}، الإملاق الفقر الشديد، وقد كان منتشر في الجاهلية قتل الذرية خوف الفقر، وقتل البنات خوف العار، وهذا في الجاهلية القديمة وهذا مستمر في كل الجاهليات وإلى يومنا هذا، بل اشتد هذا الأمر وكثر في وقتنا وأصبح القتل وإن كان القتل ليس بعد الولادة وإنما يعني عظم الآن قبل الولادة، وما يسمى بالإجهاض المتعمد، قتل ما في البطن لمخاوف شتى، مخاوف زيادة الأولاد، مخاوف الفضيحة، مخاوف العار، ثم القتل بعد الولادة كما هو حاصل الآن في بعض بلدان العالم، فإنه لما حدد أن يكون للأسرة الواحدة ولد واحد فإنهم يقتلونه بعد الولادة، إذا ولدت المرأة وكانت أنثى قتلوها وغيبوها حتى يكون لهم فرصة للحمل مرة ثانية، وكل هذا من خشية الإملاق، فالآية كذلك النهي عنها نهي عن أمر تفعله كل الجاهليات -عياذًا بالله-، وإن كانت الجاهلية الأولى كانت أخف جرمًا من الجاهلية الحديثة، فإن الموؤدة التي قتلت في الجاهلية كانت أعداد قليلة بالنسبة إلى ما يقتل الآن من الذرية، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}.

ثم قال -جل وعلا- {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، يعني ما ترزقونه إنما هو من الله، فأنت لا تخلق رزقك وأنت لا تهتدي إلى سبيل هذا الرزق وإنما هذا كله بهداية الله -تبارك وتعالى- وبعناية الله، فالقوى التي ترزق بها سواء كانت قوى البدن أو قوى العقل أو أي قوى من القوى التي هي محل تحريك الرزق وطلبه كلها من الله -تبارك وتعالى-، {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ}، خلقًا وتدبيرًا وتيسيرًا منه -سبحانه وتعالى- فالرزق كله منه، {وَإِيَّاهُمْ}، يعني كذلك وهؤلاء الأبناء كذلك نحن الذين نرزقهم، قدم الله هنا -تبارك وتعالى- رزق الآباء لأنه قال لأن هذا من إملاق، وفي الآية الأخرى قال {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}، قدم رزق الذرية وذلك لأنه يقتل ليس من إملاق حادث وإنما خشية إملاق ممكن أن يحدث في المستقبل، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ ........}[الإسراء:31]، فقدمهم وإياهم.

ثم قال -جل وعلا- {........ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الأنعام:151]، ولأن الوقت أدركنا في هذه نرجئ بقية الآية -إن شاء الله- إلى الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.