لحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد سيد الأولين والآخرين، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه -فصلوات الله وسلامه عليه-،
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:151-153].
هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام، وصى الله -تبارك وتعالى- فيها عباده بعشر وصايا، فهي الوصايا العشر، وهذه الوصايا العشر من الوصايا المحكمات التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- في كل كتاب، ولم ينسخ منها شيء، فليس فيها أمر منسوخ ولا نهي منسوخ، بل كل هذه الأمور من الأمور المحكمة، وقد عقب الله الآية الأولى تضمنت خمس وصايا، وختمها الله قال {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، والآية الثانية إشتملت على أربع وصايا، وقال فيها -جل وعلا- {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، والآية الثالثة كان فيها وصية واحدة جامعة، وقال -جل وعلا- فيها {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، هذه الوصايا العشر هي الدين القويم الذي أرشد الله -تبارك تعالى- إليها عباده ووصاهم به.
والوصية إذا قيل وصية؛ الوصية أكبر من الأمر، وذلك أن الأمر أمر أو نهي، أما أن تكون وصية إنما هي دائمًا الوصية تصدر من المحب أن تسير في هذا الطريق، تأتي من الحريص على ما ينفعك، ولذلك يقال وصية أب لأولاده، كما جاء {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[البقرة:132]، وهذه الوصية تكون غالبًا عندما يخلص الإنسان النصح لمن يريد أن ينصحه، أب لأولاده وأم لبناتها مثلًا، قائد لقواته، مودع يريد أن يودع الحياة فيأتي بخلاصة ما عنده، وهذا كمن يعلم أنه دنا أجله فيقوم يوصي أولاده ويوصي من بعده افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا من حرصه عليهم.
الله الرب الإله -سبحانه وتعالى- هو يرضى لعباده ويحب لعباده الإيمان -سبحانه وتعالى-، وهو الغني عنهم؛ هو الغني عن العباد -سبحانه وتعالى-، لا يستكثر بالطائعين ولا يستقل –سبحانه وتعالى- ولا يضره كثرة العصاة، لكنه الله –تبارك وتعالى- يحب الخير لعباده ويرضاه لهم -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ........}[الزمر:7]، وهنا هذه آيات يوصي الله في الأمور العظيمة جدًا، يوصي الله -تبارك وتعالى- عباده من باب أن الله -تبارك وتعالى- يحب لهم الخير، ويكره لهم -سبحانه وتعالى- أن يسيروا في غير طاعته ومرضاته فيقع لهم ما حتمه الله -تبارك وتعالى- من العقوبة الشديدة، فهذه وصايا، قال -جل وعلا- {قُلْ تَعَالَوْا}، قل لهم وهذا صدرها الله -تبارك وتعالى- بأمره إلى النبي -صلوات الله السلام عليه-، ليكون في هذا كذلك تشريف للخطاب، وتكليف للنبي ليقوم بهذا الأمور -صلوات الله والسلام عليه-، {قُلْ تَعَالَوْا}، نادهم هلموا وتعالوا من الدعوة إلى السمو والرفعة، تعالوا من العلو تعالوا، {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، أي هذا الذي حرم ربكم خالقكم وبارئكم -سبحانه وتعالى-، ليس ما شرعتموه لأنفسكم من تحريم ما أحل الله -تبارك وتعالى-، وتحليل ما حرم والسير في هذا التشريع بأهوائكم، تعالوا إلى الطريق الصحيح، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، الشرك أعظم الذنوب، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، يعني إياكم وعقوق الوالدين بل أحسنوا بالوالدين إحسانًا، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}، موؤدة، {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، تعقيب هنا؛ جائت هذه الجملة معقبة على قتل الذرية، وبيان أن الرزق بيد الله -تبارك وتعالى-، وهذا هو السبب الرئيسي في قتل الذرية في كل الجاهليات، الجاهلية القديمة والجاهلية الحديثة، فإن أعظم ما يقتل به الأولاد إنما هو خوف الفقر، ولذلك جاء في الحديث؛ حديث النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لما سأله عبد الله إبن مسعود يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ قال أن تجعل لله ندًا وهو خلقك»، فإذا كان الله هو الذي خلقك فإذا جعلت له ندا هذا أكبر ذنب، «قلت ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك»، أنظر التعبير البلاغي للرسول -صل الله عليه وسلم- أن تقتل ولدك، ولدك مخافة أن يطعم معك، فأنت تقتله من الفقر من أجل لا يأكل معك، وهذه صورة تبشيع لهذا الأمر، لأن الإنسان يقوم بقتل إبنه لأنه يخاف أن الابن هذا يشاركه في الطعام، «قلت ثم أي؟»، هذا تتمة كلام عبد الله إبن مسعود، «قال أن تزاني حليلة جارك»، فهذه الذنوب العظيمة.
هنا ذكر الله -تبارك وتعالى- سنة مطابقة للقرآن، هذا ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الفواحش هذه الأمور من كبار الذنوب، فقال {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، الرزق الذي تأكله أنت وترزقه إنما هو من الله، ثم هو الذي يرزق الذرية، فهو المتكفل برزق عباده -سبحانه وتعالى-, ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، الفواحش جمع فاحشة، والفاحشة هو الذنب العظيم البالغ في القبح، أصلًا الفاحش هو الغليظ القبيح، يقال جيد فاحش يعني إذا كانت رقبة غليظة، وغالبًا ما تطلق الفاحشة في الذنوب على الزنا خاصة لأنه قبيح، لقبحه كما قال -جل وعلا- {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء:32]، أي أنه أمر قبيح جدًا أن يفضي الرجل إلى من لم يحلها الله -تبارك وتعالى- له، فإن الأصل أن هذا محرم إلا ما أباحه الله -تبارك وتعالى- وأباحه بشروطه؛ لهذا الزنى أمر هائل جدًا سواءً في نفس الفعلة أو في الآثار التي تترتب عليها، {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ}، الذنوب العظيمة الفاحشة الكبيرة ومن الزنا وكذلك ما هو من جنس الزنا يعني كاللواطة ونحوها، {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ}، قال -جل وعلا- {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، ما ظهر منها على الجوارح وما بطن في القلب، أو ما ظهر منها أمام الناس وما بطن في الاستتار، فكل فاحشة سواءً أكانت أمام الناس يفعلها الإنسان معلنًا بها أو مستترًا بها أو هي مما تظهر على جوارحه أو مما في قلبه، فإن الفحش في القلب كذلك يعني الفاحشة في القلب كتمني الزنا هذا أيضًا من الفواحش، كما قال النبي في الزنا «إن الله كتب على كل إنسان حظه من الزنا، مدرك ذلك ولابد فالعين تزني وزناها النظر، والأنف يزني وزناه الشم، والفم يزني وزناه القبل، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه»، فسمى تمني النفس وإشتهائها زنا، هذا من الزنا، فهو زنا ما دام أنه من الزنا فهو من الفواحش، وكذلك هذا من المستتر فهذا من المستتر.
هنا الله -تبارك وتعالى- نهى عن الفواحش ما ظهر منها، أي ما يظهر منها على الجوارح، وما بطن كل فاحشة بمعنى احذروها، ظهرت على جوارحكم أو بطنت في قلوبكم أو ظهرت أمام الناس أو تستخفون فيها يعني جانبوا وإبتعدوا، ثم النهي جاء بالنهي عن القربان قال ولا تقربوا ولم يقل ولا تفعلوا الفواحش أو تمارسوا أو تواقعوا بل قال (تقربوا) يعني... ابتعد، ولذلك جائت الشريعة بحماية الفاحشة بمجموعة من المنهيات التي هي من باب سد الذرائع، من باب قفل الأبواب المفضية إلى الفاحشة، فلو أخذنا مثلًا جريمة الزنا كجريمة كفاحشة نجد أن الشريعة قد أحاطت هذه الفاحشة بسياج كبير من النواهي: الأبواب التي يمكن أن تفضي إليها، كسفر المرأة بدون محرم لأن هذا قد يفضي إلى هذا. أن تكون المرأة مسافرة ما معاها محرم فتكون فريسة ضعيفة، فنهيت أن تسافر إلا مع ذي محرم. الدخول على النساء في غيبة محارمهن كما قال النبي «إياكم والدخول على النساء»، يعني في غيبة أزواجهن ومحارمهن، فقال رجل يا رسول الله رأيت الحمو الذي هو أقارب الزوج مثل أخو الزوج، ابن عمه، قريبه، فقال النبي «الحمو الموت»، بلاغة النبي -صل الله عليه وسلم- الحمو الموت فهذا كذلك، لأن هذا من الأقارب ممكن أن تكون هذه، ويكون هذا باب للوقوع في هذه الفاحشة. النظر كقول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ........}[النور:30]، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، فنهى عن... أمر المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وغض البصر هذا ليس هو النظر, ليس فاحشة في ذاته وإنما فيما يفضيه، الآن نظرة قد يؤدي هذا إلى أن يقع في القلب هذه المرأة التي نظر إليها تقع في قلبه، عند ذلك يكون السعي بعد ذلك فيكون الأمر بعد ذلك يوصل إلى هذا فنهى من هذا. أيضًا الحجاب والستر أمر المؤمنة أن تستر كل زينتها ولا تبدي من هذه الزينة، كما قال -جل وعلا- {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، كما قال بعض أهل العلم الوجه والكفين، أو {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، يعني من خارج الثياب، أو رغمًا عنها بالضرورة كأن ترفع يدها مثلًا فيظهر شيء من زينتها ونحو ذلك، الشاهد بأنه قد أمرت المؤمنة بإخفاء كل زينتها الظاهرة والخفية، حتى المخفي كالذهب مثلًا الذي تلبسه في رجلها، خلخال أنها لا تظهره بصوته، كما قال -جل وعلا- {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ}، مجرد علم، {مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}، إنها تلبس خلاخيل، هذا كله صيانة وبعد عن هذا؛ لأن ظهور زينة المرأة هو دعوة غير مباشر إلى الوقوع في الفاحشة.
فقفل هذا الباب حتى مع النساء الكبيرات اللاتي لا يطمع فيهن، فإن الله –تبارك وتعالى- وعظهن ونصحهن بأن يستترن وإن كانت كبيرة، كما قال -جل وعلا- {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ........}[النور:60]، {يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ}، الخارجية، مثلًا تضع خمارها عن رأسها، إمرأة كبيرة وقد شاب شعرها وكبرت وأصبحت عجوزا لا يطمع فيها، فخفف عنها من مثلًا غطاء الرأس أو شيء مما يظهر شيء من الذراعين ونحو ذلك أمام الأجانب، قال {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ}، يعني الخارجية، {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}، بشرط هذا حال كونهم غير متبرجات، لكن إذا كانت تتبرج بزينة مثل زينت شعرها وزينت وجهها أو وضعت بعض أصباغ أو بعض شيء وإن كانت عجوزا فإن هذا فيه دعوة بعد ذلك إلى الفاحشة، {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}، ثم قال –جل وعلا- {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ}، وإن يستعففن من العفة فيلبسن الملابس هذه حتى الخارجية وإن كانت عجوزا لا يطمع فيها، فهذا الأولى والأحرى.
الشاهد أن كل هذه الأحكام التي وضعت هنا إنما هي لحماية المؤمنين من الوقوع في هذه الفاحشة، لذلك جاء الأمر هنا بالنسبة للفواحش النهي، جاء النهي ليس عن إقتراف الفاحشة بل الإقتراب من الفاحشة، قال {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}، مجرد قربان وهذا فيه مضمنًا لهذه الأوامر الكثيرة أو النواهي الكثيرة التي أحاط الله -تبارك وتعالى- بها يعني فاحشة الزنا، حتى لا يتوصل إليها، الأبواب الموصلة الذي هي ما يسميها أهل العلم بسد الذرائع.
{وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}، النفس التي حرم الله -تبارك وتعالى- قتلها إلا بالحق، أولًا الإنسان مخلوق مكرم من حيث هو إنسان، والعدوان عليه بالقتل كأنه عدوان على البشرية كلها، كما قال -تبارك وتعالى- فيما كتبه، فيما أنزله على بني إسرائيل، {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ........}[المائدة:32]، هذه النفس يهدر دمها النفس المعصومة هذه الإنسانية في أمور، أولًا الكفر أكبر هدر للدم، فإذا بلغ الإنسان وكفر بالله -تبارك وتعالى- فهذا قد أمر الله -تبارك وتعالى- بقتاله، وهذا باب الجهاد للكفار وقتلهم هذا باب، أما كل نفس أسلمت تصبح معصومة الدم، كما قال النبي «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم»، هذا يصبح معصوم الدم، معصوم الدم بعهد الله وأمره -سبحانه وتعالى-، «إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»، هذه النفس المسلمة التي أصبحت معصومة الدم بالإسلام هذه لا يحل قتلها إلا بجريمة من جرائم ثلاث، كما قال -صل الله عليه وسلم- «لا يحل دم إمرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس»، من قتل يقتل، مسلم قتل عدوانا ليس قتل خطأ ولا شبه عمد وإنما قتل ظلمًا وعدوانًا معتدي، فهذا قتل عمدا عامدا وعدوانا فهذا يقتل قصاصًا. الشيئ الثاني الزاني المحصن، زنا وهو محصن، وهو محصن؛ سبق له زواج، إمرأة أو رجل فهذا يرجم، كما قال -صل الله عليهم وسلم- «خذوا عني، خذوا عني، البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مئة والرجم»، وقد رجم رسول الله -صل الله عليه وسلم-، فقال النبي «لا يحل دم إمرئ مسلم إلا ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة»، من ترك دينه الإسلام وفارق جماعة المسلمين إلى الكفر، إلى أي دين وإلى أي ملة فيقتل، لقول النبي «من بدل دينه فأقتلوه»، فمن بدل دينه من الإسلام إلى الكفر بعد أن دخل فيه وجب قتله، فهذه هي الجرائم الثلاث فقط التي بالحق، والله هنا يقول {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}، يعني إلا أن يكون قتلها بالحق، وهذه هنا هي الجرائم الثلاث التي يكون قتلها بالحق.
ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكُمْ}، إشارة إلى هذه المنهيات التي نهانا الله -تبارك وتعالى- عنها، وضمنها الأمر الذي أمر الله -تبارك وتعالى- به بالنص وهو بالوالدين إحسانًا، وكذلك النهي عن الشيء أمر بضده، كما أن الأمر بالشيء نهي عند ضده، فهنا لما نهانا الله -تبارك وتعالى- ألا نشرك به شيئًا فضده أن نوحده -سبحانه وتعالى-، أن نعبده وحده لا شريك له، فهي أوامر يعني ما دام نهانا عن الشرك أمرنا بالتوحيد، وكذلك أمرنا بالإحسان إلى الوالدين فقد نهانا عن الإساءة إليهما، وقال {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، فكذلك هذا أمر بإحيائهم وبالعناية بهم وبالمحافظة عليهم، {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، هذا نهانا عن هذه إذن أمر بالإستعفاف، إذن هذا فيها أمر بالإستعفاف والبعد عن هذه المعاصي، {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ}، هذه الأوامر وهذه النواهي، {وَصَّاكُمْ بِهِ}، وصية الله -تبارك وتعالى-، يعني هذا من باب عناية الرب –سبحانه وتعالى- وحفاوته بخلقه ومحبته -سبحانه- لهم ورضاه أن يسلكوا سبيل النجاة؛ سبيل الخير، لأن هذا هو سبيل النجاة.
ثم قال {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، لعل للترجي، والترجي ليس من الله، الله لا يرجو شيء لأن كل ما يريده الله -تبارك وتعالى- هو واقع، وإنما الترجي هنا بسبب العبد، أي هذه أسباب إن بذلتموها لعله إن سرتم هذا المسار أصبحتم من ذوي العقول، وقول الله {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، بعد ختام هذه الخمس الوصايا، لأن هذه لا شك أن كل ذي عقل يعلم أنها الأمور هذه المنهي عنها أنها أمور سيئة، فكل ذي عقل يعمل عقله، الشرك يعني قضية لا عقلانية، كيف يجعل العبد لربه الذي خلقه وسواه وتفضل عليه ندا له! فقضية غير عقلانية، فعبادة أي شيء غير الله عبادة الملائكة، عبادة الشمس، عبادة القمر، قضية غير عقلانية، كيف يكون هناك عقل عند من يأتي إلى مخلوق ويعطيه صفات الخالق وحقوق الخالق، عيسى إبن مريم -عليه السلام- هل عبادة عيسى قضية عقلية تخضع لعاقل! كيف يكون بشر عاجز، يأكل، يشرب، ضرورة الطعام والشراب تحصل له، يخاف، يفر من عدوه، يلاحقه أعدائه وأعدائه من؟ أخس الناس؛ اليهود، أعدائه يلاحقونه من مكان إلى مكان والرومان، ناس أمة وثنية تلاحقه، ثم يكون على هذا الأمر ويعتقد بعد ذلك بأنه إله السماوات والأرض، خالق السماوات والأرض، المتصرف في الخلق، الذي يعلم الخلق، وهو الذي ينقل عنه في الكتاب الذي يقرأه النصارى بأيديهم وهو الإنجيل، أنه عندما مر بشجرة تين أراد أن يحصل منها على تين في غير الوقت حتى قيل له أنه ليس وقت تين في هذا، فإذا كان هذا بشر على هذا النحو ويجهل مثل هذا الأمر من أمور الخلق ومن أمور الزراعة، والتين شجرة فلسطين التي نشأ فيها عيسى -عليه السلام- ومع ذلك جهلها، فكيف يكون هذا إله هو خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، الشاهد أن الشرك ليس قضية عقلية فهي قضية خارج نطاق العقل، وإنما اتباع ظنون واتباع أهواء وناس يكذبون الكذبة ثم يصدقون أنفسهم بهذا، فهو كذب وافتراء على الله، كل الشرك كذب على الله وافتراء على الله -تبارك وتعالى- وإتباع لهذا الكذب، وهو أمر ليس عقلًا، كما قال -جل وعلا- { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}، [النساء:116-120]، فهذا الذي يتبع شيطانه ويتبع هذا ما هي قضية عقلية.
كذلك عقوق الوالدين ليست قضية عقلية، أن أي إنسان ذا عقل من أي ملة ودين يعلم أن للوالدين حق، فهم اللذان ربياه وتحملاه وأن فعل الإنسان نحوهما من الإحسان والبر هذه تأدية فرض، وتأدية جميل ودين في رقبته، كذلك قتل الأولاد كل ذي عقل يعلم أن هذه جريمة؛ جريمة كبرى، وكذلك الفواحش، إتيان الفاحشة مازال كل ذي عقل يعلم أن الفواحش أمر خبيث، حتى هذا الزنا الذي هو قد يستمرئه ويحبه كثير من الناس لكن هو عند كل ذي عقل أنه أمر فاحش، وأنه أمر يجب يبتعد ويتنزه منه، ويتمنى كل أحد أن يكون في غيره ولا يكون في نفسه وفي أهله، فهو فاحشة بمقاييس العقول، وكذلك العدوان بالقتل على النفس المحرمة لا شك أنه الذي حرم الله قتلها هو أمر كذلك من الأمور التي تدرك بالعقول، لذلك قال -جل وعلا- {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}، هذي وصية من الله، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، أن هذا أخذه بمقتضى العقل، يعني لو عقل مجرد لم ينزل وحي ليرشده لكان مقتضى هذا العقل الذي يقدر المصالح والمفاسد لكان مقتضى هذا أن يترك مثل هذه الأمور الفاحشة، العظيمة في الإثم.
هذه الآية قد تضمنت هذه الوصايا الخمس، بقي آيتان تضمنت أربعة وصايا من الوصايا العشر، والآية الثالثة تضمنت وصية؛ الوصية الأخيرة، وهذا -إن شاء الله- نرجئة إلى الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.