الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (189) - سورة الأنعام 154

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:151-153].

 هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام قد تضمنت الوصايا العشر، التي وصى الله -تبارك وتعالى- بها عباده وقد جاء أن هذه الوصايا في كل دين، في كل شريعة أنزلها الله -تبارك وتعالى- وصى الله -تبارك وتعالى- عباده بها على ألسنة رسله، فهي من الأمور المحكمات التي لم تنسخ في شريعة قط ولم تنسى في أي شريعة من شرائع الله -تبارك وتعالى-، تضمنت الآية الأولى خمس وصايا للرب -تباك وتعالى- وهي جماع ما حرم الله -تبارك وتعالى-، صدر الله -تبارك وتعالى- هذه الوصايا {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن ينادي الناس خاصة العرب منهم الذين كانوا يحلون ويحرمون بأهوائهم، تعالوا لتعرفوا ولتعلموا ما حرم الله -تبارك وتعالى- عليكم على الحقيقة لا بهذا التحريم الذي تفعلونه أنتم بالأهواء.

أول هذه الأمور الشرك بالله -تبارك وتعالى-، قال {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، والشرك أعظم الذنوب، ثم قال -جل وعلا- {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، والمنهي عنه هنا مفهوم المخالفة لهذا، يعني أي عقوق للوالدين احذروا أي عقوق للوالدين وأحسنوا بالوالدين إحسانًا جاء في صيغة الأمر، والمنهي عنه هو أدنى العقوق كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ........}[الإسراء:23]، يعني أتضجر أسأم، {وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ}، تقربوا القربان، نهى عن القربان وليس الفعل بل أي ذريعة تقرب من الفاحشة، {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، قيل ما ظهر منها على الأعضاء وما بطن في القلب أو ما ظهر أمام الناس وما بطن عنهم، {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، ختم الله -تبارك وتعالى- هذه الوصايا الخمس في هذه الآية بقوله {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، لأنها من الأمور الظاهرة لكل ذي عقل وذي لب أن يعلم أن هذه أمور مستنكرة مستقبحة.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، هذه هي الوصية السادسة من وصايا الرب -تبارك وتعالى-، قال {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}، نهى عن قربانه، وفي الآية الأخرى نهى عن أكله وقال{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء:10]، وهنا نهى عن مجرد القربان إلا بالتي هي أحسن، يعني بالإبتعاد ومعنى بالإبتعاد يعني حتى أن يكون عن مشاركة أو صورة من صور القرب من مال اليتيم، قال -جل وعلا- {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهذا تحذير شديد من مال اليتيم، واليتيم هو من مات أبوه وهو دون البلوغ وأما إذا بلغ فلا يُتم بعد احتلام، وماله كل ما يتموله سواء كان نقوده، ماشيته، داره، كل هذا ما يتمول وينتفع به فمال، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، والتي هي أحسن مشاركته حتى لا يضيع ماله، استثماره في أمر مضمون حتى ينمو هذا المال ويتبارك. والحفاظ عليه، العناية به، الإنفاق على هذا اليتيم من ماله بالمعروف، كما قال -جل وعلا- {........ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:220]، فهذه بالتي هي أحسن يعني بالأمر الحسن الذي فيه حفاظ على هذا المال وتنمية له، {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، وبلوغ الأشد بلوغ القوى شدة البدن وكذلك العقل، وقد نهى الله -تبارك وتعالى- عن إعطاء اليتيم ماله -الذي هو ماله- إلا إذا كان راشدًا، كما قال -جل وعلا- {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ........}[النساء:6]، أي عن مال اليتيم، {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، أي بقدر خدمته وقيامه بخدمة مال اليتيم، {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}، فهنا يقول حتى يبلغ أشده، إذا بلغ أشده كمال الجسم وكمال رشد العقل وحسن التصرف فإنه يسلم ماله، {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، أي فسلموه ماله.

ثم قال -جل وعلا- في الوصية السابعة {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}، الكيل معلوم وهو وعاء يقدر الحجم, كالصاع والمد والأردب ونحو ذلك والوثق، والميزان معروف يقدر الثقل وهو مقاييس، فالكيل والميزان مقاييس، وأفوا الإيفاء هو إعطاء الشئ وافيًا أي كاملًا، {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}، والقسط هو العدل، فإذا بعت غيرك ينبغي أن توفي إليه ما اتفقت عليه من الكيل والميزان، ثم قال –جل وعلا- {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وهذه العبارة بعد هذا دليل على أنه لو صار أمر خارج عن الإرادة مثل بخس حبة أوشيء قليل لم يُراعى فإن الله -تبارك وتعالى-  لا يكلف نفسًا بهذا التكليف إلا وسعها؛ إلا طاقتها، ويمكن أن يكون هذا أمر عام, ولا شك أن هذا التشريع عام في كل الأمور، فإن الله -تبارك وتعالى- {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، ومجيء هذه القاعدة من قاعدة الحساب هنا بعد الكيل والميزان؛ لعلها ربما ليكون للحرج، فإن هذا أمر قد لا ينضبط في كل الأحوال وقد يغيب عن الإنسان فيبخس ويضيع منه شيء لصاحب الحق ولو شيء قليل، فقال -جل وعلا- {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.

ثم قال -جل وعلا- {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، وإذا قلتم أي قول فاعدلوا، ثم قال -جل وعلا- {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، لا تشهد وتقل قولًا ينفع ذوي قرابتك مهما كانوا، حتى وإن كان هنا في المواريث وفي الحقوق وفي غيرها، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء:135]، فالله يقول {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}، في كل قول تدلي به ينبغي أن تكون عدلًا، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، أي لا تشهد؛ لا تمل مع ذوي قرابتك فتقول غير الحق في أي موطن من المواطن.

ثم قال -جل وعلا- {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}، وهذه الوصية التاسعة، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، وعهد الله يشمل ما عاهدت عليه الرب -تباك وتعالى-، الله –تبارك وتعالى- في طرف وأنت في طرف فعاهدت الله، كأن تكون نذرت له بقلبك عاهدت الله -تبارك وتعالى- أن تفعل هذا الشيء وأن تقوم بهذا الشيء، أو ما عاهدت غيرك العهود التي بين البشر, لكن أعطى كل منهم عهد الله، يعني قال أني أوفي وألتزم نحو الطرف الفلاني بكذا وكذا وكذا وكذا؛ وأعاهد الله على ذلك، يعني أشهد الله -تبارك وتعالى- وأجعله كأن عهدي بيني وبينه أن أوفي هذا الحق الذي إلتزمت به نحو فلان أو فلان حسب ما جاء في هذه العقود، {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}، ما عاهدتم عليه بإسم الله –تبارك وتعالى- أو ما عاهدتم الله –تبارك وتعالى- عليه، وهذا يدخل كل النذور جميعًا تدخل في هذا الباب، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}[التوبة:75]، فهذا عهد الله يعني بينه وبين نفسه أو قال ربي إن أعطيتني مال فعلت فيه كذا وكذا؛ أصبح عهد بين الله -تبارك وتعالى-، فإذا كان عهد الله على هذا النحو يجب أن يوفي بعهد الله -تبارك وتعالى- لأنه أصبح طرف، يعني أصبح عهد أنت في طرف والله -تبارك وتعالى- في الطرف الأخر، {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}، وفّي، أدي كاملًا وافيًا ما عاهدت عليه الله -تبارك وتعالى- وكل كذلك ما عاهدت غيرك عليه باسم الله -جل وعلا-، ثم قال -جل وعلا- ذلكم المشار إليه هنا يعني هذه الوصايا الأربعة التي جائت في هذه الأية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}، وصية الله -تبارك وتعالى-، توجيهه لكم، موعظته لكم، الوصية أمر محوط بالعناية والرعاية وحرص الموصي على أن يقوم الموصى إليه بهذا الأمر، رغبة منه وإرادة منه في نفعه، والله -تبارك وتعالى- غني عن العباد -سبحانه وتعالى- وهو يحب لهم الخير، ويحب الخير لعباده -سبحانه وتعالى- ويرضه لهم، يرضى لهم الطاعة ويرضى لهم الإنابة إلى الله -تبارك وتعالى- ويرضى لهم الصلاح، ويكره منهم الكفر والعناد -سبحانه وتعالى- ولذلك يوصي العباد بهذه الأمور، يقول لهم كأن هذه الأمور، أمور هذه نافعة لكم، هذي في مصالحكم وفي منافعكم أنا أوصيكم بها، وصية الرب؛ الرب الإله -سبحانه وتعالى- يوصي عباده، يقول ذلكم هذا المشار إليه هذي، {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، أيها العباد، وجاء هنا يتذكرون لأن هذه الأمور من أمور الوعظ وفيها كثير من أمور الطمع، يعني هذه أمور يدخل فيها الطمع؛ الطمع في مال اليتيم، الطمع في عدم إيفاء الكيل والميزان للآخرين، أن الإنسان يميل في قوله عن الحق رغبة في أن ينفع نفسه أو ينفع أقاربه، لا يوفي بالعهد، هذه أمور كلها يجمعها أن فيها نهي عن جانب عظيم وهو الطمع والإنزلاق إلى مال الأخرين، فلذلك قال الله {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، هذا أمر يحتاج إلى تذكير وعناية، ولذلك الله -تبارك وتعالى- قال هنا لعلكم تذكرون، لأن هذا الأمر هو كثير منه معاصي من الأمور الخفية تحتاج إلى تذكر، تحتاج إلى أن العبد يعمل عقله في الأمر ويتفكر في عواقبه وفي نتائجه، لذلك قال -جل وعلا- {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، غير الخمس المحرمات التي ذكرت في الآيات اللي قبلها، قال {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، لأنها كلها المنهيات هنا من القبح الظاهر الذي لا ينكره إلا من فقد عقله، وأما هذه لا؛ هذه أمور من الطمع، يعني أمور منهيات كلها عنها يدخل فيها باب الطمع والحصول على منافع وبعضها خفي، ويحتاج إلى أن يكون الإنسان لا يرعي الإنسان عن مثل ذلك إلا إذا كان من أهل الذكرى، ممن يتذكر نتيجة عمله وأن وراء هذا من معصية الرب ما ورائه من العقوبة، قال {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، فإذا كان الإنسان من أهل الذكرى وإتقى الله -تبارك وتعالى- في هذه الأمور خلاص يبقى نفذ وصي الرب -جل وعلا-.

ثم ختم الله -تبارك وتعالى- هذه الوصايا بقوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:153]، هذه الوصية العاشرة هو الوصية الجامعة التي تجمع كل هذه الأمور، فإنها إرشاد إلى طريق الرب -تبارك وتعالى-، وتحذير من سلوك أي طريق غير طريقه، قال -جل وعلا- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا}، هذا المشار إليه صراط الله -تبارك وتعالى- المستقيم، وقيل هذا بالإشارة للقريب وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد قرب لنا هذا الطريق تقريبًا عظيمًا جدًا، حتى جعلنا ننظر إليه ونعرف حدوده وأوله وآخره وجنباته وكل معالمه، فهو طريق واضح قد أوضحه الله -تبارك وتعالى- فيما أنزل من الكتاب، وبهذا النبي الهادي -صل الله عليه وسلم- الذي أوضحه، حتى إن النبي قال في آخر حياته «تركتكم على مثل المحجة، لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك»، تركتكم هنا بالماضي وأترككم يعني لتحقق الوقوع، تحقق الأمر، على مثل المحجة، والمحجة هو الطريق الذي يحجه الناس، ومعنى يحجونه يعني يدوسونه أفواجًا تلو أفواج، وإذا كان طريق يسار فيه الأفواج بعد الأفواج من الناس، يحجونه ويسير فيه المرة تلو المرة فيكون هذا معلم واضح، فهو ليس طريقًا غير مطروق من الطرق البر البعيدة لا، هذا طريق قد طرقه الناس ماشيين فيه. فهذا الذي يتمسك بهذا الطريق ما يضل في الصحاري ولا يضل في الفلوات لا، إن هذا طريق سيلتزم هذا الجادة الظاهرة الواضحة ويسير فيها، فهذا طريق الله -تبارك وتعالى- قد أوضحه الله، قال {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي}، ونسبه الله -تبارك وتعالى- إلى نفسه أنه طريقه وذلك أنه هو الذي شرعه، وهو الذي بينه -سبحانه وتعالى- فمنه نزل والنبي مبلغ عن الله -تبارك وتعالى-، فالنبي ليس مشرعًا -صل الله عليه وسلم- بشيء من عند نفسه ولكن كله بأمر الله -تبارك وتعالى-، وبتشريع الله وبوحي من الله -تبارك وتعالى-، فالله يقول {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي}، هذا طريق الرب وهذا طريق الرب سيروا إليه، كما قال -جل وعلا- {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}[الحجر:41]، فعلي هو على الله -سبحانه وتعالى-، فمن قصده قصد ربه وإتجه إليه، {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}، هذا في صراط الرب فيتخذ طريق الرب -تبارك وتعالى-، فإن نهاية هذا رضوانه -سبحانه وتعالى- وجنته، فهذا الصراط المستقيم على الله -تبارك وتعالى-، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}، اتبع صراط الرب، ولا يتبع الإنسان ولا يكون الإنسان متبع صراط الرب إلا إذا  أوامر الله -تبارك وتعالى- اتخذها، سار فيها، انتهى عن النواهي التي نهى الله -تبارك وتعالى- عنها، محرمات الله -تبارك وتعالى- لم يلجها وسار في هذا الطريق، لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا.

والنبي -صلوات الله والسلام عليه- أوضح هذا برسم توضيحي، فجلس يومًا -صلى الله عليه وسلم- على الأرض (وخط خطًا مستقيمًا، وخط عن يمين هذا الخط المستقيم خطوط متعرجة، وعن يساره خطوط كذلك متعرجة تخرج منه، وقال هذا صراط الله -تبارك وتعالى- مستقيمًا، وهذه الصرط أو الطرق اللي هي عن يمين الخط وعن شمال الخط على كل صراط أو على كل طريق شيطان يدعو إليه)، قال على كل صراط من هذه الصرط شيطان، وذلك أن الله يدعو إلى صراطه والشياطين تدعوا إلى غير طريق الرب -تبارك وتعالى-، فتدعوا أوليائها إلى أن يبتعدوا عن طريق الله إلى هذه الطرق، فيما تشرع لهم يعني الشياطين، ثم قرأ النبي قول الله -تبارك وتعالى- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}، الذي هي عن يمين الصراط وعن يساره.

{فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، ومعنى تفرق بكم عن سبيله تأخذكم وتفترق بكم عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكُمْ}، هذا الأمر بإتباع صراط الرب -تبارك وتعالى- والنهي عن اتباع هذه الصرط المختلفة، {وَصَّاكُمْ بِهِ}، وصية، ثم قال -جل وعلا- {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والتقوى اسم جامع يجمع كل هذا، لأن التقوى هي مخافة الرب -تبارك وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- أمرنا بتقواه يعني بمخافته، ونخافه لعقوبته، لأنه يعاقب، يأخذ بالذنب ويؤاخذ به -سبحانه وتعالى-، والله قال {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}، اي خافوني، وقالوا {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، أي يحذركم الله -تبارك وتعالى- من عقابه، وجاء أيضًا {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}، {هُوَ}، الله، {أَهْلُ التَّقْوَى}، أي أهل لأن يتقى، هو أهل لأن يتقيه العبد وذلك أنه الرب الإله العظيم العزيز الجبار المتكبر الذي يؤاخذ بالذنب ويعاقب به، فإذا أمر أو نهى فيجب الإمتثال لأمره وإلا تعرض العبد لعقوبته -سبحانه وتعالى-، فتتقون. فالعبد المتقي هو الذي يخاف الله، ولا يكون العبد متقيًا على الحقيقة إلا إذا ابتعد عما حرم الله، فعل ما أمر الله -تبارك وتعالى-، أن يفعل أوامر الله، لأن الله لما يأمر أمر لازم يجب أن يطاع، وإلا يكون العبد متعرض للعقوبة، وكذلك إذا نهى نهي لازم وهو النهي الذي يسميه أهل الأصول بالحرام، فهذا يجب امتثاله وإلا الإنسان يكون قد خالف الأمر الإلهي، يتعرض للعقوبة، لذلك قيل في معنى التقوى ((قال أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تبتعد عما حرم الله -تبارك وتعالى-، على نور من الله، تخاف عقاب الله))، ومعنى على نور من الله لأن الأمر يحتاج إلى بصيرة، أن تعرف أن هذا قد أمر الله به وأن هذا قد نهى الله -تبارك وتعالى- عنه، فيكون على نور من نور التشريع والوحي.

وهذه التقوى أصبحت اسم جامع وهي الوصف الجامع للمؤمن، فالمؤمن لابد أن يكون متقي، ولذلك دائمًا وغالبًا ما يرتبط الجزاء الأخروي بالتقوى، كقول الله -عز وجل- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ}[القمر:54]، فهنا {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ}[القمر:54]، وذلك أن هذا المتقي لا شك أنه قد جعل بينه وبين عقوبة الله -تبارك وتعالى- حماية، حمى نفسه من عقوبة الله وذلك بأنه أدى أوامره، انتهى عن نواهيه، إلتزم الطريق والصراط الذي ألزمه الله -تبارك وتعالى- بها، راعى حدود الله -تبارك وتعالى-، فوقف عند حدود الله سائر في طريق الله -تبارك وتعالى-، مؤدٍ ما أمر الله -تبارك وتعالى-، منتهٍ عما نهى الرب -تبارك وتعالى- عنه، فجائت الوصية العاشرة مختتمة بهذا الأمر، قال {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، هذه عشر ختام عشر وصايا وصى الله -تبارك وتعالى- بها عباده المؤمنين، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، ولا شك أن هذه بالنسبة إلى هؤلاء المشركين أين هذا بقى صراط الله -تبارك وتعالى- هذا النير الواضح، الذي ينهى عن هذه الأمور التي هي يعني عند كل ذي عقل ولب من الفساد، ومن الفواحش، ومن الإجرام، وفيها كل الإحسان، وذلك لا شك أن الأمر النهي عن شيء أمر بضده، كما أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فعندما يقول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، يعني أن تعبدوه وحده لا شك ديَّت، ويقول {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، يعني ألا تسيئوا إلى الوالدين أي إساءة، فإذا كان كل أمر من هذه الأمور هو نهي عند ضده، وكل نهي عن هذه الأمور هو نهي بضده، فلا شك يكون هذه الوصايا قد جمعت الدين القويم، وهي معالم؛ معالم هذا الطريق الحق الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- لعباده، وشتان بين هذا وبين حال ما كان عليه هؤلاء الكفار والمشركون.

ثم قال -تبارك وتعالى- بعد ذلك {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:154]، يعني أن الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذي تفضل على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم- بهذا الدين القويم، وأنزل عليه هذه الآيات البينات، كذلك من إنعامه -سبحانه وتعالى- أنه تفضل على عبده موسى قبل ذلك، قال {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}، ثم هنا إنما هي ومع هذا؛ وبعد هذا، وليس المقصود هنا أن (ثم) يعني التي هي تأتي للتعقيب والتراخي، وإنما (ثم) هنا بمعنى ومع ذلك؛ وقبل ذلك، فقل هذا {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ........}[الأنعام:154]، أي كما أنعمنا على عبدنا محمد -صل الله عليه وسلم- وأنزلنا عليه هذه الشرعة، فقد آتينا موسى الكتاب وهو التوراة، {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا}، تمامًا على الذي أحسن أي تمامًا من الله -تبارك وتعالى- على الذي أحسن، الذي أحسن هنا موسى -عليه السلام-، موسى -عليه السلام- لأنه أحسن فإن الله -تبارك وتعالى- أتم نعمته -سبحانه وتعالى- عليه، بالكتاب الهادي المنزل وهو التوراة، كما قال –جل وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ}، ويكون هذا بيان إنعامه -سبحانه وتعالى- على موسى -عليه السلام-، وعلى بني إسرائيل إذ أنزل فيهم هذا الكتاب التوراة وفيه هذه الهداية على موسى، {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، قيل على الذي أحسن؛ تمامًا على الذي أحسن، يعني أنه الذي أحسن الله -سبحانه وتعالى- الذي أحسن على موسى -سبحانه وتعالى-، والمعنى الأول أوضح وهو من إنعام الرب -تبارك وتعالى-، كما قال الرب -تبارك وتعالى- أيضًا على عباده المؤمنين، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}.

{تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، أي أنزل الله -تبارك وتعالى- التوراة، من إتمام نعمته -سبحانه وتعالى- على موسى، الذي أحسن في قيامه بالدين كما أمره الله -تبارك وتعالى-، ونزل هذا الكتاب الذي هو التوراة تفصيلًا لكل شيء، فالتوراة جاءت مفصلة لكل شيء مما يحتاجه بنوا إسرائيل في دينهم، {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}، أي كانت كذلك التوراة هداية ورحمة لبني إسرائيل، {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}، أي لعلهم أن يوقنوا بلقاء الله -تبارك وتعالى- لهم يوم القيامة، فيكون هذا من إخباره -سبحانه وتعالى- بنعمته على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، ثم بنعمته السابقة على عبده موسى -عليه السلام-.

نقف -إن شاء الله- عند هذه الآية، ونكمل في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.