الأربعاء 03 جمادى الآخرة 1446 . 4 ديسمبر 2024

الحلقة (19) - سورة البقرة 39-43

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد ،،،،،

 فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله تبارك وتعالى - {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].

هذا نداء نادى الله -تبارك وتعالى– به بني إسرائيل إلى أن يمتثلوا ويدخلوا في هذا الدين, وقد ذكرنا في سياق آيات سورة البقرة أن الله ـتبارك وتعالى– بدأ بدعوة بني إسرائيل خاصة بعد دعوته للناس عامة في هذه السورة, في أول أمر من أوامره في الكتاب وهو قول الله تبارك وتعالى - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. ثم هنا {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].

أولًا:- بنو إسرائيل هم أولاد يعقوب، إسرائيل هو يعقوب –عليه السلام- وهو حفيد إبراهيم أبي الأنبياء -صلوت الله وسلامه عليه-، فإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم, تاريخهم ونشأتهم بدأت من هجرة إبراهيم –عليه السلام- إلى بلاد الشام {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الصافات:99]. بعد أن قص الله تبارك وتعالى من أمره مع قومه ما قص، آخر ذلك أنهم أرادوا حرقه بالنار فأنجاه الله –تبارك وتعالى– ولم يؤمنْ له في النهاية إلا لوط –عليه السلام– قال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]. سكن الشام, ونزل إلى مصر فترة من الوقت, ورجع إلى الشام مرة ثانية بهاجر المصرية, ثم لما تزوجها بعد أن أهدتها له زوجه سارة، وكان منها إسماعيل بكره –عليه السلام– وقال الله –تبارك وتعالى– أن يسكن إسماعيل وأمه هاجر في جبال فاران بأرض مكة، فأسكنه فيهما وقال كما قص الله –تبارك وتعالى- {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ........} [إبراهيم:37].

عاد إبراهيم, وعاش, فبشره الله –تبارك وتعالى– على الكبر بابن له, يولد من زوجته الأولى سارة, وبُشرت بعد هذا الابن الذى سماه إسحاق بيعقوب، قال: -{........فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. يعقوب هذا وهو إسرائيل, كان له اثنا عشر ولدًا منهم يوسف –عليه السلام– قصته قصها الله -تبارك وتعالى– تفصيلًا في القرآن في سورة أفردت لذلك, قصة يوسف, وكان من شأنه ما قص الله  -تبارك وتعالى- ومنه انتقال يعقوب وهو إسرائيل هو وأبناؤه للعيش في مصر، عاشوا في مصر نحو 500 سنة، ثم بعد ذلك أخرجهم الله  -تبارك وتعالى- من الذل والقهر الذى عاشوا فيه في آخر الأمر, برسول من أولى العزم من الرسل وهو موسى –عليه السلام– الذى أنزل الله - تبارك وتعالى – عليه التوراة والشريعة.

انتقلوا إلى أرض سيناء وصولًا إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين, ولكن موسى مات في التيه بعد أن كـعَّ اليهود وجبنوا أن يقاتلوا أهل الأرض في وقتهم، وقال موسى معتذرًا لله –تبارك وتعالى-  {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:25].

بنو إسرائيل هؤلاء هم من تناسل إسرائيل من الأسباط الاثني عشر أولاد يعقوب –عليه السلام–, وفضلهم الله -تبارك وتعالى- بأفضال عظيمة؛ بأن جعلهم خير أمة أخرجت للناس في زمانهم, كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى- {........وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:47]. وكان منهم عامة الأنبياء بعد إبراهيم, ثم انتقلت النبوة بعد ذلك لآخر نبي من أنبيائهم وهو عيسى –عليه السلام– فهو نبي من نسل داوود وداوود من نسل إسرائيل.

انتقلت النبوة بعد لك إلى الفرع الثاني إلى إسماعيل إلى محمد –صلى الله عليه وسلم-، اليهود لأنهم كانوا أولى الناس بأن يؤمنوا بالنبي محمد  -صلوات الله وسلامه عليه– لأمور كثيرة أولًا:- هم وراث الدين, ففيهم التوراة وفيهم النبوة المتعاقبة, وهم على علم بالنبي الخاتم –صلوات الله وسلامه عليه-، بل كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر؛ ليخرجهم من الذل والشتات والضلال الذى هم فيه, وبشرهم الله -تبارك وتعالى- بهذا, وأخبرهم بهذا, وأخذ الميثاق على موسى –عليه السلام– أنه سيرسل النبي الخاتم؛ ليكون هو المخلص لبني إسرائيل, بل المخلص للعالم كله من الكفر والشرك والضلال.

كان بنو إسرائيل أولى الناس أن يسبقوا الجميع إلى الإيمان بمحمد –صلى الله عليه وسلم– الذى ينتظرونه, وصفته في كتبهم، الصفة التي بها يعرفونه أكثر مما يعرفون أبناءهم, كما يقول الله –تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}[البقرة:146], ولكنهم كانوا على العموم شعبًا صلب الرقبة, معارضين للأنبياء، فقد قتلوا كثيرًا من أنبيائهم, وآخر نبي حاولوا قتله بكل السبل هو عيسى بن مريم –صلى الله عليه وسلم- الذى مكروا به مكرًا عظيمًا كما قال الله –تبارك وتعالى-  {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[آل عمران:54]. {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55]؛ لذلك جابهوا أيضًا دعوة النبي الخاتم –صلى الله عليه وسلم– بالكفر والعناد.

سورة البقرة تسير, ويسير سياقها معها نحو مائة آية يدعوهم الله -تبارك وتعالى- فيها بالإيمان به, ويذكرهم فيه بنعمته -سبحانه وتعالى- على آبائهم, ويذكرهم عهده وميثاقه معهم -سبحانه وتعالى-, يأمرهم بالإيمان بمحمد -صلوات الله وسلامه عليه–, ويحذرهم من الكفر, وأن الله  -تبارك وتعالى- لهم بالمرصاد, ويبيِّن لهم كيف في أسلافهم أنه كلما كان هناك كفر كان هناك عقوبة, وتذكير عظيم ونشر لكثير من مخازيهم وفضائحهم, التي كانوا يخفونها, وإقامة الحجة عليهم بكل سبيل مع التلطف كذلك في خطابهم ودعوتهم إلى الإيمان بالله – تبارك وتعالى-.

بدأ الله  -تبارك وتعالى- هذا الفاصل الطويل في هذه السورة سورة البقرة مع بني إسرائيل بقوله –سبحانه وتعالى– {يا بني إسرائيل} وهذا النداء فيه تحبيب وتهييج، فهم كما يقال يا بن الأكرمين, فأنتم يا أولاد يعقوب، وإسرائيل هو يعقوب كما ذكرنا فكأنه يقول لهم  يا أبناء الرجل الكريم افعلوا كذا وافعلوا كذا.

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40]. اذكروا ... الذكر هو استحضار معنى الأمر الذى يراد ذكره والنظر فيه وتعظيمه، اذكروا نعمتي بالمفرد مضافة إلى الله –تبارك وتعالى– نعم الله –تبارك وتعالى–, وإنعام الله عز وجل– عليهم إنعام كثير, كان منه ما ذكرناه، من جعل النبوة والرسالة فيهم, وتفضيلهم على العالمين, والرفق الهائل جدًا بهم, لما كانوا في التيه, وإنجاء الله –تبارك وتعالى– لهم من فرعون, وسيأتي قول الله –تبارك وتعالى- في تفصيل هذه النعم {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}[البقرة:49].

{اذكروا نعمتي} أي النعم التي أنعمت عليكم، أنعم الله –تبارك وتعالى– بها عليكم, والنعمة هي كل خير وإحسان، أحسن الله –تبارك وتعالى– به إليهم {وأوفوا بعهدي}، الوفاء هو الإتيان بالشيء وافيًا كاملًا, والعهد هو الميثاق المؤكد وهذا شرط, أوفوا بما عاهدتكم عليه كما أوفيت بما عاهدتكم أنا عليه، وقد بيّن الله –تبارك وتعالى– العهد الذى أخذه الله –تبارك وتعالى– عليهم كما قال –جل وعلا– {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[المائدة:12].

فهذا بيان بعهد الله –سبحانه وتعالى- وميثاقه معهم أن يؤمنوا به وبرسله {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ........}. هذا جزاء الله –تبارك وتعالى– وهذا موعود الله لهم في مقابل قيامهم بعهده –سبحانه وتعالى- {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ} أي نقض هذا العهد وولى ظهره له وجاحده {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. ثم قال –جل وعلا– {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:13]، فأخبر الله -هذا في سورة المائدة-, أنهم لم يوفوا بما عاهدوا الله –تبارك وتعالى– عليه, هنا يدعوهم الله –عز وجل– أن يوفوا بعهده, ومن الوفاء بعهده, أن يؤمنوا بالنبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، خاتم الرسل محمد –صلوات الله وسلامه عليه– الذى قد أُخِذ عليهم العهد بالإيمان به منذ موسى –عليه السلام- كما قال الله –تبارك وتعالى- {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ}[الأعراف:155]. {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ........}.

فماذا قال الله –سبحانه وتعالى– له؟، قال –تبارك وتعالى- {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156]. {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].

فهذا عهد الله –تبارك وتعالى– إلى موسى أنه سيرسل النبي الذى هذه صفته, وأن الذين سيتعلقون بهذا النبي ويؤمنون به هم المفلحون، فالله -سبحانه وتعالى– يذكر بني إسرائيل بعهده الذى أخذه عليهم بقوله {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40]. وفى ختام الآية يخوفهم الله –تبارك وتعالى– {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}، ارهبوني ولا ترهبوا غيرى، ارهبوني وحدى، هنا الحصر تقديم المعمول على العامل, الحصر إياي فارهبون, أي لا ترهبوا إلا أنا، والرهبة هي الخوف الشديد مع التعظيم، خافوا الله -تبارك وتعالى–, وذلك أن الله أهل لأن يخاف؛ لأنه يؤاخذ بالذنب ويعاقب به، ويأمر ليطاع، وإذا عُصى عاقب، وعقوبته شديدة بل لا يعذب أحد كعذابه ولا يوثق أحد أعداءه كما يوثق الله –تبارك وتعالى– أعداءه.

فالله عذابه يختلف عن كل عذاب، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25]{وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26] وإياي فارهبون، أي خافوني وذلك للعقوبة المترتبة على نقض عهده وعصيان أمره -سبحانه وتعالى– ثم {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ........}. هذا أمر الله – تبارك وتعالى– لهم، آمنوا أي يا بني إسرائيل {بما أنزلت} بما أنزل الله -تبارك وتعالى– {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} وهو القرآن المنزل على محمد -صلوات الله وسلامه عليه- {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} تصديقه أن يبين أن التوراة حق وصدق, ثم إن الخبر يبين ويقص الأخبار الموجودة في التوراة, فيكون هذا تصديق لها, لأن هناك تطابق في الأخبار, بما أخبرت التوراة به يخبر به القرآن, فيكون هذا تصديقًا, كذلك ما دعت إليه التوراة من الإيمان بالله –تبارك وتعالى– والإيمان برسله هو ما جاء هذا القرآن يدعو إليه، {مصدقًا لما معكم} أي من الكتب التي أنزلها الله –تبارك وتعالى– عليكم، التوراة المنزلة على موسى, وكذلك الزبور المنزل على داوود وهو من أنبياء بني إسرائيل, وكذلك الإنجيل المنزل على عيسى –عليه السلام– وهو من أنبياء بني إسرائيل.

{وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}، تحذير من الله –تبارك وتعالى- أن يكون اليهود أول كافر به، أول كافر به, وذلك أنه من المفترض أن يكونوا هم أول الناس وأسبق الناس إيمانًا, فإذا كفروا به يصبحون كأنهم أول الناس كفرًا به, وذلك أنهم أول الناس الذين يجب أن يسبقوا الجميع إلى الإيمان بالله –تبارك وتعالى-, {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}، الشراء معروف هو أن تأخذ شيئًا مقابل شيء فهنا اشتروا بآيات الله -تبارك وتعالى– تركوها, فالذي يصدر بالباء هو ما تركوه, والثمن القليل هو الذى أخذوه، فالثمن القليل الذى أخذوه ولو كان الدنيا لكان ثمنًا قليلًا، ولو كانت الدنيا بأسرها يعطاها العبد في مقابل أن يترك الدين, فقد أخذ ثمنًا قليلا، وذلك أن الدنيا في الآخرة متاع، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ} [آل عمران:185متعة عابرة وقتها قصير, ومهما تمتع الإنسان فيها, فإنها مليئة بالمنغصات, ولابد أن يتركها وأن يفارقها, فهو قليل بالنسبة للآخرة ولا يقاس متاع الدنيا بثواب الآخرة.

فيخبرهم الله –تبارك وتعالى– أنهم إن اشتروا الدنيا أخذوا الدنيا في مقابل ترك الآخرة, فقد باعوا الدين العظيم, والجنة الكبيرة, بأبخس  الأثمان, {ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا}، وهنا قال الله –تبارك وتعالى– {آياتي} وآيات الله –تبارك وتعالى– هذه المنزلة على رسوله –صلوات الله وسلامه عليه– وسماها آياتي؛ لأنها كلام الله –تبارك وتعالى– المنزل وهى آيات، علامات بينات على أنها من الله –تبارك وتعالى– فتكون آيات الله التي يأمركم فيها وينهاكم, ويؤهلكم لأعظم فضل وأعظم جائزة، تترك هذه, وتأخذ ثمنًا قليلًا، فهذا صورة مزرية {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}، ثم {وإياي فاتقون}.

تختم هذه الآية كذلك بمثل ما ختمت بها السابقة وهى تحذير من الله –تبارك وتعالى– لهم وأمر أن يخافوه {وإياي فاتقون}، والتقوى هي خوف الله -تبارك وتعالى–, الباعث على أن يجعل العبد بينه وبين عقوبة الله –تبارك وتعالى– وقاية أو حماية {اتقوني}، خافوني. اجعلوا وقاية لكم بينكم وبين عذابي، {وإياي فاتقون} ثم {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:42]. تلبس الحق بالباطل أي تخلط الحق بالباطل, وتكتموا الحق بالباطل, أو تلبس من اللباس, بمعنى إلباس الباطل ثوب الحق، وخلطهم للحق والباطل، واليهود هم أساتذة هذا الفن، يخلطون الحق والباطل فتختلط الأمور زيادة، فمن ذلك إيمانهم ببعض ما في الكتاب وتركهم بعض ما فيه، لذلك إظهارهم أنهم يؤمنون بالنبي, ولكن يقولون لست نبيًا لنا، إنك نبي للعرب وحدهم، للأميين، فهذا خلط الحق بالباطل, فيشهدون بأنه نبي, ثم يشهدون بأنه لم يرسل لهم, وأنه ليس رسولًا لهم, والحال أنه إن كانوا يؤمنون بأنه نبي؛ إذن لابد أنهم اعتقدوا أنه صادق.

ثم إنه قد أخبر بأنه رسول الله إلى العالمين، الآيات المنزلة إليه تخبر بأنه رسول الله للعالمين, ليس للعرب وحدهم, وإنما إلى الكل, ومن ضمن ذلك بني إسرائيل، فهذا خلطهم للحق والباطل، إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، إيمانهم بالنبي وقولهم أنه ليس نبيًا للعالمين ولكنه نبي للأميين فقط.

{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:42]. كتمان الحق هو عدم إظهاره وإخفاؤه والحق الذى كتموه أمور كثيرة جدًا, وأعظمها صفة نبينا محمد –صلوات الله وسلامه عليه– وأنه مكتوب عندهم في التوراة, فإنهم كتموا ذلك. وقالوا لا ليس هو، ليس هذا هو الذى بشرنا به وأمرنا بأن نؤمن له، لم يأت بعد, وإنما هذا غيره, فهذا هنا من كتمان الحق، أعظم حق كتموه هو كتمان صفة نبينا محمد –صلوات الله وسلامه عليه– {........ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

والحال أنكم تأتون بهذا الأمر مع علمكم بما تفعلونه, وأنتم تعلمون أي أنكم تكتمون الحق {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}[البقرة:43] ، إرشاد من الله –تبارك وتعالى– أمر فيه إرشاد وبيان من الرب -تبارك وتعالى – ودلالة على الخير، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} ، وإقامة الصلاة  أداؤها على الوجه الأكمل؛ حتى تكون قائمة معدلة ليس فيها خلل أو عوج, والصلاة أشرف الأعمال, وهى نور, إذا قام بها العبد لله -تبارك وتعالى- أضاء الله –تبارك وتعالى– قلبه وبصيرته. وهى ناهية عن الفحشاء والمنكر، {وأقيموا الصلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ}، آتوا الزكاة أي أعطوها، والزكاة هي إنفاق جزء من المال في سبيل الله, وسمى هذا الإنفاق سمى بالزكاة. لأنه زكاة لنفس الفاعل, والأصل الزكاة هي الطهارة والنماء.

 العرب تقول زكى الزرع بمعنى نما، وتقول رائحة زكية, أي أنها طيبة، طاهرة، فسمي هذا الإخراج لجزء من المال في الوجوه التي أمر الله –تبارك وتعالى– بأنه زكاة؛ لأنه طهرة للمال نفسه, فإذا أخرج من المال حق الله –تبارك وتعالى– الذى أحقه، أصبح المال هذا طاهرا، نظيفا، حلالا، أما إذا بقى فيه حق الله, أصبح مالا نجسا؛ لأنه هنا كأن صاحب المال هذا اغتصب وأخذ الحق الذى أمره الله بإخراجه, فهنا يدنس المال كله، فإخراج الجزء الذى أمر الله -تبارك وتعالى– بإخراجه من المال, ينمى المال ويطهره, وكذلك ينمى نفسية الفاعل لأنه أولًا:- امتثال لأمر الله -تبارك وتعالى- فهي زكاة، عطف على الفقير والمسكين, فهذه كذلك زكاة, وخروج عن الشح والبخل فهذه زكاة، فسمى هذا الإنفاق زكاة؛ لهذه الاعتبارات العظيمة، والغايات العظيمة لهذا الإخراج.

 {وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}. الركوع صفة وصورة وعمل من أعمال الصلاة، الصلاة التي أمرنا بها فيها ركوع وفيها سجود وفيها قيام، كل هذه صورة من الصور، كلها عبادة للرب -تبارك وتعالى- {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} لله –تبارك وتعالى-، وقول الله {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}, كونوا من جملة المصلين المؤمنين لله –تبارك وتعالى– وهذا فيه إشارة إلى أنهم كانوا يظنون بأنهم هم أولى الناس بالدين, وأن هذا الدين لا يجوز أن يخرج منهم إلى غيرهم, بل بالغوا وقالوا بأن غير بني إسرائيل لا يستحقون الهداية, بل زادوا وقالوا بأن الله إنما خلقهم على صورتنا بشرًا لنستخدمهم, ولكن غير بني إسرائيل أقرب إلى الأنعام والبهيمية منهم إلى الإنسانية والآدمية, وأن الدين لا ينبغي أن يكون إلا في بني إسرائيل فقط، إلى غير ذلك مما ظنوا, وعامة ظنهم أنهم شعب الله المختار الذى اختاره للهداية فقط، وأن غير بني إسرائيل لا ينبغي لهم أن يكونوا من المهتدين.

فقول الله –تبارك وتعالى– لهم {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}. أي كونوا من جملة المؤمنين فإن فضل الله –تبارك وتعالى– وإحسانه إنما هو للعالمين، ودعوة الله –تبارك وتعالى– للناس للهداية, إنما هي للكل، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]. وقيل اركعوا مع الراكعين, صلوا صلاة الجماعة, وهذا أيضًا يفهم من عموم اللفظ, لكن هنا في السياق هذا هو ما تشير إليه الآيات, أن كونوا من جملة المؤمنين, الذين يركعون لله –تبارك وتعالى– بُعث فيهم هذا النبي الكريم، فاركعوا معهم؛ لتنالوا شرف الدين وشرف الإيمان وشرف الهداية.. أقف عند هذا, وأصلى وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.