الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إستن بسنته وعمل بدينه إلى يوم الدين.
وبعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ }[الأنعام:154-157].
يخبر -سبحانه وتعالى- أنه كما أنعم على عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- بإنزال هذا الكتاب الهادي، والذي فيه هذه الوصايا العشر العظيمة، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، إلى قوله -سبحانه وتعالى- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:153]، قال {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، ثم التي هي تأتي في الترتيب والتراخي هنا ليست في الترتيب الزمني وإنما في ترتيب الذكر، يعني أن الله -تبارك وتعالى- أنزل هذا الكتاب الهادي على محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، وكذلك من إنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى- أنه منَّ على عبده موسى أنه أنزل عليه الكتاب الذي هو التوراة، تمامًا يعني نعمة تامة منه -سبحانه وتعالى-، مكملة كما قال -جل وعلا- في إنزال القرآن على هذه الأمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}، فهذه نعمة أتمها، وهنا كذلك أتم الله -تبارك وتعالى- النعم على عبده موسى، قال تمامًا أي نعمة تامة منه -جل وعلا-، {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، موسى الذي أحسن فلما أحسن في قيامه بأمر الله -تبارك وتعالى- أنزل الله عليه الكتاب الهادي التوراة.
{وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، حال كونه نزل هذا الكتاب اللي هو التوراة تفصيلًا لكل شيء مما يحتاجونه، فقد فسر الله -تبارك وتعالى- فيه الدين لهم، كذلك ما قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44]، فهو كتاب للحكم فصل الله -تبارك وتعالى- في كل شيء، {........ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:154]، يعني أن فيه هداية وذلك بالمواعظ والتذكير والقصص، ورحمة من الله -تبارك وتعالى- خطاب رحمة، فخطاب الرحمة خطاب الله -تبارك وتعالى- هو العزيز الحكيم الكبير المتعال، ولكنه -سبحانه وتعالى- يخاطب عباده خطاب رحمة، يخاطب الكافر ويبين له؛ فأنت لماذا تكفر؟! { يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:6-8]، ويدعوه ويبين له ما نتيجة هذا الكفر الذي يفعله وأن مغبة هذا عليه، ويدعوه إلى صراط الرب ويقول له لا تفعل، إن هذا فيه مضرة عليك، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53]، {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}، خطاب رحمة، خطاب من الله -تبارك وتعالى- رحمة لعباده يبين لهم المخاطر والأمور العظيمة التي تنتظرهم عند المعصية، وما ينتظرهم من الرضوان والإكرام عند الطاعة، قال -جل وعلا- {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}، ما في هذا الخطاب من خطاب الرحمة من الله -تبارك وتعالى- لعباده، لعلهم الترجي ليس من الله الترجي بالنسبة للعبد، لعل هذا الخطاب ينفع هذا العبد فيتعظ به ويتذكر ويوقن بلقيا الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة، لعلهم بلقاء ربهم أي يوم القيامة يؤمنون؛ يؤمنون بلقاء الله -جل وعلا-.
ثم قال -جل وعلا- {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}، وهذا القرآن المشار إليه القرآن المنزل من الله -تبارك وتعالى-، سماه الله -تبارك وتعالى- كتاب لأنه كتب في السماء قبل أن ينزل، وهو صحف مطهرة، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:15-16]، وأنزله الله -تبارك وتعالى- قراءةً منه -سبحانه وتعالى- على جبريل، وجبريل يأتي بالآيات إلى محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فهو كلام الله -تبارك وتعالى- المنزل منه بواسطة جبريل على عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:193-195]، فنزل قراءةً فأصبح قرآنًا، ثم كتب في الأرض فهو كتاب في السماء وكتاب مكتوب في الأرض وهو أعظم كتاب كتب في الأرض وقرئ في الأرض، وكذلك هو أعظم كتاب كتب في السماء وقرئ في السماء تقرأه الملائكة، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ}، نسب الله -تبارك وتعالى- الإنزال إليه، لأنه هو الذي قرأه -سبحانه وتعالى- هو الذي تكلم به لجبريل، وأتى جبريل بهذا الكلام من الله -تبارك وتعالى- فالله منزله على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}، حال كونه مبارك، وصف الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب بأنه مبارك، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}، مبارك وصف لهذا القرآن، والبركة هو زيادة؛ زيادة الخير، لا تأتي في زيادة الشر، فالأمر الذي يزيد خيره وينمو ويتكاثر هو الأمر المبارك، والقرآن مبارك لأنه كله في زيادة خير، قارئه، سامعه، تاليه، العامل به، كل المعاني والحكم والغايات التي أنزل من أجلها القرآن تتبارك وتزيد، فقد أنزل كتاب هداية فهو أعظم كتاب هداية وهو أعظم أسباب الهداية، فإن الله -تبارك وتعالى- فتح به آذانًا صمَّا وأعينا عميَّا وقلوبا غلفَّا شرحها الله -تبارك وتعالى- لهذا القرآن فاهتدت به، ولا يزال هذا القرآن أعاجيبه لا تنتهي، فهو مبارك من كل النواحي وقد جعل الله -تبارك وتعالى- بركة هذا القرآن من كل النواحي، فمن قرأ حرفًا منه أعطاه الله عشر حسنات، والنبي يقول «لا أقول لكم ألم حرف بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»، فكل حرف بمعنى الحرف وليس بمعنى الكلمات له عشر حسنات عند الله -تبارك وتعالى-، والحسنة لا شك أنها أمر عظيم لا ندري ما عظم هذه، والماهر بالقرآن يقال لقارئ القرآن ( اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا وارتقي -أي في السماء-، فإن منزلتك -أي في الجنة- عند آخر آية تقرأها)، فالقرآن كله بركة؛ كله بركات بيان وهدى ونور.
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}، قال -جل وعلا- {فَاتَّبِعُوهُ}، هذا القرآن المبارك بهذا النحو الذي هو كلام الرب وخطاب الرب لكم وكلمته الأخيرة لهذه الأرض, فاتبعوه، اتبعوا هذا القرآن أي سيروا حيث يأمركم أن تسيروا، حيث يأمرك القرآن أن تسير سر، أمرك أن تقف هنا قف، تمتنع عن هنا امتنع, فهذا الاتباع، يعني الزم حدود هذا القرآن في كل ما يأمرك به وكل ما ينهاك عنه، {........ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأنعام:155]، واتقوا خافوا، التقوى خوف، التقوى إنما هي أخذ الحماية، وهنا لم يقل الله -تبارك وتعالى- اتقوا ماذا، وينبغي أن يتقى غضب الله وعقوبة الله -تبارك وتعالى-، اتقوا كا ما يؤدي إلى شر ولا شك أن كل معصية لله –تبارك وتعالى- مؤدية إلى شر، فاتقوا المعاصي وابتعدوا عنها، {وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، لعل للترجي بحسب هذه الأسباب، إذا أخذت هذه الأسباب التي بينها لك الله -تبارك وتعالى- فلعلك تُرحم بهذا، أي إذا أحسنت اتخاذ هذه الأسباب وهي أنك اتبعت كتاب الله -تبارك وتعالى- واتقيت الله -جل وعلا-، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، أي من عقوبة الله -تبارك وتعالى- وعذابه وتنالكم رحمة الله -تبارك وتعالى- بالجنة والرضوان.
ثم قال -جل وعلا- {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}[الأنعام:156]، {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}، يخبر -سبحانه وتعالى- بأنه أنزل هذا الكتاب المبارك، ونزل هذا القرآن بلغة العرب وعلى هذه الأمة العربية التي إختار الله -تبارك وتعالى- منها عبده ورسوله محمد النبي الخاتم، الله يقول أنزلت هذا القرآن وبهذه اللغة وعلى هذا العبد النبي ونزل بهذا الوصف أنه مبارك، {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا ........}[الأنعام:156]، أن تقولوا يعني لئلا تقولوا أنتم أيها العرب إنما أنزل الكتاب من السماء على طائفتين من قبلنا، أي لو لم ينزل لهم الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن لكان يمكن للعرب أن يحتجوا، وأن يقولوا إنما أنزل الكتاب يعني كتب الله -تبارك وتعالى- التوراة والإنجيل على طائفتين من قبلنا، الطائفة الأولى اليهود والطائفة الثانية النصارى، فقد نزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى على طائفتين من قبلنا، {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}، وقد كنا نحن العرب أمة أمية وكنا غافلين عن هذه الدراسات التي يدرسها هؤلاء، فإن التوراة والإنجيل لم تكن بلغتنا ولا كتبت بكتابتنا ولذلك كنا غافلين عنها، فيكون هذا يعني اعتذاركم عند الرب يوم القيامة، تقولوا يا رب نحن لم ينزل فينا كتاب ولم ترسل لنا رسولا، وإنما أنت أنزلت الكتاب على طائفتين من قبلنا، وكنا أمة جاهلية أمة أمية ما نزل علينا شيء، فالله يقول لهم لا, قد أنزلت عليكم القرآن حتى لا تحتجوا بهذه، وتقولوا بهذه المقالة يوم القيامة.
{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}[الأنعام:156]، {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}، أو تقولوا أيضًا محتجين ومفتخرين بأنفسكم، {لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ}، لو كنا نحن الذين نزل علينا التوراة أو الإنجيل، {لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}، لكنا نحن العرب آخذين بالتوراة وآخذين بالإنجيل وعاملين بهما عملًا حقيقيًا، ليس كشأن اليهود والنصارى في أخذهم بالتوراة والإنجيل، {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}، قال -جل وعلا- {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}، {فَقَدْ جَاءَكُمْ}، أيها العرب، {بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، سمى الله -تبارك وتعالى- كتابه المنزل وآياته بينة، وذلك أنه في غاية البيان والظهور والوضوح، وأنه معجزة حية باقية، وقد جاء محتّفًا كذلك بمعجزات كثيرة، منها صدق هذا النبي وهم يعلمون صدقه، واخباره -سبحانه وتعالى- اخبار هذا النبي بما سلف واخباره بما يأتي، ووقوع الأخبار كما يخبر بها تمامًا -صلوات الله والسلام عليه-، وما إحتف بهذا النبي من القرائن، منها أنه منزه عن أي غرض، فلم يكن له غرض دنيوي قط، ومنها ثقل هذه الشريعة كانت ثقيلة وعبئها كثير، وقد جاء بما يعادي به العالم فيكفر الجميع، يكفر العرب، يكفر اليهود ويكفر النصارى، ويقول ليس أمام أحد طريق إلا هذا الطريق الذي أسير فيه وأشقه, طريق الرب، كل من تنكب هذا الطريق فهو هالك وهو كافر، فاستعدى الجميع كلهم وهو وحده -صلى الله عليه وسلم-، وليس معه إلا فئة قليلة وهو الثابت على هذا الأمر، ويقول سأؤديه ولو انفردت أو تنفرد هذه السالفة، فكل هذا, شجاعة النبي وانتفاء الغرض عنه وإخلاصه في دعوته، وبيان أن كل أحواله تدل على صدقه، فكل أحواله أخباره تدل على أنه صادق أمين فيما يقال، فهذه بينة، قال -جل وعلا- {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، بهذا القرآن؛ بإنزال هذا القرآن، {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}، كتاب هادي يوضح الحق ويهدي إليه وضوء كامل، ورحمة من الله -تبارك وتعالى- وذلك أنه خطاب رحيم، خاطبكم الله -تبارك وتعالى- بها بكل ألوان الخطاب، من الوعظ والزجر الشديد ومن لين القول لكم وضرب الأمثال والتذكير بعد التذكير، التذكير بالمآل؛ مآلكم في الدنيا، وبالمآل في الآخرة، والأمم السابقة ماذا صنع الله -تبارك وتعالى- بها، فهذا من رحمته تلوين الخطاب على هذا النحو، وبذل كل أنواع الأسباب لإيضاح الحق لهم، من ذلك بيان ما هم عليه من الباطل وضحده وضرب الأمثال على بطلانه، وإيضاح الحق، فهذا يقول الله -تبارك وتعالى- هذا قد جائكم، {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}.
ثم قال -جل وعلا- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا}، سؤال لكن يراد به التقرير وليس الإستفهام، من أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها؛ لا أحد، ليس هناك أظلم من هذا. التكذيب هو رد الصدق والقول عن هذا الصدق بأنه كذب، وهؤلاء فعلوا هذا، علموا أن هذا الكلام الذي جاءهم من الله -تبارك وتعالى- صدق وحق، النبي صادق فيما يقوله لكن قالوا أنت كذاب، ليس هذا بحق، أنت مجنون، أنت ساحر، أنت أنت ...، مما واجهوه به -صلوات الله والسلام عليه-، وأحيانًا يقولوا الأمر ونقيضه في وقت واحد، كما يقال وقالوا معلم مجنون، كيف يكون معلم ومجنون! المجنون لا يعلم ولا يتعلم، فكيف يكون معلم ومجنون مع بعض! فقالوا الشيء ونقيضه مما يدل على أنهم أرادوا دفع هذه الحجة بأي كلام، بأي شيء عندهم يدفعون به هذا؛ فهذا التكذيب {وَصَدَفَ عَنْهَا}، صدف بمعنى أنه مال، يعني مال وانحنى عن القرآن، فالقرآن يخاطبهم فيميلون عنه ويعرضون عنه، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا}.
ثم قال -جل وعلا- {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}، هنا عاد تهديدا ونبأ، وهذا كذلك من خطاب الرحمة، لأن التهديد والوعيد هنا على هذا العمل تذكير لهم بأن هذا وراءه ما وراءه من العقوبة، فيكون هذا كذلك من خطاب الرحمة من الله -تبارك وتعالى- بعباده، {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا}، يصدفون؛ يميلون ويبتعدون عن آيات الرب -تبارك وتعالى-، {سُوءَ الْعَذَابِ}، العذاب السيء، وقدم السوء على العذاب لأن هذا العذاب لا أسوأ منه، فلا يوجد عذاب كعذاب الله -تبارك وتعالى-، فإن الله أعد لهؤلاء الكفار سجن محصور؛ مغلق، وهذا السجن ليس على وجه الأرض يرتفع بأسوار مبنية، وإنما في العمق، بئر عميقة، وبأبواب مع هذا كذلك بأبواب موصدة، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:8-9]، وهذا السجن كله يشتعل نارًا دائمة لا تفنى ولا تبيد، وقودها أجساد الناس والحجارة، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، ثم {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ}، لم يضحكوا قط ولا يضحكون ولا يعرفون الضحك ولا يعرفون الممازحة، وليس في قلوبهم أدنى شفقة على من يعذبونهم، والإهانة فيه بكل أنواع الإهانات، سواء كانت الإهانة لفظية، ذق إنك أنت عذرًا هذه، أو الإهانة الحسية، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج:21]، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:22]، فالسجن رواده وأصحابه يأتيهم الموت من كل مكان، يعني كل سبب من أسباب العذاب يكفي للموت، لكن هذا المعذب لا يموت بأي سبب من هذه الأسباب، قطرة من الزقوم يقول النبي «ياعباد الله اتقوا الله، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأفسدت على الناس معايشهم»، تفسد على أهل الأرض كلهم عيشتهم على الأرض، تصبح الأرض غير صالحة أن يسكنها الإنسان، يعني قطرة واحدة، يقول النبي «فكيف بمن هو طعامه وشرابه»، فكيف بمن هو طعامه وشرابه في يومه وليلته من هذا الزقوم، فالموت يأتيهم من الزقوم ويأتيهم من المقامع من الحديد، المقمعة يخبر النبي أنها لو ضربت في جبل؛ أعلى جبل من جبال الأرض، لهدته في ساعته، يضرب بها المعذب ومن الحيات ومن العقارب ومن النار من تحته ومن أعلاه، ويأتيه الموت من كل هذه الأسباب، قال –جل وعلا- {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}.
فالله يقول {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ}، العذاب السيء، {بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}، يعني بسبب صدوفهم وإعراضهم عن هذا الأمر، وهذا تهديد عظيم من الله -تبارك وتعالى-، ومع أنه تهديد بهذه الشدة إلا أنه كذلك في هذا الوقت خطاب رحمة، إذا جاء التهديد هذا والبيان على هذا النحو من الله -تبارك وتعالى- لعباده، وهم الآن في الدنيا وفي مكنتهم وقدرتهم أن يسمعوا لهذا الكلام وأن يستجيبوا له وأن يتحولوا عن ما هم فيه؛ فهذا يعد رحمة لهم، إنقاذ لهم، فيكون هذا التهديد إنقاذ لهم مما هم فيه إذ زجرهم، وعظهم، فانقلعوا وانحازوا عن ما هم فيه من الشر والتكذيب والإعراض، إلى طريق الرب -تبارك وتعالى- فيكون هذا رحمة لهم، {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}.
ثم قال -جل وعلا- ما ذا ينتظرون، قال {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}[الأنعام:158]، ماذا ينتظرون؟! ماذا ينتظر هؤلاء المكذبين؟! الصادفين عن آيات الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}، ومجيء الملائكة قد يكون في الدنيا لقبض أرواحهم، ومن قبض روحه فقد قامت قيامته هذي القيامة الصغرى، والمجيء الأخر للملائكة هذا يوم القيامة، المجيء ليوم القيامة وذلك لفصل القضاء، فإنه إذا قام الناس لرب العالمين -سبحانه وتعالى- فإنه تتشقق السماء وينزل الملائكة، كل ملائكة السماء ينزلون ويحيطون بالبشر، كما قال -تبارك وتعالى- {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا(25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}[الفرقان:25-26]، فهذا مجيء الملائكة، فمجيئهم يكون ليوم الفصل في يوم القيامة، حيث يحيطون بكل أهل الموقف، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}، مجيء الله -تبارك وتعالى- هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله -تبارك وتعالى-، ويأتي الله -تبارك وتعالى- يومئذ لفصل الخطاب، يأتي -سبحانه وتعالى- ويتكلم بكلام يسمعه من قرب كمن بعد، «أنا الملك أين ملوك الأرض».
{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، وهذا في الدنيا، وآيات الله -تبارك وتعالى- منها آيات, في عشر آيات كبرى تكون فتن، ومن هذه الآيات الكبرى التي هي خروج الشمس من مغربها، وإذا خرجت الشمس أشرقت من مغربها فعند ذلك لا ينفع الإيمان بعد ذلك، فعلى آيات الله -تبارك وتعالى- قال –جل وعلا- {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، قلنا في آيات كبرى من هذه الآيات الدخان، الدابة التي تصم الناس، خروج يأجوج ومأجوج، نزول المسيح عيسى ابن مريم، خروج الدجال، وهذه آيات عظيمة فيها فتن كبرى، ثم عقب الله -تبارك وتعالى- على آية من هذه الآيات الكبرى، {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، هي خروج الشمس من مغربها، هذه الآية قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إذا خرجت الشمس من مغربها ورأها الناس راجعة مرة ثانية من الشرق، آمنوا كل من في الأرض أجمعون، فيومئذ لا ينفع نفسًا إيمانها»، {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}، يعني من قبل طلوع الشمس من مغربها، {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، كان عندها فقط مجرد تصديق بالقلب دون عمل، {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، خيرًا ما, من العمل الصالح، ثم قال -جل وعلا- {قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}، تهديد، قل لهم يا محمد انتظروا يعني آيات الرب -تبارك وتعالى- أو واحدة من هذه التي ينذركم الله -تبارك وتعالى- بها، {قُلِ انتَظِرُوا}، مجيء هذه الآيات، إما الموت العاجل لكل نفس منكم، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}، لقبض الأرواح وهذا عمل مستمر في كل لحظة وكل وقت، فإن الموت عملية مستمرة على هذه الأرض، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}، لفصل القضاء، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، من الآيات الكبرى، ثم ذكر الله بالآية العظمى وهي خروج الشمس من مغربها، فقال {........ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}[الأنعام:158].
نقف هنا -إن شاء الله-، ونكمل في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.