الخميس 09 ذو القعدة 1445 . 16 مايو 2024

الحلقة (191) - سورة الأنعام 159-160

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}, [الأنعام :158-163].

 هدد الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المكذبين برسالة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وخاصة من العرب، بعد أن وعظهم الله -تبارك وتعالى- وذكرهم بمواقفهم يوم القيامة، وأخبرهم بأن هذا القرآن الكريم المنزل على عبده ورسوله محمد كتاب مبارك، قال لهم -تبارك وتعالى- {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأنعام:155]، ذكرهم الله بما يمكن أن يكون من قولهم يوم القيامة لو لم ينزل الله -تبارك وتعالى- فيهم هذا القرآن، ولم يرسل فيهم هذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، قال {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}[الأنعام:156]، يعني أن تقفوا يوم القيامة فتقولوا يعني يا رب لما تعذبنا ولم ينزل الكتاب علينا نحن العرب الأمة الأمية، ولكن كان قد نزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، الكتب يعني التوراة والإنجيل, والطائفتين اليهود والنصارى، ونحن كنا عن دراستهم؛ عن دراسة هؤلاء اليهود والنصارى لغافلين.

{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}، أو تقولوا في هذا الوقت لو أنا أنزل علينا الكتاب؛ كتابًا من السماء لكنا أهدى طريقًا من اليهود والنصارى الذين ضلوا في دينهم، قال -جل وعلا- {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}، هذه البينة البينات العظيمة التي جاءتكم من الله -عز وجل- هذا الكتاب المستنير البيِّن أنه من عند الله -تبارك وتعالى-، فكل جملة منه آية من الآيات الشاهدة بأنه من الله -تبارك وتعالى-، وقد تحداهم الله -تبارك وتعالى- أن يأتوا بسورة من مثل سوره فعجزوا؛ فهو شاهد، ثم ما في هذا الكتاب من البينات من تصديقه للكتب السابقة، ومن إخباره للأخبار المستقبلة التي تأتي كما أخبر بها الرب -تبارك وتعالى-، {........ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}[الأنعام:157].

ثم هددهم الله -تبارك وتعالى- بالذي ينتظروه! ماذا تنتظرون بعد هذا التكذيب؟! قال {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}، لنزع أرواحهم وقبض أرواحهم، من نزعت روحه فقد قامت قيامته ودخل مراحل الحساب من أول مرحلة، فتنة القبر من أول الأمر ثم عذاب القبر, فهو دخل في مراحل الآخرة، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}، أو تأتي الملائكة بالعذاب، فإن الملائكة كذلك تأتي بالعذاب كما أرسلها الله -تبارك وتعالى- للأمم السابقة، فقد قال مثلًا عن صاحب سورة يس {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ(28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ........}[يس:29]، صيحة ملك، {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}، كذلك أرسلهم الله -تبارك وتعالى- لقرى لوط، وقد قال الملائكة عندما مروا بإبراهيم { قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين}[الذاريات:32-36]، فالملائكة إما أن تأتي لقبض أرواحهم نفسًا نفسًا وإما أن تأتي بالعذاب إذا أراد الله -تبارك وتعالى- أن يرسل لهم العذاب، فماذا ينتظرون؟ هذه واحدة، هذا أمر واحد من الذي ينتظرونه، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}، لفصل القضاء كما قال -تبارك وتعالى- {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:22]، جاء ربك يوم القيامة والملك صفًا صفًا، تنزل كل سماء من السماوات السبع تطوى، {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]، ويحيط ملائكة كل سماء بأهل الموقف، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[إبراهيم:48]، فمجيء الله -تبارك وتعالى- مجيئه لفصل القضاء يوم القيامة.

{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، في الزمان بعض آيات ربك إشراط الساعة، وهذه الآيات كلها بعضها أكبر من بعض، الدخان والدابة والدجال وخروج الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج وكل آية من هذه الآيات يعني هي أصعب من أختها، فيأجوج ومأجوج يقول الله -تبارك وتعالى- فيها {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}[الأنبياء:96]، ينسلون نسلًا الذي هو الجري، {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}[الأنبياء:97]، قال -جل وعلا- {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98]، فأيضًا انتظارهم أن يكون بمجيء آية من هذه الآيات الكبرى، ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- بآية من هذه الآيات، قال {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، يوم يأتي بعض آيات ربك وقد جاء تفسير هذه الآية من حديث النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأنها اختصاص خروج الشمس أو رجوع الشمس مرة ثانية من مغربها، حيث يراها الناس وقد غربت ثم تعود فتشرق من المغرب مرة ثانية، فعند ذلك يؤمن كل من في الأرض كلهم أجمعون، وهذا قال النبي -صل الله عليه وسلم- قال «إذا رأوها راجعة آمنوا جميعًا»، فيومئذ {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}.

فهذه الآية المخصوصة من الآيات العشر الكبرى التي هي علامات الساعة وأشراطها، الله -تبارك وتعالى- يخبر بها ويقول {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}، النفس التي لم تكن آمنت من قبل إذا آمنت عندما رأت هذه الآية وعندما ترى هذه الآية فإن هذا الإيمان لا ينفع في هذا الوقت، فإن هذه الآية القهرية يصبح الإيمان هنا غير ذي معنى عندما تأتي هذه الآية القهرية، وإنما الإيمان إنما يفيد بهذه الآيات التي أرسلها الله -تبارك وتعالى- على أيدي رسله، فإن هذه كافية لبيان صدق الرسالة التي جاء بها الرسول من عند ربه، أما الآية القهرية التي تكون على هذا النحو فإنها آية تقهر الناس قهرًا وتلجئهم إلجاءً، وهذا مثل الموت الذي يأتي بالحق فعند ذلك لا ينفع المؤمن في هذه الحالة شيء، فإن من آتاه الموت فآمن عندما يرى الملائكة وعند غرغرة الروح لا ينفعه إيمانه، يغفر لأحدكم ما لم يغرغر، {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} النساء:17-18]، فالذي يأتيه الموت ويحضره الموت ويشاهد بداية أحوال الآخرة، من ملك الموت الذي ينزع روحه وملائكة العذاب الذين يأتون لأخذ روحه فيقول آمنت بالله أو شهدت شهادة الحق فإنها لا تقبل، وكذلك هذه الآية الفريدة من الآيات العشر خروج الشمس من مغربها، فإن هذه معجزة كونية كبرى قاهرة؛ تقهر الناس على الإيمان وهذا الإيمان في هذا الوقت لا يفيدهم، الله يقفل باب التوبة في هذا الوقت فلا يقبل توبة تائب، لا توبة تائب من الكفر {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}، ولا توبة تائب من المعصية، فإذا كان مؤمنًا لن يصنع في إيمانه شيء قال -جل وعلا- {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، إيمانها الأول كان عنده مطلق التصديق، شيء من التصديق وشيء من الإيمان بالآخرة لكنه لم يعمل خيرًا، لم يصلِ، لم يصم، لم يزكِ، لم يقم بأي عمل، فهذا عندما يسارع بعد ذلك إلى الصلاة وإلى الصوم وإلى العبادة فإن هذا لا يعود يفيده شيئًا، {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، خيرًا ما.

قال -جل وعلا- {قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}، قل لهم انتظروا إنا منتظرون، طبعًا الكفار كان إنتظارهم هو إنتهاء هذا الدين، فقد كانوا ينتظرون بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- أن يمحى أثره، وأن تنتهي دعوته وألا يكون له ذكر، وأنه رجل لما مات بعض أولاده الذكور في مكة قالوا إنه أبتر لا عقب له، انظروا به نظرائه من الشعراء السابقين فإنهم قد كان لهم صيت عندما كانوا أحياء، فلما ماتوا اندثر ذكرهم وانقطع أثرهم من الأرض، فانتظروا من محمد نظرائه السابقين من الشعراء لأن مثله مثلهم، قال -جل وعلا- { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}[الكوثر:1-3]، فالأمر مختلف تمامًا، فالذكر الذي جاء به النبي إنما هو ذكر للعالمين، لابد أن يبلغه الله -تبارك وتعالى- آخر الدنيا، وأما الذين ينقطع ذكرهم ويمحى أثرهم وتزال دعوتهم هم الكفار, وأما النبي فلا، {قُلِ انتَظِرُوا}، يعني ما تنتظرونه بهذا الإسلام، زواله ونهايته واضمحلاله، {إِنَّا مُنتَظِرُونَ}، وعد الله -تبارك وتعالى- وموعوده بنا وبكم، وقد وقف النبي -صل الله عليه وسلم- يومًا بعد بدر، عندما جمع رؤساء قريش الذين قتلوا في الغزوة، سبعين من الصناديد وكبراء قريش، وضعوا في بئر خبيث مخبث ووقف النبي عليهم، فناداهم واحدًا واحدًا بأسمائهم يا فلان يا ابن فلان، ثم قال لهم هل وجدتم ما وعدكم أو ما وعد ربكم حقًا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا، {قُلِ انتَظِرُوا}، أي ما تنتظرونه منا، {إِنَّا مُنتَظِرُونَ}، منتظرون هنا المؤمنون والنبي ينتظر موعود الله -تبارك وتعالى-.

بعد هذا كأن هذا الحديث مع هؤلاء الكفار بعد هذا التهديد انتهى. ثم وجه الله -تبارك وتعالى- خطابه للنبي -صل الله عليه وسلم-، في بيان طريقه وبيان الصراط الذي ينتهجه إلى الله -عز وجل-، فقال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[الأنعام:159]، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ........}[الأنعام:159]، هذا بيان حال اليهود والنصارى الذين كانوا يدعون بأن دينهم الحق؛ حيث كان كل فريق منهم يدعي بأن ما هم عليه إنما هم على الحق، وكذلك يرفعون أي شيء من الحق أو اتباعه على غيرهم، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، كل طائفة منها تقول هذا، وكذلك {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}، فكل يدعي يعني قال اليهود كونوا يهودًا تهتدوا، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، وكذلك كان المشركون مشركوا العرب يظنون أن دينهم إنما هو الدين الحق، ويقولون نحن ديننا خير من دين اليهود والنصارى، وكذلك كانوا يرون أن دينهم خير من دين النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، بل كانوا يستشهدون باليهود والنصارى فيقولوا أديننا خير أم دين محمد؟ فيشهد لهم اليهود بالباطل ويقولون دينكم خير من دينه، فهؤلاء المتفرقون في الدين الذي كل منهم قد اتخذ طريقه بهواه وعقله بعيدًا عن هدي الله -تبارك وتعالى-، واليهود والنصارى فرقوا الدين الذي أنزل لهم من الله -تبارك وتعالى-، أصبحتم في فرق شتى وشيع شتى كل فريق يكفر الأخر، فاليهود يكفر بعضهم بعضًا، والنصارى يكفر بعضهم بعضًا، وكل يدعي أنه على الحق وأن غيره على الباطل، ومشركوا العرب على هذا النحو كذلك متفرقون في الدين، ولكل جماعة منهم صنمه وعبادته وشرعته، فهؤلاء متفرقون في دينهم.

قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا}، شيعا جمع المفرد شيعة، والشيعة هي الجماعة المؤتلفة على أمر ما، قال -جل وعلا- {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، فهذا نفض اليد وإبعاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبيان براءته من كل هذه الفرق المنتشرة في الأرض في وقته، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ........}[الأنعام:159]، يعني طريقك غير طريقهم، وصراطك الذي مسكك الله -تبارك وتعالى- إياه وعلمك به غير هذه الصرط التي يدعيها هؤلاء، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ........}[الأنعام:159]، ولست منهم في شيء يعني في شيء ما من أمر دينهم، بل الله -تبارك وتعالى- قد جعل للنبي صراطًا واضحًا مستقيمًا؛ دين كامل، قال -جل وعلا- {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ}، أي دع شأن الاختلاف بينهم إلى الله. فأمرهم مفرد مضاف إلى معرفة فيعم، يعني كل أمورهم، كل أمورهم التي هي محل اختلافهم وشئونهم كذلك في اتهام النبي، كل أمرهم في هذا إنما لله –تبارك وتعالى- يعني الحكم فيه والفصل فيه، سواء الفصل يوم القيامة أو المجازاة في هذه الدنيا، فأمرهم كله إلى الله -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة، {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، ثم ينبئهم الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة، هذا بالخطاب المباشر، {بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، بما كانوا يفعلونه في هذه الأرض، وبالتالي يحاسبهم على فعلهم -سبحانه وتعالى-.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك قاعدة المجازاة عنده -سبحانه وتعالى- بالحسنات والسيئات، فقال -جل وعلا- {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، هذا حكمه ومنهج مجازاته -سبحانه وتعالى-، منهج جزائه لأهل الإحسان، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ}، ومعنى جاء بها هنا أي فعل الحسنة وسيأتي بها يوم القيامة، فهذا يدل أولًا على أن كل من عمل حسنة فسيأتي بها يوم القيامة، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ}، والمجيء هنا إلى الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة عند يوم الفصل؛ فصل القضاء، والحسنة هي الفعل الحسن، والحسن غير السيء، وكل ما أمر الله -تبارك وتعالى- بفعله إيجابًا واستحبابا هو أمر حسن، هو أمر حسن وذلك أن حسنه في الدنيا، إن الله لا يأمر إلا بالخير، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ........}[النحل:90]، فكله حسن، كل دين الله -تبارك وتعالى- وكل شرعته حسنة، فالحسنة تشمل الفعل وكذلك تشمل الترك، تشمل الترك فإن ترك المعصية كذلك حسنة، من ترك المعصية لله -تبارك وتعالى- فهذه حسنة كذلك منه، لأن هذا القصد وهذه النية في ترك السوء حسنة، ولذلك يعرف الحرام بأنه ما يعاقب فاعله ويثاب تاركه، ففاعل الحرام يثاب تاركه كذلك إذا ترك الحرام، فهذا كله حسنة، وسميت حسنة لأنها أمر حسن، أمر جميل وطيب، كل ما يأمر الله -تبارك وتعالى- به جميل وطيب، ثم أن حسنه في أن عاقبته في الجزاء عند الله -تبارك وتعالى- أمر حسن.

قال -جل وعلا- {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، عشر أمثالها أي كأنه فعل هذه الحسنة عشر مرات، يعطيه الله -تبارك وتعالى- عشر أضعاف ما يعطي على هذه الحسنة، يعني إذا كانت هذه الحسنة لها مقياس كل عمل من الأعمال له مقياس من الجزاء عند الله -تبارك وتعالى-، فإذا فعل الإنسان حسنة واحدة فالله -تبارك وتعالى- يضاعف له هذا المقياس عشر مرات، مثلًا لو أن إنسان تصدق بدينار فهذا الصدقة بالدينار لها وحدة من الجزاء عند الله -تبارك وتعالى-، لكن من تصدق بدينار واحد كتب الله -تبارك وتعالى- له كأنه تصدق بعشر دنانير، وهذا في الحد الأدنى, ولكن في الحد الأعلى لا حد لذلك، يضاعف إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، كما قال -تبارك وتعالى- في النفقة {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}[البقرة:261]، إذن هذه سبعمائة، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}، فوق السبعمئة، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فالحسنات تضاعف.

طبعًا مضاعفة الحسنات لاعتبارات، يضاعف الله -تبارك وتعالى- الحسنات لمضاعفات بهذه المضاعفات لاعتبارات كثيرة، كما مثلًا سأل رجلًا النبي -صل الله عليه وسلم- فقال «يا رسول الله أي الصدقة خير؟ أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتكره الفقر، ولا تنتظر حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان»، فبيَّن أن الصدقة حال الصحة وحال أن يكون الإنسان صاحبها شحيح يغالب نفسه ويتصدق، وحال كونه يريد الغنى فهو حريص على المال، المال القليل هذا الذي عنده، ولكنه ينفقه ويخشى الفقر كذلك، لأنه إن تصدق هذا فإنه قد يفتقر؛ يحتاج، هذا أجره أعظم ممن يكون في وفرة من المال وقد دنا الأجل واقترب، ثم إذا به على طول الذي دنا أجله ليس في حاجة إلى المال كحاجة الشاب الصحيح الذي يريد المال، قيتصدق عند ذلك، فالذي يتصدق عند الموت ليس كالذي يتصدق في حال الصحة، كذلك الإنفاق في الشدة غير الإنفاق في وقت الرخاء، وأعز الإسلام، لذلك قال -تبارك وتعالى- {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، فالذين آمنوا بالنبي وأنفقوا أموالهم قبل فتح مكة هؤلاء أعظم درجة من الذين آمنوا بعد الفتح وجاهدوا وتصدقوا، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- لخالد «لا تسب أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا»، يعني أحدكم ممن أسلم بعد الفتح، «فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»، المد ملء الكف، فالذي أنفق ملء الكف من الصحابة الأول الذين آمنوا بالنبي قبل الفتح أكثر أجرًا من شخص بعد الفتح أنفق مثل أحد ذهبًا، فهذه الاعتبارات.

فالله يقول {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، وهذا في الحد الأدنى، وجاء في الحديث أن الله -تبارك وتعالى- قال «قال رسول الله إن الله كتب الحسنات والسيئات»، يعني ثواب كل شيء، كل سيئة ما جزائها، كل حسنة ما جزائها، «إن الله كتب الحسنات والسيئات»، ثم قال النبي عن ربه -تبارك وتعالى- قال  «فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة»، أي بالهم، «فإن علمها كتب له عشر حسنات»، إذن الحسنة تكتب عشر حسنات بالفعل؛ إذا فعلها، إلى سبعمئة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، «ومن هم بسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة كاملة»، كتبت له حسنة كاملة، جاء في الحديث قال «إنما تركها من جرّاي»، فإذا هم العبد بسيئة ولكنه لم يعملها، خاف الله -تبارك وتعالى- ولم يعمل هذه السيئة، بعد أن هم بها وعزم عليها، كتبت له حسنة كاملة، «فإن عملها كتبت له سيئة واحدة»، فهذه موازين الرب -تبارك وتعالى- وهي موازين رحمة، رحمة في مضاعفة الحسنات لعباده المؤمنين وفي عدم مضاعفة بل يعني المجازاة بالسيئة الواحدة سيئة فقط ولا يضاعفها الله -تبارك وتعالى-، لا يضاعف الله -تبارك وتعالى- السيئات للمسيئين، وإنما يضاعف الله -سبحانه وتعالى- الحسنات للمحسنين، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ........}[الأنعام:160]، يجزى بالبناء لما لم يسمى فاعله والذي يجازي هو الله -تبارك وتعالى-، فلا يجزي يعني من ربه -سبحانه وتعالى- إلا مثلها فقط، فلا يأخذ إلا مثل هذه السيئة ولا يضاعف الله السيئات، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}، لا يظلمهم الله -تبارك وتعالى-، إن الله لا يظلم أحدا -سبحانه وتعالى-، لا يظلمون وإنما يأخذ جزاء فعله فقط، لكن يأخذ الجزاء موفرا، موفرا كما هو جزائه، فهذه قاعدة الحساب عند الله -تبارك وتعالى-، ولا شك أن هذه القاعدة نداء إلى عباده، نداء إلى العباد، ينادي الله –تبارك وتعالى- العباد هلموا هذه هي قاعدة الحساب عند الله -تبارك وتعالى-، وأن الحسنات تضاعف، والسيئات لا تضاعف وإنما يجزي الله -تبارك وتعالى- السيئة بمثلها فقط، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الأنعام:160]،

ثم تتمة هذا الإعلان وتوجيه النبي -صل الله عليه وسلم-، { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}, [الأنعام :161-163]. ونأتي إلى هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله على عبده ورسوله محمد.