الخميس 09 ذو القعدة 1445 . 16 مايو 2024

الحلقة (192) - سورة الأنعام 160-165

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن استن بسنته وعمل بها إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }[الأنعام:161-165].

 هذه الآيات الأخيرة من سورة الأنعام هذه السورة العظيمة التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- جملةً واحدة على نبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وهي مكية بتمامها، وهذه الآيات من هذه السورة هي قواعد عامة، موازين عامة لحساب الرب، قضايا كلية، فمن هذه ما مضى قول الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم- {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الأنعام:160]، فهذا هو طريق وسنة الله -تبارك وتعالى- في المجازاة، أنه رب رحيم -سبحانه وتعالى-، وأن كل من جاء بحسنة -أي حسنة حسنة ما- فإن الله -تبارك وتعالى- يجعلها له في الحد الأدنى عشر حسنات، فمن صلى ركعة لله -تبارك وتعالى- كأنه صلى عشر ركعات، من صام يومًا كأنه صام عشرة أيام، من تصدق بدينار كأنه تصدق بعشرة دنانير، فهذه أول شيء، فوحدة الجزاء عند الله -تبارك وتعالى- للحسنة كمية الجزاء كذا فإذا فعل الإنسان عمل من الأعمال الحسنة جزاه الله -تبارك وتعالى- كأنه عمل هذا العمل عشر مرات، ثم هذا بعد ذلك إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة يضاعفها الله -تبارك وتعالى- لمن يشاء، لكن هذا الحد الأدنى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ........}[الأنعام:160]، لا يضاعف الله -تبارك وتعالى- السيئات على أحد، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.

ثم هذا إعلان من الله -تبارك وتعالى-، يعلن الله -عز وجل- رسوله يقول قل لهم؛ قل للجميع المشركون واليهود والنصارى، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، إعلان قل لهؤلاء جميعًا، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي}، إنني محمد -صلوات الله عليه وسلم-، {هَدَانِي رَبِّي}، الهداية هنا هداية إرشاد وبيان وهداية كذلك هداية تصريف وتوفيق من الله -تبارك وتعالى-، وشرح صدر وتثبيت على هذا الأمر فهو رسوله الذي ألهمه الله -تبارك وتعالى- تقواه وثبته وأخذ به إلى هذا الطريق، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وهو دينه وأصبح صراط مستقيم لأن كل طريق غيره طريق أعوج، طريق أعوج كلها أمور معوجة وذلك أن في كل هذه الطرق فيه الأمر به وبضده وكل الأمور على خلاف الحق، فهو كلها طرق معوجة، أما صراط الله -تبارك وتعالى- فإن من كان فيه كان على الجادة الصحيحة يصل إلى المبتغى الصحيح من رضوان الله -تبارك وتعالى- وجنته، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا ........}[الأنعام:161]، دين مستقيم ما في عوج، لا يوجد ولا دوران, كل أمر فيه قائم على الحق والصواب، فكل أمر فيه سواء العبادات أو المعاملات... كل أمر فيه إنما هو قائم على الحق والصواب، فهو دين قويم وكذلك دين قيم بمعنى أنه ذو قيمة، أمر عظيم بل القيمة كلها، فإن الهداية إلى طريق الرب -تبارك وتعالى- والاستقامة على هذا الأمر فيها كل الفلاح، كل الخير في الدنيا والآخرة، {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، وهذا كذلك فيه منقبة عظيمة وبر عظيم فهو ملة إبراهيم، الملة هي الدين والطريق والمنهج والصراط، فإبراهيم –عليه السلام- قد اشترع وسار في هذا الطريق؛ طريق الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- قد آتاه رشده وهو شاب، ووفقه لدينه وعبادته ومال به عن كل طرق الكفر والجاهلية إلى الطريق المستقيم إلى الله -تبارك وتعالى-، وقد كان أمة واحدة -صلوات الله والسلام عليه-، وقد بارك الله -تبارك وتعالى- فيه وبارك في نسله وذريته، فمن نسله من إسحاق كان بنوا إسرائيل، ومن نسله أولًا من العرب إسماعيل بكره، فإن الله -تبارك وتعالى- قد نمى أبناء إسماعيل حتى ملئوا هذه الجزيرة كلها، فالعدنانيون والقحطانيون من نسله وقد كانوا على التوحيد دهرًا طويلًا من عمرهم، إلى أن جاء عمرو ابن لحي الخزاعي وهو الذي صرفهم عن هذا الدين وهذا التوحيد، ومن نسل إسحاق كان الأنبياء الكثر الذي أرسلهم الله -تبارك وتعالى- من أولاد إسرائيل وهو يعقوب -عليه السلام-، وكانت الهداية والدين كما قال -جل وعلا- وجعلها؛ جعل كلمة التوحيد {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف:28].

اليهود والنصارى يفتخرون بأنهم ينتمون إلى إبراهيم، فاليهود بنوا إسرائيل ينتمون إليه نسبًا، والنصارى ينتمون إليه ملةً، فإنه هو صاحب هذه الملة والدين التي كانوا عليها، وهو أبو إسحاق وإسرائيل ومن نسله كان الأنبياء، من نسله كان موسى ومن نسله كان عيسى، فإن عيسى أحد أفراد بني إسرائيل من نسل داود -عليه السلام-، فلذلك هؤلاء جميعًا يحبون إبراهيم، يفتخرون به، ينتسبون إليه، كذلك العرب؛ العرب يعتبرون أنهم أبناء إبراهيم وهذه كعبتهم، هذا البناء الذي بناه، هذه الكعبة التي بناها في مكة، في أرضهم، في قاعدة هذه الجزيرة أبوهم الذي بناها إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، فكون النبي يهدى -صلوات الله والسلام عليه- إلى ملة إبراهيم في التوحيد وعبادة الله في هذا الصراط المستقيم هذه دعوة لهؤلاء جميعًا، إلى اليهود وإلى النصارى وإلى العرب تعالوا هذه ملة جدكم، ملة أبيكم إبراهيم، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا ........}[الأنعام:161]، فدين قيم، {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، وهنا في حض لكل هذه الأمم الثلاث أن تدخل في دين الله -تبارك وتعالى- خلف النبي، فهذا دين إبراهيم الذي هو أبوكم وتفتخرون به، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، لم يكن إبراهيم مشركًا، وهذا فيه رد أولًا على العرب المشركين الذين غيروا هذا الدين، وينسبون أنفسهم إلى إبراهيم ويدعون أن إبراهيم كان يستقسم بالأزلام وكان على دينهم، لم يكن إبراهيم مشركًا على هذا النحو، وكذلك في رد على النصارى فإن أكبر الشرك عندهم، فإنهم قد قالوا إن المسيح هو ابن الله، إله من إله خالق رازق، أعطوه صفة الرب كلها وجعلوا ذاته ذاته وصفاته صفاته، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وكذلك اليهود الذين أشركوا بالله -تبارك وتعالى- فهم أمة مشركة عبدوا العزير وإجتنبوا هذا الدين، فلم يكن من المشركين، لم يكن إبراهيم مشركًا وإنما النبي محمد -صلوات الله عليه وسلم- الذي دعى إلى توحيد الله -تبارك وتعالى- وعبادته وحده، هو الذي على ملة إبراهيم حقًا طالما أنتم جميعًا لستم على ملة إبراهيم، {........ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:161].

ثم {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162]، إعلان إثر إعلان يأمر الله -تبارك وتعالى- رسوله محمد -صل الله عليه وسلم- أن يعلن هذا الإعلان إثر هذا الأعلان، قل لهم {إِنَّ صَلاتِي}، أشرف العمل، بدأ بأشرف أعمال الإنسان وأعلاها الصلاة وذلك أن الصلاة عبودية للرب الإله، وهي حق وذلك أن الله -سبحانه وتعالى- هو المتفضل بكل الإنعام على عبده وجودًا وتصريفًا ورزقًا، حياته؛ حياة العبد ومماته كلها بيد الله -عز وجل-، فعندما يقوم العبد يصلي لله -تبارك وتعالى- فإنما يقوم بأخص الواجبات التي عليه في هذه الأعمال كلها، وهي أن يعبد هذا الإله يشكر هذا الإله الذي له المنة وله الفضل على هذا الإنسان في وجوده، في حياته، في رزقه، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي}، ذبحي ذبح قربى وهي عبادة مالية، فصلاتي التي هي عبادة البدن والقلب وعبادتي المالية وأشرف العبادات المالية الذبح لله -تبارك وتعالى- والقربى بالذبح، لله -تبارك وتعالى- أن يذبح باسمه أنه هذا فيه معاني كثيرة من معاني العبودية لله، أن هذا مال الله، هذه أنعامه، هذه إفضاله، أنا أذبحه لربي -سبحانه وتعالى-، الله –تبارك وتعالى- مكنني من ذبحه على هذا النحو، ولا يذبح هذا وتراق دم هذا الحيوان إلى باسمه ففيه عبادة عظيمة، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي}، والنسك كذلك إذا أطلق يطلق على الذبح وقد يخص كذلك بكل الأعمال التي فيها قرب إلى الله -تبارك وتعالى- كما نقول مناسك الحج، {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}، مناسكنا؛ الأعمال التي نعملها لنؤدي هذه العبادة، فالوقوف في عرفة منسك والمبيت في مزدلفة منسك ورمي الجمار منسك، كل هذه تسمى مناسك اللي هي أعمال الحج، ونسك مفرد أضيف إلى معرفة فيعم، يعني كل أعمالي في العبادة كذلك، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي}، عطف عليها نسكي، {وَمَحْيَايَ}، حياتي، الحياة بما فيها، كل أعمالي في هذي الحياة، فعندما نقول حياة الإنسان تشمل كل أعماله، فبعد أن خص هذا بقي من باب العام بعد الخاص، فأعمالي كلها في هذه الحياة التي هي طبعًا تشمل الصلاة والمناسك ولكن هذا عمم بعد أن خص، {وَمَمَاتِي}، آخر شيء، فعل الموت، والإنسان قد يموت ساعيًا إلى الموت، كالمؤمن الذي يجاهد في سبيل الله ساعي إلى أن يموت في سبيل الله؛ الشهادة، وهذا أشرف موتة، أشرف موتة أن يموت لله -تعالى- في الشهادة، أو أنه يعمل وينتظر الموت وهو على الإسلام وعلى الدين، فيكن أيضًا مماته هنا بمعنى أنه إلى حال الممات، فعله إلى حال الممات لأنه عندما يموت؛ يموت لله كذلك، يموت لله بمعنى أن هذا الأمر كله لله، كل هذه الأمور {........ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162]، فهذا جعل كل أعمال العبد لله، وأنه عبد قد وجد كأنه وجد لعبادة الله، وبالتالي كل أعماله يقول كل أعمالي إنما أخص وأجعلها لله -تبارك وتعالى- رب العالمين.

ثم في معنى كذلك أن الله -سبحانه وتعالى- بمقاديره الكونية القدرية، أؤمن بأن كل عملي هذا إنما هو واقع بأمره الكوني القدري -سبحانه وتعالى-، {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ومعنى أنه رب العالمين الرب هو الإله الملك المتصرف -سبحانه وتعالى- والسيد، والعالمين جمع عالم، والعالم هو كل نوع أو جنس من الخلق تشملهم صفات واحدة، الملائكة عالم، الجن عالم، الإنس عالم، السماوات عالم، الأرض عالم، البحار عالم، الله -تبارك وتعالى- هو رب هذه العوالم كلها -سبحانه وتعالى-، فكل ما سوى الله هؤلاء عالمون، والله هو رب هذه العوالم كلها -سبحانه وتعالى-.

{لا شَرِيكَ لَهُ}، لا شريك له في القصد والطلب، أنا لا أشرك لله -تبارك وتعالى- أحدًا في هذا، ولا شريك له في هذه الأمور، فإن تصريف الله -تبارك وتعالى- للعباد في هذا الأمر لا شريك لله -تبارك وتعالى- قط في التصريف، أجعلها كل أعمالي {........ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162]، حال كونه -سبحانه وتعالى- لا شريك له في شيء من هذه، في قصد العبد وفي طلبه لا أجعل لله -تبارك وتعالى- شريكًا في شيء، لا في حياتي، لا في مماتي، لا في صلاتي، لا في نسكي، {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ}، هذا الأمر الشرعي الديني، بذلك؛ بأن أجعل كل أعمالي وكل حياتي وكل تقرباتي لله رب العالمين، بذلك قد أمرني الله -تبارك وتعالى-، كما قال له الله -تبارك وتعالى- {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، وكذلك نهاه عن الشرك فقال له {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:65]، {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:66]، {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ}، أمرت أن أكون عبدًا مخلصًا لله -تبارك وتعالى- جاعلًا كل أعمالي لله -عز وجل-، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، أولية، الأولية؛ ممكن تطلق الأولية على السبق؛ السبق النوعي في الأمر، وممكن تطلق على الأولية السبق الزمني، فالنبي هو أول المسلمين من حيث السبق الزمني فأول مسلم من هذه الأمة هو النبي محمد -صلوات الله عليه وسلم-، الذي أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه الوحي وأمره أن يسلم له وأنه نبي هذه الأمة، وأمره أن يقوم لله -تبارك وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:1-3]، فكان إمتثاله لهذ هو إسلام لله -تبارك وتعالى-، فهو أول المسلمين من هذه الأمة، كذلك هو أول المسلمين في النوع، من حيث الإسلام هو أعلى المسلمين درجة -صلوات الله والسلام عليه- وأعلاهم قدمًا في عبادة الرب -تباك وتعالى-، كما نقول أول فصل أو أول هذه المجموعة فلان بمعنى أن أعلاها، فالنبي هو أول المسلمين؛ أعلاهم -صلوات الله والسلام عليه-، وقد كان، فهو أعلم الخلق لله، أتقاهم لله -تبارك وتعالى-، وقد قام من أنواع العبادة ما لا يستطيع غيره أن يقوم بها -صلوات الله والسلام عليه-، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، في الوجود هنا ليس أول المسلمين بالنسبة للأمم السابقة، فإنه يعني آدم ومن بعده من المؤمنين هم يعني أول المسلمين هو آدم -عليه السلام-، وإنما أول مسلمين هذه الأمة، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، أولهم؛ أول هذه الأمة، وكذلك أسبقهم وأعلمهم بالله -تبارك وتعالى-، -صلوات الله والسلام عليه-.

ثم بعد هذا يعني في آخر هذه السورة مقارنة، وبيان وين أين ما فيه النبي -صل الله عليه وسلم- وما يدعو إليه، وما هو الطريق الذي مسكه الله -تبارك وتعالى- به، وغيره من طريق المشركين التي هم فيها، قال -جل وعلا- {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[الأنعام:164]، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا}، سؤال يراد به التأنيب والتوبيخ والتحقير، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا}، هل يمكن أن يريد أي عاقل ربًا غير الله -تبارك وتعالى-، والحال أنه هو رب كل شيء، فكيف يذهب العبد والإنسان إلى أن يتخذ له رب غير الله -تبارك وتعالى- والحال أن الله هو ر كل هذه الموجودات، لا شك أن من ذهب ليتخذ له ربًا غير الله -تبارك وتعالى- هذا أضل الخلق، وذلك أنه يتخذ رب من ليس برب، لأن الرب الذي هو الخالق الرازق السيد الملك ليس إلا الله فهو الذي يتصف بهذه الصفات، أما ما دون الله -تبارك وتعالى- مما عبد، الملك لا يكون ربًا، الرسل لا تكون أرباب، {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:80]، الشمس ليست ربا، كان العرب يسميها الإلهة وأنها ربهم لكن ليست رب، {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[فصلت:37]، الأصنام ليست أرباب فهي مصنوعات حقيرة دنيئة ما تستحق حتى الإحترام، ولا أي شيء فضلًا عن أنها تجعل أنها هي بيدها تصريف أو خلق أو رزق أو بيدها نفع أو ضر لا تنفع، لا تنفع ولا تضر، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5]، {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:6]، حقر الله -تبارك وتعالى- هذه الأصنام، وقال {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98]، يعني كلكم تؤخذون وتحصبون في جهنم، {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}[الأنبياء:99]، فيقول الله -تبارك وتعالى- يقول لنبيه قل لهم {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}.

ثم تهديد بعد ذلك {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}، اعلموا أن كل نفس لا تكسب عمل إلى عليها، فكل إنسان سيرتهن بعمله ويلزم به، {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}، وقال عليها هنا لأن هذا بيان الوزر، ثم {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، الوزر هو الحمل الثقيل، هو الحمل الثقيل ومنه الجبل لوزر، لوزر اللي هو المعتصم في الجبل، فالوزر الحمل، فالله يقول {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ}، يعني لا يحمل صاحب ذنب؛ ذنب أخر، الذنب ثقل، ولا يمكن لإنسان أن يحمل وزر غيره بل كل إنسان سيحمل وزر نفسه، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، حتى لو تطوع وتبجح الكفار وقالوا لغيرهم يعني قالوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، ما لكم شغل، أنتم سيروا ورائنا نحن، ونحن إذا كانت عندكم أوزار في الآخرة سنحملها عنكم، قال -جل وعلا- {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[العنكبوت:13]، فيحملوا أوزارهم هم ويحملوا أوزار الذي أضلوهم لكن صاحب الوزر الذي هو المتبع سيحمل وزر نفسه، سيحمل وزر نفسه، فلا تحمل وازرة وزر أخرى، بمعنى أن إنسان يتخلص من ذنبه ويلقيه على الأخر لا، بل كل إنسان سيحمل وزره إن كان تابعًا أو متبوعًا، فالتابع إذا قال أنا يعني لست الذي ضللت بنفسي وإنما أضلني فلان وفلان، هؤلاء الذين أضلوني، فهؤلاء الذين أضلوه عليهم وزرهم ووزر كذلك من أضلوهم، وهذا الضال التابع الذي إتبع هؤلاء في ضلالهم عليه وزر نفسه، فيحمل كذلك وزر نفسه، فقال -جل وعلا- {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ}، إلى ربكم لا إلى غيره للحصر هنا، مرجعكم في الآخرة، {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، ينبئكم يخبركم، والإنباء هو الإخبار بالأخبار العظيمة، {كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، بالذي كنتم تختلفون فيه، وهذا طبعًا فيه أيضًا هذا ما وراء الإنباء، فبعد أن يخبروا تقام عليهم الحجة بهذا بعد ذلك تأتيهم العقوبة -عياذًا بالله-.

ثم قال -جل وعلا- {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ}، هو الله -سبحانه وتعالى- هذا أيضًا من فعله وتصريفه، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ}، خلائف الأرض يعني أن جيل يخلف الجيل الذي سبقه في الأرض، وهكذا الأرض تطوي هذه الأجيال جيل بعد جيل، يموت جيل ينزل في بطنها ثم يأتي ينشأ جيل أخر، ثم يعيش ما قدر له ثم يفنى ويسقط في هذي الأرض ثم ينشأ جيل أخر، فهي يعني أجيال يخلف بعضها بعضًا، ومدة الجيل الذي يبقى على ظهر الأرض ليس أكثر من مئة سنة، فإن مئة سنة كل الذين على الأرض يكونون بعد هذه المئة سنة في باطنها، ويكون نشأت أجيال أخرى، كما قال النبي -صلوات الله عليه وسلم- في ليلة من الليالي «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لن يبقى على الأرض أحد مما عليها الآن بعد مئة سنة»، قالهم النبي بعد مئة سنة كل الذين على الأرض الآن لا يبقى منهم أحد، أي أنهم يموتون، فهذا إخبار منه في وقته بهذا أنه ما سيتجاوز أحد المئة، وأخبار كذلك بالعموم فإن عموم الأجيال على هذا النحو، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ}، ثم قال -جل وعلا- {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}، في الرزق، فضل الله -تبارك وتعالى- بعض الناس على بعض، في الرزق، في العقل، في المكانة والمنزلة، في الشرف، هذا ديَّت، حظوظ الدنيا قسمها لله -تبارك وتعالى- بين عباده، {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}، قال -جل وعلا- {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}، ليختبركم، يختبر الغني الذي في غناه هل قام في هذا المال بحق الله -تبارك وتعالى-، وهل هذا الذي مكنه الله وجعله في مكان وجعله في وجاهة، هل إستخدم هذا في طاعة الله -تبارك وتعالى- أم إستخدمه في معصيته، فلحكم عظيمة، لحكم عظيمة، {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}، يبتلي الله -تبارك وتعالى- كل إنسان فيما آتاه، وتفاضل هذه الدرجات لهذه المنافع العظيمة ، فتفاضل الناس في الرزق قال -جل وعلا- ليتخذ بعضهم بعضًا سخرية، ليسخر هذا هذا، ويشتغل هذا في خدمة هذا وهذا في خدمة هذا.

{لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ}، هذا من صفته -تبارك وتعالى- وهي أيضًا قاعدة الحساب، قال -جل وعلا- {إِنَّ رَبَّكَ}، يعني يا محمد، {سَرِيعُ الْعِقَابِ}، وقول الله هنا لم يقل (إن الله) قال (إن ربك)، هذا كذلك لإستئناس النبي -صلوات الله والسلام عليه-، بأن ربه خالقه ومولاه والذي أرسل هذا الدين سريع العقاب، فكذلك يمكن أن ينزل بطشه وعقوبته في هؤلاء المعاندين المكذبين، {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ}، لأهل الذنوب والمعاصي من هؤلاء المجرمين المعاندين لهذه الرسالة، فممكن أن يرسل عقوبته -سبحانه وتعالى- في التو والحال، كما قال -جل وعلا- عن الأحجار التي أرسلها على قوم لوط، قال {........ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[هود:83]، يعني ممكن أن ينزلها الله -تبارك وتعالى- على الظالمين في التو واللحظة، {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ}، ثم قال -جل وعلا- {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، وإن الرب الإله -سبحانه وتعالى- كذلك لغفور، المغفرة الستر، والرحمة هذه، رفع العذاب، قبول التائب، الإفساح له من كل أنواع الرحمات، فهذا من صفة الرب -تبارك وتعالى-، أنه الرب الغفور الرحيم المسامح الكريم -سبحانه وتعالى-، الرحيم بعباده ومن رحمته هذا البيان وهذا الإيضاح، فهذا بعد ذلك يعني ليتخذ العبد بعد ذلك طريقه إما هذا وإما هذا، ففي العقوبة ليعلم أن الله -تبارك وتعالى- إذا كان مشي أخذ طريق الغواية فليعلم {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ}، وكذلك إذا أخذ طريق الهداية فليعلم أنه –سبحانه وتعالى- {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، صفتان يتصف بهما الرب -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحج: 49-50].

بهذا تنتهي يعني هذه السورة العظيمة، عشنا معها هذه الفترات الكبيرة، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وذهاب همنا وغمنا وحزننا، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.