الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين، وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم،
{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ }[الأعراف:1-9].
هذه الآيات هي بداية سورة الأعراف وهي من الطوال، وهي سورة مكية، وقيل إن قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، وكذلك قوله -تبارك وتعالى- في السورة {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}، أن هذه من القرآن المدني وذلك أنها نزلت في شأن حِجاج مع بني إسرائيل، كأن الذي قالوا هذا طبعًا قالوه بإجتهادهم ظنًا أن كل القرآن كان فيه نقاش مع اليهود إنما كان في المدينة، بعد أن تحول النبي -صلى الله عليه وسلم- مهاجرا إلى المدينة، وكان يحصل بينه وبين أهل الكتاب نقاش وجدال في الدين، ودعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وناظرهم في مناسبات كثيرة، وكان يتنزل على النبي -صلوات الله والسلام عليه- ما يجادل به أهل الكتاب، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]، فمن مهام القرآن منجمًا أنه كان كلما تعرض المسلمون والإسلام لشبهة نزل قول الله -تبارك وتعالى-، نزل رد هذه الشبهة من القرآن المنزل على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وهذا من مهام ومن أهداف نزول القرآن منجمًا على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، كما قال -جل وعلا- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}[الفرقان:32]، {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]، لكن على كل حال ليس كل ذكر لليهود وللنصارى وللحِجاج معهم كان من جملة القرآن المدني، فإن دعوة النبي -صلوات الله والسلام عليه- منذ بدأ الدعوة إنما كانت للعالمين، وكان الخطاب الإلهي في القرآن إنما هو خطاب لكل الأمم ولكل الشعوب للدخول في هذا الدين، ثم إن العرب لما همهم شأن النبي -صلوات الله والسلام عليه- والنبي في مكة في بدء دعوته كانوا يسألون عنه، يسألوا عنه أهل الكتاب وهل ديننا خير من دينه، وكان هناك تواصل بين المشركين وبين اليهود وبين غيرهم في شأن هذا النبي، الذي جاء فأكفر كل الأمم وأكفر الجميع ودعى الجميع إلى الدخول في الدين وأنه لا دين حقًا إلا ما جاء به من الله -تبارك وتعالى-، وأن الله -جل وعلا- قد نسخ به كل دين قبل ذلك، فإن دعوة اليهود ودعوة النصارى للدخول في الدين لم تكن دعوة متأخرة إلى العهد المدني، وإنما كانت من بداية الأمر، ثم إن هذه السورة سورة الأعراف عامتها إنما هي في شأن موسى وقومه -صلوات الله والسلام عليه-، وقل الله -تبارك وتعالى- {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}، وقوله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}، إنما كان هذا في نفس السياق؛ في نفس سياق السورة، وكان نفس موضوعها مما أنزله الله -تبارك وتعالى- في شأن بني إسرائيل.
فالسورة وحدة واحدة متكاملة ونزولها في مكة كله مرتبط بعضه ببعض، وسيأتي -إن شاء الله- عندما نأتي إلى هذه الآيات كيف أن هذه الآيات إنما هي في سياق واحد، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بقوله –جل وعلا- {المص}[الأعراف:1]، هذه أربعة حروف وهي من الحروف المقطعة وقد مضى بيان معاني هذه الحروف أو أقوال أهل العلم فيها، وخلاصة ذلك أنها مما استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه أو أنها حروف تنبيه، أو أنها جاءت بهذا الأمر الذي لم تكن للعرب معرفة به أن يبدأوا كلامهم بالحروف ليكون هذا تميز لهذا القرآن، أو لأن هذه هي أسماء السور {المص}[الأعراف:1]، تمييزًا لهذه سورة الأعراف، أو {الم}[السجدة:1]، كما كان يسمي بعض الصحابة سور القرآن، فعلى كل حال ليس في معاني هذه الحروف المقطعة شيء قطعي، ولعل أمثل ما قيل فيها في تفسيرها أنها إشارة من الله -تبارك وتعالى- منزل هذا القرآن، إلى أن هذا الكتاب الكريم إنما هو مؤلف من هذه الحروف العربية التي يتكلم بها العرب، وأنهم إن كانوا مكذبين للنبي -صلوات الله والسلام عليه- فيما يدعو إليه، من أنه هو رسول الله حقًا وصدقًا -صلوات الله وسلامه عليه- فليعارضوا القرآن بمثله، فليأتوا بحديث مثله، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، ومن مثله القرآن مؤلف من هذه الحروف التي يتكلمون بها.
{المص}[الأعراف:1]، {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ........}[الأعراف:2]، كتاب هذا خبر مبتدأ محذوف يعني هذا كتاب، والإشارة هنا والإخبار هنا بهذا الكتاب المنزل على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، سمي كتاب لأنه كتب في السماء، فهو في اللوح المحفوظ مكتوب كما قال -جل وعلا- {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ }[عبس:13-6]، فهذا القرآن صحف مطهرة في السماء أنزلها الله -تبارك وتعالى- يوم أنزلها على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، كتب في الأرض؛ هو أعظم كتاب كتب في الأرض ونشر فيها، وهو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم لا كتاب كتب واهتدى به الخلق واعتنى به المعتنون كهذا الكتاب؛ ككتاب الله -تبارك وتعالى-، ثم وصف هذا الكتاب قال -جل وعلا- {أُنزِلَ إِلَيْكَ}، أنزل إليك بالبناء لما لم يسمى فاعله والمنزل هو الله -تبارك وتعالى-، أنزله الله -تبارك وتعالى- على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، منجمًا في ثلاث وعشرين سنة، والنازل به والمرسل به من الله إلى النبي محمد هو جبريل -عليه السلام-، كما قال -جل وعلا- {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}, [الشعراء:193-195]، هذا كتاب أنزل إليك يعني يا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}، فلا يكن في صدرك هذا خطاب للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، حرج؛ الحرج هو الضيق، والنبي -صلوات الله والسلام عليه- لم يكن يضيق بكتاب الله -تبارك وتعالى- وإنما كان يضيق بالمهمة التي جاء هذا القرآن يحمله إياها، فهي مهمة عظيمة وبهذا العناد والتكذيب الذي كان يلقاه -صل الله عليه وسلم- من قومه ومن هؤلاء المكذبين بهذه الرسالة، إشفاقًا عليهم كما في قول الله -تبارك وتعالى- {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[هود:12]، وقوله -تبارك وتعالى- {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ........}[هود:12].
وكذلك قول الله -تبارك وتعالى- {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام:33]، يحزنه ما يقولون عليه من أنه ساحر وأنه مجنون وما يقابلونه به من الإستهزاء والعنت والتكذيب، فضيق النبي -صل الله عليه وسلم- إذا كان في صدر النبي حرج من هذا القرآن لا شك أن النبي لم يكن في شك مما أنزل الله -تبارك وتعالى- إليه، وإنما ضيقه كان بهذه الألوان من ألوان التكذيب التي يلقاها، ثم إشفاقه -صلى الله عليه وسلم- على الناس ورغبته في أن يهتدي الجميع، كما قال له الله -تبارك وتعالى- {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3]، وقال {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]، فالحمل والعبء الثقيل الذي حمله النبي -صلوات الله والسلام عليه- بدءً بأول الآيات التي أمرته بأنه يقوم بهذا الأمر وهي قول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، [المدثر:1-7]، وقد قال له الله -تبارك وتعالى- {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، فلا شك أن القرآن قول ثقيل على النبي وذلك أنه مأمور بتبليغ هذه الرسالة إلى العالمين، ويواجه فيها ما يواجه من هذه الأمم الكثيرة ومن عناد المعاندين وتكذيب المكذبين ومؤامرة المتآمرين عليه -صلوات الله والسلام عليه-.
{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ........}[الأعراف:2]، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- له المهمة، قال {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، يعني إنما نزل عليك هذا القرآن لتنذر به، فالقرآن نذارة من الله -تبارك وتعالى-، وقراءة النبي لهذا القرآن، إبلاغ هذا القرآن للناس إنما هو نذارة للعالمين، لأن القرآن نزل لهذا الهدف، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، يعني ليكون هذا القرآن للعالمين نذيرًا، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1]، {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ}، يعني لينذر الله -تبارك وتعالى- بأسًا شديدًا من لدنه؛ من عنده، من لدن الله -تبارك وتعالى-، {........ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}[الكهف:2-3]، فقال له الله -تبارك وتعالى-، الله هنا يقول له {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}، فإنما مهمتك هي أن تنذر به؛ أن تنذر بهذا القرآن، ثم هو ذكرى للمؤمنين؛ وذكرى للمؤمنين تذكير لهم، وخص المؤمنين بالذكرى وذلك أنهم هم الذين يتذكرون، فإن الذي يتذكر التذكر هو استحضار المعنى وإعمال الذهن والإستفادة بالإخبار والإستفادة بالنذارة، فتخويف الله -تبارك وتعالى- لعباده من ناره، وترغيبه إياه في جنته، وأمرهم -سبحانه وتعالى- بطاعته، لا يستفيد بهذا إلا أهل الإيمان فهم الذين يتذكرون ويتعظون ويفقهون عن الله –عز وجل-، ويعلمون حقيقة هذا الخطاب فيعملون به، فالقرآن ذكرى ولكنه للمؤمنين فقط، خص الله -تبارك وتعالى- المؤمنين فقط بالذكرى وذلك أنهم هم الذين يتذكرون، {لِتُنذِرَ بِهِ}، العالمين، فالنذارة للعالمين كلهم، وخص المؤمنين بالذكرى وقال {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}.
بعد هذه المقدمة في مواساة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وفي بيان حقيقة مهمته وأنه قد أرسل بهذا القرآن ليذكر به، يذكر به أهل الإيمان وينذر به العالمين، وجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب إلى الناس فقال {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف:3]، أمر من الله -تبارك وتعالى- للعباد جميعًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- مرسل إلى كل البشر منذ وقته وإلى قيام الساعة، والخطاب هنا الله -تبارك وتعالى- يخاطب عباده هنا يعني الذي أنذر إليهم الذي أرسل إليهم النبي محمد، بخطابًا مباشرًا منه -سبحانه وتعالى- بهذا القرآن، فقال {اتَّبِعُوا}، أي أيها الناس، {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، ما؛ الذي، الذي أنزل إليكم من ربكم وهو هذا القرآن، {........ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف:3]، نهي، اتبعوا هذا القرآن ما أنزل إليكم من ربكم، طبعًا القرآن وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي منزلة كذلك من الله -تبارك وتعالى-، فما يأمر به النبي -صلوات الله والسلام عليه- هو كذلك منزل من الله -تبارك وتعالى- لأن الله هو الذي أمره بتبليغه -صلوات الله والسلام عليه-، {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}، تحذير من الله ونهي، قال {وَلا تَتَّبِعُوا}، أي أيها الناس، {مِنْ دُونِهِ}، من دون الله -تبارك وتعالى-، {أَوْلِيَاءَ}، أولياء؛ آلهة، سادة، كبراء، توالنهم بمعنى أنكم هذه الآلهة يؤلهونهم، هؤلاء الشياطين يتبعونهم، هؤلاء السادة والكبراء يتبعونهم فيما يشرعون لهم، كل من أقام نفسه أو أقيم مقام الرب -جل وعلا- مقام الإله، فالله هو الولي وهو الإله -سبحانه وتعالى-، فأي شيء يقيمه البشر مقام الرب فالعبادة يعبدونه ويصرفون له عبادة الله، أو يتبعونه في أمره ونهيه في تشريعه، أو يجعلونه هدفهم وقبلتهم ويجعلون محبتهم له وولايتهم له وإنضمامهم وحياتهم من أجله، هؤلاء اتخذوا من دون الله أولياء، فكل من اتخذ وليًا له دون الله أي أقام هذا الولي مقام الرب -سبحانه وتعالى-، مقام الرب من عباده أنه هو إلههم، هو ربهم، هو معبودهم-سبحانه وتعالى- الذي يعبدونه، هو سيدهم الذي يطيعونه فيما يشرع لهم، فلا يأتمرون إلا بأمره وبالأمر الذي يوافق أمره -سبحانه وتعالى- من كل آمر، وينتهون عن نهيه ويسيرون في طريقه.
فالله -تبارك وتعالى- يقول {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}، وهذا أصبحت قضية حاسمة وقضية كلية، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، فهذا فيه إتباع كل أوامر الله -تبارك وتعالى- إتخاذ صريطه؛ طريقه وصراطه، {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}، ثم قال -جل وعلا- {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}، تذكركم قليل، أو قليلًا من العباد الذين يتذكرون، {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}، فتذكر العباد تذكر قليل أو أن قلة من العباد وقلة من الناس هم الذين يتذكرون، وهذا كلام الله -تبارك وتعالى- للذكرى وللإعتبار ولكن قليل من يأخذ به ومن يعتبر به.
ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- سنته -سبحانه وتعالى- في المكذبين، فقال -جل وعلا- {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ(4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الأعراف:5]، {وَكَمْ}، يعني كثيرًا، كم العددية التكثيرية، {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}، القرية هي المدينة، سيمت قرية لأنه قيل القرى هو الجمع يعني التي تجتمع بيوتها في مكان واحد، {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ}، مدن عظيمة، أمم عاش فيها أمم، {أَهْلَكْنَاهَا}، يخبر -سبحانه وتعالى- بأنه أهلكها، كقوم فرعون وعاد وثمود وقرى لوط، ممن أخبرنا الله -تبارك وتعالى- عن قصصهم وكيف أزالهم الله -تبارك وتعالى- من الأرض، {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}، ثم صور الله -تبارك وتعالى- مجيء بأس الله -تبارك وتعالى- وشدته كيف كان، قال {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا}، البأس العقوبة، شدة الله -تبارك وتعالى- وبأسه عندما نزل بهم، {بَيَاتًا}، البيات هو القتل في الليل، يعني أن الله -تبارك وتعالى- قتلهم في مبيتهم، {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}، قائلون وقت القيلولة، والقيلولة هي وقت الظهيرة، فهنا كأنه أتاهم عذاب الله -تبارك وتعالى- في وقت غفلتهم واسترخائهم وراحتهم، وهذا أشد في النكال، هذا أشد في النكال أن تفاجئهم نقمة الله وعذاب الله -تبارك وتعالى-، في حال أمنهم واسترخائهم ونومهم سواء كانوا قائلين يعني في وقت قيلولتهم أو في ليلهم.
قال -جل وعلا- {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الأعراف:5]، لم تكن دعواهم الدعوة التي قالوها والدعاء الذي فاهوا به في ذلك الوقت، لما نزلت بهم عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، بس شيء واحد الذي قالوه {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، اعترافا بأنهم كانوا ظالمين، وظلمهم هذا طبعًا ظلم شرك، وظلمهم في رد رسالة الله -تبارك وتعالى- وإنكارهم أن يأتيهم عذاب، فكل هذه الأمم قد عالجها الرسل بكل أنواع العلاج، يعني تبشيرهم بالجنة وبنعمة الله ورضوانه إن أطاعوه، تحذيرهم من عقوبته -سبحانه وتعالى-، تخويفهم من أمر الله -تبارك وتعالى-، بسطهم الأمر، تبصيرهم، تذكيرهم بمصارع الغابرين، فكل أسباب ممكن أن يهتدي بها المهتدون وينزجر بها الزاجرون قد بلغوها وقد قيلت لهم، لكنهم أصموا آذانهم عن دعوة الرسل ولم يقبلوا شيئًا من هذا، فلما نزل العذاب كما أخبرتهم به الرسل قالوا {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، كما قال -تبارك وتعالى- {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ}[الأنبياء:11]، فما كان دعواهم إذ جائهم بأسنا إلا أن {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الأنبياء:14]، فوقت نزول العذاب عليهم عند ذلك يعترفون أنهم كانوا ظالمين، فهنا يقول الله {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الأعراف:5]، لكن هذا الوقت للإعتراف لا ينفع، لم يعد يفيدهم أن يعترفوا في هذا الوقت بظلمهم فإن هذا قد فات أوانه، ولا يقبل الله -تبارك وتعالى- عن التوبة والاعتراف بهذا الذنب إلا في حال توجه الخطاب والنذارة، أما عند نزول العذاب فإن الله -تبارك وتعالى- يغلق عليهم باب التوبة.
ثم قال -جل وعلا- {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:6]، يقسم الله -تبارك وتعالى- بأنه يوم القيامة سيسأل الذين أرسل إليهم وهي كل الأمم، فإنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، ما من أمة إلا وقد أرسل الله -تبارك وتعالى- لها من ينذرها ويخوفها عقوبته -سبحانه وتعالى-، ويبين لها طريق الهداية، فقال -جل وعلا- {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ........}[الأعراف:6]، تأكيد منه -سبحانه وتعالى- باللام الموطئة للقسم وبالنون الثقيلة وبهذا الإخبار منه -سبحانه وتعالى-، قال {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ........}[الأعراف:6]، وهذا يوم القيامة،
{وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، يعني الله -تبارك وتعالى- سائل كل رسول عن رسالته، طبعًا ليس سؤال إستفهام وإنما سؤال للتقرير، سؤال للتقرير فإذا سئل هؤلاء يسأل الرسول هل بلغت وهل أديت المهمة، طبعًا يشهد الجميع بأنه أدى، ويسأل هؤلاء {........ ألم يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}[الأنعام:130]، {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ}، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ........}[الأعراف:6]، يوم القيامة، {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}.
ثم قال -جل وعلا- {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}[الأعراف:7]، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} نقصن عليهم يعني ما عملوه، أخبارهم التي كانوا عليها في الدنيا، بعلم الذي لا تخفى عليه خافية -سبحانه وتعالى-، فقد علم الله -تبارك وتعالى- كل أعمالهم وكل حكايتهم وكل تصرفاتهم صغيرها وكبيرها، بل خلجات نفوسهم وخطرات قلوبهم قد أحصاه الله -تبارك وتعالى- {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}، قال -جل وعلا- {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}، ما كنا غائبين يعني عن أعمالهم في الدنيا، بل الله -تبارك وتعالى- شهيد على عمل كل أحد -سبحانه وتعالى-، {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، فالله -سبحانه وتعالى- قائم على كل نفس بما كسبت ويعلم ما تكسب كل نفس، فكل نفس ماذا تكسبه يعلمه الله -تبارك وتعالى-، فالله يخبر بأنه سيقص عليهم أعمالهم وأخبارهم التي كانوا عليها في الدنيا كما عملوها، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}[الأعراف:7]، ثم قال -جل وعلا- {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}[الأعراف:8-9].
ونأتي -إن شاء الله- إلى بعض هذا البيان -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصل الله على عبده ورسوله محمد.