الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (194) - سورة الأعراف 8-13

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:6-13].

الآيات من سورة الأعراف وقد مضى أن هذه السورة كلها من القرآن المكي؛ مكية بتمامها، ومن قال من أهل العلم بالتأويل أنها جميعها مكية إلا قول الله -تبارك وتعالى- فيها {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}، إلى قوله {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}، وأخرج هذه الآيات الحقيقة أخرجها من سياق السورة، وسياق السورة في هذا الموضع في بني إسرائيل قلنا أن هذا القول ليس بصحيح، لأن ظن أن هذه الآيات إنما نزلت في المدينة لأن فيها سؤال اليهود، واليهود لم يكونوا بمكة وإنما كانوا بالمدينة هذا من الظن وليس صحيحًا، فقول الإمام ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- بأن هذه السورة كلها مكية، ومن قال أن هذه الآيات مدنية بناءً على هذا الظن عنده، وهذا الظن ليس بصحيح لأن المعركة مع اليهود ودعوة اليهود إلى الإسلام إنما هي من بدء دعوة النبي -صلوات الله والسلام عليه- في مكة، فإن النبي قد جاء برسالة إلى العالمين، عالمية الرسالة من مكة وليس من المدينة، عندما كان لليهود وجود في المدينة فبدأ النبي يدعوهم...لا، النبي قيل له -صلوات الله عليه وسلم- وأنزل عليه قول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:1-3]، وهذه النذارة للجميع، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، فقد كان إعلان النبي أنه رسول الله -تبارك وتعالى- للعالمين من مكة، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[ص:88]، في سورة ص؛ السورة المكية، فنزل إعلان الله -تبارك وتعالى- لرسوله بأنه رسول للعالمين إلى كل شعوب الأرض إلى كل الأمم، إكفار اليهود وإكفار النصارى جاء من أول بعثة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ثم إن الحوار والنقاش مع اليهود ومع النصارى تواصل، سواء كان عن طريق مشركي العرب الذي كان اليهود يتصلون بهم ويأتون بهم ببعض الشبهات التي يقابلون بها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أو سواءً كان مباشرة بين من يؤمن بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- ومن يكون في هذه الأصقاع، فإن خبر النبي بمجرد ظهوره في مكة انتشر في كل مكان وبدأت تتفاعل كل من في الجزيرة، بل من خارج الجزيرة بدعوة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-.

مضى في هذه السورة أن الله -تبارك وتعالى- بدأها بهذه الحروف المقطعة {المص}[الأعراف:1]، ثم توجيه إلى هذا الكتاب {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:2]، ثم أمر من الله -تبارك وتعالى- للعباد بأن يتبعوا هذا الدين، أمر صريح وألا يتبعوا من دونه، ثم تهديد بعد هذا الأمر، قال -جل وعلا- {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ(4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الأعراف:5]، لعل اختيار هذه الحالة إقرار القرى التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- على نفسها بأنها كانت ظالمة وقت نزول العذاب، لم يعترفوا بأنهم كانوا ظالمين إلا عندما جاءهم العذاب؛ وأتاهم العذاب، الله أخبر بأنهم أتاهم العذاب في هذا الوقت؛ وقت راحتهم واسترخائهم، {........ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}[الأعراف:4]، فأقروا على أنفسهم، قال -جل وعلا- {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الأعراف:5]، ثم قال -جل وعلا- {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ........}[الأعراف:6]، باللام الموطئة للقسم، يقسم الله -تبارك وتعالى- بأنه سيسأل الذي أرسل إليهم وهم كل الأمم، وذلك أن الله لم يخلي أمة من نذير، {........ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر:24]، {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، سؤال يتم به الإقرار في هذا الموقف العظيم، فالرسل يقرون بأنهم قد بلغوا رسالة الله -تبارك وتعالى-، مع تفويضهم أمرهم كلهم إلى الله -تبارك وتعالى-، وهؤلاء الأمم لا يفدها إنكارها أنه لم ترى نذير، فإن كل الشواهد قائمة أنهم قد جاءهم نذير وقد أقيمت عليه الحجة.

{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ ........}[الأعراف:7]، كل أخبارهم كل ما صنعوه في هذه الأرض، {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}، فإن الله -تبارك وتعالى- على كل شيء شهيد، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، ثم قال -جل وعلا- {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}، الوزن الأعمال، يومئذ في هذا اليوم؛ يوم هذا السؤال وهو يوم القيامة، الحق يعني لا ظلم فيه، فهو وزن قائم بالحق ولا ظلم فيه؛ في هذا الوزن من الله -تبارك وتعالى-، وكذلك الميزان كله قائم بالحق، ثم قال -جل وعلا- {........ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}[الأعراف:8-9]، يعني هذه نهاية الوزن، هنا كمن تزيد حسناتهم على سيئاتهم ومن تنقص حسناتهم عن سيئاتهم، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}، من العباد الذي يوزن لهم، وهنا ثقلت موازينه الموازين هنا المراد بها أعماله التي توزن كانت ثقيلة، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، أولئك بالإشارة للبعيد تعظيمًا لهم، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وهم المفلحون إخبارا بالجملة الإسمية التي هي مستقرة في الإخبار هم المفلحون، والفلاح هو الفوز بالمراد الأكبر وحصول غاية المنى، فهذا الذي أفلح فاز بمراده الأكبر، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذا الفلاح هو النجاة من النار وحصول رضوان الله -تبارك وتعالى- والاستقرار في جنته جنة الخلد.

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ ........}[الأعراف:9]، خفت موازينه لم يكن له عمل صالح يوزن وكثرت سيئاته، {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ}، الخسارة هنا هي خسارة النفس، والإنسان قد يخسر شيء مما يملكه أو ما يملكه وتبقى نفسه، وهذه جزء, خسارة جزئية، ولكن أن يخسر الإنسان نفسه فهذا هو الخسران الأعظم، الخسران الأعظم أن يخسر الإنسان نفسه، وخسارة النفس في الآخرة إنما يكون بإيرادها العذاب، فمن أورد نفسه العذاب فإنه قد خسرها وذلك أنها لا تحيا في هذا العذاب حياة تنفعها، ولا تموت موتًا تستريح به، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74]، لا يموت فيها موتًا يستريح من العذاب ولا يحيا حياة تنفعه بل يبقى معذبًا أبدا، {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ}، قال -جل وعلا- {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}، السبب الذي من أجله خسروا أنفسهم أنهم كانوا بآيات الله -تبارك وتعالى- يظلمون، بآياتنا المقروءة المنزلة، بهذه كلمات الله -تبارك وتعالى- المنزلة على عبده ورسوله محمد آيات لأن كل جملة منها شاهدة بأنها من الله -تبارك وتعالى-، وقد تحدى الله -تبارك وتعالى- العالمين أن يأتوا بسورة من مثل سور هذا القرآن، فهي آيات؛ الآية هي العلامة واضحة لأنها من الله -تبارك وتعالى-، ظرفها وكلماتها وكذلك مضمونها فإن كل من فكر في مضمون هذا القرآن علم أنه من الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، يظلمون الظلم وضع الأمر في غير محله، وأول ظلم لهم هو الجحود، بدل أن يضعوا ويكون موقفهم تجاه هذه الآيات هو قبولها والعلم أنها من الله -تبارك وتعالى- والإيمان بها، جعلوا الجحود محل ذلك؛ وضعوا الجحود والتكذيب والرد محل التصديق والإيمان والقبول والعمل بها، فلظلمهم بآيات الله –تبارك وتعالى- كان هذا الأمر، فهذه هي قاعدة الحساب عند الله -تبارك وتعالى-، ولما كان الكافر ليست له حسنة ممكن أن توزن فإنه لا ميزان له، لا ميزان له وذلك أنه قد جاء ولا حسنة له، كما قال -تبارك وتعالى- {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}، ما يقام له وزن على ظاهر هذا أنه لا ميزان له لأنه لا حسنة له، أو لا نقيم له وزنًا من باب لا قيمة له فلا منزلة له عند الله -تبارك وتعالى-.

إذن الآن أمر من الله {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، تذكير بأن القرى التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- لم تعترف بظلمها إلا يوم الهلاك، بعد ذلك بيان الموقف الذي سيكون عليه الحال يوم القيامة، أن الحساب عند الله أنه سؤال للجميع، الجميع سيسأل الذين أرسل إليهم والمرسلون، الوزن عند الله -تبارك وتعالى- بالحق، كل إنسان سيوزن عمله فمن ثقلت موازينه فهذا الذي أفلح، فاز بالمطلوب الأكبر، والذي خسر في هذا الميزان ونقصت حسناته عن سيئاته كان هذا هو مصيره؛ خسر نفسه، وذلك أنه أوردها النار حيث لا موت ولا حياة.

ثم شرع الله –تبارك وتعالى- بعد ذلك بعد هذا الإجمال، شرع الله -تبارك وتعالى- في التفصيل ودعوة عباده -سبحانه وتعالى- إلى دينه، فقال -جل وعلا- {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[الأعراف:10]، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ}، يؤكد الله -تبارك وتعالى- لعباده -سبحانه وتعالى- أنه مكنهم في الأرض، مكنهم في الأرض بأن أحياهم فيها وجعلهم متمكنين فيها، والتمكن هو أن يكون الإنسان في مكنته معتمد على أسباب عظيمة تمكنه من الحياة، وتعينه وتجعله قائمًا مستقرًا، فالتمكين في الأرض أن الله -تبارك وتعالى- جعل هذه الأرض مستقرة، بسطها على هذا النحو، أقام ما أقام فيها مما يعيش عليه الإنسان، بأن سهل أرضها، أجرى أنهارها، أنزل أمطارها، أخرج ثمارها، جعل الإنسان مسلط على خيراتها وعلى سننها، يستطيع أن يبني، أن يسكن، أن يركب فوق بحارها ومحيطاتها، أن يستخرج ما في باطنها، فهي تمكين، يعني مكننا الله -تبارك وتعالى- من الأرض، من استغلال ثرواتها، من استغلال إمكانياتها بما ذخره الله -تبارك وتعالى- فيها، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ}، أنتم المخاطبون هم البشر من بني آدم، ثم قال -جل وعلا- {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}، جعلنا خلقنا؛ صيرنا كذلك، فيها؛ في هذه الأرض، {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}، يعني الأسباب التي تعيشون بها، والإنسان يعيش بالطعام وبالشراب وبالكساء وباللباس وبصنوف ما خلقه الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض، فجعل الله -تبارك وتعالى- للإنسان فيها معايش، أنعاما يعيش بها هذه يشرب لبنها ويأكل لحمها ويفترش جلودها ويلبس صوفها فهذا باب. أيضًا الزراعات وما فيها، الصناعات التي علمها الله -تبارك وتعالى- للإنسان ليصنع من الإبرة الصغيرة إلى الآلة الكبيرة، معايش، يسر الله -تبارك وتعالى- لعباده في هذه الأرض طرق الأسباب التي تجعله يحيا ويعيش في هذه الأرض متمكنًا فيها.

قال -جل وعلا- {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، قليلًا أي شيئا قليلا هو الذي تشكرونه، إما للعباد {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، وإما شكر العبد أيضًا يعني الذي يشكر فشكره قليل لنعم الله -تبارك وتعالى-، يعني غير مكافئ وغير موازي, لا يقابل نعمة الله -تبارك وتعالى- بما يجب عليها من الشكر، الشكر أصله في لغة العرب هو الزيادة، والمقصود من شكر العبد لربه -سبحانه وتعالى- لا أن يزيد على إفضاله بإفضال، وإنما المطلوب من العبد نحو نعمة الله -تبارك وتعالى- أن يقر بنعمة الله -تبارك وتعالى- بقلبه، فيعترف بأن هذه النعمة منه، أن يصرفها حيث أراد خالقها -سبحانه وتعالى- فيصرفها في النحو الذي أراد الرب -تبارك وتعالى- أن يصرفها فيه -سبحانه وتعالى-، الأمر الآخر أن يلهج لسانه بالثناء على الله -تبارك وتعالى- وبشكر الله -جل وعلا- على ما أنعم عليه، وقد تكفل -سبحانه وتعالى- قال {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، فهذا معاني الشكر، الشكر اعتراف قلب، الثناء على الله-–تبارك وتعالى- باللسان واعتراف بهذا، سير في نعم الله -تبارك وتعالى- على النحو الذي يريده -جل وعلا-، فشكركم أيها العباد قليل، أو قليل من العباد من يشكر الله -تبارك وتعالى- على ما أنعم عليه، والكثير يتقلب في هذه النعم وهو جاحد، جاحد لنعم الله-–تبارك وتعالى-، منكر لفضل الله -تباك وتعالى-، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[الأعراف:10].

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}[الأعراف:11]، تذكير أيضًا بنعمة الله -تبارك وتعالى- على عباده منذ أول الخلق، بداية قصة إنعام الله -تبارك وتعالى- على هذا الإنسان، {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ}، أيها الناس، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، والمقصود خلقناكم أصل هذه بني آدم وهو أبوهم -عليه السلام-؛ آدم -عليه السلام-، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، خلقه الله -تبارك وتعالى- من طين هذه الأرض، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، صورهم الله -تبارك وتعالى-، صوره الله -تبارك وتعالى- فإنه قد خلقه الله -تبارك وتعالى-، خلق الله آدم بيديه ثم نفخ -سبحانه وتعالى- فيه من روحه، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، وجعل الله -تبارك وتعالى- الخطاب للجميع والمقصود هنا آدم، وذلك أن هو أصل الخلق فخلقه على هذا النحو وتصويره هو كأنه خلق للبشر جميعًا ولتصويرهم، ثم إن هذا كذلك نفسه يتكرر في كل نفس، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق كل نفس من أولاد آدم، وهو الذي صورها -سبحانه وتعالى-، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ........}[آل عمران:6].

{........ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}[الأعراف:11]، أي بعد أن خلق الله -تبارك وتعالى- آدم وصوره -سبحانه وتعالى- على صورته، قال للملائكة آمرًا لهم {اسْجُدُوا لِآدَمَ}، هذا السجود تكريما لهذا المخلوق لما يعلم الله -تبارك وتعالى- ما يكون منه، وما يكون في ذريته من الأمور العظيمة، النبوة والرسالة والجهاد في سبيل الله والإنفاق والإيمان العظيم، فهو السجود تكريما لما سيكون من هذا الإنسان من المعاني، وكذلك سجود امتثال لأمر الله -تبارك وتعالى- أن يمتثلوا لأمر الله -جل وعلا- بأن يسجدوا لهذا المخلوق، قال -جل وعلا- {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}، يخبر -سبحانه وتعالى- أن الملائكة كلهم سجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين، إبليس رأس الجن وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هؤلاء الجان خلقهم من نار، وهو لا شك أنه من غير جنس الملائكة فإن الملائكة قد خلقوا من نور، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم»، فإبليس الذي كان من الجن ولم يكن من الملائكة لكنه كذلك توجه له الأمر الإلهي وهو في السماء بأن يسجد لآدم مع الساجدين، لكن إبليس لم يذعن لأمر الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}، لم يمتثل أمر الله -تبارك وتعالى- بالسجود لآدم.

فتوجه إليه الأمر الإلهي قال -جل وعلا- {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، {قَالَ}، قال الرب الإله -سبحانه وتعالى- لإبليس، {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ}، ما الذي منعك عن السجود، {إِذْ أَمَرْتُكَ}، حيث أمرتك بالسجود، والواجب أنه ما دام أن توجه إليك الأمر الإلهي أن تستجيب لأمر الله -تبارك وتعالى-، {قَالَ}، أي إبليس، {........ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف:12]، أنا يعني نفسه، {خَيْرٌ مِنْهُ}، أرومة وجرثومة وأصل قاسى الأمر ورأى بعين نفسه أنه أفضل من هذا المسجود له، وهو أدم -عليه السلام-، قال {........ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف:12]، وفي قياسه الباطل هذا أن عنصر خلقه وهو النار، خير من عنصر خلق آدم وهو الطين، وفي زعمه أن الفاضل لا يسجد للمفضول تعظيمًا وتكريمًا له، وهذا يعني من ضلال سعيه ومن طمس بصيرته، ومن خذلان الله -تبارك وتعالى- له فإن هذا القياس أولًا باطل، وأن دافعه لعدم السجود دافع هو الحسد والكبر والتعالي عن أمر الله -تبارك وتعالى-، وهذا كفر بالله -تبارك وتعالى-، والقياس من حيث هو قياس باطل، فإنه القول بأن النار عنصرها أفضل من عنصر الطين قياس باطل، فإن النار حرق وإتلاف ولها منافعها، والطين وإن كان مادة هابطة إلا أن خيره عظيم جدًا، فهو منه الزرع، وهو مادة فيها تواضع وخضوع غير الطيش والإحراق، فعلى كل حال قياس باطل ودافع خبيث، فدافعه عن عدم السجود هو الكبر والتعالي عن أمر الله -تبارك وتعالى- والنشز والحسد، أن يرى هذا المخلوق الذي خلقه الله -تبارك وتعالى-، وأن يكرم هذا التكريم الذي لم يكرم مخلوق مثله فيما أخبرنا الله -تبارك وتعالى-.

فأن يكون مخلوق يخلق من الطين وفي وقت خلقته وقبل أن يمضي عليه زمان في طاعة وفي عبادة وفي رقي والسمو، قبل هذا بمجرد الخلق تجمع الملائكة كلهم ويؤمرون بالسجود له، كما قال -جل وعلا- {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}[الحجر:30]، {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر:31]، كل الملائكة وهذا لم يستثني الله -تبارك وتعالى- من الملائكة أحد، حملة عرشه، المقربون له، جبريل، ميكائيل، إسرافيل، كل الملائكة، ثم فالملك كله لما يسجد لهذا المخلوق وفي بدء حياته بل في أول يوم من حياته هذا أمر عظيم جدًا يأخذ الألباب، وكان هذا دافعًا لإبليس الذي أكل الحسد قلبه على هذا النحو فأبى عن السجود، قال -جل وعلا- عنه {........ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف:12].

قال -جل وعلا- حاكمًا عليه، قال {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}[الأعراف:13]، {فَاهْبِطْ مِنْهَا}، أمر من الله -تبارك وتعالى- له بالخروج، من الملأ الأعلى ومن هذه المنزلة العليا التي كان فيها، والهبوط هو النزول من علوٍ فنزل من عليائه إلى الأمر الدنيء، أو الهبوط إلى هذه الأرض، {فَاهْبِطْ مِنْهَا}، ثم قال -جل وعلا- مبينًا يعني حكمه لما حكم عليه بذلك، قال {........ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}[الأعراف:13]، {فَمَا يَكُونُ لَكَ}، يعني لا ينبغي ولا يصح لك، {أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}، تتكبر في هذه المكانة العالية، في جنة الله -تبارك وتعالى-، في العلو عن الرب -تبارك وتعالى-، {فَاخْرُجْ}، أمر ثاني بالخروج، {إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}، والصغار الذي هو الوضاعة الدناءة، فوضعه الله -تبارك وتعالى- في محل الذل والقهر، وقد كتب عليه الصغار قال {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}، عكس ما وضع إبليس فيه نفسه، أن يكون من العاليين ومن المتكبرين.

نقف -إن شاء الله- عند هذا، ونكمل في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله على عبده ورسوله محمد.