الخميس 09 ذو القعدة 1445 . 16 مايو 2024

الحلقة (195) - سورة الأعراف 13-21

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فإن خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ }[الأعراف:10-18].

يذكر الله -تبارك وتعالى- عباده بأنه هو -سبحانه وتعالى- الذي خلقهم في هذه الأرض ومكنهم من العيش فيها، فإن هذه الأرض هذا الكوكب الصغير في جملة هذا المُلك الكبير من الله -تبارك وتعالى-، قد هيأه الله لسكنى هذا الإنسان بكل أنواع التهيئة من السنن الكبرى التي يدركها البشر وما لا يدركه البشر -سبحانه وتعالى-، فوضعها في هذا المكان وجعل الشمس سراجًا ونورًا لها لو اقتربت منه احترقت لو ابتعدت عن الشمس تجمدت، ثم أن الله -تبارك وتعالى- نظم حركتها ودورانها وذخر هذه الأرض بما ذخرها به من البحار والأنهار والأقوات والأرزاق، بسط هذه الأرض وأرساها -سبحانه وتعالى- بالجبال، ثم إن الله -تبارك وتعالى- خلق للبشر فيها ما خلق من هذه المعايش، من الصناعات والزراعات وطرق الحياة ونظم الإذخار ونظم الاجتماع كل هذا إنما هو من فعل الرب -تبارك وتعالى- وتيسيره، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ}، لتسكنوها وتعمروها، {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}، تجارات وزراعات وصناعات وأبنية، ثم قال -جل وعلا- {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}.

ثم بدأ الله -تبارك وتعالى- يذكر هذا الإنسان ببدايته منذ بدأ، قال {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}[الأعراف:11]، خلقناكم ثم صورناكم كل نفس، كل نفس فإن الله -تبارك وتعالى- هو خالقها وهو مصورها -سبحانه وتعالى-، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ........}[آل عمران:6]، { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ }[الانفطار:6-8]، لا خالق إلا هو -سبحانه وتعالى- الله خالق كل شيء، {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ}، كل نفس خلقها الله -تبارك وتعالى-، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، تصوير الله -تبارك وتعالى- منه -سبحانه-، وكذلك ولقد خلقناكم في بداية الخلق الأب الذي هو البذرة الأولى لهذا الإنسان، والذي منه خلق الله -تبارك وتعالى- زوجه آدم ثم أنسل ما أنسل -سبحانه وتعالى- منه، منذ أن أهبطه الله -تبارك وتعالى- إلى الأرض وإلى يومنا هذا، فإذا خاطبنا الله قال {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، قد يراد بالخطاب آدم -عليه السلام- الذي هو بذرة الخلق وأوله، فقد خلقنا الله -تبارك وتعالى- من هذه النفس الواحدة، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، يذكرنا الله بهذا؛ بداية خلقنا، فيقول {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- خلق آدم من طين هذه الأرض وصوره بيديه -سبحانه وتعالى-، {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قال للملائكة {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[ص:71-74].

 قال -جل وعلا- {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}، وكان هذا الأمر بالسجود بمجرد أن يصبح بشرًا سويًا بعد نفخ الروح فيه، قال -جل وعلا- {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}، وقد بيَّن -سبحانه وتعالى- أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة الذين هم من نور، وإنما كان من الجن كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}[الكهف:50]، {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}. ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- السبب في عدم سجود لآدم امتثالا لأمر الله -تبارك وتعالى-، فيما وجهه له الله -تبارك وتعالى- من هذا السؤال لإخراج مكنون صدره وما في نفسه، {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، وهذا توجيه صريح، سؤال صريح من الرب -تبارك وتعالى- ليس للاستفهام ولكن ليقر عما في نفسه مما منعه من السجود، ما منعك يعني ما الذي منعك أن تسجد لآدم إذ أمرتك وقد توجه لك أمر إلهي بهذا، قال أي إبليس المخذول الملعون، {........ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف:12]، وفي هذا رد على الرب -سبحانه وتعالى-، وبيان أن أمره لم يكن بمقتضى الحكمة إذ ظن نفسه؛ ظن هذا اللعين نفسه أن عنصره أفضل من عنصر آدم وبالتالي لا ينبغي للفاضل أن يسجد للمفضول، فإن السجود يكون للتعظيم يقول كيف أعظم من هو أقل مني في الخلق وفي الدرجة، وكأن هذا اعتراض على أمر الله -تبارك وتعالى- له بالسجود، وعلو وتعالي وكبر على أمر الله -عز وجل- ولم يمنعه من ذلك إلا الحسد، وإلا خذلانه أن يستجيب لأمر الله -تبارك وتعالى-، ولا شك أنه مخطئ كذلك إبليس في هذا القياس الفاسد فليس صحيحًا أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين، بل الطين أكثر منافع وأكثر تواضع والنار مضارها قد تكون أكثر من منافعها، على كل لا شك أنه قد جاوز الحد وتعالى عن أمر الله -تبارك وتعالى- في عدم سجوده وأخطأ في قياسه، وكان دافعه الحسد لهذا المخلوق الذي كرمه الله -تبارك وتعالى- هذا التكريم دون سابق خدمة، فإن آدم عندما سجد له الملائكة لم يكن بعد له قدم في عبادة الرب -تبارك وتعالى- ولا عمر في القيام بأمر الله -تبارك وتعالى-، وإنما كان هذا المخلوق في أول يوم من خلقه، {........ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف:12].

قال -جل وعلا- {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ........}[الأعراف:13]، وهنا ما يكون لك بهذا نفي مطلق هنا عن أنه ليس له أن يتكبر فيها، لأنه في هذا المقام في الملأ الأعلى لا ينبغي ولا يجوز أن يكون هناك من يتكبر وأن يتعالى عن أمر الله -تبارك وتعالى- مهما كان، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الرب الإله الكبير العظيم، الذي لا ينبغي ولا يجوز أن يعصى أمره -سبحانه وتعالى-، قال فأخرج منها إما من رحمته -سبحانه وتعالى- أو من هذا المكان الذي كرمه الله -تبارك وتعالى- في الملأ الأعلى، فقد كان في الملأ الأعلى، أو من الجنة التي خلق الله -تبارك وتعالى- فيها آدم، وشاء الله -تبارك وتعالى- أن يسكنه إياها، ثم يقول له {........ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}[الأعراف:13]، الصغار الذل والهوان يعني من الأذلاء أهل الهوان.

قال إبليس واستمرارا في الخذلان، {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الأعراف:14]، الإنظار الإمهال، طلب من الله -تبارك وتعالى- أن يمهله فلا يحكم عليه بالموت إلى يوم يبعثون، إلى اليوم الذي يبعث فيه الناس من قبورهم للقيام إلى حكم رب العالمين -سبحانه وتعالى-، قال له الله -تبارك وتعالى- {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ}[الأعراف:15]، فأعطاه الله -تبارك وتعالى- سؤله هذا، {........ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ}[الأعراف:15]، أنه أمهله الله -تبارك وتعالى- ألا يحكم عليه بموت قبل يوم القيامة، ويوم القيامة هنا النفخ في الصور النفخة الأولى، قال هذا اللعين {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف:16]، قال فبما أغويتني يعني بسبب إغوائك إياي نسب غوايته وضلاله عن أمر الله -تبارك وتعالى- إلى الرب، كأنه احتج بالقدر على ربه -سبحانه وتعالى- بأمر الله الكوني القدري، فقال {........ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف:16]، يعني وقد اتخذت طريق الغواية وأصبحت لازمة لي فسأسير في هذا الطريق إلى نهايته، {........ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف:16]، والقعود هنا للتربص والانتظار والحيلولة للصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، {........ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف:16]، يعني أقعدن لهم في هذا الصراط، وأقعدن لهم صراطك المستقيم يعني ألتزمه وأكون فيه دائمًا معترضًا طريق من يسلك إليك، وصراطك المستقيم دين الله -تبارك وتعالى-، دين الله وشرعته التي ارتضاها لخلقه -سبحانه وتعالى-.

{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف:17]، {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ}، يعني آدم وذريته، {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، من أمامهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}، من الجهات الأربع، وهذا يعني أن يأتيهم ويدخل عليهم بكل سبيل وكل طريق وكل باب يمكن أن يدخل على الإنسان منه، للإغواء ولصرفه عن صراط الله -تبارك وتعالى- فإنه سيفعله، فهو سيأتيه من جهات الأربعة، {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، أي لن تجد أكثر هؤلاء الخلق الذين خلقتهم وكرمتهم هذا التكريم شاكرين لنعمتك، بل كافرين جاحدين، وفي الآية الأخرى قال الله -تبارك وتعالى- عنها {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62]، {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ}، لئن أمهلتني فلم تحكم علي بالموت إلى يوم القيامة، {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}، والإحتناك هو إلباس الحنكة، والحنكة هي الربقة التي تكون في العنق ويسحب منها الحيوان، يعني ألبسهم جميعًا الربقة أو الخدمة وأسحبهم إلى جهنم، قال {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف:17].

فكان الرب الإلهي -سبحانه وتعالى- لإبليس {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}، تأكيد لإخراجه وإبعاده، هذا الأمر الثالث هنا في هذا السياق، الأول {فَاهْبِطْ مِنْهَا}، {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}، {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}، المذؤوم هو الذي بلغ به الغيظ مبلغه، يعني مغيظًا مهينًا، {مَدْحُورًا}، والمدحور هو المهزوم الذي أبعد عن مقامه وعن مكانه، {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}، مبعدًا مطرودًا، ثم قال -جل وعلا- {........ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف:18]، وهنا توجه الأمر الإلهي والحكم الإلهي، {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ}، باللام المؤكدة، من تبعك منهم في طريقك؛ طريق غوايتك، ومن اجتلته عن طريق الصراط المستقيم؛ طريق الله إلى طريقك، {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}، {لَأَمْلأَنَّ}، باللام الموطئة للقسم، {جَهَنَّمَ}، هذا السجن العظيم الذي أعده الله -تبارك وتعالى- لأعدائه من الشياطين؛ شياطين الجن والإنس، ومن هؤلاء ممن يتبعونهم، {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}، {مِنْكُمْ}، هذا للبيان من هذا الجنس الناكس الخارج عن أمر الله -تبارك وتعالى-، مضى حكم الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو، وهذا الحكم لا يبدل ولا يغير، لا يبدل ولا يغير فلا يتبدل قول الله -تبارك وتعالى-، وهذا قد ذكر الله -تبارك وتعالى- به، وقال {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس:96]، {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ}، {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ........}[يونس:96]، بالضلال والعذاب ممن؟ من إبليس وأتباعه، {لا يُؤْمِنُونَ}، {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[يونس:97]، هذا حكم الله -تبارك وتعالى- قال {........ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف:18].

ثم وجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب إلى آدم، آدم مخلوق؛ المخلوق هذا المكرم، المخلوق من طين هذه الأرض بيدي الرب -تبارك وتعالى-، الذي أسجد له كل هؤلاء الملائكة تكريمًا له في أول يوم من حياته هذا التكريم العظيم، ثم حدث هذا الأمر من إبليس، هنا يوجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب إليه، وفي أول يوم من حياة أبو البشر -عليه السلام-، قال الله -تبارك وتعالى- له {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأعراف:19]، يا آدم نداء من الله -تبارك وتعالى- إلى أبي البشر -عليه السلام-، آدم قيل أنه سمي آدم من الأدمة، والأدمة من السمرة وذلك أنه من طين الأرض، وطين الأرض أسمر فكأن لونه قريب لطين هذه الأرض، {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، اسكن للإباحة، أمره الله -تبارك وتعالى- إباحة هنا، أباح له أن يسكن هو، والسكون هو الراحة والدعة، والمكان الذي يعيش الإنسان فيه مكان لراحته، {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ}، هنا قال الله -تبارك وتعالى- ما قال (اسكنا) ولا (اسكن وزوجك) قال { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، فأعاد الضمير هنا في اسكن وأنت بتأكيد للضمير المستتر في اسكن ليكون الأمر له، بداية هذا ليدل على أن الأمر له وأن زوجته تابعة له، قال {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ }، وزجك هذه بعده فهي تابعة له وذلك أنها قد خلقت له، خلقها الله -تبارك وتعالى-؛ خلق حواء، من ضلعه وخلقها له، فهو أصل الخلق، فأصل الخلق آدم، وليس أصل الخلق المرأة كما يقولون، بل أصل الخلق هو آدم -عليه السلام-، خلق الله -تبارك وتعالى- المرأة منه، ووهبه إياها وأعطاها له فهي تابعة له، قاله اسكن أنت ثم قال وزوجك الجنة، الزوج هو الفرد الذي له نظير وشبيه من مثله، فآدم زوج وحواء زوج وهما زوجان، زوجك حواء، وقد جاء أن الله -تبارك وتعالى- خلقها من ضلع من أضلاعه عندما أنامه، فأخذ الله -تبارك وتعالى- ضلع من أضلاعه فخلق منه حواء، ثم قام آدم من نومه فوجدها بجواره وزوجه الله -تبارك وتعالى- إياها، {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، الجنة بستان، الجنة في اللغة هي البستان، وتسمى جنة لأنها تجن من يدخلها، ومعنى أنها تجنه تستره، يعني الجنة إذا كانت أشجارها متقاربة وأغصانها ملتفة ودخل الإنسان فيها فإنها تستره، فالجنة البستان العظيم، وهذا البستان العظيم خلقه الله -تبارك وتعالى- لآدم ولذريته، بستان الرب -سبحانه وتعالى-، لا يعرف سعته على الحقيقة إلا الله، ولما أراد الله -تبارك وتعالى- أن يقرب لنا سعته قال {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ}، وقال {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، فهي كل سعة هذه السماوات التي نعرفها تحت عرش الرحمن -سبحانه وتعالى-، بداية من عرش الرحمن إلى ما يعلمه الله -تبارك وتعالى-، والجنة مئة درجة في العلو، ما بين الدرجة والدرجة ما بين السماء والأرض، فهي أمر عظيم جدًا عرضًا وارتفاعا في السماء، اسكنه الله -تبارك وتعالى- هذه الجنة، قال {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}.

{فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا}، إباحة منه -سبحانه وتعالى- وإكراما منه لعبده آدم، قال {فَكُلا}، يعني أنت وزوجك، {مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا}، من الأكل فهي مذخورة مملوءة، ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، وأشار الله -تبارك وتعالى- لهم بهذه للإشارة للقريب ليحذرهم من شجرة بعينها، اختبارا منه -سبحانه وتعالى- وابتلاءً منه في هذا المكان، قال {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}، وهذه قريب، {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، وذلك أن الظلم هنا مخالفة لأمر الله -تبارك وتعالى-، الأمر الإلهي لا يخالف، فمن وضع المخالفة في مكان الطاعة فهو ظالم، فالأساس عندما يتوجه الأمر الإلهي أن تكون الطاعة، فإذا وضع الإنسان المعصية مكان الطاعة فهو ظالم، والظلم وضع الشيء في غير محله، ثم هو ظالم لنفسه لأنه ظلم نفسه بتعريضها لعقوبة الرب -تبارك وتعالى-، قال {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}.

وهنا تبدأ بداية الحرب وإظهار العداوة بعد طرد إبليس تبدأ حربه لآدم -عليه السلام-، قال -جل وعلا- {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}، الوسوسة هي نوع من الإعلام الخفي وهذا يكون في القلب، وقد يكون أنه تمثل لهم بصورة الناصح الأمين، وكلمهم بكلام دون  المناجاة، فالوسوسة حديث دون المناجاة، وقد سمى الله -تبارك وتعالى- الشيطان الوسواس الخناس، الوسواس كثير الوسوسة، قال –جل وعلا- {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا}، يعني أراد الشيطان بهذه الوسوسة أن يبدي لهما؛ يظهر لهما، {مَا وُورِيَ عَنْهُمَا}، وري بالبناء لما لم يسمى فاعله أي ستر، ستر الله -تبارك وتعالى- عنهما سوءاتهما يعني عوراتهما، السوءة هي العورة وسميت العورة سوءة لأن كشفها يسوء الإنسان، والإنسان يكره أن تظهر عورته أمام الأخرين، فأراد الشيطان أن يظهر لهما هذه العورات التي كان الله -تبارك وتعالى- قد سترهما، ستر عوراتهما عنهما تكريمًا لهما أن عورة آدم وذريته مستورة عن أنفسهما وكل عن الأخر كذلك، فأراد الشيطان بداية إظهار هذه العورات لما يعلم أن ظهور هذه العورات هو أكبر أبواب الفساد والانحراف عن طريق الرب -تبارك وتعالى-، قال {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا}، يعني ما ستر الله -تبارك وتعالى- عنهما من سوءاتهما.

{وَقَالَ}، يعني في وسوسته لهما {........ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف:20]، {مَا نَهَاكُمَا}، نفي، {نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا}، النهي معروف وهو الإبعاد والتحذير، {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا}، ثم قال هنا ربكما ما قال ربي ولا قال الله -تبارك وتعالى- هنا للطعن في قول الله -تبارك وتعالى- لهما، قال {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ}، يعني أن تأكلا منها، {إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ}، يعني خشية أن تكونا ملكين، إن أكلتما من هذه الشجرة كنتم كالملائكة التي تعمر فلا تموت؛ تخلد، ولها من القدرات ومن هذا ما ليس للبشر، {أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}، الخالدين يعني الذين يحيون حياة لا يموتون فيها، فالخلود هو المكث الدائم أو في لغة العرب الخلود هو طول المكث، فهنا أن يكونا من الخالدين يعني لا يصيبكما موت إن أكلتم من هذه الشجرة.

قال -جل وعلا- {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف:21]، قاسمهما؛ حلف لهما، من القسم، والقسم هو الحلف، يعني أقسم لهما بالله طبعًا -سبحانه وتعالى-.... انتهت الحلقة