الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
كنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ }[الأعراف:21-25].
مضى من قول الله -تبارك وتعالى- أن إبليس الذي طرد من رحمة الله -تبارك وتعالى- ومن الملأ الأعلى بسبب معصيته، أنه حقد على آدم وأخذ على نفسه أن يضله بكل سبيل، وبدأ هذه المعركة بأن وسوس لآدم ولزوجه ليحملهما على أن يأكلا من الشجرة التي نهاهم الله -تبارك وتعالى- أن يأكلا منها؛ من شجر الجنة، قال -جل وعلا- {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}، وكان هدفه من ذلك أن تظهر عورات آدم وحواء، وكان الله -تبارك وتعالى- قد ستر عنهما هذه العورات تكريمًا لهما بعد أن خلقهما -سبحانه وتعالى-، قال –جل وعلا- {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف:20]، قال هذا الكذب وهو يعلمه، وأيضًا أردفه بالقسم، قال الله -عز وجل- {وَقَاسَمَهُمَا}، حلف لهما، {........ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف:21]، أي المخلصين كل الإخلاص في نصحي وفي دلالتي لكم على الخير ومحبتي لكم إياه، وهو كاذب في كل ما قال.
قال -جل وعلا- {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}، دلاهما أهبطهما إلى هذه المعصية واستزلهما وأنزلهما من عز الطاعة إلى ذل المعصية، بغرور بتغرير، والتغرير هو بأن يظن الإنسان أن ما ليس خيرًا خيرا، فظنوا أن هذه الشجرة التي الأكل منها هو موجب للعقوبة وللطرد من جنة الله -تبارك وتعالى- والإخراج من جنة الله -سبحانه وتعالى-، وحصول المعصية وحصول ما يترتب عليها، ظنا أن الأكل منها كما قال لهما إبليس أنه موجب للخلود ولأن يكونا كالملائكة، قال -جل وعلا- فدلاهما أي إلى المعصية بغرور، {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}، بمجرد أن ذاقا يعني قبل أن يتم الأكل بدت لهما سوءاتهما، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}، ظهرت لهما السوءات وهي العورات التي كان الله -تبارك وتعالى- قد سترها وسترهما عنهما، فاستحيا كل منهما من ظهور عورته {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}، الخصف هو الخياطة، خياطة الورق وجمع الأوراق بعضها إلى بعض، فذهبا إلى أوراق الجنة لينسجاه وليخيط هذه الورقة بغيرها من أوراق الجنة؛ من أوراق شجر الجنة، ليصنع كل منهما لنفسه مئزرا يستتر به ويستر به عورته، وطفق بمعنى أنه شرع، شرع كل منهم على طول مباشرة عندما ظهرت العورات بأن يلتقط أوراق الجنة، وأن يجمع بعضها لينسج له وليخصف له من هذه الأوراق مآزر، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}، وفي هذه الوقت وهذه اللحظة ناداهما ربهما -سبحانه وتعالى-، قال {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا}، وهنا قال الله -تبارك وتعالى- وناداهما ربهما ولم يقل الله -سبحانه وتعالى-، ما يدل على عنايته أنه ربهما -سبحانه وتعالى- يعني المربي والخالق والرحيم لهما -سبحانه وتعالى-، {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}، تذكير، بدأ الرب -تبارك وتعالى- يذكرهما بأمره، {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}، والله -تبارك وتعالى- يوجه لهما هذا السؤال ليقررهما بأن هذا قد كان، فيعترفا بذنبهما ويكون بهذا فتح لهما الباب للاعتذار من الرب -تبارك وتعالى-، وهذا من رحمته -جل وعلا-، {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}، وهنا تلكما بالإشارة للبعيد يعني إبعادًا لها، وأنهما عندما حصل لهم ما حصل ابتعدوا عن هذه الشجرة وهربوا من عندها، تلكما الشجرة لم يقل هذه الشجرة وذلك أن الأمر إما أنها إبعاد لها، وإما أنهم قد ابتعدوا عنها وهربوا منها بعيدًا، {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}، فبسببه قد عصيتم أمري وخرجتم عن طاعة الرب -تبارك وتعالى- وهذا من عداوته، {عَدُوٌّ مُبِينٌ}، ظاهر العداوة.
وكان هذا السؤال الذي هو للتقرير توطئة من الرب -تبارك وتعالى- وتوجيه له برحمته -سبحانه وتعالى- أن يدخلا في الاعتذار وفي الاستغفار، {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}، قالا آدم وزوجه حواء، ربنا يعني يا ربنا ظلمنا أنفسنا، وذلك المعصية ظلم للنفس، هذه المعصية ظلم للنفس لأنه يعني أخذ للنفس إلى محل العقوبة وتحميلها أثر المعصية، فهنا الإنسان الذي يعصى يظلم نفسه، قال {ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}، وطبعًا العاصي لا يظلم ربه -تبارك وتعالى- الله فوق الظلم، ما أحد يظلم الله -تبارك وتعالى- فظلم العاصي إنما على نفسه، قال {........ ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23]، إن لم تغفر لنا, علقا نجاتهما من هذا الأمر على أن تدركهما رحمة الله -تبارك وتعالى-، {إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا}، والمغفرة أن تستر لنا هذا العيب وأن تمحوه عنا وترحمنا بأن تتجاوز عن -سبحانك- سيئاتنا، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، لام التأكيد ونون التوكيد لنكونن من الخاسرين وذلك أن كل من عصى الرب -تبارك وتعالى- فإنه في محل الخسار، إلا أن تتداركه رحمة الله -تبارك وتعالى-، وهذا اعتذار عظيم هدى الله -تبارك وتعالى- له آدم وحواء، أن يعتذرا بهذا الاعتذار العظيم لله -تبارك وتعالى-، أن يقولوا نعم هذا الذي وقع منا هذا اعتراف يعترفون بالذنب قد ظلمنا أنفسنا والأمر بيدك سبحانك، {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن هذه الكلمات التي وفق لها آدم وزوجه إنما كانت من توفيق الله -تبارك وتعالى- وعنايته بهم، كما قال -جل وعلا- عن هذه المعصية؛ معصية آدم، قال -جل وعلا- {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:37]، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}، هذه هي الكلمات وهي قوله {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23].
قال -جل وعلا- بعد أن اعتذرا بهذا الاعتذار للرب -تبارك وتعالى- وأرادا الخروج من أثر هذه المعصية، قال -جل وعلا- {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[الأعراف:24]، قال الرب -تبارك وتعالى- لهم اهبطوا الجميع؛ آدم وزوجه، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ}، أي إبليس وذريته وآدم وذريته بعضكم لبعض عدو، كل منكم يعادي الأخر، {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}، مكان قرار، {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، متاع في هذه الحياة تمتعون بحياتكم بما خلق الله -تبارك وتعالى- فيها من متاع، من الطعام والشراب والسكن والزوجات وما ذخره الله -تبارك وتعالى- فيها من أنواع المعايش والمتع لأهلها، {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، إلى وقت محدد، وهو أن جعل الله -تبارك وتعالى- لكل إنسان عمرًا محددًا في هذه الحياة ينتهي، كما قال -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا}، للكل، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى}، أجل لكل نفس، {........ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}[الأنعام:2].
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[الأعراف:24]، قال الرب –تبارك وتعالى- {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ}، حياتكم إنما هي في الأرض، {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ}، حكم الله -تبارك وتعالى- عليهم بالموت في الأرض، {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}، ومن هذه الأرض تخرجون وذلك يوم القيامة للحساب، وبهذا يتم قضاء الرب ومراده -سبحانه وتعالى- أن يجعل الأرض فترة زمنية لحياة الإنسان، يحيا فيها، يموت فيها، يخرج منها، وبعد الخروج يكون الحساب، ثم بعد الحساب يكون الخلود النهائي الذي لا نهاية له، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}.
بعد هذا الحكم وخروج آدم وحواء من الجنة وإهباطهم إلى الأرض بأمر الله -تبارك وتعالى-، وإخراج إبليس قبل ذلك، أصبحت الأرض هي مكان المعركة بين إبليس وأعوانه وقد أعطاه الله -تبارك وتعالى- ما طلب، كما قال -جل وعلا- له لما قال إبليس { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا }[الإسراء:62-65]، فهنا أعطى الله -تبارك وتعالى- الشيطان سؤله في الخلود، وأمده بآلاته التي طلب في الإغواء، وحذر الله -تبارك وتعالى- آدم وأنزله إلى هذه الأرض، وأخبره أه هذا عدو سيبقى عدو له ولذريته، وأن المعركة ستكون في هذه الأرض، وأنه {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}[الأعراف:25].
بعد هذا وجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب إلى أولاد آدم، الذين هنا أخبرهم الله -تبارك وتعالى- بقصة أبيهم، يوم خلقه الله -تبارك وتعالى- وأين خلقه وأين اسكنه وما هي موطنه الأصلي، موطنه الأصلي الجنة، ولماذا نزل إلى هذه الأرض ومن أنزله ومن السبب في نزوله، فقال -جل وعلا- {يَا بَنِي آدَمَ}، هذا الخطاب الإلهي ينادي الله -تبارك وتعالى- فيه أولاد آدم جميعًا، بني أولاد، {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف:26]، فهذا أول نعم الله -تبارك وتعالى- على أولاد آدم الذي عرته المعصية، يوم عصى وأكل من الشجرة تعرى وظهرت سوءته، فأول نعمة من نعم الله -تبارك وتعالى- أن خلق الله لهذا الإنسان وأن هداه إلى أن يستر هذه العورات، قال {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}، أنزل الله -تبارك وتعالى- عليهم لباسا يواري سوءاتهم، مما خلق الله -تبارك وتعالى- لهذا الإنسان من أنواع هذ الستر، من الجلود ومن ما ينسجه من الصوف ومن الوبر ومن الشعر وما يخترعه بعد ذلك من أنواع الألبسة، {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}، سوءاتكم عوراتكم، سميت العورات سوءات لأن كشفها يسوء، {وَرِيشًا}، الريش يطلق على ما ينبت على جسم الطير ويستره، أو كذلك يطلق على كل الأثاث الذي يتخذه الإنسان تسمى الريش، وذلك أنه بالنسبة للإنسان كأنه يغطيه ويستره من فراشه ومن بساطه ومن ستائره ونحو ذلك كل هذه من الريش، إما وريشًا كذلك حتى من ريش الطير ما يغطي به الإنسان ويستر به، ينسجه أو يدخله في الملابس ويغطي به أو رياشة.
ثم قال -جل وعلا- {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، {وَلِبَاسُ التَّقْوَى}، هذا اللباس الظاهري، فاللباس الظاهري يتخذه الإنسان من الصوف والوبر والشعر وغير ذلك والكتان، مما أنزل الله -تبارك وتعالى- هذا من السماء وجعله في هذه الأرض، زراعات إما أنزل بذورها وإما أنزل الأمر بها -سبحانه وتعالى- الكوني القدري، وخلقا للإنسان في هذه الأرض، وكذلك ريش الطير الذي يكتسي به الإنسان وهو الآن من أغلى وأعظم أنواع الألبسة، ما يؤخذ من الطيور الصغيرة وخاصة الطيور التي تعيش في المناطق الباردة، فإن ريشها إذا وضع في الألبسة وفي الأغطية هو من أنفس ومن أغلى أنواع الألبسة والأغطية، فالله يذكر الإنسان هذا اللباس الظاهري، أو الستر الظاهري أو المادي، ثم قال -جل وعلا- {وَلِبَاسُ التَّقْوَى}، جعل الله -تبارك وتعالى- التقوى وهي مخافة الرب -تبارك وتعالى- ونيابة له لباس وذلك أنها أعظم ستر للعيوب وللسوئات، أن يكون العبد متقيًا لربه -تبارك وتعالى-، فإنه إذا اتقى الله -تبارك وتعالى- فإن الله يستر عوراته كلها، قال -جل وعلا- {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}، ذلك خير؛ ذلك أخير، لباس التقوى أعظم من الألبسة الظاهرية، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، ألا من يوقظ صاحب الحجرات»، فإن الذي يكسى وتستر عوراته في الدنيا والآخرة هو الذي يكون قد لبس هذا اللباس؛ اللباس المعنوي، لباس تقوى الله -تبارك وتعالى- ومخافة الله، {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}، قال -جل وعلا- {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}، ذلك الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- للإنسان ليستر به عوراته في هذه الدنيا، وما هداه له من الطريق من آيات الله، قال -جل وعلا- {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، فإن الله -تبارك وتعالى- قد اسكن كثيرًا من الحيوانات في هذه الأرض، ولكن عامة هذه الحيوانات لم يخلق لها الله -تبارك وتعالى- ما تستر به عوراتها، وأما هذا الإنسان فإن الله -تبارك وتعالى- قد كرمه وخلق له هذا الستر، فاللباس والتجمل بها من نعم الله -تبارك وتعالى- على هذا الإنسان، كما قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:70]، فأول أمر يذكر الله -تبارك وتعالى- به بني آدم عندما يخاطبهم هذا الخطاب الأول، أن يذكرهم بأن الله -تبارك وتعالى- قد خلق لهم من هذه الأمور المادية ما يستر عوراتهم، وكذلك أرشدهم -سبحانه وتعالى- إلى الطريق الذي تستر به العورات على الحقيقة وهي تقوى الله -تبارك وتعالى-، {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف:26].
{يَا بَنِي آدَمَ}، الخطاب الثاني والنداء الثاني من الرب -سبحانه وتعالى- إلى أولاد آدم، {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}، تحذير من الرب -تبارك وتعالى- وهي منهم، قال {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}، وفتنته؛ الفتنة هي الاختبار، فإذا كانت نتيجة هذا الاختبار سيئة يكون فتن الإنسان، {لا يَفْتِنَنَّكُمُ}، يعني أنه يختبركم هذا الاختبار، يضعكم في هذا الابتلاء ثم يكون النتيجة سيئة، وذلك بطاعة هذا الشيطان وإبعادكم عن طريق الرب -جل وعلا-، {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}، تذكير من الله -تبارك وتعالى- بأن الشيطان كان السبب في إخراج أبويكم؛ آدم وحواء من الجنة، وذلك ثم أن هذا بيان قدرة عظيمة، أن هذا الشيطان له قدرة عظيمة فقد استطاع أن يغوي أبويكم؛ أباكم وأمكم، {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}، النزع هو الكشف بشدة، فجذب بشدة أنه نزع عنهما؛ عن آدم وحواء، لباسهما الذي كانا يلبسانه، مما ستر الله -تبارك وتعالى- به عوراتهما يوم خلقهما، قال -جل وعلا- {لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}، أراد أن يري كلا منهما سوءة الأخر وكذلك سوءة نفسه، {لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}، وهذا أعظم أحابيل الشيطان، فإن الشيطان إذا كشف العورات من الذكور والإناث يبقى أدخل بني آدم في أعظم فتنة من الفتن، {لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}، ثم قال -جل وعلا- {........ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:27]، أيضًا إنه يراكم هو؛ الشيطان، اللي هو رأسهم إبليس {وَقَبِيلُهُ}، قبيله جماعته، يعني قبيلته وجماعته وجنسه، {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}، وهذا تحذير أخر من كشف العورات في أن الشيطان هو هذا الخبيث العدو يراكم كذلك، فإذا كشفتم العورات على هذا النحو فإن يكون قد كشف ليس أمام البشر منكم فقط بل أمام هذا الخبيث وأمام قبيله، {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}.
وكذلك قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}، تحذير أخر منه أن هذا عدو له مكنة وله قدرة عليكم وذلك أنه يعني يحاربكم من حيث لا ترونه، والإنسان إذا كان عدوه لا يراه ولا يعرف متى يهجم عليه ومتى يوسوس له ومتى يأتيه فيكون الإنسان أكثر ضعفًا أمامه، الإنسان يكون أكثر ضعفا أمام العدو الذي لا يراه، أما لو كان العدو يراه فإنه يكون أكثر قوة من ذلك، قال -جل وعلا- {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}، {إِنَّا}، الرب -جل وعلا-، {جَعَلْنَا}، الجعل هنا بمعنى التصيير، {الشَّيَاطِينَ}، جمع شيطان وهو هذا المتمرد من الجن الكافر، الذي أخذ على نفسه إغواء بني آدم، {أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}، أولياء أحباب وأنصار، بينهم ولاية؛ نصرة، طبعًا الشيطان هو يبغض الإنسان ولكنه يظهر له محبته والنصح له، والإنسان بغفلته وبعماه يتخذ الشيطان ولي، بأنه يطيعه ويسير خلفه، كما يقولون يوم القيامة {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ}، {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}، فالذين لا يؤمنون سلط الله -تبارك وتعالى- عليهم الشياطين، وهذا عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى- بسبب عدم إيمانهم بالله، فإن الله -تبارك وتعالى- يسلط عليهم الشياطين، كما قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36]، وقال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم:83]، وقال {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:63]، فالله جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.
ثم قال -جل وعلا- مبينًا ظلمة قلوب هؤلاء وانصرافهم عن الحق، قال -جل وعلا- {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:28]، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}، هؤلاء الضلال من بني آدم، والفاحشة هي الذنب القبيح البالغ مبلغه في القبح، لأن الفحش هو الغلظ والقبح، وغالبًا إذا أطلقت الفاحشة فتكون على الزنا وتوابعه خالصة، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}، يعني ذنبًا عظيمًا قبيحًا بالغًا مبلغه في القبح، {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}، استدلوا على بقائهم على هذا الأمر بأنهم وجدوا آبائهم يصنعون كذلك، وهذا استدلال يدل على عقل متردي وفهم سقيم، فإن ما درج عليه الآباء لا يكون بالضرورة أمرًا حسنًا، فقد يكون هؤلاء الآباء ضلال، فساق، فجار، فهل إذا كان الآباء على غير دين وعلى غير ملة وعلى غير سنة يتخذ ما كانوا عليه دين وطريقة ومنهج، {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}، ثم جاوزا الحد فقالوا {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}، إما والله أمرنا بها أمر كوني قدري، بمعنى أن هذا هو مشيئته فينا وقدره فينا وخلقنا هكذا، أو الله أمرنا بها يكون كذب، أي أن هذا من الكذب والتقول على الله -تبارك وتعالى- ما لم يقله الله -تبارك وتعالى-.
قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}، لم يأمر الله -تبارك وتعالى- قط بالفحشاء، الله لا يأمر بالفحشاء ولا يفعل ذلك، فإن الله منزه -سبحانه وتعالى- أن يأمر عباده أن يفعلوا أمرًا فاحشًا تعالى عن ذلك، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]، فكذبهم على الله -تبارك وتعالى- وأنه أمرهم بالفواحش التي يفعلونها تقول كبير على الله -تبارك وتعالى-، كما يقولوه من يقولوه الآن ممن يسمون بالمثليين وغيرهم إننا خلقنا هكذا، يعني الخالق الذي خلقنا؛ خلقنا هكذا، تقول المرأة أنا لا أحب الرجال ويقول الرجل أنا لا أحب النساء، ولا أميل إليهن، فجعلوا أن الخالق هو خلقهم على هذه الصورة الشاذة التي ذهبوا إليها، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، سؤال للتقريع والتوبيخ، {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، هذا أمر كبير جدًا، أن يتقول إنسان على الله -تبارك وتعالى- ما لا يعلمه، لأن افتراء الكذب على الله هذا من أعظم الذنوب، ومن أعظم إثمًا وظلمًا ممن افترى على الله كذبًا.
نقف -إن شاء الله- عند هذه الآية، ونكمل -إن شاء الله في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.