الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (197) - سورة الأعراف 29-33

إن الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

وبعد فكنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:28-32].

نادى الله -تبارك وتعالى- بني آدم أولاد آدم جميعًا بعد أن أعلمهم الله -تبارك وتعالى- بقصة أبيهم وما كان من شأن إبليس معه، وما كان من أمر الله -تبارك وتعالى- في إنزال آدم -عليه السلام- وإبليس من ذلك العلو؛ من الجنة إلى الأرض، وأن الأرض هي المستقر لهما وقال {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}، ثم نادى بني آدم، نادى الله -تبارك وتعالى- بني آدم وقال {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا}، وهذا من فضله -سبحانه وتعالى-، وهذا ستر لهذه العورات وتذكير بأن كان الهدف الأول من إبليس ووسوسته لآدم أن ينزع عنهما لباسهما، قال -جل وعلا- {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف:20]، فكان من شأن المعصية ما كان من كشف هذه العورات، الله -تبارك وتعالى- بعد توبة آدم ورجوعه إلى الله -تباك وتعالى- أنزل الله -تبارك وتعالى- على بني آدم ما خلق له في هذه الأرض ويسر له ليستر به عورته إنعامًا وإفضالًا منه، قال {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ........}[الأعراف:26]، لما كان اللباس الظاهري كذلك ذكر الله -تبارك وتعالى- بلباس التقوى الذي يستر الله -تبارك وتعالى- به كل العورات، وذلك أن التقوى لله -تبارك وتعالى- فإنها مغفرة وتغطية لكل الذنوب، وإن المتقي لله -تبارك وتعالى- لا شك أنه سيتورع من كشف عوراته ظاهرًا، وكذلك العورات الداخلية التي قد لا يطلع عليها من الكبر والحسد والغل؛ عورات القلب، وهذه كذلك فإنها تستر وينقيها الله -تبارك وتعالى- بالتقوى، {........ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف:26]، {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}، أي بالمعصية، {........ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:27]، وهذا تذكير من الله -تبارك وتعالى- بأنه جعل عقوبة لكل من والى الشيطان أو يوليه إياه، {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- مبينًا فجور هؤلاء الكفار وتمسكهم بما هم عليه، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}، ولما كانوا يعظمون الآباء فإنهم قد أخذوا مأخذهم دون نظر ودون الاعتبار هل كان الآباء على شرعة حقيقية أم لا، ثم زادوا قالو {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}، فتجرأوا على الله -تباك وتعالى- وكذبوا عليه، وجعلوا أن أمر الله -تبارك وتعالى- الشرعي الديني كذلك هو مما أمرهم به، أو أنهم نسبوا ذلك إلى أمره الكوني القدري، كما قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}، هل حقيقة أنزل الله -تبارك وتعالى- وحرم عليكم هذا الذي تحرموه، وأحل لكم هذه الفواحش التي تسيرون فيها وتفعلون بها، يقول الله -عز وجل- {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}، قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}، يتنزه الله -تبارك وتعالى- أن يأمر عباده بفاحشة، {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، سؤال للتقريع والتوبيخ الهائل أنه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، ثم افترى على الله كذبًا بأن ادعى وافترى أنه يأمر -سبحانه وتعالى- بالفحشاء، {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}، هذا الذي أمر الله -تبارك وتعالى- به، والقسط العدل، {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، هذا كذلك مما أمر الله -تبارك وتعالى- ويأمر به، وجاء هنا الصيغة كأنها أمر جديد، ما قال وأمر كذا بل قال {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، يبين أن هذا أمره وشأنه الدائم -سبحانه وتعالى-، {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، وإقامة الوجه استقامته على أمر الله -تبارك وتعالى-، أن يكون وجهكم متوجهًا إلى الرب -تبارك وتعالى- لا إلى غيره -جل وعلا-، عند كل مسجد؛ وكل مسجد مكان سجود، يعني إذا صليتم فأقيموا وجهكم لله -تبارك وتعالى- لا تصلوا إلى غيره بل صلوا له -سبحانه وتعالى-، {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، وادعوه اطلبوا منه، الدعاء طلب من الأدنى إلى الأعلى وهو من العبد إلى ربه -سبحانه وتعالى-، حال كونكم مخلصين له الدين أي لا تدعوا إلا إياه -سبحانه وتعالى-، فادعوه ولا تدعوا غيره معه لأن الدعاء هو العبادة، كما قال النبي «الدعاء هو العبادة»، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، ثم قال -جل وعلا- {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، عبارة قصيرة أجملت وأقامت البرهان على أن عودة الأجساد والأرواح والبعث حق، كما بدأكم في الخلق من غير أن يكون لكم وجود سابق بل من العدم أنشأكم؛ تعودون، يعيدكم الله -تبارك وتعالى- ومن بدأ الشيء فهو قادر على إعادته، والله -سبحانه وتعالى- بدأ الخلق فهو يعيده -سبحانه وتعالى-، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}.

{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}، فريقًا من الخلق من بني آدم من هؤلاء المخاطبين، هدى؛ هدى الله -تبارك وتعالى-، والفريق هو الفرقة والجماعة، {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}، وهذا الفريق الثاني، حق عليه الضلالة يعني أصبحت الضلالة حقًا عليه، ثم علل الله -تبارك وتعالى- وبيَّن لما كان هذا الفريق ضالًا، قال {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، وذلك أنهم اتخذوا الشياطين؛ شياطين الجن الموسوسون أولياء، أحباب لهم وأنصار لهم ومتبوعون, يُتبعون فيما يشرعون لهم وفيما يأمرونهم به من الفواحش والفسق ومعصية الله -تبارك وتعالى- فيطيعونهم، {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، تركوا ولاية الله -تبارك وتعالى-، وولاية الله طاعته، الإيمان به، التوكل عليه، الإنابة إليه، السير في طريقه، هذا عقد الولاية بين الله -تبارك وتعالى- وبين الخلق، تركوا ولاية الله -تبارك وتعالى- واتبعوا الشياطين ووالوهم، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}، مع ولايتهم للشيطان والذي هو أعدى أعدائهم والذي يأخذ بهم إلى النار ويسوقهم ورائه خلفه إلى الجحيم -عياذًا بالله- مع ذلك يحسب أنه مهتدي، وهذا من الخذلان العظيم من الرب العظيم، خذلان من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الذين اتخذوا وليًا لهم، فإنهم يسيرون في طريق الغواية وهم يضحكون، وهم يحسبون أنهم مهتدون، يظنون أن الذي هم عليه من طريق الغواية هو طريق الهداية وهو طريق الفلاح والنجاح، فطمس الله -تبارك وتعالى- بصيرتهم على هذا النحو، فيسيرون في طريق النار وطريق الهلاك وهم يظنون أنه طريق السعادة وطريق مقتضى العقل، فهؤلاء مكذبون بالبعث وهو واقع. مكذبون بالنار وهم مساقون إليها. يظنون أن ما هم عليه هو الشرعة والمنهاج وهو مقتضى العقل في اتباعهم لأهوائهم واتباعهم لشياطينهم واتباعهم لآبائهم، ويظنون أن هذه هو الهداية، {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأعراف:30].

ثم النداء الثالث من الله -تبارك وتعالى- في هذا السياق لبني آدم، قال -جل وعلا- {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[الأعراف:32]، {يَا بَنِي آدَمَ}، يا أولاد آدم يناديهم الله -تبارك وتعالى-، {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، الزينة التجميل والجمال، والإنسان لا يكون جميلًا إلا باللباس، وأما إذا تجرد من اللباس فهو قبيح، فقول الله -تبارك وتعالى- {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، استروا عوراتكم باللباس، {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، عند كل صلاة، إذا أردتم الصلاة والقيام بين يدي الله -تبارك وتعالى- فخذوا الزينة، أي البسوا اللباس الذي يستر عوراتكم، وهذا اللباس طبعًا الواجب ستر العورة. والعورة التي يجب سترها بالنسبة للرجال هي من حدود السرة إلى حدود الركبة، وبالنسبة للنساء جميع البدن إلا الوجه والكفين فقط، بالنسبة للرجال هذا حد العورة ولكن يدخل في الزينة ما هو أكبر من هذا كستر الكتفين، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء»، وذلك خشية أن يسقط، يعني إذا كان إنسان له ثوب واحد وجعله إيزار فلابد أن يخالف بين طرفيه ليربطها على عنقه حتى لا يسقط إزاره وهو في الصلاة، وكذلك إذا كان لإنسان ثوبين فإن الأولى أن يصلي في ثوبين من أن يصلي في ثوب واحد، يعني لا يصلي في إزار واحد وإنما يصلي في ثوبين، على كل حال أخذ الزينة والتجمل ما أمكن في الصلاة مطلوب، ولذلك لم يأتي هنا فقط يا بني آدم استروا عوراتكم في الصلاة، وإنما قال -جل وعلا- {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، والزينة هو الجمال والتجمل بالثياب.

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ........}[الأعراف:31]، أمر من الله -تبارك وتعالى- بالإباحة ونهي عن الإسراف، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}، تسرفوا في الأكل والشرب بمجاوزة الحد، بالتفنن في الزيادات التي لا تفيد، بتجاوز الحلال إلى الحرام، هذا الإسراف، الإسراف هو مجاوزة الحد، بمعنى أن يأكل الإنسان ويشرب بما يضره، أو يتوسع في ألوان الطعام والشراب بما يكون فيه -وإن كان مباحًا- بما فيه تلف وسرف، أو أن يجاوز الحلال إلى الحرام ولو كان بقطرة من المسكر، فهذا لا شك بأنه داخل في السرف، ، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}، تجاوزا الحد، ، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، إنه الرب -سبحانه وتعالى- لا يحب المسرفين، يخبر -سبحانه وتعالى- بأنه لا يحب المسرفين، يكره هذا بمعنى أنه لا يحبه، إنه يبغض -سبحانه وتعالى- أهل السرف، وقال -جل وعلا- {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[الإسراء:27]، وقول الله {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، فيه تنفير شديد من السرف، فالشيء الذي يبغضه الله -تبارك وتعالى- ويكرهه؛ ويكره فاعله، لا شك أنه أمر يجب أن تكرهه النفوس الطيبة وأن تبتعد عنه، ما دام أن الله -تبارك وتعالى- لا يحبه -جل وعلا-.

ثم قال -جل وعلا- {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، وجاء هذا بصورة الاستفهام الاستنكاري لبيان أن الرب -تبارك وتعالى- لم يحرم على عباده طيبًا، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}، الزينة هو كل ما يتزين به ويتجمل، سواء كانت الزينة في الثياب أو في غير ذلك من المساكن والمراكب وغير ذلك، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}، التي أخرجها الله -تبارك وتعالى- لعباده، أخرج لعباده عن طريق الزراعة، عن طريق المعادن من باطن الأرض، عن طريق الصناعات، كل هذا مما هيأه الله -تبارك وتعالى- وأخرجه لعباده، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، الرزق الطيب، والطيبات كل ما زادت منافعه على مضاره فهو طيب، والعكس ما زادت مضاره على منافعه فهذا قد يدخل في الخبائث، {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، في أي باب من أبواب الاستمتاع، قال -جل وعلا- {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، أي أن الله -تبارك وتعالى- أخرج هذه الطيبات للذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ خلقت من أجلهم، فالطيبات التي في هذه الحياة وهذه الزينة خلقها الله -تبارك وتعالى- من أجل عباده المؤمنين، {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}، قل هي للذين آمنوا أي خلقها ووجودها، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قول الله -تبارك وتعالى- {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، أنه لا يشركهم فيها أحد، وذلك أن كل الطيبات التي ذخر الله -تبارك وتعالى- في الجنة لأهل الإيمان، لا يشركهم فيها أهل الكفر والنفاق، لا منافق ولا كافر، أما في الدنيا فإن الله خلقها في الدنيا للمؤمنين ولكن يشركهم فيها الكفار والمنافقون، لكن على وجه الغلبة وأخذ ما لا يحل له، فإن الكافر لا يحل له أن يتمتع بنعم الله -تبارك وتعالى- ويكفر بالله -عز وجل-، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:168]، أباح الله -تبارك وتعالى- ما أباح لخلقه من هذا الرزق الطيب الذي خلقه، لكن حال كونهم مؤمنين به، إذا كانوا مؤمنين به، مستعينين بذلك على طاعته، أما أنهم يأكلون ويشربون ويتمتعون بما خلق الله -تبارك وتعالى- ثم يعصون ويكفرون فهذا وبال عليهم ولم تخلق هذه لهم، وإنما هنا يكون أخذهم لها إنما هو على وجه الظلم، وأخذ ما لا يحل له ولا يحق له، ولذلك يحاسب على كل شربة ماء شربها على هذا النحو الكافر بغير حقها، أنه أخذها بغير حقها، وإنما حقها إنما هو مع الإيمان.

{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}، أي خلقها الله -تبارك وتعالى- في الحياة الدنيا، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، خالصة لا يشركها، يعطيهم الله -تبارك وتعالى- هذه الطيبات التي ذخرها الله -تبارك وتعالى- وجمعها لهم، وهيأها لهم في الجنة ولا يشركها غيرهم، كما قال -تبارك وتعالى- {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ}، وسيأتي في هذه السورة، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ(50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[الأعراف:50-51]، فهذه الآية جدًا شديدة، لأنها بيان أن الكافر لا يحل له أن يأكل من رزق الله -تبارك وتعالى-، وأن ما خلق الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض من الطيبات والنعم إنما خلقها لعباده المؤمنين، قال {قُلْ هِيَ}، أي المخلوقات الموجودة، سخرها الله وذللها للذين أمنوا في الحياة الدنيا، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، كذلك يعني بهذا التفصيل والتوضيح والبيان، قال -جل وعلا- {نُفَصِّلُ الآيَاتِ}، وتفصيلها بيانها وفصل المعاني بعضها على بعض، حتى يتبين كل معنى وكل عنصر من العناصر على حده، فتتضح الأمور وتظهر ولا يبقى في الحق لبس، {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ}، آيات الله -تبارك وتعالى- هذه المقروءة المنزلة منه -سبحانه وتعالى-، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، لكن لقوم يعلمون، لمن عندهم علم، للذين يعلمون، أما الذين يجهلون ولا يسمعون ولا يكون لهم سبيل إلى العلم والتعلم فإنه لا يفدهم هذا، لأنهم أصموا آذانهم، غطوا أعينهم، أقفلوا قلوبهم وابتعدوا بها عن الهداية فلذلك لا يستفيدون بهذه الآيات المنزلة، {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33]، هذا الذي حرمه الله -تبارك وتعالى- لا ما ادعوا هم تحريمه ونسبوه إلى الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ}، هذا حصر للأمور التي حرمها الله -تبارك وتعالى-، الفواحش جمع فاحشة، والفاحشة هي الذنب البالغ مبلغه في القبح، فالشيء الفاحش تقول جيل فاحش، تقول العرب جيل فاحش بمعنى أنه غليظ قبيح، وهذا عمل فاحش بمعنى أنه بالغ مبلغه في القبح كالزنا واللواط، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، ما ظهر منها على الجوارح وما بطن في القلب، أو ما ظهر منها أمام الخلق وما بطن؛ ما استتر به صاحبه عن الناس، فكل أنواع الفواحش الظاهرة والباطنة حرمها الله -تبارك وتعالى-، فمنها ما يظهر على الجوارح، أي عمل فاحش يظهر على الجوارح، ومن الباطن الكبر والحسد والغل، هذه أمور كذلك من الفواحش لكنها باطنة في القلب وحرمها الله -تبارك وتعالى-، أو ما يظهره الناس بعضهم أمام بعض أو ما يسرونه ويفعلونه سرًا، كل هذه الفواحش ما ظهر منها وما بطن حرمه الله -تبارك وتعالى-، {وَالإِثْمَ}، الإثم الذنب، {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، البغي العدوان وأصل البغي هو مجاوزة الحد، بغى بمعنى أنه يعني جاوز حده، {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، البغي لا يكون بحق إلا إذا كان انتصارا من ظالم وأخذًا للحق، أما إذا كان عدوانا وظلما فهذا بغي بغير حق، {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}، أن تشركوا بالله أي نوع من الشرك، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد في ذاته -سبحانه وتعالى-، فلا جزء له فكل من نسب لله -تبارك وتعالى- جزء فقد أشرك بالله، وهذا أعظم الشرك، جزء مثل الابن، لأن الابن بضعه من الأب، فكل الذين نسبوا لله ولد كمشركي العرب الذي قالوا الملائكة بنات الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، واليهود الذين قالوا العزير ابن الله، وكل من نسب لله ولد أو من قالوا بأن محمدا من نور الله فكأنه قد خلقه الله من نوره، فكل هذا نسبة جزء لله -تبارك وتعالى-، والله لا جزء له -سبحانه وتعالى-، {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}[الزخرف:15].

أو جعل أن صفة الله -تبارك وتعالى- تحل في المخلوق، أو أن المخلوق يتصف بصفة الله، يسمع كسمع الله، يبصر كبصر الله، فهذا لله -تبارك وتعالى- لا شبيه له ولا ند له، لا ند له في صفة من صفاته -سبحانه وتعالى-، وكذلك الشرك بالله -تبارك وتعالى- أن يشرك بالله في حق من حقوقه، فإن لله حقوق على العباد لأنه الله الخالق الرازق المحيي المميت المتفضل على خلقه، فلا خالق إلا هو ولا متوكل بالخلق وبالعباد إلا هو -سبحانه وتعالى-، فكل من اتخذ إلهًا يعطيه حق من حقوق الإله الحق الذي لا إله إلا هو فهو مشرك بالله -تبارك وتعالى-، كمن يسجد لغيره، يعبد غيره، يصرف أي نوع من العبادة التي لا تليق إلا بالله -تبارك وتعالى- لغيره، فهذا مشرك بالله، قال {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}، السلطان هو الأمر القوي القاهر، فالعلم مثلًا سلطان بهذا، فالله -تبارك وتعالى- لا شك أن كل من أشرك بالله لا سلطان عنده، بمعنى أنه لا علم عنده، لا مستند يستند إليه في اتخاذه شريكا لله -تبارك وتعالى-، بل كل الشرك افتراء، كل مشرك مفتري افترى هذا الذي قاله أو يفعله فيما ينسبه لله -تبارك وتعالى-، فهو مفتري، فهذه كلها أمور بالظنون، كل الشرك إنما هو قائم على الحدس والظن والتخمين، ولا عند مشرك آثارة علم في شركه وفي عبادته لغير الله -تبارك وتعالى-، فقال {........ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33].

هذا الذي حرمه الله -تبارك وتعالى- عليكم، القول على الله بغير علم، وأعظم أن يقال على الله بغير علم أن يدعى أن له ولد، وهو الواحد الأحد -سبحانه وتعالى- فهذا شتم له، { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم:88-95]، فأعلى القول على الله بغير علم أن يقال أن له ولد، وأدنى ذلك أن يقال أنه حرم هذا، أحل هذا، بغير برهان منه، فهذا كذلك من الظلم، فلو قيل إن الله أحل هذا ولم يحله أو حرم هذا ولم يحرمه، فهذا قول على الله بغير علم، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، فهذه هي الأمور التي حرمها الله، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33].

نقف عند هذا، ونكمل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.