الإثنين 13 ذو القعدة 1445 . 20 مايو 2024

الحلقة (198) - سورة الأعراف 34-39

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

كنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:33-36].

 قول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، هذه الآية جمعت كل عامة ما حرمه الله -تبارك وتعالى- أو كل ما حرمه الله -تبارك وتعالى- وجاء بطريق الحصر، هذا الذي حرمه الله والحرام هو الممنوع، الذي منع الله -تبارك وتعالى- على العباد إتيانه والاقتراب منه، {الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، كل عمل فاحش بالغ في القبح، ما ظهر منها على الأعضاء، ما بطن في القلب، ما ظهر منها أمام الناس، ما يبطنه الإنسان ويفعله سرًا، {وَالإِثْمَ}، كل الذنوب، {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، العدوان، {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}، وليس عند مشرك من سلطان، كل من أشرك بالله -تبارك وتعالى- فهو مفترٍ كذاب، إنما فعل هذا افتراء واتباعًا للظن، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، لا تتكلموا على الله -تبارك وتعالى- بغير علم، فهذا حرمه الله -تبارك وتعالى-، بدءً من أن ينسب له الولد -سبحانه وتعالى- أو يفترى عليه في أسمائه وصفاته، وأخيرًا بأن يقال في أنه حرم هذا أو أحل هذا أو يريد هذا أو لا يريد هذا.

ثم قال -جل وعلا- {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}، كل أمة؛ الأمة هي الجماعة المجتمعة المؤتلفة التي يجمعها لغة واحدة أو هم قوم وشعب واحد، أو قبائل يجمعها دين ولغة واحدة أو وقت واحد، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}، أجل تنتهي إليه، وقت محدود إما بإهلاكهم وإزالتهم عن الأرض، وإما بأن يستخلف الله -تبارك وتعالى- غيرها، {........ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:34]، إذا جاء أجلهم؛ الأجل الميعاد الذي حدده الله -تبارك وتعالى- لانقضائهم، لا يستأخرون ساعة عن هذا الأجل, فإذا طلبوا التأخير فلا مهلة تعطَ لهم، ولا يستقدمون لا يأتيهم هلاكهم وزوالهم عن هذه الأرض, لا يستقدمون ساعة عن هذا ولا يستأخرون ساعة، فعندما يحكم الله -تبارك وتعالى- وقد قضى بنهايتهم فإنه ينتهي أمرهم عند الوقت الذي حدد، فالوقت هو الأجل الذي حدده الله -تبارك وتعالى- فاعلموا هذا، إما هذا بالأمة كلها وإما أن يكون هلاك الأمة كذلك بهلاك أفرادها فردًا فردًا، وكل إنسان له أجله الذي ينتهي إليه.

ثم قال -جل وعلا- {يَا بَنِي آدَمَ}، بعد هذا هنا بيَّن الله -تبارك وتعالى- شرعته، بيَّن ما أباحه، بيَّن أن الرزق الذي خلقه في الأرض إنما هو لعباده المؤمنين، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ........}[الأعراف:32]، ما شرعه لعباده وما حرمه عليهم، قال -جل وعلا- {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأعراف:35]، النداء الرابع في هذه السورة لبني آدم، والله -تبارك وتعالى- يصدر هذا النداء بــ (يا بني آدم) وهذا يدخل في كل إنسان، {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأعراف:35]، بهذا الشرط إذا جاءكم الرسل والله يقول منكم وهذا سنة الله -تبارك وتعالى- في أن يختار لكل أمة رسولها، أن يختار رسولها منها، {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}، يخبرونكم بهذه الأخبار من الله -تبارك وتعالى-، ويخبرونكم عن الله وعن صفاته وعن أسمائه وعن هذا الغيب، سواء الغيب هذا الإضافي الذي خلقه وعن الغيب المستقبلي الذي لا يعلمه إلا هو فيعلمكم الله -تبارك وتعالى- بالمآل الذي تؤلون إليه، من البعث والقيام والحساب والجنة والنار، {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}، يقصونها يخبرونكم بها، {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، واتقى وأصلح تجمع كل الدين، اتقى وأصلح؛ التقوى هي الخوف وأخذ وقاية من شيء مخيف، والتقوى هي أن تؤخذ وقاية من عذاب الله -تبارك وتعالى-، فمن عرف الرب وآمن به وعلم أنه يؤاخذ بالذنب ويأخذ به وأنه يعاقب اتخذ هنا الحماية من عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، ولا يمكن أن يكون الإنسان متقيًا لله -تبارك وتعالى- إلا بفعل ما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه، والإيمان بما أخبر -سبحانه وتعالى-، الإيمان والعمل الصالح؛ والعمل الصالح الانتهاء عما نها الله
-تبارك وتعالى-، الإتيان بما أمر به الرب -تبارك وتعالى-، فمن اتقى؛ خاف ربه -سبحانه وتعالى- وقدر مقامه بين يدي ربه -جل وعلا- يوم القيامة، وأصلح؛ اتخذ طريق الصلاح، وكل أمر الله -تبارك وتعالى- كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به فهو من الإصلاح، والإصلاح ضد الإفساد، قال -جل وعلا- {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وهذه الجملة كذلك جمعت كل أنواع الأمان والفوز، لأن الذي لا خوف عليه فيما يستقبل من الزمان ولا يحزنه شيء مما فات هذا مؤمن، هذا يؤّمنه الله -تبارك وتعالى- في مستقبله وماضيه، لا خوف عليه، ما عليه خوف، خوف من العذاب في الآخرة، خوف من يوم القيامة، خوف من النار، خوف من الشيطان، لا خوف عليه, الله -تبارك وتعالى- هنا ينفي جنس الخوف، قال {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، أي حزن يعني ما يصيب القلب من الهم والغم في أي شيء؛ يزيله الله -تبارك وتعالى-، فهذا قد أمنه الله -تبارك وتعالى- من كل ما يهمه في المستقبل وفي الماضي، قال {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، أكبر جملة في الأمان والاطمئنان أن هذا هو الفائز، فالشخص إذا انتفى عنه الخوف والحزن مستقبلًا وماضيًا فهو في الأمان، فهذا تأمين؛ وهذا التأمين من الرب -سبحانه وتعالى-، {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

القسم الثاني قال {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الأعراف:36]، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، التكذيب هو رد الصدق والقول بأنه كذب، كذبوا بآياتنا يعني قالوا إن آيات الله -تبارك وتعالى- كاذبة، فالكفار قالوا للرسول أنت كذاب والذي أتيت به ليس بصحيح، ولا بعث ولا نشور ولم يرسلك الله -تبارك وتعالى- أنت مجنون، فهذا رد وتكذيب بآيات الله -تبارك وتعالى-، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، سواء كان هذا التكذيب ظاهرا مما أظهروه أو مما أخفوه في قلوبهم، وأظهروا التصديق وهم مكذبون بالباطل كما حال المنافقين، فالتكذيب ظاهرًا وباطنًا هذا تكذيب، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا}، استكبروا تكبروا، والكبر علو وتعالي بطر الحق، وقال النبي-صلى الله عليه وسلم- (الكبر بطر الحق)، بطره رده، واستكبروا عنها بطروا هذا الحق ورأوا أنفسهم أنهم أعلى من هذا، سواء كان التعالي عن نفس الأمر أو التعالي عمن يسير بالأمر، فإن الكفار أحيانًا كفار العرب أحيانًا كانوا ينظرون أن هذا الدين حق، لكنهم استنكفوا أن يكونوا هم وعبيدهم وأرقائهم والفقراء من المؤمنين في صف واحد وفي منزلة واحدة، فكان الاستكبار هنا عن الأسلوب وليس عن الحق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-، ولكن هذا استكبار، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا}، أن يذعنوا لأمر الله -تبارك وتعالى- ويسيروا في طريقه، أولئك بالإشارة إليهم إشارة البعيد تحقيرًا لهم، {أَصْحَابُ النَّارِ}، الصحبة تأتي للملك، قل أنا صاحب الدار يعني مالكها، وتأتي الصحبة للملازمة الطويلة، فنقول فلان صاحب فلان يعني أنه ملازمه ملازمة طويلة، فأصحاب النار ملاكها يملكهم الله -عز وجل- إياها فيكون أنهم أصبحوا هذه دار جهنم هي لهم، أصبح كأنها ملك ووراثة لهم، أو الملازمة الطويلة أصحاب النار بمعنى أنهم يصاحبونها، هذا كله حق، يعني كل معاني الصحبة؛ صحبة هؤلاء الكفار للنار قائمة، فإنهم كأنهم يملكوها ما ينفكون عنها، وكذلك يلازمونها ملازمة لا خروج منها فهي حبس، {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}، حصيرا يعني يحصرون فيها حصارا، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:22]، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، مؤصدة مغلقة، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، فهم أصحاب النار, الملازمون لها ملازمة وصحبة لا تنفك -عياذًا بالله-، { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}، قال -جل وعلا- {هُمْ}، بردك للتأكيد، {فِيهَا}، في هذه النار، يعني يبين الظرفية في الدخول، {خَالِدُونَ}، والخلود في لغة العرب هو المكث الطويل، وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- أن خلود أهل النار الذين هم أهلها الذين هم الكفار الذين ماتوا على الكفر والشرك، أنه خلود بلا انقطاع ولا موت، ليس مكثًا طويلًا ينتهي عند حد بل إنما هو مكث أبدي لا حد له، يا أهل النار خلود فلا موت، يقال لهم (يا أهل النار خلود فلا موت)، ليس هناك موت، {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74]، لا يموت موتًا يستريح من العذاب ولا يحيا حياة تنفعه.

ثم لما كان هذا المصير الشديد مصير الكافر، هنا ربنا -سبحانه وتعالى- بيَّن ليه، لما كان مصيرهم على هذا النحو، قال -جل وعلا- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}[الأعراف:37]، هذا بيان من الله -تبارك وتعالى- وتعليل، لماذا كانت عقوبة هؤلاء الكفار على هذا النحو، التي هي {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الأعراف:36]، قال -جل وعلا- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، سؤال يراد به التقرير، من أظلم ممن افترى على الله كذبًا؟ يفتري على الله أي يختلق الكذب على الله، واختلاق الكذب الذي فيه سب له وشتم له، يقال لله ولد، يقال إن الله أحل هذا، حرم هذا، يحلون الفواحش وينسبون أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي أمرهم بها، فهذا افتراء الكذب، قال -جل وعلا- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، كذلك يدخل في هذا من افترى على الله كذبًا، مَمن ادعى النبوة، أن يقول أوحي إلي ولم يوحى إليه شيء، أو يقول أرسلني الله -تبارك وتعالى- وهؤلاء كفار جميعًا، فهذا من أظلم من هذا؟ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}، كذلك أتته آيات الله -تبارك وتعالى- وعلم أنها آيات الله، وردها وقال هي كذب، من أظلم من هذا؟ الجواب أن يقال لا أحد، ما في أظلم من هذا، فهذا الذي يفعل هذا يفتري على الله الكذب، يختلق الكذب على الله -تبارك وتعالى-، ويقول على الله -عز وجل- ما لم يقوله ويتقول على الله، أو يعلم أن هذه آياته وهذا رسوله ويقول لا أنت كذاب، هذه ليست آيات الله -تبارك وتعالى-، لا أحد أظلم من ذلك.

قال -جل وعلا-  {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}، أولئك البعيدون في الإثم والقبح ينالهم نصيبهم من الكتاب، لابد أن ينالهم نصيبهم من الكتاب، الذي كتبه الله –تبارك وتعالى- عليه، وهو أن كل من مات على الكفر والشرك، مات مكذب، افترى على الله الكذب، أن يكون مآله النار، فهذا قد قضاه الله -تبارك وتعالى-، وكتبه -سبحانه وتعالى-، وقد قال الله -تبارك وتعالى- يوم قال إبليس {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء:63]، وقال {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص:85]، هذا من قبل أن يكون لآدم ذرية، لما قال الشيطان سأفعل وسأفعل وسأضل هذا الإنسان مضى كتاب الله -تبارك وتعالى-، ومضى قول الله -تبارك وتعالى-، أنه لابد أن يملأ هذه النار من إبليس وممن تبعه واتخذ طريق الشيطان وابتعد عن طريق الله -تبارك وتعالى-، {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}، الكتاب الذي كتبه الله -تبارك وتعالى-، في أن كل من عصاه ومات على هذا العصيان والتكذيب لابد أن يدخل النار، {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}، {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا}، ملائكة الله -تبارك وتعالى- لأخذ أرواحهم، يتوفونهم أي يأخذون أرواحهم، وسمى أخذ الروح وفاة لأن الوفاة هو أخذ الشيء وافيًا أي كاملًا، يتوفونهم أي بالموت، قالوا لهم يعني قالت الملائكة لهم {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، سؤال للتقريع والتوبيخ والتأنيب في هذا الموقف العصيب، {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، أين آلهتكم؟ أين آلهتكم التي كنتم تدعونها من دون الله؟ تصرفون لها العبادة التي هي أشرف الأعمال وتعطونها؛ تعطون هذه الآلهة العبادة، وتشركونها مع الله -تبارك وتعالى-، {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قالوا... انظر المقالة التي يقولها هؤلاء الذين خذلوا وخسروا، {قَالُوا}، أي الكفار، {ضَلُّوا عَنَّا}، لا ندري، ضلوا عنا ذهبوا منا، انظر الآلهة التي تعلقوا بها وتمسكوا بها، الملائكة، عيسى ابن مريم، الشجر، الحجر، الأصنام، الأوثان، كل هذا الذي تمسكوا به وظنوا أنها منجيتهم، أنها هي شفعائهم، هي التي تدخلهم الجنة، هي التي تخرجهم، هي التي يعلقون على كل آمالهم، هي نافعتهم، هي التي تحميهم من الضر، {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا}، فهم الآن وحيدون وفي بعد وفي حيرة، {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا}، قال –جل وعلا- {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}، شهدوا أن الشهادة إدلاء وإدلائها هنا باللسان، {عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}، يعني أن رسل الله -تبارك وتعالى- قد جاءتهم بالحق، وقد دعوهم إلى التوحيد وإلى الإيمان، ولكنهم ردوا دعوة الرسل وساروا في الطريق الذي ساروا فيه، {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}.

قال {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ}، هذا الحكم الإلهي، هنا يأتيهم الحكم الإلهي ويفاجئهم هذا الأمر العظيم، الذي لم يكونوا يتوقعونه ولم يحسبون له حساب، {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:38]، {قَالَ}، الرب -جل وعلا-، الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، {ادْخُلُوا}، أيها المشركون الكفار، {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ}، فهذا أمر لهم لازم هنا, ليس هو أمر تشريعي، وإنما هو أمر كوني قدري، لابد من وقوعه!! {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ}، من الكفار أمثالكم، {مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ}، كفار من الجن أمم سابقة سبقتكم في الكفر، {مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ}، وهذا حكم الله -تبارك وتعالى- لهم إذ كانوا كافرين، وقد جحدوا آيات الرب -تبارك وتعالى-، وشهدوا على أنفسهم قبل الدخول في النار أنهم كانوا كافرين.

ثم قال -جل وعلا- {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}، كلما دخلت أمة جديدة إلى النار من هذه الأمم لعنت أختها؛ التي سبقتها، فالذين في النار يلعنون الداخلين، والداخلون يلعنون السابقين، كما قال -جل وعلا- {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ(59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ}[ص:59-60]، فإن غالب الذين تأخروا في الوجود قد اتبعوا في كفرهم سابقيهم، فأكثر هذه الأمم أخذت تراث السابقين في الكفر وانتحلته وسارت فيه، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}، أختها في الكفر، {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا}، اداركوا تداركوا أي جاء هذا وراء هذا وراء هذا وأصبح الجميع كلهم في النار، {........ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:38]، أخراهم المتأخرون من الأمة، لأولاهم للمتقدمين منهم في الزمان، وذلك أن هؤلاء شرعوا الكفر وهؤلاء اتبعوهم، فيقول المتأخرون الذين اتبعوا المتقدمين {رَبَّنَا}، يعني يا ربنا، يدعون الله، {هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا}، هؤلاء الذي قد كانوا سببًا في إضلالنا هم الذين أنشأوا هذا الكفر وشرعوه وقالوه ونحن تبعناهم، {هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}، فيطالبون الرب -تبارك وتعالى- بأن يضاعف عذابه لمن ابتدعوا الكفر وشرعوه لهم وهم الذين اتبعوهم، غيظ؛ هذا من شدة غيظهم من هؤلاء الذين أضلوهم، قال الرب -جل وعلا- الإله {لِكُلٍّ ضِعْفٌ}، لكل ضعف, لكل منكم, المتقدمون والمتأخرون يضاعف لهم العذاب بكفرهم، {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ}، ولكن لا تعلمون أن هذا العذاب متضاعف ومتزايد أبدًا، ولا يفتر عنهم -عياذًا بالله-، ولكن لا تعلمون هذا، أو ولكن لا تعلمون هذا في زمن الخطاب، ولكن لا تعلمون يعني يخاطب به هؤلاء الناس الكفار في هذا الوقت يعني في الدنيا، ولكن لا تعلمون أيها الكفار ماذا سيكون مآلكم عندما تكونون في هذه الحالة، وتستصرخون هذا الاستصراخ وتطلبون من الله -تبارك وتعالى- أن يزيد العقوبة على أسلافكم، الذين تتمسكون بتراثهم وبدينهم في الوقت الواحد، وتقولون هؤلاء آبائنا وأجدادنا ونحن على دينهم وعلى ملتهم، {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ}.

{وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}[الأعراف:39]، {وَقَالَتْ أُولاهُمْ}، أوائل الأمة؛ الأمة الكافرة، {لِأُخْرَاهُمْ}، المتأخرين منهم، {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}، أنتم المتأخرون لا فضل لكم علينا، يعني في أن فضلتمونا بشيء وانفردتم عنا بشيء من الهداية، وإنما كنتم على غوايتكم وعلى ضلالكم الذي سرتم فيه، ثم لم تنصحوا لنا بشيء ولم ترشدونا إلى شيء من الحق، {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}، أيضًا هذا تشفي من هؤلاء؛ في هؤلاء، وأنهم يخزي بعضهم بعضًا، ويسب بعضهم بعضًا، ويقول ذوقوا؛ قاسوا العذاب بما كنتم تكسبون، أي بكسبكم فأنتم قد اكتسبتم هذا الذي اكتسبتموه، الشرك الذي فعلتموه والكفر الذي فعلتموه؛ أنتم فعلتموه، أنتم اكتسبتموه فلستم مبرأين من المعصية، فقد فعلتم وكسبتم الشرك وأنتم تستحقون ما أنتم فيه من العذاب، قالوا {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- مهددًا متوعدًا، قال {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:40-43]، ونعيش -إن شاء الله- في ظلال هذه الآيات في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.