الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (2) - مقدمة

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

إخواني الكرام فى الحلقة الماضية ... كان هناك تعريف للقرآن الكريم كتاب الله تبارك وتعالى، وبيان ما اختص به هذا القرآن، فأول خصيصة من خصائص القرآن الإعجاز أنّ الله –تبارك وتعالى- أنزله كلامًا عربيًا معجزًا، بمعنى أنّ الله تحدى به الأولين والآخرين أن يأتوا بمثله، بل بسورة من مثله، وأخبر سبحانه وتعالى بأنّه لن يأتي أحدٌ بمثل هذا القرآن، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، وقلنا إنّ التحدي إنما كان في الصياغة، صوغوا أيُّهَا العرب المكذبين كلامًا مثل هذا الكلام، في حلاوته، في فصاحته، في بيانه، في بلاغته، وليس موضوع -القرآن موضوعًا للتحدي- يعني موضوعات القرآن ليست موضوعات للتحدي وإنما هى الصياغة، وقد عجزوا وعجز الناس، وسيبقى هذا العجز إلى يوم القيامة، ليصبح ويبقى القرآن دليلًا صريحًا وواضحًا أنه من عند الله –تبارك وتعالى-.

أما الأدلة الكثيرة، وشواهد الصدق على أنّ هذا القرآن من عند الله –تبارك وتعالى- أولًا موضوعه؛ فموضوعات القرآن لا يستطيعها إلا الله –تبارك وتعالى-، لا يمكن أن يُتَخيّل أنّ بشرًا يعيش في وقت النبي أو بعد وقته يستطيع أن يتكلم عن الله –سبحانه وتعالى- كما تكلم القرآن عن الله –سبحانه وتعالى-، فإنّ وصف الله كما جاء فى القرآن هذا لا يستطيعه أحد، لا يمكن أن يعرف أحد – و حينما جاء الفلاسفة وجاء غيرهم وبحثوا في ما سموه "بواجد الوجود" بالنظر فى خالق هذا الكون، ما صفته؟ من هو؟ فما كان كلامهم عن واجد الوجود، أو ما يسمونه العلة أوجدت هذا العالم إلا كلامًا في غاية التهافت والسقوط.

أمّا القرآن؛ فقد وصف الله –تبارك وتعالى- فيه نفسه أنّه الرب الإله الرحمن الرحيم ملك السموات والأرض -سبحانه وتعالى- {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]، لا يمكن أن يصف أحد الرب –تبارك وتعالى- كما وصف الله به نفسه، وهذا دليل عظيم على أنّ القرآن من عند الله –تبارك وتعالى – و ليس من عند محمد –صلوات الله وسلامه عليه- فهؤلاء قوم النبي –صلى الله عليه وسلم- كان مفهومهم للإله مفهوم سقيم جدًا فقد تصوروا أنّ الله خالق السموات والأرض ومدبر الكون، ولكنّه تزوج بالجنّ وعرض له الملائكة وأنّ الملائكة كلهم بنات ثم تصوروا عجزه أن يعيدهم، ثمّ تصوروا أنّه يعلم جهرهم ولا يعلم سرهم، فكان تصورًا في غاية السخرية ثم تصوروا أنّه لا حكمة له، ولا هدف له من الخلق، وأنّه خلق خلقه هكذا عبثًا وسدًى، ليس بعد هذه الحياة التي يعيشونها حياة، فليس هناك حكم، وليست هناك ثواب للطائع، ولا مجازاة للعاصي، فتصورهم للرب كان تصورًا سقيمًا جدًا، أما تصور النّصارى لله –تبارك وتعالى- فقد كان أكثر سقوطًا وانحطاطًا؛ فقد تصوروا أنّ الله –تبارك وتعالى- خالق السموات والأرض هو إله مكون من ثلاث أقانيم  أو ثلاث تجسدات، الرب الإله الذي يسمونه الأب  والابن الذي انبثق عنه و الروح القدس الذي انبثق عنهما، وأنّ الثلاثة إله واحد، وتصوروا أنّ عيسى الذي هو بشر ويقرءون أنه كان ضعيفًا يأكل ويشرب ويخاف ويهرب، بل عندهم أنّه قد ظُلم، وأُخذ رغمًا عنه، وضُرب على قفاه، و سيق إلى الصلب، وحمل صليبه بنفسه وصلب عليه، فتصورهم للرب الإله خالق السموات والأرض - تصور جدًا سقيم، وأما اليهود فتصويرهم للإله -تبارك وتعالى- الذي عبدوه؛ تصور في غاية الضعف والسقم فقد تصوروا أن الله ينسى ويجهل ولا يعلم ما يفعله خلقه، بل يجبر على الإحسان جبرًا، فعندهم أن يعقوب جبره وصرعه، وأن هذا الرب يتعب وينسى ويبكي ويتأسف، تصور مريض بعيد كل البعد عن  وصف الإله الحق كما هو الله –سبحانه وتعالى- فجاء هذا القرآن ليصحح كل هذا وليبين الله –تبارك وتعالى- كما الله –جل وعلا- فالقرآن حديث الله –تبارك وتعالى- عن نفسه لا يمكن للنبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه- الذي لم يقرأ كتابا قبل ذلك، وقد نشأ في هذه البيئة الأمية، بل لا يمكن للبشر كلهم إذا اجتمعوا أن يصفوا الرب كما وصف نفسه –سبحانه وتعالى- في هذا القرآن، ثم الموضوعات الأخرى - كل الموضوعات الأخرى سواء كانت من مسائل الإيمان أو مسائل التشريع أو الحق أو الإحسان أو الأخلاق، القرآن موضوعاته لا يمكن أن لو اجتمع عليها البشر أن يأتوا بمثله، فهذا القرآن وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ .

أيضًا من أدلة صدق هذا القرآن وأنه من الله –تبارك وتعالى- وليس من عند محمد، ولم يكتبه بشر لا قبل محمد ولا محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، أنه قد أخبر بغيوب كثيرة من الماضي، مما كان خبره عند أهل الكتاب، ثم جاء القرآن مطابق لهذه الأخبار، بل مصحح لما وقع فيها من الزيادة والنقص، فقد أتى بأخبار الرسل السابقين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويوسف والأنبياء، وما كان من شأنهم ودقيق أخبارهم، {... وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}[يوسف:102]، {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[آل عمران:44]، ضرب القرعة على من تكون مريم عنده، هذا أمر خفي ولا يعلمه حتى من النصارى إلا أهل الحذق والعلم منهم، وجاء النبي بتفصيلات هذه الأخبار ولم يقرأها فى كتاب –صلوات الله وسلامه عليه- فكان هذا دليل على صدق النبي {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:197] هذه آية من آيات الله –تبارك وتعالى- أن القرآن من عند الله.

كذلك إخبار القرآن بعشرات بل مئات الأخبار المستقبلية ووقوع الأمر كما حدث به تماما، من ذلك أن القرآن ذكر للعالمين، قد كان العرب يعتقدون بأن القرآن إنما هو مرحلة مؤقتة، وأن شأن النبي شأن الشعراء الذين ظهروا فى الجزيرة، وأنه يلمع نجمهم أيام أو سنوات ثم يغيب ويأفل نجمهم وينتهى أمرهم.

أما عن يقول القرآن عن هذا الدين وعنه بأنه ذكر للعالمين {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[ص:87]

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[ص:88] ها نحن بعد ألف وأربعمائة ونيف من السنين نتذكر القرآن، وهو ذكر للعالمين كلهم، من كان يعتقد عند نزول القرآن أن هذا القرآن سيبلغ المشارق والمغارب، وانه سيبقى الكتاب الحي كتاب الله –تبارك وتعالى- معجزته الحية الباقية التي يقيم بها الله –تبارك وتعالى- الحجة على جميع عباده {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ(88)}[ص].

إخبار الله –تبارك وتعالى- بأن النبي سينتصر وأن أمته ستبقى، وأن دينه سيحطم الأديان كلها، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، أخبار من هذه .. أخبار كثيرة أخبر بها الله –تبارك وتعالى- وقعت كما اخبر الله -عز وجل- بها ينزل على النبي –صلى الله عليه وسلم- .... {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}[الفتح:27] ويقع الأمر كما حدث به القرآن فيرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فى السنة السابعة من الهجرة ، هذه الآيات نزلت فى السنة السادسة ، عودة النبي من الحديبية، ويقع الأمر كما أخبر به الله –تبارك وتعالى- إخبار بهذه الغيوب.

كذلك الإخبار بحقائق الكائنات التي خلقها الله –تبارك وتعالى- تكلم القرآن عن كثير من آيات الله –تبارك وتعالى- في الخلق، في السماوات، في الأرض، الجبال، الأشجار، النبات، الإنسان، السحاب، المطر، البروق، الرعود، مواقع النجوم، هندسة هذه السماوات والأرض، وذكر أشياء من دقيق العلم في هذه الكائنات وهذه الآيات، وما كان كل من على الأرض في وقت النبي يعلمون  شيئًا عن هذه الدقائق، وشيئًا عن هذه  الآيات على النحو الذي أخبر به القرآن، ثم جاء الوقت وعلم الناس بوسائلهم وبآلاتهم وبتقدم علومهم أشياء كثيرة من هذه  الحقائق وجاء الأمر كما حدث به الله –تبارك وتعالى- أن للنبي –صلوات الله وسلامه عليه- أن يكون قد علم هذا الذي جاء في القرآن، وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ .

 هذا من أدلة صدقه -والحال كذلك- أنّ النبي قد كان رجلًا أميًا لم يقرأ ولم يكتب –صلوات الله وسلامه عليه-.

    أيضًا من الأدلة على أنّ هذا القرآن من عند الله –تبارك وتعالى-؛ التشابه اللفظي، القرآن فيه أكثر من ستة آلاف آية، منه نحو ألفين آية فيها تشابه لفظي، إما تشابه كامل آية تكرر هذه الآية نفسها بكل حروفها وكلماتها في موضع آخر، أو تكرر مع تغيير لفظة، تكرر مع تغيير لفظتين، تكرر مع تغيير ثلاث ألفاظ في تشابه، هذا التشابه اللفظي ثلث القرآن، نحو ثلث القرآن في تشابه بين ألفاظه، وهذا التشابه اللفظي يجعل إتقان حفظ القرآن والمهارة فيه صعبة، يحتاج إلى نوع كبير من المهارة والحفظ والانتباه والذكاء، ليميز بين الآيات التي في هذا الموضع والآية التي في هذا الموضع، وزيادة حرف هنا ونقص هذا الحرف هناك، والنبي رجل أمي –صلوات الله وسلامه عليه- لم يقرأ ولم يكتب، وكان يحفظ هذا القرآن بالتلقي، يلقيه الله –تبارك وتعالى- عليه بواسطة جبريل وينطبع في ذهنه –صلوات الله وسلامه عليه- يقول ابن عباس كان رسول الله يعالج من القرآن شِدَّة وكان يحرك لسانه عندما يأتيه الوحي  يعني مجرد ما يسمع الوحي فيحرك لسانه حتى يحفظ ولا ينسى  فقال له الله –تبارك وتعالى-: {... وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]، يعني لا تقرأه حتى ينتهي، وقال له الله –تبارك وتعالى-: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ (يعني قرأه الملك) فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}[القيامة:18]، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]، فأخبر الله –تبارك وتعالى- بأنّ عليه جمعه في صدره وقرآنه بعد ذلك بلسانه –صلى الله عليه وسلم.

 الذي أكرمه الله –تبارك وتعالى- بحفظ القرآن يعلم أي  مشقة  لابد أن تكون في الحفاظ على حفظ القرآن، وأنه لابد أن يكون دائم الفكر له والمتابعة له، وفي هذه خاصية ربنا جعلها فى القرآن كما قال النبي –صلوات الله وسلامه عليه-: «تعاهدوا القرآن، فوالله لهو أشد تفلتًا من الإبل فى عقلها» وقال: «مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل إن أقام عليها حفظها وإن تركها ذهبت».

حفظ النبي للقران بمجرد إنزاله عليه وقراءته على الصحابة، وعدم احتياجه لأن يقرأ هذا القرآن مكتوبًا عنده، فقد كان رجلًا أميًّا وعاش النبي أميًّا لا يعرف القراءة والكتابة، ومات أميًّا من حيث أنه لا يعرف القراءة والكتابة –صلوات الله وسلامه عليه- وهو معلم العالمين –صلى الله عليه وسلم- .

جمع النبي للقران مع هذا التشابه اللفظي؛ دليل على أنّ هذا القرآن من عند الله –تبارك وتعالى- وعلى أنّ هذه معجزة في حفظ النبي للقرآن على هذا النحو وأن يكون مرجعه الدائم –صلوات الله وسلامه عليه- لأصحابه، هذه أدلة تحتف لتبين أن هذا القرآن كلام الله –تبارك وتعالى- على الحقيقة.

    مما اختص به القرآن كذلك أنه لا يخلق عن كثرة الرد، بمعنى أنه مهما قرأ القارئ لكتاب الله وقرأ وعاد، فإنه يعود إليه جديدًا، وهذه الخاصية لا توجد في أي كلام آخر، فإنّ أي كلام آخر إذا قرأه الإنسان مرتين وثلاث وأربعة يَمِلّهْ، ويسأم منه، فضلًا عن أن يقرأه مائة مرة، أو ألف مرة، فإنه بعد ذلك يصبح كالغصة، لو أنّ هناك قصة مثلا ممتازة ورائعة لا يطيق الإنسان أن يقرأها أكثر من مرة، إذا قرأها مرة ثانية ، و قد يقرأها مرة ثالثة يستمتع بها  نوع من الاستمتاع، لكن أن يقرأها ألف مرة، ويبقى الحلاوة والطلاوة والاستمتاع الاشتياق إليها، و غزارة المعنى وعمق اللفظ باق، فالقرآن له حلاوة وعليه طلاوة وهو لا يخلق عن كثرة الرد كما جاء في الحديث «لا يخلق عن كثرة الرد» ومعنى (يخلق) يعني (يبلى) ويتمزق بل أهل القرآن كلما ازدادوا له قراءة ازدادوا له حبًا وشغفا، بل هم في كل قراءة جديدة كأنهم يقرءونه جديدا، وهذه خاصية ليست لأي كلامٍ آخر.

من خصائص القرآن كذلك؛ أنه خطاب عزة، وهذا يختلف عن كل خطاب آخر في الأرض، وعن كل كتابٍ آخر، خطاب عزة خطاب من الرب العزيز المستعلي على عباده –سبحانه وتعالى- الغني عنهم، فهو يخاطبهم وهو ربهم إلههم خالقهم، ويأمرهم بما يأمرهم به، ويتوعدهم ويتهددهم، ويفرض ما يفرضه –سبحانه وتعالى- مع ملكه ومُكنته في أن يُنْفِذَ وعده ووعيده –سبحانه وتعالى-، لا يمكن أن تقرأ في كتاب آخر أو لكتاب آخر أو لأي مؤلفٍ ولمؤَلف في الدنيا وتجد أنه كالقرآن في العزة، تقرأ مثلا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)}[الزمر]، هذه مطالع السور، تقرأ سورةٌ أنزلناها –الله الذي أنزلها- {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:1]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}[الفرقان]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)}[الكهف] وهكذا القرآن كله إذا قُرِئ علم أنه تنزيل من العزيز الحكيم –سبحانه وتعالى- وأن الله العزيز هو الذي يخاطب عباده يأمرهم ينهاهم يتوعد  أهل المعصية منهم ,يترفق بأهل الطاعة منهم وسيأتي كذلك  كما أن القرآن خطاب عزة فهو خطاب رحمة، خطاب عزة للجميع، الله –تبارك وتعالى يخاطب الجميع - جميع عباده وهو الرب العزيز –سبحانه وتعالى- الغالب الذي لا يغلبه أحد، وخطاب رحمة لأهل الإيمان، وسور خطاب الرحمة كثيرة في القرآن، منها البيان والإرشاد والموعظة، والتلطف في الخطاب، إذا نظرت كيف يخاطب الله –تبارك وتعالى- عباده المؤمنين؟ تجد أمرًا عجبًا! أمرًا عجبًا في تلطف الرب –تبارك وتعالى- في خطابهم، لو أخذنا مثلًا أي فريضة من الفرائض التي يأمر الله –تبارك وتعالى- عباده المؤمنين لنأخذ مثلًا فريضة الإنفاق، ينادي الله –تبارك وتعالى- عباده المؤمنين فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254] أنظر التلطف والترفق في الخطاب، وأنّ الله يناديهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فيناديهم بأحب الأسماء وأشرفها تهييجًا لهم عن الفعل، فالإيمان أشرف الأسماء، {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} جزء من الذي أعطيناكم، فالله هو معطيه –سبحانه وتعالى- هذا تسهيل للإنفاق {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} إن هذا ينفعكم في يوم القيامة، لأنك في هذا اليوم لا تستفيد بالمال الذي عندك مهما كان لك من المال، فإنه يأتي وقت لا تستفيد به، بمجرد أن تموت انتهى، انقطعت صلتك بهذا المال، {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[مريم:40] فلا تستطيع بعد ذلك أن تنتفع به إن أصبح للورثة وانتقل عن ملكك، إذن لا تستفيد به إلا وقت حياتك فقط، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254]، سيأتي تفصيل هذا مع تفسير آيات الله لكن الشاهد أنه يترفق الخطاب في باب الإنفاق حتى يقول الله –تبارك وتعالى- {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة:245] {مَنْ ذَا الَّذِي} من هو هذا؟ الله ينادي عبده الذي من يُسلف الله {يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} تُسْلفُ الله فأنت تكون المُعطي والمُقرض، والله الذي يكون المقترض والذي يستلف تعالى الله -سبحانه وتعالى- وتلطف وتكرم أسلوب من أسلوب تكريم في الخطاب المقصود به حث المؤمن، وليعلم أنّ ماله إنما يقع في يد الكريم –سبحانه وتعالى- وأنّ الله سينمي له هذا المال، ويعطيه أضعافًا مضاعفة، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، يدفع دينار فيأخذ عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

فالقرآن من  خصوصياته أنه خطاب عزة للعالمين، حتى في مخاطبته المؤمنين الله يخاطبهم وهو العزيز كذلك، من مثل قوله –تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}[البقرة] انظر هنا خطاب للمؤمنين لكنه خطاب عزة فيه وعيد، فيه تهديد، اعملوا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} يعني ادخلوا فى شرائع الإسلام كله الإسلام هو السلم، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} تحذير من اتباع الشيطان {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} الزلل هنا بمعنى الخطيئة المتعمدة، انزلقتم عن طريق الخير بعد أن جاءتكم البينات {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ (غالب) حَكِيمٌ} ثم قال –جل وعلا-: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} هذا تحذير من الرب –تبارك وتعالى- وأنّ يوم القيامة قد يكون قريب وإذا أنت أمهلت ولم تقم بما أمرك الله –تبارك وتعالى- فاعلم أنّ يوم القيامة آتٍ، وأنّ الله –سبحانه وتعالى- سيأتي العباد لفصل القضاء، وأخبر الله أنّ مجيئه على هذه الصورة {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (أي يأتون كذلك) كما جاء فى الحديث أنّه تفتح تطوى السماء الأولى وينزل يعني الملائكة، فيحيطون بأهل المحشر، ثم ينزل ملائكة السماء الثانية ويطوقون أهل المحشر، ثم الثالثة فالرابعة إلى السابعة، ثم يأتي الله –تبارك وتعالى- لفصل القضاء، في هذا الوقت انتهت الفرصة، لا فرصة بعد ذلك لأحد، انتهت الفرصة بالموت، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (210)} [البقرة] ثم ذكر ببني إسرائيل {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}، فالقرآن خطاب عزة للجميع، وهو خطاب رحمة، رحمة لعباد الله –تبارك وتعالى- المؤمنين، صور الرحمة هذه صور كثيرة وكلها ستتأتى إن شاء الله  ستأتي بالتفصيل في أثناء البيان لكتاب الله –تبارك وتعالى-

في ختام هذه الحلقة أختم بحمد الله تبارك وتعالى والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد