الجمعة 18 شوّال 1445 . 26 أبريل 2024

الحلقة (20) - سورة البقرة 43-48

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد ،،،،،،

أيها الإخوة الكرام، يقول الله –تبارك وتعالى- {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[البقرة:44]. {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]. {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46].{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]. {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48].

هذه الآيات في سياق دعوة الله –تبارك وتعالى- بني إسرائيل إلى الإيمان به وإنفاذ عهدهم مع الله -تبارك وتعالى- حتى ينفذ الله -تبارك وتعالى- عهده معهم، هنا ذكرهم الله -تبارك وتعالى– وقال لهم منكرًا عليهم {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. أتأمرون .... الهمزة همزة الاستفهام، {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ}، أي الناس الذين هم غيرهم وتنسون أنفسكم، قيل السبب في نزول هذه الآية أنهم أحيانًا كانوا إذا سئلوا في شأن النبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه- قالوا نعم هو نبي ولكنه ليس نبيًا لنا إنما هو نبي الأميين, وقد يحدث بعض الناس بالإيمان به دونهم، فهذه دعوتهم للناس, أو قولهم بأن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو نبي للأميين ودعوة الناس إلى الإيمان بالنبي دون أن يدخلوا بذلك فكأنهم أمروا الناس بالبر ونسوا أنفسهم, وهم يعلمون أن هذا النبي هو رسول الله إلى العالمين, فكيف يدعون الناس إلى الإيمان بالنبي وقولهم أنه نبي ثم هم يمتنعون عن ذلك؟، {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ........}. كما كان الشأن في أساطينهم وأحبارهم وكبرائهم كانوا على غير هدى، فيأمرون غيرهم بالخير ولكنهم لا يفعلون هم، وهذا من شر الأفعال ومن الصد عن سبيل الله، فيأمرون غيرهم بالخير ولكنهم لا يمتثلون هم في أنفسهم بالخير الذى يأمرونهم به، {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ}، والبر هو كل خصال الخير داخلة في البر كما في قول الله {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].

فالبر لفظ جامع يجمع كل خصال الخير, سواء كان منها ما يختص بالاعتقاد وأعمال القلوب, أو ما يختص بأعمال الجوارح, كل ما دعا الله -تبارك وتعالى– إليه من خير داخل في معنى البر, وفاعل البر هو البار, والبار اسم من أسماء الله –تبارك وتعالى-، فالله هو البر، الرحيم؛ لأن كل أفعاله خير –سبحانه وتعالى-، كل أفعاله خير، وكل صفاته خير -جل وعلا-.

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ}،  بفعل الخير {َتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}، أي فلا تأمرونها {وأنتم تتلون الكتاب}، جملة حالية والحال أنكم تتلون الكتاب كتاب الله –تبارك وتعالى– التوراة, وفيها صفة النبي -صلوات الله وسلامه عليه- وأنه مرسل لكم وللناس جميعًا, وليس مرسلًا إلى العرب وحدهم، {أفلا تعقلون}، هذا إنكار, سؤال يراد به الإنكار,  ألا عقل لكم، فالإنسان الذى له عقل لا شك أنه يرى أن نفسه أولى بالخير من غيره, وكل عاقل هكذا، إذا كان هناك خير فينبغي أن يبدأ به لنفسه, أما أن يدل غيره على الخير ويحرم هو نفسه من هذا الخير, فهذا لا عقل له، فهذا هو الذى لا عقل له، وهنا قد فعلوا فعل من لا عقل له، فإنهم دلوا غيرهم على الخير ولم يلزموا أنفسهم، لم يدلوا أنفسهم على هذا الخير فدل هذا على أنه لا عقول لهم، {أفلا تعقلون}، أي فتفعلون ذلك، ثم {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].

هنا دعاهم الله –تبارك وتعالى– للوسيلة التي بها يهتدون, ويتمكنون من الدين ويكونون من أهل البر على الحقيقة, {استعينوا}، الاستعانة التي هي طلب العون, بالصبر والصلاة، الصبر قيل في معناه حبس النفس على المكروه دون تضجر ودون ألم, والدين جاء بالصبر, أولًا:- الصبر على الطاعة؛ لأن الطاعة لا تُفْعل إلا بصبر ومثابرة, والصلاة والمداومة عليها صبر, والصوم صبر, والحج جهاد ويحتاج إلى صبر, والقتال في سبيل الله يحتاج إلى صبر, الإنفاق في سبيل الله يحتاج إلى صبر, وحمل النفس على ما تكرهه فالطاعة تحتاج صبر، كذلك المعصية وفطم الناس عنها والبعد عنها يحتاج إلى صبر؛ حتى يفطم الإنسان نفسه عن شهواتها المحرمة وعن جموحها، والصبر على الأحداث وعلى الابتلاء، فإن الله تبارك وتعالى يبتلى عباده بالخير وبالشر، يبتليهم بالشر ليبتلي صبرهم، إيمانهم، تقواهم, فالصبر لا بد أن يكون        صفة للمؤمن؛ لأنه لا ثبات على الإيمان إلا بالصبر، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ}، استعينوا به على طاعة الله –تبارك وتعالى– على الإيمان به، على السير فيه، على البعد عن معاصيه.

{والصلاة}، ثم عطف بالصلاة, إما أن هذا من باب عطف الخاص بعد العام؛ لأن الاستعانة بالصبر يدخل فيهه كذلك الصلاة؛ لأنها لا يمكن أن يفعلها الإنسان إلا بأن يداوم عليها وأن يصبر عليها، وإما أنها بابٌ آخر مما يستعان به, وهى بابٌ عظيمٌ، وكان نبينا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، حزبه بمعنى أثقل عليه وضايقه واشتد عليه، عند ذلك يفزع إلى الصلاة، فالصلاة مَفْزعة؛ لأنها لجوء إلى الله –تبارك وتعالى–, وتوكل عليه وراحة وأمن مع الله –تبارك وتعالى– ودعاء له وهذا من أعظم ما يستعان به.

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}، ثم لما ذكر الله الصلاة قال {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} {وإنها} هنا الصلاة {لكبيرة}، لكبيرة بمعنى إقامتها والاستعانة بها والفزع إليها في كل وقت، هذا أمر كبير، بمعنى أنه شاق عسير {إلا على الخاشعين}، إلا على أهل الخشوع لله، والخشوع هو التطامن, والخضوع, يقال الأرض خاشعة أي ذليلة, ليس فيها نبات وليس فيها عشبٌ؛ فهي ذليلة {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[الحج:5]، فالخاشع هو القائم بين يدى الله –تبارك وتعالى– بذل وخضوع واستكانة للرب –جل وعلا– فهؤلاء أهل الخشوع لله –تبارك وتعالى- الذليلون، الخاضعون لله –تبارك وتعالى– تكون الصلاة عليهم سهلة، بل هي روح لهم وريحان, فيها رائحتهم وسعادتهم وأمنهم, كما قال النبي، {وجعلت قرة عيني في الصلاة}، وقرة العين هي نهاية المحبوبات، أعظم المحبوبات، {حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة}،  غاية ما أحب هو الصلاة، فإذا كانت في الصلاة كان في أعظم مستلذاته ومشتهياته ومحبوباته -صلوات الله وسلامه عليه-.

فأهل الخشوع تصبح الصلاة عليهم روح وريحان {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} أي لا تكون كبيرة عليهم، بل تكون راحة لنفوسهم، ثم إن الصلاة نور كما قال النبي {والصلاة نور}. أي إذا استعنتم بالصبر واستعنتم بالصلاة أضاء الله –تبارك وتعالى– قلوبكم وشرح صدوركم للإسلام والإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- والسير في طريق الله –عز وجل– {فالصبر ضياء، والصلاة نور}، والصلاة نور والصبر ضياء، فجمع الله –تبارك وتعالى– بين هذين النوريين الصبر والصلاة.

الصبر والصلاة نور للعبد المؤمن يهديه الله –تبارك وتعالى- به سبل السلام، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].، ثم وصف الله - تبارك وتعالى – هؤلاء الخاشعين فقال {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46]، خشوع هؤلاء الخاشعين إنما كان لأنهم يظنون أنهم ملاقو ربهم، الظن هنا هو اليقين، الذين يعتقدون ويوقنون بأنهم ملاقو ربهم، ملاقوه وهذا اللقاء يوم القيامة، لقاء للحساب, والسؤال, ووزن الأعمال, وبعده تكون الجنة أو النار، فالذين يوقنون بأن لقاءهم مع الله حتم وأنهم سيقفون أمام الله -تبارك وتعالى- بلا حائل, ولا يستطيع أن يخفوا شيئًا من أمرهم عن الله –تبارك وتعالى- {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]. {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]. {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} أي لا أحد يستطيع أن يكتم الله –تبارك وتعالى– شيئًا؛ لأن الله عليمٌ بذات الصدور، {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9] {تبلى السرائر}، تبلى تهتك السرائر, والتي هي جمع سريرة، وما أسره الإنسان وأخفاه, {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}[الطارق:10] {فما له} للإنسان {من قوة} يدفع بها عن نفسه العذاب {ولا ناصر} ينصرهم من الله –تبارك وتعالى–, فكل من يعتقد بأنه ملاقٍ ربه, وأنه سيكون بين يدي ربه, ليس له ناصر ولا حائل بينه وبين الله –تبارك وتعالى-، فهذا الذى تصبح الصلاة يسيرةً عليه ويصبح خاشعًا، هؤلاء هم أهل الخشوع.

 كما قال –جل وعلا– {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأنعام:51] {وأنذر به} يا محمد أنذر بهذا القرآن {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} فهذا هو الذى يستفيد بالنذارة, الذى يعتقد بأنه سيقف وحده أمام الله –تبارك وتعالى–, وأنه ليس له من دون الله ولى ولا شفيع يشفع له, ولا ناصر يدفع عنه الضر، فالذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون, يعتقدون أنهم راجعون إلى الله –تبارك وتعالى–؛ ليحاسبهم, فهؤلاء هم الذين يعيشون بالذل وبالخضوع وبالخشوع؛ لأنهم يقدرون هذا اليوم العظيم؛ فلذلك دائمًا هم يفزعون إلى الله –جل وعلا– كما قال –جل وعلا- {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]. {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46].

ثم {يا بنى إسرائيل}، نداء بعد نداء، {يا بنى إسرائيل} يا أولاد يعقوب, {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} مرة ثانية يذكرهم الله –تبارك وتعالى– بنعمه الكثيرة التي أنعمها عليهم، ثم {وأني فضلتكم على العالمين}. هذه نعمة عظيمة من نعم الله –تبارك وتعالى– {وأني فضلتكم على العالمين}، أني أنا الله -سبحانه وتعالى- فضلتكم على العالمين، جعلتكم أفضل من كل الأمم والشعوب غيركم, وهذا التفضيل مثل ما ذكرناه أن الله –تبارك وتعالى– جعل في نسل إبراهيم من إسحاق ثم من يعقوب النبوة والرسالة, فالنبوات والرسالات كلها منذ ذلك الوقت من وقت إسرائيل إلى عيسى عليه السلام كلها كانت في بنى إسرائيل، كلهم من أولاد يعقوب، فهذا فضلٌ فضلهم الله –تبارك وتعالى– بأن جعل النبوة والرسالة فيهم, وهؤلاء الرسل العظام منهم موسى وعيسى عليهم السلام, فقد فضلوا على العالمين, هؤلاء المؤمنون فضلوا على العالمين بهذا.

لكن لا شك أن هذه الأمة ليست أفضل من الأمة التي بعث فيها النبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه-، فإن الله فضلهم على العالمين في زمانه عندما كانوا على الإيمان، وأما بالنسبة لأمة محمد -صلوات الله وسلامه عليه- فإن الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنه فضلهم على كل أمم الأرض من أهل الهداية جميعًا, كما قال -جل وعلا- {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس}[آل عمران:110]. {كنتم} أيها المؤمنون {خير أمة أخرجت للناس} وخيرية هذه الأمة أمة محمد على بنى إسرائيل من وجوه كثيرة جدًا.

أولًا:- أن الرسول الذى بعث فيها هو خير رسول, وأفضل الرسل جميعًا الذين أرسلهم الله –تبارك وتعالى–, فقد فضله الله على جميع الأنبياء والرسل، فهو سيد ولد بني آدم ولا فخر، وفضله على الأنبياء بست. ثم إن أهل الإيمان الذين آمنوا بالنبي محمد كانوا خير أصحاب الأنبياء، فإذا قورن أصحاب النبي -صلوات الله وسلامه عليه– بأصحاب موسى وبأصحاب عيسى, كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من الجميع، فأصحاب النبي -صلوات الله وسلامه عليه- أولًا استجابوا للنبي في الوقت الذى هو أحلك الأمور وهو القتال، ولم يستجب أصحاب موسى؛ فإن أصحاب موسى عندما جاءهم الأمر الإلهي بأن يقاتلوا عدوهم كعوا وجبنوا {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}[المائدة:22]، ثم بعد ذلك {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24]

وقد امتحن أصحاب النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه– بمثل هذا الخوف, وهو أشد امتحان, عندما واجهوا عدوهم لأول مرة كذلك, وقال لهم النبي: {جاءت قريش أشيروا على أيها الناس}، فقام الجميع فخطب، خطب المهاجرون, ثم خطب الأنصار, وكان ممن خطب من الأنصار سعد بن معاذ –رضى الله تبارك وتعالى عنه– فقال: يا رسول الله لقد آمنا بالله وآمنا بك وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل, ولو ذهبت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، قم يا رسول الله إلى ما أمرك الله، والله إننا لصبر في اللقاء، إنا لصبر في القتال، صدق في اللقاء، أهل صدق في اللقاء ثم قام المقداد بن أسود فقال: يا رسول الله والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فكان هذا فارقا هائلا جدًا.

انظر ماذا فعل أصحاب موسى عند الخوف, وماذا فعل أصحاب محمد عند الخوف، كذلك في الطمع، انظر ما صنع بنو إسرائيل عند الطمع, وما صنع أصحاب النبي عند الطمع، فعند الطمع, ربنا ابتلى ناسًا من بنى إسرائيل بصيد سمك, وامتحنهم هل يصيدوا في اليوم الذى حرم عليهم العمل فيه وهو يوم السبت أم لا؟، قال –جل وعلا- {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163]. إلى أن أخبر الله –تبارك وتعالى– بأن عامة أهل القرية استحلوا هذا الحرام.

المسلمون أيضًا ابتلاهم الله –تبارك وتعالى– بالطمع، فماذا كان منهم؟، كان مع النبي في غزوة الحديبية أربع عشرة مائة، ألف وأربعمائة مع النبي -صلوات الله وسلامه عليه– وقال لهم الله –تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94].، وأرسل الله –تبارك وتعالى– عليهم صيد البر, والعرب معروف أنهم يحبون الصيد ويشتهونه ويبذلون في سبيله ما يبذلون، أرسل الله –تبارك وتعالى– لهم صيد البر كله, فالغزلان كانت تأتى وتنطح بقرونها خيامهم, والطير تأتيهم ولا يفر منهم, ولم يوجد صحابيٌ واحدٌ أخذ فرخًا لطير في هذا، فعند الطمع كذلك كانوا قمة في ذلك، فابتلاهم الله بالخوف فكانوا الرجال، ابتلاهم بالطمع فكانوا أهل الاستقامة, وهم لا شك أنهم خير أصحاب الأنبياء، ثم إن هذه الأمة جعل الله –تبارك وتعالى– فيها الجهاد والقيام بالأمر, ولا تزال طائفة منها قائمة بأمر الله حتى يقاتل آخرهم الدجال.

على كل حال أوجه تفضيل النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه– وأمته أمة الإسلام على سائر أمم الهداية, هذا بابٌ عظيمٌ, وبابٌ واسعٌ, وأوجه التفضيل عظيمةٌ جدًا, والمقصود هنا البيان أن قول الله –تبارك وتعالى– {وأنى فضلتكم على العالمين} إنما هم في زمانهم, وليس العالمين مطلقًا في كل زمان, حتى أمة محمد –صلوات الله وسلامه عليه–؛ فإن أمة محمدٍ أفضل منهم, أمة الهداية أفضل منهم, لا شك لقول الله –تبارك وتعالى- {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}[آل عمران:110]

 فها هي أمة محمدٍ هي خيرٌ من بنى إسرائيل, ولا شك، لكن الله هنا يذكِّرُهم نعمته –سبحانه وتعالى– ويبيِّن لهم أنه فضلهم على العالمين؛ بما أعطاهم الله -تبارك وتعالى- بهذه التفضيلات أن جعل فيهم النبوة، وجعل فيهم الرسالة، جعل فيهم الهداية، أعطاهم هذه الآيات العظيمة التي أجراها الله -تبارك وتعالى- على يد أنبيائه, ثم قال –تبارك وتعالى- {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48], هنا يحذرهم الله –تبارك وتعالى– في تتمة هذه الآيات المجملة قال {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا........}. اتقوا، خافوا، اجعلوا وقاية بينكم وبين العذاب الذى يكون في هذا اليوم، هذا اليوم وصفه الله –تبارك وتعالى- {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} وهذا اليوم هو يوم القيامة وهذه أوصافه، {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}، نفس، أي نفس, عن نفس، أي نفس لا تجزى نفس, ولو كانت نفس نبي أو نفس رسول مهما كانت، أو ملك من الملائكة، أي نفس لا تجزى عن نفس أخرى, ولو كانت هذه النفس هي ابنه، هي أخوه، هي زوجه، فإن كل إنسان في هذا اليوم إنما هو مرتبط بعمله، وهنا يقطع الله –تبارك وتعالى–  آمالهم الكاذبة التي علقوها في النجاة على أنهم منسوبون للأنبياء، يقولون: نحن أولاد إبراهيم، نحن أولاد إسرائيل، والله بارك آباءنا، فما دام بارك آباءنا ونحن من نسلهم ومن ذريتهم فنحن مباركون تبعًا للبركة التي باركها الله –تبارك وتعالى– للآباء.

فالله يخبرهم أن الأمر عنده –سبحانه وتعالى– أن كل إنسان مرهون بعمله، {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا........}. {شيئا} بمعنى أي شيء إخراجا من النار، إدخالا لجنة، إسقاط شيء من العقوبة، {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}، لا مجال أن تقبل شفاعة، {يُقْبَلُ} الذى يقبل الشفاعة هو الله –تبارك وتعالى–, وأصل الشفاعة هي أن يضم الطالب والمعتذر إلى نفسه, فكأنه إنسانٌ واحدٌ فردٌ؛ فيقوم يأتي بآخر يشفع له, بمعنى أنه يشفع به, فيكون هو معه زوج, وسمى كل طلب من آخر لآخر من شخص لآخر شفاعة من هذا الباب.

والله –تبارك وتعالى– أخبر بأنه لا يقبل شفاعة في الكافر الذى مات على الكفر، أي شفاعة ولو كان لنبي أو من له منزلة عند الله –تبارك وتعالى– لملك ثم {لا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون}.

هذه الآية قطع الله –تبارك وتعالى– فيها كل الصور التي يمكن أن يتعلق فيها الإنسان بالنجاة, وهى ليست من صور النجاة، لأن هذه صور تحتاج إلى شيء من التفصيل.

نرجئ هذا إلى حلقة آتية إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.