الإثنين 13 ذو القعدة 1445 . 20 مايو 2024

الحلقة (200) - سورة الأعراف 44-53

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فكنا وقفنا في الحلقة الماضية مع قول الله -تبارك وتعالى- {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:44-46].

 بعد أن عرض الله -تبارك وتعالى- لنا المآل الذي سيؤول إليه أهل الكفران وأهل الإيمان، شرع -سبحانه وتعالى- يبين هذا الحديث الذي سيدور بين أهل الجنة وأهل النار، وبين أهل النار وبين أهل الجنة وبين طائفة بين الجنة والنار، هنا سماهم الله -تبارك وتعالى- أصحاب الأعراف، أهل الأعراف، رجال على الأعراف، يخاطبون أهل الجنة ويخاطبون أهل النار، وينقل الله -تبارك وتعالى- هذا المشهد وكأننا نراه، مشهد من مشاهد الآخرة الذي سيكون الله -تبارك وتعالى- يقصه علينا ويخبرنا إياه بجسومه، بكلام أهله، بأحوالهم، بما يعتمل في نفوسهم، خلجات قلوبهم، كل هذا ينقله الله -تبارك وتعالى- ليكون المشهد حاضر.

مضى قول الله -تبارك وتعالى- قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:40-43].

ويبدأ نداء من أهل الجنة إلى أهل النار، قال -جل وعلا- {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ}، سماهم الله -تبارك وتعالى- أصحاب الجنة وذلك أن الصاحب ربما يأتي بمعنى المالك، فإن الله ملّك أهل الجنة الجنة، كما جاء {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وكذلك أهل النار أصبحوا هم أهلها وهم ملاكها، والصحبة تأتي كذلك في لغة العرب للملازمة الشديدة، وهؤلاء ملازمون وهؤلاء ملازمون، فلما كان أهل الجنة ملازموها فلا يبغون عنها حولا, وهم باقون فيها بقاءً لا إنقطاع له، وكذلك أهل النار باقون فيها بقاءً لا خروج منه، فهؤلاء أصحاب الجنة وهؤلاء أصحاب النار، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ........}[الأعراف:44]، سؤال للتبكيت والتأنيب، لا شك أن أهل الجنة يعلمون أن ما هم فيه وأن أهل النار قد ذاقوا النار وقد دخلوا النار، فقد رأوهم من الموقف يؤخذون من الموقف إلى النار -عياذًا بالله-، لكن هنا يبكتونهم ويسألونهم هذا السؤال لتقريعهم وتوبيخهم، فيقول لهم {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا}، الذي وعدنا الله -تبارك وتعالى- به قد رأيناه حقًا، ربما كانت هذه المعلومة لا يعلم أهل النار بما فاز به أهل الجنة وما نالوه ومقدار ما نالوه، فقالوا لهم كل ما وعدنا الله -تبارك وتعالى- به من الجنة والرضوان، الجنة الموصوفة بهذه الصفات العظيمة، التي وصف الله -تبارك وتعالى- يعني كل متعاها، وصف الله -تبارك وتعالى- أنهارها وأشجارها وثمارها وأطيارها وفرشها وأوانيها ونسائها ومتعتها وحال أهلها، ثم ما كذلك إدخره الله -تبارك وتعالى- وأخفاه عن كل أحد وجعله لأهل الجنة بعد ذلك مفاجأة لهم، للمبالغة في إتحافهم، يقول الله -تبارك وتعالى- «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، فيقول أهل الجنة إلى أهل النار {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا}، كل موعود الله -تبارك وتعالى- لنا قد وجدناه حقًا، حقًا يعني ثابتًا موجودا، {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا}، من النار والعذاب والنكال، فتكلموا بكلمة واحدة فقط {قَالُوا نَعَمْ}، فقط، وهذا يدل على مقدرا الخزي والألم والحسرة التي هم فيها، قالوا نعم فقط، إثبات أن الذي حصل لهم نعم، قال -جل وعلا- {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، فأذن مؤذن؛ مؤذن هذا نكره القرآن هنا، هل المؤذن هذا من الملائكة؟ مؤذن قام يؤذن والأذان هو الإعلام بصوت مرتفع، فهذا المؤذن قام بين أهل الجنة وأهل النار ويقول {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، لعنته طرده وعذابه وبغضه على الظالمين.

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ}[الأعراف:45]، هنا يبين هذا المنادي جريمة هؤلاء الظالمين وأنهم صدوا عن سبيل الله، {الَّذِينَ يَصُدُّونَ}، صد تأتي لازمة وتأتي متعدية، صد بنفسه عن الحق وصد غيره عن الحق، يصدون عن سبيل الله بأنفسهم وكذلك كانوا يصدون غيرهم، هنا يصدون عن سبيل الله يعني يمنعون الناس ويطردونهم عن دين الله -تبارك وتعالى-، بما فعلوا من الضرب، التخويف، الشبهات التي يلقونها، التشكيك، تحقير شأن الدين والدخول فيه،  {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ........}[الأعراف:45]، يبغونها يريدونها، يعني يريدون سبيل الله -تبارك وتعالى- أن تكون معوجة للسالكين فيها، لا يسلك فيها أحد، فيريدون قطع طريق الرب –تبارك وتعالى- عن السالكين فيه، {وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ}، وهم بالآخرة كافرون، وبالآخرة مقدم هنا وذلك أنه كان أكبر جحود لهم جحودهم بالآخرة، وأنه لا حساب بين يدي الرب -تبارك وتعالى-، إذن هذا خطاب أهل الجنة لأهل النار وهو خطاب تبكيت وتأنيب لهم وإشعار لهم بالخزي والعار الذي قد أصبحوا فيه، وتعقيب من هذا المؤذن الذي هو من قبل الله -تبارك وتعالى- يزيد هؤلاء أهل النار غمًا على غمهم، {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ}[الأعراف:45].

قال -جل وعلا- {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ}، حجاب بين الجنة والنار، حجاب هذا الحجاب هل هو مسافات شاسعة؟ هل هو جدار سد؟ بينهما حجاب؛ حجاب يحجب أهل الجنة عن أهل النار، قال -جل وعلا- {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ}، الأعراف هنا كما يفسرها القرآن أنها منزلة بين الجنة والنار، هل سميت الأعراف لأن أهلها يعرفون هؤلاء ويعرفون هؤلاء أعطاهم الله -تبارك وتعالى- هذا، أو الأعراف نسبة إلى عرف الفرس، وعرف الفرس أعلى شيء فيها، والأعراف هو مكان مرتفع بين هذه وهذه، المهم أنه مكان يخبر الله -تبارك وتعالى- فيه أنه بين الجنة والنار، ويدور الحديث بين هؤلاء الذين على الأعراف مع أهل الجنة ومع أهل النار، قال -جل وعلا- {وَبَيْنَهُمَا}، أي بين أهل الجنة وبين أهل النار، {حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ}، يعرفون كلًا من أهل الجنة ومن أهل النار بسيماهم؛ بعلاماتهم، طبعًا هنا تغيرت الصورة فإن الكافر في النار شكلًا وحجمًا ليس كما كان في هذه الدنيا، فإن الكافر في النار يقول النبي «مقعد الكافر في النار كما بين مكة والمدينة»، هذا مقعده، «وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام، وجلده مسيرة ثلاثة أيام، وضرس الكافر كجبل أحد»، الضرس الواحد، والله -تبارك وتعالى- قال {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}[المؤمنون:104]، والكالح هو الذي إسود وجهه وغيرت النار صورته -عياذًا بالله-، لكن أهل الأعراف يعرفونهم، كذلك أهل الجنة أنهم لا شك خلاص أشرقت وجوههم، ماء الجنة النضير يجري في وجوههم، يدخلون الجنة على هيئة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء، فقد تغيرت الصورة والشكل، لكن أهل الأعراف يعرفون أن هذا فلان ابن فلان، وهذا الذي في الجنة هذا كذلك فلان ابن فلان، يعرفون كلًا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم؛ بعلامات فيهم.

{وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ}، نادوا يعني نادى أصحاب الأعراف أهل الجنة أن سلام عليكم؛ سلموا عليهم، قال -جل وعلا- {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}، لم يدخلوها يعني أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة، {وَهُمْ يَطْمَعُونَ}، والطمع رغبة وتمني أن ينيلهم الله -تبارك وتعالى- الجنة في نهاية المطاف، {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}، وهذا يدل على أن مآلهم في أخر الأمر إلى دخول الجنة، وذلك أنه قيل أصح ما قيل في أهل الأعراف أناس تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فالحسنات والسيئات قد تساوت وليس لهم من الدرجة ما يدخلون به الجنة، وليس لهم من السيئات ما يسقط بهم إلى النار -عياذًا بالله-، فإذن هم لهم طمع في أن يدخلوها، {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}.

قال -جل وعلا- {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأعراف:47]، {وَإِذَا صُرِفَتْ}، بالبناء لما لم يسمى فاعله، وذلك أن النار من هولها لا يتعمد من هو خارجها أن ينظر إليها، النظر إليها عذاب، وإذا صرفت أبصارهم بأي صورة تحول يعني إذا حولت وجوههم إلى جهة النار {قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، إذا تحولوا، حولت وجوههم إلى النار عند ذلك استعاذوا بالله -تبارك وتعالى-، {قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، رجالا من أهل النار يعرفونهم بسيماهم ينادونهم، {قَالُوا}، أي أهل الأعراف لهم، {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}، {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ}، جمعكم المال وإذخاركم له ونحو ذلك، الثروات العظيمة والملايين، القناطير المقنطرة التي جمعتوها، ماذا أفادتكم الآن؟ وأنتم في هذا العذاب، {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ}، تمتعم سنوات قليل في هذه الدنيا؛ في الدنيا، ثم هذا هو المآل، {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}، يعني ما أغنى عنكم كبركم؟ كبركم الذي تكبرتموه عن الحق؛ ماذا أفادكم، أفادكم في أنكم رددتم الحق وتكبرتم عليه وقت من حياتكم في الدنيا، {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}.

{أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ}، أهؤلاء ويشيرون لأهل النار إلى أهل الجنة، {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ}، يعني يا أهل النار، {لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ}، فقد كان هؤلاء الكفار مع إستكبارهم على الحق يحلفون أن الله لا يمكن أن يكون قد رحم هؤلاء، ولا يمكن أن يكون الهدى مع هؤلاء، يقولون هؤلاء عبيدنا أرقائنا وهؤلاء ناس أراذلنا، كيف هم يريدهم الله -تبارك وتعالى- أن يرحمهم، ويكون قد هداهم وأن هذا هدى ويحرمنا نحن، الذين أعطانا الله -تبارك وتعالى- الأموال ومكن لنا وأعطانا هذه، فيظنون أن عطاء الله -تبارك وتعالى- لهم في الدنيا هذا موجب لأن يعطيهم في الآخرة، ولأن هذا الدين حق لنالوه هم قبل غيرهم، فظنوا أن القسمة ستكون على هذا النحو، ما دام الله -تبارك وتعالى- قد مكن لهم في الأرض وأعطاهم الغنى والثروات، فإذا كان الرسل جاءوا بالهدى الحقيقي فلابد أن يناله هؤلاء الأغنياء قبل الفقراء، فيقولون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم... يقول أهل الأعراف لهؤلاء, المجرمين {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}[الأعراف:49]، هذا النداء ادخلوا الجنة لهؤلاء الفقراء المساكين، الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى- وتوجهوا إليه، يخبر -سبحانه وتعالى- أن قول الله -تبارك وتعالى- {........ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}[الأعراف:49]، تطمين كامل ورفع لكل شائبة من الضر مستقبلًا وماضيًا، {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ}، لا يكن عليكم أي خوف،  {وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}، أي حزن.

ثم قال -جل وعلا- {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ ........}[الأعراف:50]، هذه بعد النداء البائس نداء أهل النار عند ذلك يأتي ندائهم لأهل الجنة، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ ........}[الأعراف:50]، أفيضوا؛ صبوا من الفيض وأعطونا، {مِنَ الْمَاءِ}، يطلبون الماء أولًا لأن الظمآن العطشان الذي تحرقه النار أول ما يفكر فيه الماء، {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}، من أي شيء رزقكم الله -تبارك وتعالى- من الرحمة، وهذا يدل على منتهى البؤس ومنتهى العذاب الذي هم فيه -عياذًا بالله-، {قَالُوا}، أي أهل الجنة لهم، {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}، متاع الجنة قد جعله الله -تبارك وتعالى- حرامًا يعني ممنوعًا، حرام هنا ممنوع، {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا}، الماء ورزق الجنة كله، حرمهما المثنى قالوا من الماء ومما رزقكم الله، {عَلَى الْكَافِرِينَ}.

{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا}، هؤلاء الكفار قد كانت هذه حياتهم، {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا}، دينهم حياتهم، لأن الدين هو الشرعة والمنهاج والصبغة العامة، اتخذوه لعبا ولهوًا، أو دينهم الذين يدينون به نحو الله -تبارك وتعالى- اتخذونه لهوًا ولعبًا، كما كان شأن مثلًا عبادة مشركي العرب فقد كانت عبادتهم نوع من اللهو واللعب، كما قال -جل وعلا- {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ........}[الأنفال:35]، صفير وتصفيق وطواف حول الكعبة رجالًا ونساءً عراة يتدينون بهذا، فقد كان دينهم ما يتقربون به إلى الله لهو ولعب، أو دينهم حياتهم التي انتهجوها هي لهو ولعب، لأن هذه هي أصلا صفة الحياة التي هي الخالية من الحق ومن الدين الحق هي لهو ولعب، كما قال -جل وعلا- {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:64]، فحياة الإنسان لعب ولهو إذا كان بدون دين؛ دون دين حق، فهؤلاء اتخذوا دينهم؛ اتخذوا حياتهم، فقط للهو واللعب، وقدم الله اللهو لأنه أشد يلهي، لأنهم التهوا بما هم فيه من الغنا والثراء والمتاع، ومعنى أنه ألهاه الأمر بمعنى أشغله عن ما هو جدير أن يشتغل به، فاشتغل بهذا الدنيء عن الأمر الخطير العظيم وهو أمر الآخرة.

{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، غرتهم وذلك أن التغرير هو الكذب، وإظهار شيء تافه في مظهر الشيء الثمين العظيم، فالدنيا غرتهم بمعنى أنها ألهتهم وجعلتهم يظنون أنها نهاية المطاف ومنتهى الأمل، فيفرغوا كل جهدهم وكل أملهم وكل رجائهم فيها وينسوا الآخرة، {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، الدنيا القريبة هذه أو الدنيئة، {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا}، هذا عقوبة الرب -جل وعلا- ولا عقوبة أشد من هذه، قال -جل وعلا- {فَالْيَوْمَ}، يوم الأخرة هذا، {نَنسَاهُمْ}، هذا كلام الرب -سبحانه وتعالى- الإله، والنسيان هنا الترك، يعني نتركهم فيما هم فيه من العذاب، والله -تبارك وتعالى- لا يضل ربي ولا ينسى, عنه شيء يضيع، يعني ينساه الرب -تبارك وتعالى- لا يخرج عن علم الله ولا يعزب عن علم الله شيء، ولكن هنا ننساهم بمعنى أننا نهملهم، نتركهم، نخليهم، فيما هم فيه من العذاب دون أن ينالهم من الله -تبارك وتعالى- أي بصر، ولا أي إنقاذ لهم من الله -تبارك وتعالى-، لا تأتيهم عين رحمة من الرب -تبارك وتعالى-، ولا ساعة يرفعهم الله -تبارك وتعالى- عن ما هم فيه، {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا}، عقوبة مساوية للذنب، مثل ما نسوا لقاء هذا اليوم الذي حذر الله -تبارك وتعالى- به بكل سبيل، وحذر به بكل تحذير، ولم يترك الله -تبارك وتعالى- طريقًا لإنذار العباد به إلا وقد قاله -سبحانه وتعالى-، الإخبار به، وصفه، حلف الرسل به أنه حق، إعطاء شواهد عليه المرة بعد المرة من الإشارات، فهذا اليوم الذي أنذر الله -تبارك وتعالى- به العباد، لما أهمل هؤلاء هذا اليوم وأهملوا خبر الله -تبارك وتعالى- وردوه وكأنهم لم يخبروا به.

فالله -تبارك وتعالى- يقول {........ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[الأعراف:51]، أي بجحودهم كذلك بآيات الله، والجحود هو إنكار الأمر بعد العلم به، يعني علموه وفقهوه وعلموا ما يريده الرب -تبارك وتعالى- ولكنهم جحدوه، بمعنى أنهم أنكروه وطمسوه ولم يريدوا أن يذعنوا له، فهذه العقوبة أشد عقوبة يمكن أن تكون في وعيد الله -تبارك وتعالى-، وهو أن الله -تبارك وتعالى- الله الذي بيده الأمر كله يخبر أنه سينساهم، أن هؤلاء وهم في هذا العذاب الموصوف بأن {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأعراف:41]، وهم في هذا العذاب. الله يقول {........ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[الأعراف:51]، هذا آخر هذا المشهد الذي صور الله -تبارك وتعالى- لنا فيه حال هؤلاء، هؤلاء أهل الجنة، هؤلاء أهل النار، هذا حالهم، هذا الخطاب الذي يكون بينهم، هؤلاء أهل الجنة ينادون أهل النار، وهؤلاء أهل النار ينادون أهل الجنة، هؤلاء هم أهل الأعراف الذين يعرفون هؤلاء فيكلمونهم، ويعرفون هؤلاء فيكلمونهم، المشهد ماثل أمامنا.

ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بعد ذلك ينقلنا الله -تبارك وتعالى- مرة ثانية إلى الدنيا، فيقول -جل وعلا- {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:52]، {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ}، تأكيد، جئناهم هؤلاء المكذبون الذي سيكون حالهم هذا في الآخرة، جئناهم في الدنيا بكتاب؛ القرآن، {فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ}، فصله الله -تبارك وتعالى- بمعنى أنه فصل بين موضوعاته وعناصره، كل موضوع من موضوعاته مبين موضح، ما في أمر يختلط، معنى يختلط مع معنى أخر ويلتبس به، بل هو واضح كل الوضوح قد فصلت كل الأمور فيه، {فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ}، على علم الرب -سبحانه وتعالى- يعني بعلم الله، وعلى علم من الله -تبارك وتعالى-، {هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، حال كون هذا الكتاب المنزل من الله -تبارك وتعالى- هدى؛ هدى بيان، هدى بيان من الله -تبارك وتعالى-، {وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، لكنه لأهل الإيمان، لأهل الإيمان فقط وذلك أن الله -تبارك وتعالى- يرحم أهل الإيمان به، وذلك بهذا الخطاب الندي الذي يخاطبهم الله -تبارك وتعالى- فيه، ويبين لهم هذه الحقائق ويشرح صدورهم لهذا القرآن، عندما يصدقون به تشرح صدورهم له ويحسون برحمة الله -تبارك وتعالى-، الذي ينقلهم ويبصرهم يقول لهم انظروا هذا، انظروا هذا، اعملوا هذا، تجنبوا هذا، هذا ترى الأمر هذا نهايته كذا وهذا نهايته كذا، فأهل الإيمان هذا الكتاب الذي جاء هدى ورحمة، لكن حصر الله -تبارك وتعالى- الهداية والرحة فيه، قال {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}، {هَلْ يَنظُرُونَ}، هل ينتظر هؤلاء الذين جاءهم هذا القرآن مبينًا لهم، {إِلَّا تَأْوِيلَهُ}، تأويله يعني حصول ما يخبر به، لأن هذا هو التأويل، التأويل يأتي بمعنى التفسير، والتأويل يأتي بمعنى ما يؤول إليه الأمر، وهو وقوع الأمر يعني وقوع الخبر وتحقيقه، كما قال يوسف مثلًا تأويل الرؤيا إنما هو تفسيرها من باب، ثم إذا وقعت كما فسرت يكون هذا تأويلها، كما قال يوسف -عليه السلام- لأبويه، قال {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ}، لما خر أبوه وأمه وإخوانه سجدًا له، قال {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}، تأويلها يعني الأمر الذي آلت إليه، فتأويل القرآن تحقق الأخبار التي يخبر بها القرآن، القرآن أخبر بالجنة، أخبر بالنار، أخبر بلقاء الرب -تبارك وتعالى-، عندما يقع هذا؛ هذا تأويله، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}، يعني عن وقوع هذه الأخبار التي أخبر بها القرآن يوم القيامة، {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}، في يوم القيامة، {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}، عند هذا يتذكرون أن القرآن كان حق، هذا الذي ردوه في الدنيا، {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}، لكن لا يفيد هذا الإعتراف في هذا الوقت لا يفيد، {........ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الأعراف:53]، فيتفجعون ويتوجعون ويتمنون هذه الأماني التي لا تكون، يقولون {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا}، عند الرب -تبارك وتعالى-، تخفيف العذاب، صرفه، إرجاعنا إلى الدنيا مرة ثانية، {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا}، ما عندهم شيء، {أَوْ نُرَدُّ}، أي إلى الدنيا، {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، من الكفر والشرك، نعمل الإيمان؛ العمل الصالح، قال -جل وعلا- {قَدْ خَسِرُوا}، لا يجابون على هذا لأنه ليس لهذا تحقق ووقوع، {قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ}، بأن أوردوها النار, خسارة ، ليست خسارة مال وأهل بل خسارة نفس، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}، كل الذي كانوا يفترونه من الآلهة الباطلة ومن ومن من الذي قالوه، كله ضل عنهم؛ رجع عنهم، وأصبحت الحقيقة ماثلة، الحقيقة التي تكلم بها القرآن هي الحقيقة الماثلة، وغيرها من الباطل زال، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.

نقف عند هذا، ونصلي ونسلم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.