الإثنين 13 ذو القعدة 1445 . 20 مايو 2024

الحلقة (203) - سورة الأعراف 65-74

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.

وبعد فقد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}[الأعراف:65]، {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[الأعراف:66]، {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:67]، {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}[الأعراف:68]، {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الأعراف:69]، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأعراف:70]، {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ}[الأعراف:71]، {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ}[الأعراف:72]، هذه صَفْحَةٌ جديدة مِن صفحات تاريخ الرسالات، عاد الذين أَرْسَلَ الله -تبارك وتعالى- فيهم أخاهم هُودَا، ذَكَر الله -تبارك وتعالى- ذلك بعد أنْ ذكَرَ قوم نوح، دعوة نوح إليهم، ماذا كان رَدُّهم؟ ماذا كانت النتيجة؟  قال -تبارك وتعالى- فيهم : {........ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ}[الأعراف:64]، القصة تَتَكرر لكن قوم آخرون، لكن المَشَاهِد هي المَشَاهِد، الرَّسُول دعوته هي دعوة مَن قَبْله، ما يقال له قِيل لِمَن قبله مِن الرُّسل، مواقف المكذبين واحدة ثم تكون النتيجة واحدة، أنْ يستأصل الله -تبارك وتعالى- المجرمين، وأنْ يُنَجِّي الله -تبارك وتعالى- المؤمنين.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}، أي وأرسلنا إلى عَاد؛ قبيلة عاد قبيلة عَرَبيَّة، كانت تَسْكُن في جنوب الجَزِيَرة في الأحقاف، صحراء الأحقاف المعروفة الآن، كما قال -تبارك وتعالى- : {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ........}[الأحقاف:21]، هذه القَبِيْلَة العربية وهذه مِن العَرَب البائدة التي استأصلها الله -تبارك وتعالى-، أَرْسَلَ الله -تبارك وتعالى- فيهم أخاهم، سَمَّاه الله -تبارك وتعالى- أنَّه أخاهم هود، وذلك أنَّه كان منهم؛ مِن القبيلة، {قَالَ}، أي هود -عليه السَّلام-، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، دَعْوته دعوة كل رسول إلى قومه، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، لا إله لكم سِوَاه، لا إله؛ لا معبود لكم، وذلك أنَّ الإله الذي يستحق العبادة والأُلَوهة هو الخالق الرَّازِق البارئ المَلِك المُدبِّر، وهذا ليس لأحد إلا الله -تبارك وتعالى-، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- خَالِق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، له مَقَالِيد السماوات والأرض وليس هناك مَن يُشْبِهُه، مَن يُمَاثِله، مَن له يدٌ وفضل على ذَرَّة في الوجود قَطّ، ليس لغير الله -تبارك وتعالى- فَضْل على غيره قَطّ، في أنْ أوجده، أنْ يُحْيِهِ، أنْ يُمِيتَهَ، لا يَمْلِكُ لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا بإذن مولاه -سبحانه وتعالى-، فالله هو الإله الذي لا إله إلا هو، الذي لا كُفْءَ له ولا شَبِيْه له ولا نَظِير له ولا مِثْل له، وبالتالي هو وحده الذي يستحق العبادة، اعبدوا الله فهو ربكم ما لكم مِن إله غيره، {أَفَلا تَتَّقُونَ}، دعوة إلى مَخَافة الرَّب -تبارك وتعالى-، {أَفَلا تَتَّقُونَ}، تجعلون بينكم وبَيْن عقوبة الله -تبارك وتعالى- وِقَاية، فإنَّه يُعَذِّبُ مَن عَصَاه -سبحانه وتعالى- {أَفَلا تَتَّقُونَ}، أفلا تخافون هذا الرَّب الإله -سبحانه وتعالى-.

قال -جلَّ وعَلا- : {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ........}[الأعراف:66]، الملأ الأشراف الذين يَمْلؤون المكان ويَمْلؤون العين ويملؤون الأرض، {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}، أهل الكفر، {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}، جعلوا هذه الدعوة؛ دعوة الحق، الذي لا حق أفضل منها، الحق الصُّرَاح وهو دعوة الخَلْقِ إلى عبادة ربهم -سبحانه وتعالى-، جعلوا هذا سفاهة والسَّفَاهة هي الطَّيْش، وخِفَةُ العقل وعدم تقدير الأمور، فجعلوا الدعوة إلى عبادة الله -تبارك وتعالى- الذي هو أشرف عَمَل وهو العمل الحق، فإنَّ هذا حق الله -تبارك وتعالى- على عبيده وخَلْقه، جعلوا هذا سفاهة، قالوا : {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}، وقولهم في سفاهة أي كأنَّ السَّفَاهة ظَرْف له، فلا تَصَرُّفَ مِن تَصَرُّفَاتِه ولا قول مِن أقواله إلا ويَصْدُرُ سفيهًا، {........ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[الأعراف:66]، وإنا بالتأكيد كذلك، لنظنك أي يغلب على ظننا أنك مِن الكاذبين، وهذا أيضًا صفة الاستهزاء، أي هم يكذبوه ولكن يقول الغالب على الظن أنك كاذب فيما تدعيه، أنك رسول وأنَّ الله أرسلك وأنه اختارك مِن بيننا لتدعونا إليه.

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ}، وذلك أنَّ هود رسول الله -تبارك وتعالى-، دعوته دعوة الحق وهذا هو الرُّشْد، فهو رَشِيدٌ، أمينٌ، والله -تبارك وتعالى- لا يختار إلا أهل الرُّشْد وأهل الأمانة، وهذه الدعوة التي جاء بها والتي وصَفُوهُ بالسَّفَاهة لأجلها هي دعوة الحق، فانظر كيف هم يعيشون في السَّفِاهة حقًا، هذا هو السَّفِيه الذي لا يُقَدِّر الأمور، لا يُقَدِّر دعوة الله -تبارك وتعالى- ولا يَنظر العواقب، هذا يجعل نفسه أنَّه هو الذي على البصيرة وعلى الحق، وينظر إلى الرسول المُؤيد بالوحي مِن الله -تبارك وتعالى- الذي يدعو إلى الحق يجعله هو السَّفِيه، {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:67]، ولكني على الحقيقة رسول مُرْسَل مِن ربِّ العالمين، وربُّ العالمين إذا اختار بشرًا فلابد أنْ يختاره -سبحانه وتعالى- في غاية الحِكْمَة والعقل والأمانة والصِّدْق، فهذا لأنه سيكون رسول ربِّ العالمين، الله الذي يرسله فهو عنوان على الرَّب -تبارك وتعالى-، فإذا قال للناس أنا رسول مِن الله -تبارك وتعالى- لابد أنْ يكون كذلك، فإنَّ هذا تشريف عظيم، شَرَّفَ الله -تبارك وتعالى- هذا البشر، فَجَعَلَهُ رسول له يَحْمِل رسالاته، فلابد أنْ يكون في مستوى هذا الأمر العظيم، الذي يُكَلِّفُهُ الله -تبارك وتعالى- به، قال لهم ليس بي سفاهة، لا يمكن أنْ يختارني الله -تبارك وتعالى- لأكون رسولًا له، وأَنْطِق نُطْقًا فيه سفاهة وفيه طَيْش، وإنما الذي أدعوكم إليه هو الحق الصُّراح مِن ربكم -سبحانه وتعالى-، {........ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:67].

ثم انظروا دعوتي {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي}، أنا رسول مِن ربِّ العالمين أُبَلِّغُكم؛ أُوصل لكم رسالات ربي، وذلك لأنها كلامٌ بعد كلام؛ رسالة ٌبعد رسالة، {........ وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}[الأعراف:68]، وأنا لكم ناصح مُخْلِصٌ في قولي، أمين لا أكذب على الله -تبارك وتعالى- ولا أَدَّعِي ما ليس لي، بل إنما أنا مؤتمن على وحي الله -تبارك وتعالى-، وأَنْقله كما أخبرني الله -تبارك وتعالى- وكما حَمِّلَنِي إيَّاه، {........ وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}[الأعراف:68]، والناصح هو الذي خَلُصَ قلبه ويُحِبُ لقومه الخير ولا يَغُشُّهم.

ثم قال لهم : {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ}، ما وجه العجب فيما أي في هذا الأمر؟! {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، ذِكْر؛ تذكير مِن الله -تبارك وتعالى-، دعوة منه –سبحانه وتعالى- لكم لتتخذوا الطريق إليه، ولتعبدوه فهذا حقه -سبحانه وتعالى-، {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، خالقكم بارئكم، {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ}، اختار الله -تبارك وتعالى- رَجُلًا منكم لِيُحمِّلَه هذه الرسالة، {لِيُنذِرَكُمْ}، أي ليخوفكم عقوبة الخروج عن طريق الله -تبارك وتعالى- ومنهج الله، ثم قال لهم : {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}، اذكروا تَذَكَّروا واستحضروا هذا الأمر، {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ}، الخليفة هو الذي يأتي بعد قوم آخرين، جعلكم أنتم استخلفكم هذه الأرض بعد قوم نوح، الذين استأصلهم الله -تبارك وتعالى- وأهلكهم بتكذيبهم، فجعلكم الله -تبارك وتعالى- خلفاء في الأرض مِن بعدهم، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}، زادكم الله -تبارك وتعالى- في الخَلْقِ؛ في خَلْقِكُم بَسْطة، البَسْطَة هي الاتساع، ففي الطوال كانوا كما قال -تبارك وتعالى- : {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}[الفجر:8]، كانوا أهل أجسام طويلة، ويُقال أنَّهم هم العَمَالِقة، أهل شِدَة وبَطْش وقوة وأهل حِذْق وبِنَاء، كما قال لهم نَبِيُّهُم : {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}[الشعراء:128]، {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[الشعراء:129]، {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء:130]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}[الشعراء:131]، وهم قالوا لأنفسهم أي مَن أشد مِنِّا قوة، كانوا يرون أنهم أشد أهل الأرض قوة، فقال لهم : {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}، هذا مِن صنيعه وإكرامه لكم -سبحانه وتعالى- أنْ أعطاكم هذه الخَصِيْصَة، {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ}، فاذكروا اسْتَحْضِرُوا، {آلاءَ اللَّهِ}، آلائه نِعَمِه، آلاء نعم، الآلاء النِّعَم، {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، إذا تذكرتم هذا لعل هذا يأخذ بكم إلى طريق الفلاح، والفلاح هو الفوز بالمطلوب الأكبر، والإنسان يفوز بمطلوبه الأكبر إذا صُرِفَت عنه كل السيئات، وحصل له كل الخيرات وكل ما يُؤمله، ولا يكون هذا إلا بأن يفوز الإنسان بالجنة وينجو من النار، فإنَّ الجَنَّة أعظم مطلوب والنار أعظم مَهْرُوب، فانظر هذه دعوة هود لقومه، دعوة واضحة صريحة بيِّنة، الدليل قائمٌ عليها، ولكن أنظر ماذا يكون الرد.

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأعراف:70]، خَسِروا وخَابوا، {قَالُوا}، له متعجبين، {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ}، انظر يتعجبون مِن الحق الذي لا حق فوقه، وهو أنَّ الله هو الإله الواحد الذي يستحق العبادة -سبحانه وتعالى-، لا حق أكبر مِن هذا، لكنهم جاءوا هذا متعجبين، كيف نعبد الله وحده ونَذر ما كان يعبد آباؤنا, وماذا كان عليه الآباء؟ ضُلَّال، كُفَّار، اتخذوا آلهة و صنعوها بأنفسهم واخترعوا لها مُسمَّى الإله وليست بإله، قالوا أجئتنا أي رسول مِن الله في زَعْمِك {لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}، نترك الآلهة التي كان يعبدها آباؤنا، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، ُمْستهترين، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}، قالوا هذا على وَجْهِ التحدي والاستهزاء برسولهم والتكذيب له، أنَّه ليس في مُكْنَته وليس عنده هذا الأمر الذي يهدد به، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}، أي من العذاب، {إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، فيما تقول أنَّك رسول وأنك تُهَدِّدُنا بما تُهَدِّدُنا به، هذا إقفال، قَفَلُوا باب الحوار مع رسولهم، وقفلوا باب الهِدَايَة على أنفسهم، أغلقوه إغلاق نِهَائِي وتحدوا رسولهم، وقالوا لا يمكن أن نتنازل عن هذه الآلهة التي كان يعبدها آباؤنا، وما هذا الأمر الذي أتيتنا به، استهزأوا بالأمر الذي هو توحيد الله -تبارك وتعالى- وعبادته وحده لا شريك له، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ........}[الأعراف:70]، ثم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، هذا إغلاق لطريق الفَهْم عن رسولهم، وإغلاق للباب وعدم الإذن أنْ يسمحوا لأنفسهم بأنْ يسمعوا منه المزيد.

فعند ذلك قال لهم رسولهم : {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}، لمِّا قَفَلْتُم الباب على أنفسكم على هذا النحو، ولم تقبلوا الهِدَاية على هذا، وأصررتم على الكفر الذي أنتم عليه، ورددتم التوحيد الذي جئت به، فقد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب، وهذا الوقوع مُتَحَقق، قد تحقق هذا والعذاب يأتي في إثره، لكن هذا وقع الرِّجْس وهو العذاب، وأصل الرِّجس النَّجِس، وغضب مِن الله -تبارك وتعالى-، ثم قال لهم متعجبًا : {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، تجادلونني والجَدَل هو إلقاء ما يُلْقِيه طَرَف مِن حُجَّة ثم يلقي الأخر، سُمِّي هذا بالجَدَل لأنه كجَدْلِ الحَبْل، كجَدْل الحَبْل والحَبْل يكون له طرفين أو أكثر ثم يأتي الطَّرَف هذا على هذا الطَّرَف، ثم الطرف الثاني على هذا الطرف، وهذا استعير لمعنى الجِدَال، فهذا يُدْلي بحجة وذلك يدلي بحجة، أتجادلونني أي تراجعونني المَرَّة تلو المَرَّة، {فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ}، أسماء ليست حقائق، سَمَّيْتُم هذا إله وهو ليس إله، إذا جعلتم الشمس سميتوها الإلهة أو القمر إله أو هذا الصنم إله أو البحر إله، أنت صنعته، أنت سَمَّيته إله، لكن هو ليس إلهًا على الحقيقة، قال : {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ}، باختراعكم، وآباؤكم اخترعوا هذه الآلهة، {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، ما نَزَّل الله -تبارك وتعالى- مِن سُلطان لعبادة هذه الآلهة، السُّلطان هو الحجة القاهرة؛ السُّلْطَة، ما له سُلْطة، ما له قَهْر، إمَّا لتصدق به وإما لِتُزْعِنَ له ومنه سُمِّي الحاكم سُلْطَان، وسُمِّيت الحُجَة سلطان، فليس لها حُجَّة قاهرة بل وأثارة علِم أنَّ هذه آلهة، ما نَزَّل الله -تبارك وتعالى- {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ}، ما دام قد رضيتم لأنفسكم هذا التحدي {فَانتَظِرُوا}، هم طبعًا ينتظرون هَلَاك رسولهم وذِهَاب دعوته ونهايته، وقد قالوا له إنَّا نراك {إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، أنت رجل مجنون وقد أصابك هذا الجنون مِن بعض الآلهة لأنك تَسُبُّها وتَشْتُمها، فهم ينتظرون به أنَّه رَجُلٌ مجنون ستنتهي دعوته، وهو ينتظر موعود الله -تبارك وتعالى- الصَّادِق، في أنْ يذيقهم الله -تبارك وتعالى- العذاب في هذه الدنيا وأنْ ينجيه، قال : {فَانتَظِرُوا}، أي ما تنتظرونه، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ}، وشَتَّان بين انتظاره؛ انتظار الرسول، وانتظار هؤلاء الكفار، الكفار سيأتيهم العذاب مِن حيث لم يحتسبوا ولم يتوقعوا، والرسول سيأتيه موعود الله -تبارك وتعالى-.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}، أنجيناه؛ والإنجاء هو أنَّ الله -تبارك وتعالى-أنقذه هو وأهل الإيمان معه مِن العذاب، ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، قَطَعْنَا دَابرهم، الدَّابِر هو الذي يأتي في إثر القوم، فإذا كان القوم مُرْتَحِلُون فيكون آخر واحد فيهم هذا دابرهم، فَقَطَعَ الله دابرهم بمعنى أنَّه استأصلهم تمامًا، فالجيش إذا قُطِع دابره أي استُأْصِل آخِر رجل فيه، قَطَعَ الله -تبارك وتعالى- دابرهم، قال : {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ}، أَخْبَرَ -سبحانه وتعالى-  في مَوْضِع آخر مِن القرآن كيف قَطَع الله -تبارك وتعالى- دابرهم، وذلك بأنَّه أَرْسَل عليهم الريح العَقِيم، التي ظَلَّت تَسْفِي, {........ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:7]، وقال في الموضع الآخر فلما رأوا هذا العذاب : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا}، ريح أتية وهي مُعْتَرِضَة في الأفق، {........ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الأحقاف:24]، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}، بأَمْر ربها أن الله هو الذي فَتَحَها عليهم -سبحانه وتعالى-، {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}، خَوَت الأرض مِن سُكَّانِها وأصبحت مساكن خَالِية مِن الصغير والكبير، {........ فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[الأحقاف:25]، قال -جلَّ وعَلا- : {........وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ}[الأعراف:72]، لم يكونوا مؤمنين عند ذلك كان هذا هو جزاؤهم مِن الله -تبارك وتعالى-.

هذه صفحة مِن صفحات تاريخ الرسالات، وهي تكاد تكون نفس القصة؛ قصة نوح، هي قصة هود، ثم يُذَكِّر الله -تبارك وتعالى- بصفحةٍ أخرى مِن صفحات هذا الكتاب، فيقول -جلَّ وعَلا- : {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}، أي أَرْسَلَ الله -تبارك وتعالى- إلى ثمود، ثمود قبيلة عربية كذلك وكانت تسكن في الحِجْر مِن أرض الحِجَاز، ومساكنهم معروفة إلى يومنا هذا، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ}، أي أرسلنا لهم، {أَخَاهُمْ صَالِحًا}، صالح -عليه السلام- الرسول، {قَالَ}، أي صالح، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، نَفْس المَقَالَة، نَفْسُ مَقاِلة الرُّسُل جميعًا، {يَا قَوْمِ}، يدعوهم بهذا يا قومي، وهذا لِيُبيِّن لهم أنه قريب منهم، أنَّه هو أخوهم، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، ليس لكم إله غيره، كل هذه الآلهة التي تتخذونها غيره آلهة باطلة، تَسْمِية بدون مضمون بدون معاني ليست هذه آلهة، الإله وحده هو الله -سبحانه وتعالى-، ثم قال لهم : {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ}، أَمْر ظاهر يُبَيِّن الحقائق، {مِنْ رَبِّكُمْ}، أي أَرْسَلها الله -تبارك وتعالى- لكم، وهو ربكم، خالقكم وبارئكم، وهذا أيضًا فيه تَقْرِيب وتحبيب أنَّ هذه البَيِّنَة جاءتكم مِن رَبِّكُم، مِن إلهكم، مِن رَبِّكُم خالقكم وبارئكم -سبحانه وتعالى- وسيدكم، {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}، {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ}، ناقة معروفة، وإضافتها إلى الله -تبارك وتعالى- إضافة مَخْلُوق إلى الخَالِق، وإضافة تشريف لأنَّ الله سمَّاها ناقته، لأنَّ الله -تبارك وتعالى- خلقها خَلْقًا مُعْجزًا لتكون آية لصالح -عليه السلام-، وهي أنَّه أخرجها مِن بَطْنِ الجَبَل لهم، {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}، آية علامة على أنَّ وحدانية الرَّب الإله -سبحانه وتعالى-، الخالق لكل شيء، الذي ما يشاء كما يشاء وأخرج هذا، وآية على صِدْق الرسول فإن الرسول أخبرهم بها وخرجت لهم وهم اقترحوا هذا، {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}، أي هذه النَّاقة كذلك تبقى، آية تخرج ثم تموت ولكن تبقى أمامهم حتى يشاهدوها بل وينتفعوا مِن وجودها كذلك، {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}، أرض الله التي خلقها، أي أنكم كذلك لن تتعبوا لإطعامها بشيء، بل تَرْعَى مِن أرض الله -تبارك وتعالى-، {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ}، تحذير، والمَس أي أدنى الإصابة أي لا تُصِيُبوها بشيء صغير، {بِسُوءٍ}، أي سوء برده سوء مُنَكَّر، {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، لأنَّ هذه ناقة شريفة، منسوبة إلى الرَّب -تبارك وتعالى-، جعلها الرَّب آية عندكم، فاعرفوا مقام هذه الآية وأنَّها مِن صُنع الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ العُدْوان عليها عُدوان على شيء عظيم منسوب إلى الرَّب –تبارك وتعالى-، فيقع العدوان كأنه على الله وبالتالي تَتَعرَّضُون لِسَخَطِه وعِقَابه، {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

ثم ذَكَّرَهُم فقال : {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ}، اذكروا إذ جَعَلَكم خُلفاء مِن بعد عاد، استَحْضِرُوا هذا الأمر في عقولكم وانتبهوا له، جعلكم الله -تبارك وتعالى- خلفاء في هذه الجزيرة مِن بعد عاد؛ مِن بعد قبيلة عاد، التي كانت تَسْكُن في جنوب الجزيرة، {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ}، التّبْوِيء التَّمْكِين، أي مَكَّنكُم الله -تبارك وتعالى- في الأرض، ثم بيَّن أيضًا نوع هذا التمكين، قال : {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا}، تسكنون السَّهْل مِن الأرض وتَتَّخِذُون منه قُصُور، القَصْر في لُغة العَرَب هو البيت المَبْنِي مِن الحِجَارة؛ هذا قصر، فتتخذون بيوت عظيمة تبنونها من الأحجار في السُّهُول، {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا}، وأمَّا في الوَعْر في الجَبَل فتَشُقُّون الجَبَل وتجعلون بيوتكم في الجِبَال، ومازالت بيوتهم الفَارِهَة الواسعة المنحوتة في الصَّخْر؛ في صخور الجبال، موجودة يومنا هذا، كما قال الله -تبارك وتعالى- فيهم : {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}[الفجر:9]، جابوه بمعنى شَقُّوه، وهذه قوة معناه أنَّ لهم فيه عندهم حَضَارة وقوة هائلِة أنْ يَبْنُوا بيوتهم في داخل الجَبَل، {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ}، استحضروا هذا، آلاء الله؛ نِعَم الله -تبارك وتعالى- عليهم، {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، تعثوا؛ العِثِيّ الإفساد، حال كونكم مفسدين، فالسَّعْي بالإفساد في الأرض أعْلاه الشرك بالله -تبارك وتعالى-، وعبادة غير الله -عز وجل- والتَّظَالم والتَّهارُج والخروج عن طاعة الرَّب -تبارك وتعالى-، فلا تُفْسِدُوا في الأرض وإنما أصلحوا فيها، سيروا في طريق الرَّب -تبارك وتعالى- فهذا طريقُ الصَّلاح، {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.

ولننظر كيف كان رد هؤلاء المعاندين المكذبين لهذه الدعوة، الصريحة الواضحة البَيِّنَة التي عليها هذا الدليل وهذا النور، وميعاد هذا -إنْ شاء الله- نعود إلى أنْ نعيش في ظلال هذه القصة في الحلقة الآتية -إنْ شاء الله-، أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.