الإثنين 24 جمادى الأولى 1446 . 25 نوفمبر 2024

الحلقة (204) - سورة الأعراف 75-86

إنَّ الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فإنَّ خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهَدْي؛ هَدْي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشَر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

وبعد فَكُنَّا وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- : {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}[الأعراف:75]، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الأعراف:76]، {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:77]، {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[الأعراف:78]، {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف:79]، قال الملأ جماعة الأشراف والوُجَهَاء والكُبَراء مِن قوم صالح؛ قبيلة ثمود، {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}، أي عن الحق الذي جاء به صالح -عليه السلام-، {مِنْ قَوْمِهِ}، مِن قوم صالح وهم قبيلته ثمود، {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}، مِن القبيلة، والضعفاء هم أهل الفقر والمَسْكَنَة والأتباع، {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}، لأهل الإيمان منهم، هذا تخصيص لمقالتهم، أنَّه كُبراء الكفار لصِغَار وفُقَراء المؤمنين ممَّن كانوا مع صالح، يقول لهم : {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ}، سؤال يريدون به الاستهزاء والاحتقار، {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ}، لم يكن هذا سؤال منهم يريدون به أنْ يستفهموا هل هم آمنوا بصالح أم لا، ولكن مِن باب {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ}، أي أتبعتم صالح عن عِلْم ومَعْرِفَة بأنَّه رسول، أم أنكم قوم لكم أهداف وغايات ومآرب أخرى في اتباعكم لهذا الرَّجُل، أو أنكَّم سمعتم قولًا مِن رَجُلٍ فقلتموه واتبعتموه، وهم يظنون في أنفسهم أنهم أهل الحِجَى والعقل والفَهَم، وأنه لو كان الإيمان حقًا لهم أولى به، {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ}، فقال هؤلاء قالوا أي الضعفاء مِن المؤمنين، {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، تأكيد جوابهم هنا للتأكيد، وأنَّهم قد اتبعوا صالح لأنهم مؤمنون به، والإيمان تصديق عن دليل وعن يقين وعن اعتقاد وأَمْن أنْ يكون قد كَذَبهُ المُخْبِر، فهم معتقدون بأنَّ صالح لم يَكْذِبهم وأنهم مؤمنون بما جاء به، قالوا إنا تأكيد لهذا، {بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}.

ثم انظر الإجابة، قال -تعالى- : {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الأعراف:76]، نُفُور واشمئزاز أنْ يَتَّبِعُوا حقًا اتَّبَعَهُ الضعفاء، إنا بالذي آمنتم به؛ هذا الذي آمنتم به نحن به كافرون، لأنهم آمنوا به، لأنه هؤلاء مِن الضُّعفاء والفقراء والمساكين ولأنهم آمنوا به، فقالوا : {........ إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الأعراف:76]، وتمادوا في غَيِّهِم وطغيانهم، قال -جلَّ وعَلا- : {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ}، عَقْرها قَتْلها، ونَسَبَ الله -تبارك وتعالى- العَقْر إلى القبيلة كلها، أي إلى هؤلاء الكفار جميعًا لأنهم متمالئون، وذلك وإن كان الذي عقرها رجل واحد منهم، كم قال -صلى الله عليه وسلم- : «انْتُدِب لها أو خرج لها رجل منيع، عَارِمٌ في قومه»، رجل منيع في قومه لأنَّ له قبيلة كبيرة تحميه وأعوان وإخوان، وعارم بمعنى أنه شديد القُوَّة والبطش، لا يستطيع أحد أنْ يقف أمامه ولا أنْ يمنعه أي مما أراد، والفِئَة الباقية صالح ومَن معه فئة مُسْتضعفة، بل إنَّه قد مُكِرَ بصالح نفسه وأرادوا أن يقتلوه؛ ويقتلوه بليل، كما قال -جلَّ وعَلا- عنهم : {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}[النمل:48]، {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ}، لنُبَيِّتنَّه البيات هو القتل ليلًا، وأهله أي لِيُبيَّتَ صالح وأهله، {........ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[النمل:49]، فالحجم للكفار كان أكبر مِن حجم المؤمنين، وهذا الرجل الذي خرج اللي هو عاقر الناقة هذا أشقاها، كما قال -سبحانه وتعالى- {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا}[الشمس:12]، {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}[الشمس:13]، أي احذروا ناقة الله أنْ تمسوها بسوء، احذروا سُقْيَاها يومها الذي هو مخصص لشربها مِن بئرها؛ بئر الناقة وسُقْيَاها، قال -جلَّ وعَلا- : {........ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}[الشمس:14]، {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا}[الشمس:15].

هنا يقول الله -عزَّ وجلّ- : {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ}، العُتُوّ والعِتِيّ هو التمادي ومجاوزة الحد والقسوة، {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ}، عَلَوا وبَغَوا وزادوا في طغيانهم عن أمر الله -تبارك وتعالى-، {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ}، وأَمْرُ الله -تبارك وتعالى- لهم قال لهم : {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، {........ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:77]، وقالوا مُتَحَدِّين يا صالح هكذا، لا يا نبي الله ولا يا رسول الله لأنهم، وإنَّما يا صالح، {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، تَحَدِّي، والتَّحَدي لهذا المُرْسَل تحدٍ لمن أرسله؛ إلى الرَّب -سبحانه وتعالى-، {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}، أي به مِن العذاب إنْ عَقَرنا النَّاقة؛ فقد عَقرنَاها، وقد فعلنا ما تُحَذِّرنا به، فإنْ كنت مِن المرسلين حقًا؛ مِن الله حقًا فائتنا بالعذاب الذي تَعِدُنا به, عُمْي البَصَائِر كما قال -تبارك وتعالى- : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[فصلت:17].

قال هنا -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[الأعراف:78]، الرَّجْفة التي هي الهَزَّة الشديدة؛ الزلزلة الشديدة، وهذه الزَّلْزلة كانت نتيجة لصيحة، صيحة مَلَك صاح فيهم صَيْح صوت، أي الله -تبارك وتعالى- قضى عليهم بصوت، بصوت مَلَك مِن ملائكته -سبحانه وتعالى-، فصاح فيهم صيحةً واحدة كما قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}[القمر:31]، الهَشِيم هو القَش الذي قد تَهَشَّم، والهَشْم التحطيم؛ تَحَطَّم مِن المُكْث الطويل، فإنَّه إذا حَظَرْت الهَشِيم؛ وضعته في حظيرة، وتركته عامًا مثلًا فإنه يَتَهَرَّى ويتحطم، فالله شَبَّه هلاكهم وتَفَتُت أجسادهم بعد ذلك بهذا، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا .......}[الأعراف:78]، مِن الصباح {فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، على الأرض، الجَاثِم على الأرض هو السَّاقِط عليها، ساقط هذا على وجهه، على ظَهْره، على جنبه، لمَّا أَخَذَتْه الصَّاعِقة؛ صعقة، صعقة الملك هذه فجثا، أصبحوا جاثمين على الأرض ثم تَهَرُّوا وذهبوا.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ}، تَوَلَّى صالح عنهم، تَوَلَّى عنهم بمعنى أنَّه تركهم وذهب بأمر الله -تبارك وتعالى-، {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي}، تَوَلَّى عنهم عندما اقترب العذاب أمره الله -تبارك وتعالى- أنْ يخرج بالذين آمنوا معه، {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي}، رسالة الله التي أرسلني بها بلغتكم إيَّاها، أي قمت بما أَلْزَمَنِي الله به وأوجبه عَليّ، {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ}، كنت مخلصًا في إبلاغي وتقديم هذه الرسالة لم أغشكم، وإنَّما بَيَّنْت لكم الحق، وأنا ناصحٌ لكم ليس في قلبي أي غِش لكم، {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}، ولكن الحال أنكم لا تُحِبون الناصحين، كشأن كل الكافرين في الأرض فإنَّهم لا يحبون الرُّسُل، الذين ينصحون لهم ويُبيِّنون لهم الطريق لا يحبون ذلك، ولذلك كانت هذه هي النتيجة، طَوَى الله -تبارك وتعالى- هذه الصَّفحة مِن صفحات تاريخ الرسل، طُوِيَت وهذا صالح وهذه ثمود العربية التي تَسْكُن الحِجر، وهذه أرضها ومساكنها معلومة لهؤلاء المخاطبين، فالمخاطبين مِن العرب يعلمون الحِجر مدائن صالح، ويرون هذه المساكن ويمرون عليهم في تجارتهم للشام ذهابًا وجيئة.

آخرون... صفحة جديدة مِن صَفَحَات هؤلاء المجرمين وكيف قابلوا رسالة الله -تبارك وتعالى-، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:80]، لوط النبي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن أخي إبراهيم -عليه السلام- آمن معه من أُور الكِلْدَانِيين خرجوا، بلاد النَّهْرَين العراق وسَكَن الشام، ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- أرسل لوطًا -عليه السلام-، جعله نبيًا رسولًا وأرسله إلى قرى الموجودة في غُور الأردن سَدُوم وعَمُوَرة، أرسله الله -تبارك وتعالى- رسولًا إليهم، وهؤلاء قومه؛ أي قومه الذين أُرْسِل إليهم، وإن لم يكن هو منهم -عليه السلام- أرسله الله -تبارك وتعالى- إليهم، {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:80]، هؤلاء كانوا قوم أخباث، مُظْهِرين لفاحشة مِن أنجس الفواحش التي ظهرت في الأرض، وهم الذين بدأوها لم يبدأها أحدٌ قبلهم مِن الأمم السابقة، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:80]، سؤال للتقبيح والتقريع، الفاحشة؛ فاحشة اللّواطة، إتيان الذكور مِن العالمين، {........ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:80]، أي أنتم الذين اخترعتموها وأنشأتموها.

{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}[الأعراف:81]، بيَّن لهم فَظَاعة وبَشَاعة هذه الفاحشة، وأنها تَنْكِيس للفطرة التي فَطَرَ الله -تبارك وتعالى- الناس عليها، وقال لهم : {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ........}[الأعراف:81]، النساء التي خلقها الله -تبارك وتعالى- لكم تتركونها، كما قال لهم : {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:165]، {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}[الشعراء:166]، يقول لهم : {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}[الأعراف:81]، مُجاوِزون للحد، المسرف هو الذي تجاوز كل الحدود، فهؤلاء تجاوزوا كل الحدود، حدود الفطرة، حدود العقل، حدود الطَّهَارة والنَّظَافة، لا عقل ولا فِكْر ولا طهارة ولا نظافة وإنما انتكاس، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[الأعراف:82]، لا جواب على هذه الرسالة الواضحة وهذا البيان الواضح مِن لوط -عليه السلام- والتحذير الطَّاهر النَّظيف لهم، إلا أنْ قالوا أخرجوهم مِن قريتكم، هكذا بدون أنْ يُفَكِّروا في الأمر الذي يقوله لهم، وإنما أعلنوا بأنَّ هؤلاء يجب أنْ يَخْرُجوا مِن هذه القرى، {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ}، ولعل هنا مطالبتهم بالإخراج لأنهم كانوا غُرَباء عن هذا الوادي، وغُرَباء عن هذه القُرَى فأرادوا إخراجهم منها، {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ}، ثم قالوا : {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، جعلوا الاستقامة والطُّهْر جريمة، وذلك أنهم منتكسون في النَّجاسة فأصبحت الطَّهَارة بالنسبة إليهم؛ الطهارة هي النظافة، النظافة أصبحت هذه جريمة، فجريمتهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، وهذا يدل على أنَّهم يعلمون أنَّ ما هم فيه مِن الفاحشة إنما هو شيء ليس قَذِر؛ بل نَجِس ودَنِس، لكنهم مع هذا لا يحبون أن يساكنهم إلا أمثالهم، مَن استمرأ هذه الفاحشة الخبيثة.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}[الأعراف:83]، أنجيناه ونَسَب الله -تبارك وتعالى- الفعل إليه، فهو الآمر بذلك -سبحانه وتعالى-، قد وجَّهَهُ الله -تبارك وتعالى- أنْ يَخْرُجَ هو وأهله إلا امرأته، وقد قيل أنَّ امرأته كانت على دين قومها؛ بقيت كافرة، وكذلك كانت موافقة لقومها على هذا الفعل الخبيث، بل كانت تدلهم على الضِّيفان، إذا أتى ضِيفَان مِن قُرى أخرى عابري سبيل كانوا أحيانًا يَلُوزُون ببيت لوط -عليه السلام-، مِن بَطش ومِن سُوءِ هؤلاء القوم الذين كانوا يقطعون الطريق، فكانت هذه المرأة تدل قومها الأخباث على أنَّ في بيت لوط ضِيْفَان؛ فتحثهم عليهم، فلما كانت بهذه المثابة من الكفر فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أبقاها مع الباقين، قال -جل َّوعلَا- : {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ}، وجاء في التوراة أن أهله هم ابنتاه، وأنه قد جاء أنه قد آمن له مِن كل هذه القرى فقط إلا ابنتاه فقط، وأنه لم يؤمن به أحدٌ مِن أهل القرية، ولم يَنْزع أحد منهم عن هذه النجاسة والقذارة التي كانوا فيها، كما قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:35]، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:36]، لم يكن فيها إلا بيت لوط -عليه السلام- ولذلك قال جاء أمر الله : {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}[الحجر:65]، {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}[الحجر:66]، قال -جلَّ وعَلا- : {فأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}[الأعراف:83]، الغَابرين الباقين، الغابر هو الفائت, أي أنها هي التي أمر الله -تبارك وتعالى- لوط أنْ يتركها مع هؤلاء الهَلْكى فَتْهْلك معهم ولا تَصْحبهم، {........ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}[الأعراف:83]، لم ينفعها كونها زوجة نبي، كما قال -تبارك وتعالى- : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[التحريم:10]، والخِيَانة هنا خيانة كُفْر وليست خيانة فَرش، {........ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}[الأعراف:83].

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف:84]، وهذا المطر أي مطرٌ خبيث، كما قال -جلَّ وعَلا- : {........ فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}[الشعراء:173]، وهذا المطر مازال إلى يومنا هذا، هذه بُحَيرة البحر المَيِّت المُتَجمِّعَة والتي لها خَاصَّة تختلف بها عن كل المياه على سطح الأرض، فإنَّه لا يوجد ماء على سطح الأرض إلا وفيه حياة، وإذا كان الماء مُعَّقم مهما كان مُعَقَّم ثم إذا تُرِكَ مدةً في هذا الجو على سطح الأرض لابد أن تنشأ فيه حياة، مِن الخلية الأولى ثم وتنتشر، ويعيش فيه الأحياء إلَّا هذا الماء الخبيث، فإنه لا تَنْبُت فيه حياة قَطّ، لا حياة نباتية ولا حياة حيوانية ولا يعيش فيه حَيٌّ قَطّ، فهو هذا المطر الخبيث الذي أبقاه الله -تبارك وتعالى- آية مِن آياته في هذا الأرض، ولكن العميان لا يستفيدون بآيات الله، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف:84]، انظر نَظَر اعتبار واتِّعَاظ، وهذا أمر لكل مَن يَتَّعِظ ويعتبر وإنْ كان الخِطَاب مُوجهًا إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {........ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف:84]، إنَّ العاقبة هي المآل والنِّهاية.

هذه صفحة كذلك مِن صفحات الأُمَم يطويها الله -تبارك وتعالى- بعد أنْ يُبَينها، في هذه السُّورة العظيمة؛ سورة الأعراف، التي كأنها مُخَصَّصَة لرسالة الله -تبارك وتعالى- إلى الجِنْس البَشَرِي، مُنْذُ أنْ خَلَقَ الله -تبارك وتعالى- آدم وكيف كانت تجارب الأمم تجربة تجربة، ثم أكبر تجربة طويلة؛ قِصّة موسى -عليه السلام-، وستأتي بتفصيلاتها، ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}، أي أَرْسل الله -تبارك وتعالى- إلى مَدْيَن أخاهم شعيبًا، ومَدْيَن هي منطقة مَعَان الآن في جَنُوب الأُرْدن، وهي المنطقة نستطيع أنْ نقول بادية الشام، المُلَاصِقة  للجزيرة هي الحلقة بين بلاد الشام وبين جزيرة العرب، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}، أخاهم مِن قبيلتهم شُعَيْب النبي الرسول -عليه السلام-، {قَالَ}، أي شُعَيْب لقومه، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، ناداهم أنْ يعبدوا الله وقال لهم {اعْبُدُوا اللَّهَ}، الله اسم عَلَم على ذات الرَّب لم يُسمَ به غيره -سبحانه وتعالى- تَعْرِفه كل الأُمَم وكل الشُّعوب بهذا الاسم، خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، ثم قال لهم : {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، على الحقيقة، وأي إله يتُخَذ غيره فباطل، لأنَّه هو الله -سبحانه وتعالى- الله وحده، هو المُتَفَرِّد بالخَلْقِ والإنشاء والإحياء، وهو الذي بيده مقاليد كل شيء -سبحانه وتعالى- {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، فخَالِق كل شيء والمتوكل بكل شيء هو الذي يَسْتحق العبادة لا يستحق العبادة سِواه.

{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، قد جاءتهم؛ يُخبر بأنَّه قد جاءهم بينة مِن ربي على صِدْق شعيب -عليه السلام-، لم تُذْكَر هذه البينة لم يَذكر الله -تبارك وتعالى- أي في كل ما قَصَّ عن شُعَيب ما هي هذه البَيِّنَة، هل هي بَيِّنة حُجَّة بيانية تَدُل على صِدق هذا الرسول، أم أنَّ الله أَجْرَى على يديه معجزة إلهية أجراها على يديه تَدُل على صِدْقه، على كل حال أخبر -سبحانه وتعالى- بأنَّ هؤلاء قال لهم رسولهم : {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، ثم أَمَرَهُم بعد توحيد الله -تبارك وتعالى- بالعَدْلِ، قال : {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}، أَمَرَهم بإيفاء الكَيْل والميزان، وهذا كانوا يبدوا أنَّه جريمتهم المنتشرة بعد الشِّرك بالله -تبارك وتعالى-، الكَيْل مِقْيَاس للأحجام والميزان مِقْياس لِلثُّقْل، بهذه مقاييس؛ أوفوها، أي إذا بِعْتُم فَوَفُّوا للمشتري كيله وميزانه، {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، البَخْس النَّقْص، لا تَنقصوها أي اشتري بِسِعْرِ الوقت وبِسِعْرِ السوق، {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، إذا كان معهم الشيء يُسَاوي عشرة لا تَقُل إنَّه يساوي واحد، وتَبْخَسُه حتى يُضطر بائعه إلى أنْ يبيعه بثمن منقوص؛ مَغبونٌ فيه، {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، لا تُفْسِدُوا في الأرض بمثل هذا الظُّلْم، الشِّرْك بالله -تبارك وتعالى- والتظالم، {بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، بعد أنْ أصلحها الله -تبارك وتعالى- وجعل فيها خيرها وأرزاقها، وأقامها على العدل والقِسْطَاس، فأنتم إذا ظَلَمْتُم أفسدتم في الأرض بعد إذ أصلحها الله -تبارك وتعالى-، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}، ذلكم ما أدعوكم إليه مِن تَوْحِيد الله -تبارك وتعالى- وعبادته وحده لا شَرْيك له، ومِن إيفاء الكيل والميزان وألَّا تَبْخَسُوا الناس أشيائهم، كل هذا المُشَار إليه خيرٌ لكم؛ أخير، وليس هنا أي التفضيل هنا ليس على بابه بل هذا خير وذاك شر، الذي يناههم عنه كله شر ليس فيه شيء مِن الخير وهذا كله الخير، {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}، إنْ كنتم مؤمنين بكلامي واتَّبَعْتُم هذا لا شَكَّ أنَّ هذا خير لكم.

ثم قال لهم : {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}، لا تقعدوا بكل صِرَاط تُوْعِدون، تُوْعِدون تُهَدِّدُون مَن آمن بالله -تبارك وتعالى- وتَصْرِفُونَهُ عن الحق، {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ}، الصَّد المنع، تصدون عن سبيل الله؛ عن طريق الله مَن آمن به، {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}، تُرِيدُون أنْ تكون طريق الله -تبارك وتعالى- مُعْوَجَّة للِسَّالِك فيها، {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}، اذكروا إذ كنتم قليل كانت قبيلة ضعيفة قليلة العدد فكَثَّرها الله -تبارك وتعالى-، نَمَّاها بأنْ أكْثَر نَسْلَهَا وملء بها الأرض التي هي عليها، {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، انظروا نَظَر اعتبار ونَظَر اتِّعَاظ، كيف كانت عاقبة المفسدين مِن الأُمَم قبلكم، قوم نوح، عاد، ثمود، قُرى لوط وهي ليست بعيدةً عنهم، فهؤلاء في شرق الأُرْدُن وهؤلاء في غُور الأردن فهي قريبةٌ منهم، {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.

ثم قال لهم : {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[الأعراف:87]، {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ}، جماعة، {مِنْكُمْ}، مِن القبيلة، {آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا}، أي انقسمت القبيلة إلى قسمين، قِسْمٌ آمن معه وقِسْمٌ كَفَر، قال لهم : {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا}، وهذا الصَّبر لأنهم يستعجلون العذاب ويستعجلون إخراج هؤلاء، قال : {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا}، الحُكْم فيما بيننا نحن المؤمنون وبينكم إلى الله -تبارك وتعالى-، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، لا حُكْم كَحُكْم الله -تبارك وتعالى- هو خير الحاكمين، وحكم الله -تبارك وتعالى- يَحْكُم بالعدل، يحكم لأوليائه على أعدائه -سبحانه وتعالى-.

نقف -إنْ شاء الله- عند هذا، ونُكْمل مع شُعَيْب وقصته -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد،