الإثنين 24 جمادى الأولى 1446 . 25 نوفمبر 2024

الحلقة (205) - سورة الأعراف 100-116

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شُرُورِ أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يضلله فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله وبعد.

 انتهينا في اللقاء الماضي عند قول الله -تبارك وتعالى- : {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}[الأعراف:100]، {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}[الأعراف:101]، بعد أنْ قصَّ الله -تبارك وتعالى- في هذه السُّورة التي نعيش معها؛ سورة الأعراف، قَصَصَ الأُمَم التي أهْلَكَها الله -تبارك وتعالى- بذنوبها، قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مَدْيَن، قال -سبحانه وتعالى- : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأعراف:96]، ثم وجَّه الله -تبارك وتعالى- خِطابهُ إلى هذه الأُمَم التي أُرْسِل َلها النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- أُمَّته، والنبي قد أُرْسِلَ إلى كل أُمَم الأرض، فقال -سبحانه وتعالى- : {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى}، مِن كل قُرَى الأرض، {........ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ}[الأعراف:97]، في غفلتهم، {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأعراف:98]، في نَشَاطِهم وقُوَّتهم، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف:99]، مَكْرَ الله أنْ يُعَاقبهم الله -تبارك وتعالى- فيأتيهم العذاب مِن حيث لا يشعرون، ويأتيهم يوم هُم في زَهْوِهم ونشاطهم وقوتهم وكثرتهم وإغداق النِّعَم عليهم، ظَانِّين أنَّ هذا فَضله وإحسانه -سبحانه وتعالى- مِن أجلهم هكذا، وأنَّ هذا قد أُوتُوه حقًا واستحقاقًا وليس استدراجًا مِن الله -تبارك وتعالى-، فإنَّ نِعَم الله -تبارك وتعالى- على الكافر إنما هي تذكير ثم بعد ذلك تدبير مِنه -سبحانه وتعالى- أنْ يأخذه في غفلته، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف:99].

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ........}[الأعراف:100]، أولم يَهْدِ لهم يتبين لهم، يكون هذا إهلاك هذه القُرَى هِدَاية لهم، نور لهم، بيان لهم، فيعلموا أنَّهم إنْ وقعوا فيما وقع فيه أولئك حَلَّ بهم ما حَلَّ بأولئك، {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}، مِن بعدِ أهلها الذين كانوا فيها وأزالهم الله -تبارك وتعالى-، {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، أصبناهم بذنوبهم؛ ذنوب القُرَى الأخرى التي أهلكهم الله -تبارك وتعالى- بها، فما دام أنَّ هؤلاء يفعلون مثل هذه الذُّنُوب سيأتيهم نَفْس العذاب، {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، أو بذنوبهم؛ بذنوب هؤلاء، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يُؤاخِذ إلا بالذنب -سبحانه وتعالى-، {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}، ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}، أي هذه القَوَارِع وهذا التذكير وهذا التَّحْذِير وهذا ضَرْبُ المثال، مِن السابقين وبيان ما حلَّ بهم يَسْمَعه هؤلاء، ولكنهم لا يستجيبون وكأنَّ هذا الخطاب لغيرهم، فقال -جلَّ وعَلا- : {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، الطَّبْع على القلوب هو أنْ يُغلِّفها الله -تبارك وتعالى- بالرَّيْن وبالغِشاوَة، فلا يَصِل إليها نور الهِدَاية وكأنها تَسْمَعُ التحذير وتَسْمعُ الإنذار وكأنها لا تسمع، {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}، تلك القُرَى لا يسمعون الحق، وإلَّا سماع كلام الله -تبارك وتعالى- وتحذيره وإنذاره سماع أذن، ولكن دون فِقْه له ودون وَعْي له ودون قيام بما يستحق هذا السماع هذا الذي هم عليه، فكأنَّ سمعهم لا سَمْع.

{تِلْكَ الْقُرَى}، إشارة إلى القُرَى التي أهلكها الله -تبارك وتعالى-، قال -جلَّ وعَلا- لرسوله : {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا}، هذه أنبائها أي أخبارها العظيمة، {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}، يؤكد -سبحانه وتعالى- بأنَّه قد جاءتهم رُسُلُهم بالبينات، جاء نوح إلى قومه بالبينات العظيمة وهود وصالح ولوط، كل رسول أَرْسَلَهُ الله -تبارك وتعالى- إنَّما أرسله بالآيات الدَّالَّات الواضحات على صِدْقه وأمانته، قال -جلَّ وعَلا- : {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ}، فما كانوا أي تلك القُرى ما كانوا يؤمنوا بما كَذَّبُوا مِن قَبْل، عاقبهم الله -تبارك وتعالى- بأنهم لمَّا رَأَوا الحق وعَرَفوه ولم يؤمنوا به فإنَّ الله -تبارك وتعالى- طَمَسَ بصائِرهم وغَلَّفَ قلوبهم وخَتَم عليها، فلا يَدْخُل الحق إليهم عقوبة لهم مِن الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جلَّ وعَلا- في الآيات الأخرى : {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110]، {........ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}[الأعراف:101]، كذلك أي كذلك الطَّبْع وهذا القَفْل، {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}، الذين عَرفوا هذا الحق ثم جحدوه وكفروا فعاقبهم الله -تبارك وتعالى- هذه العقوبة، وهي أنْ حَرَمَهم -سبحانه وتعالى- من الهداية.

ثم قال -جلَّ وَعلا- : {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}[الأعراف:102]، {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ}، هذه الأمم السابقة، {مِنْ عَهْدٍ}، أي من التزام، أي لا يلتزمون التزامًا ما، بل هم مُتَفَصُّونَ مِن كل العهود والمواثيق، فكل عهدٍ كل أمر يأمرهم الله -تبارك وتعالى- بها لا يُصِيغُونَ له سَمْع، {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}[الأعراف:102]، أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- ابتلاهم واختبرهم -سبحانه وتعالى- فكان أكثرهم فاسقون، كان أكثرهم فاسقون؛ الفِسْق هو الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، خارجين عن أمر الله -تبارك وتعالى- وطاعته، أي أنه لم يؤمن مِن تلك القُرُى إلا القِلَّة، كما قال -جلَّ وعَلا- في قوم نوح : {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}، وكذلك كل رسول مِن هؤلاء الرُّسل الذين أَرْسَلَهُم الله -تبارك وتعالى- لم يكن معه إلا القليل، هذا لوط يقول الله -تبارك وتعالى- : {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:35]، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:36].

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف:103]، أَجْمَلَ الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية الواحدة خَبَر موسى النبي -عليه السلام-، مِن أُولي العَزْم مِن الرُّسُل، مِن بني إسرائيل مِن أولاد يعقوب، أَرْسَلهُ الله -تبارك وتعالى- مُخَلِّصًا لبني إسرائيل مِن الظُّلمِ الذي وقع عليهم مِن الفراعنة دهرًا مِن عُمْرهم، فأرسله الله -تبارك وتعالى- مُنْقِذًا، هذا النبي الكريم , وهذه قصة موسى في هذه السورة تأخذ مساحة طويلة مِن هذه السورة؛ مِن سورة الأعراف، سواء كان جزء مِن حياة موسى -عليه السلام- الرِّسَالِي، بَدءًا بدعوة فرعون ثم الجزء الثاني أي موسى مع فرعون، ثم الجزء الثالث مِن حياة موسى -عليه السلام- وهو حياته مع بني إسرائيل في التّيه، تربيةً، ودعوة ًلهم، وما عاناه المعاناة التي عاناها مع قومه بني إسرائيل في أنْ يقيمهم على أمر الله -تبارك وتعالى-، ثم ما كان معه أي ما حَصَلَ له مِن انحراف هؤلاء القوم وبُعْدِهم عن الله، إلى أنْ يسلم بعد ذلك الأمر لله -تبارك وتعالى-، ويُخْبِرَه الله -تبارك وتعالى- بأنَّ تَخْلِيص هذه الأُمَّة و هذا الشَّعب لن يكون إلا بالنبي الخاتم محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فأخذت هذه القصة مساحةً طويلة مِن هذه السورة.

أَجْمَلَ الله -تبارك وتعالى- خَبَر موسى في هذه الآية فقال : {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ}، أي مِن بعد تلك الأُمَم التي أهلكها الله -تبارك وتعالى-، موسى النبي الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، {بِآيَاتِنَا}، العظيمة، آيات الله -تبارك وتعالى- المُعْجِزَات التي أظهرها الله -تبارك وتعالى- على يديه، وكذلك آياته التي أنزلها عليه؛ آياته المقروءة في التوراة، {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ........}[الأعراف:103]، أرسلناه إلى فرعون، فرعون اسم يُطْلَق أو لَقَب يُطْلَق على كل مَن حَكَم مصر مِن هؤلاء الكفار، ومَلَئِهِ الأشراف مِن قومه الذين كانوا هم سادةُ الأرض، وهم المتحكمون فيها، قال -جلَّ وعَلا- : {فَظَلَمُوا بِهَا}، ظلموا بها ظلم وضع الأمر في غير محله، بدلًا أنْ يتقبلوا هذه الآيات ويؤمنوا بها وقد عَلِمُوا أنها آيات الله -تبارك وتعالى-، إلَّا أنَّهم جحدوها وأنكروها ووصفوها بأنها سِحْر، وأنَّها مِن علمه ومِن تدبيره ومِن تدبير مَن معه، فكان قيامهُم تجاه هذه الآيات اتجاه الظلم، والظلم وضع الشيء في غير مَحِلِّه، بدل الإيمان بها أنكروها وجحدوها، قال -جلَّ وعَلا- : {فَظَلَمُوا بِهَا}، ثم قال –جلَّ وعَلا- : {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، هذه العاقبة وهذا تشويقٌ وتوجيهٌ إلى النَّظَر فيما يَقُصُّه الله -تبارك وتعالى- مِن كيفية هذه العاقبة، وكذلك إخبار بمَن عَرَف هذه العاقبة في أنَّ الله -تبارك وتعالى- أغرقهم وأهلكهم، انظر واعْتَبِر كيف كان عاقبتهم لمَّا قاموا في وجه آيات الله -تبارك وتعالى-، فجحدوا بها وظلموا بها فانظر كيف كانت العاقبة، فيكون هذا مُرْتَبِط بما قَبْله وهو أنَّ مصير هؤلاء المكذبين كان كمصير المكذبين مِن الأُمَم السابقة.

ثم شَرَعَ الله -تبارك وتعالى- يبين بالتفصيل هذا الذي أجمله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية، فقال : {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:104]، وقال موسى داعيًا فرعون إلى الله -تبارك وتعالى- : {يَا فِرْعَوْنُ}، هكذا ناداه بِلَقَبِه وبمنزلته، {........ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:104]، إنِّي مُؤَكِد هذا؛ رسول مِن ربِّ العالمين، هذه جُمْلة موجزة ولكن تَحْمِل المعنى كله، في مُهِمة موسى وصفته مَن هو موسى؟ قال أنا رسولٌ مُرْسَلٌ مِن ربِّ العالمين خالق كل هذه العوالم، ربُّها سيدها ومالكها ومدبرها -سبحانه وتعالى-، وفيه رَدّ على دعوى فرعون بأنه  رُّب العالمين، ربُّ هذه الأرض، ربُّ مصر وربُّ شعبها وأنَّه هو الإله المعبود في الأرض، وأنَّه ليس هناك إلهٌ غيرهُ، فقال له أنا رسول مِن ربِّ العالمين، رب الخلق أجمعين.

{حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الأعراف:105]، {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}، وذلك أنِّي رسول رب العالمين فحق عَليّ ألَّا أقول على الله إلَّا الحق، وذلك أنَّنِي رسول رب العالمين، ورسول رب العالمين لابد أنْ يكون صادقًا وإلا لو تَزَيَّد أو نَقَصَ لعاقبهُ الله -تبارك وتعالى-، وأنَّه هو عنوان لرسالة الرَّبِ ورَمْزٌ لها وهو القائم بها، فلا شك أنَّ كل نقص فيه يتوجه إلى المُرْسِل، فلذلك قال : {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}، لأنَّ الله انتدبني واختارني واصطفاني بأنْ أقوم بهذه المهمة، {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، قد جِئْتُك؛ جئتكم هنا مُخَاطب أي فرعون وملأه، بِبَيِّنةٍ آية ظاهرة تُبَيِّن الحق ولا تترك في الحق لَبْسًا، {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، أي اترك شَعْب بني إسرائيل ليخرج مِن أرض مصر، ليعبد الله -تبارك وتعالى- في هذه البَرِّيَة، كما جاء في التوراة أي أَطْلِق شعبي أو شَعْبَ بني إسرائيل ليعبد الله -تبارك وتعالى- في البَرِّيَة خارج مصر، أنت تَسْتَعْبِدَهُم وتَذلهَّم وتَتَخَوف مِنْهُم وفعلت بهم ما فعلت، تَذْبَح ذكورهم وتترك إناثهم وتقيمهم في الأعمال الشَّاقة، أرسلهم أتركهم يخرجوا ليعبدوا الله -تبارك وتعالى- كما يشاءوا، بعيدًا عن أرضك وعن مملكتك، هذه كانت دعوة موسى وهو أنْ يطلب مِن فرعون أولًا أنَّه رسول ربِّ العالمين، يدعو فرعون إلى عبادة ربه -سبحانه وتعالى-، أنْ يُطْلِق الشعب بني إسرائيل ليَخْرُجُوا مِن أرض مصر، قال : {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، أي ليخرجوا.

فلْننظر ماذا كان رد فرعون على هذه الدعوة الواضحة البَيِّنَة، يقوله أنا رسول رَب العالمين معي بَيِّنَة على هذا الأمر، كل ما أَطْلُبه منكم أنْ تُطْلِق هذا الشعب المسكين ليعبد الله -تبارك وتعالى- كما يشاء في أرض فَضَاء خَلَاء، {قَالَ}، أي فرعون، {........ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأعراف:106]، طالبه بهذه البَيِّنَة التي يَدَّعِيها، قال له : {إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ}، وإنَّ للتشكيك أي في الأمر، {فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، أي في زَعْمِك بأنَّك رسول رب العالمين وأنَّك مُرْسَل إلينا.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}[الأعراف:107]، فألقى على الفور عَقِب مَقَالة فرعون ألقى عصاه أي على الأرض، {........ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}[الأعراف:107]، إذا الفُجَائيَّة بمجرد أنْ ألقاها مِن يده ووَصَلَت الأرض أصبحت ثُعْبَان مُبِين، بيِّن واضح لا لَبْسَ فيه ولا تمويه في الأمر هذا ثعبانٌ واضحٌ تمام، {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}[الأعراف:108]، أي أَدْخَلَ يده في جيبه؛ في شَقِّ ثوبه، ثم نَزَعَها؛ أخرجها، فإذا هي تظهر هذه اليد بيضاء لكل مَن يَنْظُر إليها يَرَى أنها بيضاء، تُخَالِف لون أُخْتِها وتُخَالِف لون بَشْرَة موسى، وكانت بَشْرَته سمراء فتخرج هذه اليد بيضاء، فيتحول لون الجِلْد مباشرة بعد أنْ يُخْرِج يده مِن جيبه، {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}[الأعراف:108].

عند ذلك يقول -تبارك وتعالى- : {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:109]، الملأ أشراف الناس، حضورهم، وزراء وكبراء والذين هم بِحَضْرة فرعون وحَضْرَة إيوانه وديوانه ويُشَاهدون هذا الأمر، قالوا أي لفرعون، : {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، إنَّ بالتأكيد، هذا مُشِيرِين لموسى -عليه السلام-، لَسَاحِر والسِّحْر قد كان صِنَاعة لهم وموجودة يَعْلَمُونَهُ، ولمَّا رأوا أنَّ تبديل العصا لتكون حَيَّة وإظهار اليد على هذا النَّحو نَسَبوا هذا إلى أنه مِن السِّحر، الذي يَخْلُبُ به السَّحَرَة عقول الناس وعيونَهم، ويُوهِمُونَهم بأنَّ الذي يرونه أمر غير الحقيقة والواقع، فإنَّ السَّاحِر لا يَقْلِب الأعيان، السِّحْر لا يُحَول الأعيان أي لا يجعل العصا حَيَّة ولا الحَجَر حيوان ولا النُّحَاس ذَهَب، لا يغير الأعيان وإنما يُغَيِر العيون، فإنما العين هي تتغير بمعنى أنها تنظر إلى هذا الأمر فتراه على ما يقوله السَّاحِر وليس أي قد قلب السَّاحِر حقيقة العين؛ حقيقة هذه الأعيان، فالسِّحر في العيون وليس في الأعْيَان، فَنَسَبُوا هذه الآيات المعجزة، هذه آيات مُعجزة مِن آيات الرَّب الخالق -سبحانه وتعالى-، فإنَّه حَوَّل هذا العين؛ عين العصا، تَحَوَّلت حقيقة إلى عينٍ أخر، إلى أمرٍ آخر، إلى حيوانٍ آخر، إلى ثُعبان، وكذلك سُمرة الجلد قد تحولت إلى بَيَاض بِلَمْح البصر، ِبمُجَرد إدخالها في جَيْبِه وإخراجها، {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:109]، عليم بالسِّحر وأنَّه خبيرٌ به.

{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}[الأعراف:110]، ثم اتَّهَموا نِيَّتَه أنَّه أراد بهذه الدعوة التي جاء بها أنْ يخرجهم هم مِن أرض مصر، ثم قال لهم فماذا تأمرون أي يُشَاوِر الملأ بعضهم بعضًا ويَعْرِض عليهم فرعون الأمر، ما الذي تأمرون به في مِثْل هذه الحالة لمقابلة هذا الأمر الجديد الذي فاجأهم، حَوَّلُوا الأمر هنا، انظر الكَذِب حَوروا الآية إلى سِحْر، وجَعلوا موسى الذي جاء يَطلب أنْ يُخْرِجُوا بني إسرائيل مِن ظُلْمِهِم، مِن أرض ويَخْرُجَ بهم، أصبحت الأمر كذلك عَاكِسُوه فهو جاء ليخرجهم هم مِن أرضهم، ويَمْكث هو وقومه في أرض مصر، {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ........}[الأعراف:110]، وهذا تحفيز لهم عليه، وأنَّ الذي يُخْرِجكم مِن أرضكم هذا يَسْتَهدف أساس حياتكم، {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.

قالوا مُشِيرين على فرعون : {........ أَرْجِه وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الأعراف:111]، قالوا أفضل شيء أنْ نُبْطِل بَيِّنَته هذه التي أتى به فأَرْجِه، الإرْجَاء هو الإمهال، أي أمْهِلْه لمدة معينة وأخاه وذلك أنَّ هارون كان مع موسى في هذه، قد جعله الله -تبارك وتعالى- نبيًا معه، وقد كان مُصَاحبًا له في دخوله على فرعون، كما قال لهم الله -تبارك وتعالى- : {........ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}[الشعراء:15]، {قَالُوا أَرْجِه وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الشعراء:36]، أي أَرْسِل مِن الشُّرطة ومِن رُسُلِك في المدائن؛ مدائن مصر، حاشرين أي مَن يجمعون الناس، جامعين للناس أي يأتون بهم ليشهدوا مُبَاراة عظيمة، بَيْنَ موسى وبَيْنَ السَّحَرَة، وهؤلاء الحاشرين {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف112]، يَمُرُّوا في المملكة كلها ويأتوك بكل سَاحِر عنده عِلْم، وذلك ليجتمعوا ويُبْطِلوا سِحْر موسى، فيكون هنا أي نُقَابلهم سِحْرًا بِسِحْر، كما قال له فرعون : {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى}[طه:58]، سنأتي لك بِسِحْر مثل سِحْرك هذا يُغطيه، ونحن عندنا مِن السَّحَرَة الماهرين العالمين مَن هُم أفضل مِنْك ويُبْطِلون سِحْرك، {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}[الأعراف112].

قال -جلَّ وعَلا- : {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}[الأعراف:113]، أي الأمر أخذ بهذه الاستشارة وبهذه الخُطَّة، فأرسل رُسُلًا منه إلى مدائن مصر فجمع له السَّحَرَة، ثم اختلى بهم قبل هذه المباراة الموعودة، فقال له السَّحَرة : {........ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}[الأعراف:113]، يَطْلُبون هل لنا لأجر إذا غَلَبنا موسى وأبطلنا سِحْره بِسِحْرِنا، فهل يكون لنا أَجْرٌ عندك؟ أجر مادي في مقابل غَلَبِهم، {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}، أي لموسى، {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الأعراف:114]، ليس فقط أجر عَطِيَّة أو هِبَة أو راتب ويذهبون، بل وكذلك أُقَرِّبُكم مِن مَجْلِسي ومِن استشارتي فيكون لهم الحَظوَ و القُربي عنده.

قال -تبارك وتعالى- : {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}[الأعراف:115]، أي أنهم اجتمعوا وكان هذا في يوم عيد لهم كما قال لهم موسى، {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}[طه:59]، قال -جلَّ وعَلا- : {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى}[طه:60]، فحُشِر الناس {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}[الشعراء:39]، {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:40]، وأتى الناس في وقت ضُحَي حتى يكون النظر أي الكل يستطيع أنْ يَنظر، ولا يكون في الليل فتختفي شيء ويكون يُخًبَّأ شيء، بل قال لهم موسى : {........ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}[طه:59]، لأنَّ وقت الضحى هو أَظْهَر وقت للنظر ، فلمَّا اجتمع الناس على هذا النحو وجاء السَّحَرة على هذا النحو واتفقوا بينهم وبين فرعون على الأجر، وكذلك وعدهم كذلك بالقربى والحظو عنده وجاء الجميع واستعد الجميع، قال -تبارك وتعالى- : {قَالُوا يَا مُوسَى}، أي السَّحَرة، {........ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}[الأعراف:115]، مَن أَوَّل مَن يَبْدأ العمل ويبدأ بِسِحْرِه، إما أنت تُلْقِي أنت عصاك وإما أنْ نُلْقي نحن عِصِيَّنا وحبالنا، {........ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}[الأعراف:115].

{قَالَ أَلْقُوا}، جعل لهم الأولوية في الإلقاء ليلقوا هم، {قَالَ أَلْقُوا}، أي ما عندكم مِن السِّحر الذي أتيتم به، قال -جلَّ وعَلا- : {........ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}[الأعراف:116]، لمَّا ألقوا ما عندهم سَحَرُوا أعين الناس، لم يَقْلِبوا هذه العِصِيّ وهذه الحِبَال التي ألقوها حيَّات حقيقية ولكن رآها الناس حَيَّات، حتى أنَّ هذه السَّاحة التي هي ميدان هذا التنافس قد أصبحت حيَّات تسعى، حتى إنَّ عَيْنَي موسى نفسه قد سُحِرَت، كما قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}[طه:67]، خِيْفَة مِن هذا الأمر العظيم، وذلك أنَّ أعين الناس كلها قد سُحِرَت، وضجَّ الجميع وهَاجُوا ومَاجُوا بعد أنْ رأوا هذا السِّحْر العظيم، الذي أتى به هؤلاء السَّحَرَة العليمون بفنون السِّحْر، {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا}، قال -جلَّ وعَلا- : {........ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}[الأعراف:116]، أَرْهَبَ الناس وأَرْهَبَ الجميع، حتى أنَّ موسى -عليه السلام- خَشِي ألَّا تكون الآية التي معه كافية لأنْ تُبطل هذا الأمر العظيم.

نقف عند هذا -إنْ شاء الله- ونُكْمل في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.