الإثنين 13 ذو القعدة 1445 . 20 مايو 2024

الحلقة (205) - سورة الأعراف 87-100

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بِسُنَّتِهِ إلى يوم الدين.

وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- فيما قَصَّه علينا –سبحانه وتعالى- مِن خَبَر شُعَيْب -عليه السلام-، وأنَّه قال لقومه : {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[الأعراف:87]، مِن جُمْلة ما قال شُعيب -عليه السلام- لقومه مُحَذِّرًا إَيَّاهم مِن سَخَط الله –تبارك وتعالى- وعقابه، قال لهم إذا كانت طائفة منكم آمنوا بالذي أُرْسِلْتٌ به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا، لا تستعجلوا العذاب حتى يَحْكُم الله بيننا، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- سيحكم بيننا، سيحكم  لأهل طاعته بالنَّجاة ولا شك، وسيحكم على أهل معصيته بالخَيْبَة والخُسْرَان، {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.

قال -جلَّ وعَلا- : {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}[الأعراف:88]، {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}[الأعراف:89]، هؤلاء المجرمون مُتَعجِّلُون للعذاب، قال لهم : {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}، الملأ الأشراف؛ كُبَرَاءُ الناس الذين يَمْلَؤون العين ويَمْلؤون المكان ويملؤون الأرض، {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}، استكبروا عن الحق؛ تكَبَّروا عليه ولم يقبلوه، {مِنْ قَوْمِهِ}، مِن قوم شعيب، {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ}، باللام المُؤَكِّدَة والنون التوكيد، {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا}، اعتزاز بأنَّ هذه قريتهم ووطنهم، وهؤلاء هم أيضًا هم مِن أهل هذه القرية، هم أبناؤها ومنها، ولكن عُلُو الكفر وتَكَبُر أهل الباطل على المستضعفين مِن أهل الحق، رأوا أنَّ شُعَيْب ضعيف والفِئَة التي معه فِئَة مِن الضعفاء والفقراء وأنها لا تستطيع مقاومتهم، وهؤلاء لا يستطيعون أنْ يَصْبِروا على مَن يخالفهم في دينهم فلذلك لم يَحْتَمِلُوهُم، وأصبحوا يروا أنَّ بقائهم معهم شيءٌ فوق الاحتمال، فقالوا : {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، اختاروا بين أمرين، أي خَيَّرُوهم بين أمرين؛ إمَّا أنْ تعودوا إلى مِلَّتِنَا أي إلى طريقتهم ودينهم واعتقادهم وتراثهم، وإما أنْ نخرجكم من هذه القرية، فلتذهبوا إلى أي مكان تشاءوه، قال شُعَيْبُ رادًا لهم على هذا التَّحدي، وهذا تحدي للرسول لكنه لله الذي أَرْسَل هذا النبي، خَالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، قال لهم شُعَيب {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}، أَوَلَوْ كنا كارهين لمِلَّتِكُم هذه نُرْغم عليها ونعود إليها ونحن نكرهها ونبغضها هذا كفر.

{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ}، {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، افتراء الكذب اختلاقه أي اختلقنا الكذب على الله -تبارك وتعالى- إنْ عُدْنا في مِلَّتِكُم، كيف نَعود في هذه المِلَّة التي تقوم على الشِّرك بالله -تبارك وتعالى- وعلى هذا الظلم للناس، مِن تطفيف الكيل والميزان ومِن بَخْسِ الناس أشيائهم ومِن الصَّد عن سبيل الله، {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}، وقد نَجَّانَا الله -تبارك وتعالى- منها بأنْ هدانا إلى الإيمان وإلى التقوى وإلى العَدْل والإحسان، {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}، وهذا مِن شُعَيب -عليه السلام- تسليمٌ للأمر إلى الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ الأمر كله بيد الله -تبارك وتعالى-، قال : {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}، أي إذا كانت مشيئة الرَّب -سبحانه وتعالى- أنْ يكون ثمة خزلان لنَا ورجوع عن الحق هذا كله الأمر بيد الله -تبارك وتعالى- وليس بأيديكم، هذا تسليم للرَّب الإله وأنَّ أمر الخَلْق كله بِيَديْه, وأنَّهم مُسْلِمُون وُمسَلِّمون لأمر الله -تبارك وتعالى-، قال : {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}، فجعل المشيئة كلها لله -تبارك وتعالى-، {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}، أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يَغِيب عن علمه شيء فوسع علمه كل شيء، فكل هذه المخلوقات في عِلْمِ الله -تبارك وتعالى-، لا يَعْزبُ عن الله -تبارك وتعالى- شيء منها، {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}، على الله لا على غيره توكلنا، التَّوَكُل تسليم الأمر له -سبحانه وتعالى-، وجعلوا كل النتائج له أي بذلنا الأسباب التي أُمِرْنا بها مِن الصَّبر والثَّبَات وجعلنا النتائج كلها لله -تبارك وتعالى-، على الله توكلنا سَلَّمْنَا أمورنا كلها لله -تبارك وتعالى- لا إلى غيره، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}،تَوَجُّه مِن شُعَيْب -عليه السلام- إلى الله -تبارك وتعالى- قال ربنا أي يا ربنا : {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، الفَتْح هو الحُكْم، {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، أي أحكم بيننا وبين قومنا بالحق، {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}، خير الحاكمين، وقد جاء الفتح بمعنى الحُكْم في قول الله -تبارك وتعالى- : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ ........}[الأنفال:19]، وذلك عندما قام أبو جَهْل يوم بَدْر فقال : (اللهم أَقْطَعنَا للرَّحِم وأَبْغَضَنَا عندك وآتانا بما لم يُعْرَف فأَحْنِه لغداه)، يدعوا عليه أو على النبي محمد -صلوات الله عليه وسلم-، قال يا رَب أي أكثرنا قطعًا للرَّحِم وآتانا بما لم يُعْرف فأَحْنِهِ لغداه، فربنا –سبحانه وتعالى- قال للكفار : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا}، تَطْلُبوا حُكْم الله –تبارك وتعالى-، {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، جاءكم حُكْمه وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- أَعَزَّ رسوله ونصره وأَهْلَكَ هؤلاء الكفار، {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا}، أي إلى حَرْبِ الرَّسول وحَرْبِ الإسلام نَعُد بأنْ نَقْسِم ظهوركم، {........ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:19]، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، أي احْكُم بيننا وبَيْن قَوْمِنَا بالحق وأنت خَيْرُ الفاتحين، هذا تسليم لأمر الله -عزَّ وجلّ- وجَعَل الأمر هنا بعد هذا التهديد والوعيد مِن الكفار جَعل شُعيب أَمْرَهُ بيد الله -تبارك وتعالى-.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}[الأعراف:90]، هذه كذلك صُورة مِن صِوَر التهديد والوعيد للفِئَة المُسْتضْعَفة التي آمنت مع شُعَيب، {وَقَالَ الْمَلَأُ}، كُبَراء الناس وأشرافهم، {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}، مِن قوم شُعَيْب، {........ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}[الأعراف:90]، يقولون لأهل الإيمان {........ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}[الأعراف:90]، بالخُسْران هنا أنهم سَيَخسرون وَطَنهم وأرضهم، وأنَّهم سَيُطْرَدُونَ مِن هنا وتكون الخَسَارة عليهم، وهذا تهديد لهذه الفِئَة المُسْتضْعَفة.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}، وهذا جاء بعد هذا مباشرة، كأنَّهم لمَّا قالوا هذا القول هَدَّدُوا الرسول، وهَدَّدُوا هؤلاء المؤمنين، تَوَعَّدُوا هؤلاء، قال -جلَّ وعَلا- هُنا قفلوا الطريق على أنفسهم ووضعوا الرسول في موضع التَّحَدِّي هو والذين آمنوا معه، ولم يجعلوا لهم خِيَار إمَّا أنْ يَرْجِعوا إلى دينهم الكافر وإمَّا أنْ يُخِرِجُوهم وأنْ يُنْزِلُوا بهم بأسهم وبَطْشهم، قال -جلَّ وعَلا- على الفور بعد قولهم هذا، بعد قولهم : {........ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}[الأعراف:90]، : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}، والأَخْذ الإهْلَاك، والرَّجْفة الهَزَّة الشَّديدة، {........ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[الأعراف:91]، فأصبحوا أي هؤلاء أهل مَدْيَن في دارهم جاثمين، جَاثِم على الأرض أي ساقطٌ عليها بفعل الصَّعْقَة التي كانت، وكذلك بِمَلَك مِن مَلَائكة الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، الله أكبر, إعلان وإخبار مِن الله -تبارك وتعالى-، {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، غَنَى بالمكان بمعنى أنَّه زاد وَنَمَا وحَيَا وازْدَهَر، {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، كأنْ لم يكونوا على ظَهْرِ هذه الأرض وملؤها، يزرعون ويَفْلَحون ويرعون ويضحكون ويمرحون، وتُسمَّى المَرَاِتع مَغَانِي، المغاني المكان الذي يَغْنَى فيه الناس، يُظْهِرُون فيه فرحهم وسرورهم وحُبُورهم، {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، لم يَكْثُروا ولم ينموا ولم يضحكوا ولم يحيوا الحياة الرَّغِيدة الهانية، ما كأنه مَضِى عليهم شيء مِن ذلك بعد أنْ أخذتهم الرجفة كلهم، {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، في هذه الأرض، {........ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:92]، هذا حُكْم الله بعده، هذا حُكْم الله {........ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:92]، وهذا رُدّ على أولئك المجرمين، الذين قالوا : {........ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}[الأعراف:90]، انظر مَن الذي كان خَاسِرًا، ليس هؤلاء الكفار المُتَغطْرِسين الذين ظَنَّوا أنَّ إرادتهم هي السَّائِرة، وأنَّ الله لا شأن له هنا ولا مكان له على هذه الأرض، فالله -تبارك وتعالى- يقول : {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، الذين كذبوا شعيبًا أعاد الله –تبارك وتعالى- هذا الأمر لتأكيد هذا في رَدِّ الله -تبارك وتعالى- على مَقَالة أولئك المجرمين : {........ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}[الأعراف:90]، فأَخْبَر-سبحانه وتعالى- أنَّ الذين اتبعوا شُعَيْب هم الذين قد غَنِمُوا وفازوا، وأولئك هم الذين استأصلهم الله -تبارك وتعالى-، {........ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:92]، وليس المؤمنون.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ}، تَوَلِّي شُعَيْب -عليه السلام- كان قَبْلَ هذا الهلاك بعد أنْ أمره الله، لمَّا قالوا موقفهم هذا فإنَّ شعيبًا أمره الله -تبارك وتعالى- أنْ يَخْرُج مِن القرية هو والدين آمنوا معه، قال -جلَّ وعَلا- : {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي}، ناداهم وهو مُوَلٍ عنهم وخارج ويَعْلَمُ مصيرهم ويَعْلَمُ ما سَيُنْزله الله -تبارك وتعالى- بهم، قال : {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي}، وصلتك رسالة، بلغتكم إيَّاها أوصلتها لكم ، رسالات ربِّي وذلك أنَّها متكررة مُتَكاثرة، {وَنَصَحْتُ لَكُمْ}، لم أَغشكُم، أي كنت مُخْلصًا في كلامي وفي إبلاغي رسالة الله -تبارك وتعالى- لكم، {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}، سؤال لبيان الاستبعاد، {فَكَيْفَ آسَى}، الأَسَى هو الحُزْن؛ الحُزْن والبُؤس، يقول كيف أأسى آسى؟ {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}، قوم كفروا بالله -تبارك وتعالى- وعاندوا هذا العِنَاد وقفلوا الباب على أنفسهم، وخَيَّروا رسولهم والمؤمنين إمَّا الكفر والعَوْدة إلى دينهم وإمَّا الإخراج مِن الأرض، فكان الأمر على هذا النحو، يقول لهم كيف أَتأَسَّف وأَحْزَن على قومٍ كافرين أنْ يأخذهم الله -تبارك وتعالى- ويأتيهم العذاب على هذا النحو.

هذه صَفْحَة أخرى مِن صفحات الأقوام، ثم يُعَقِّب الله -تبارك وتعالى- بعد هذه الصفحات، نوح وقومه، وهود وكذلك قومه، وصالح وقومه، ولوط وقومه، وشُعَيب وقومه، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}[الأعراف:94]، هذه كذلك مِمَّا عالج الله -تبارك وتعالى- به هذه الأقوام، أنَّ الله -تبارك وتعالى- دَعَاهم لِسُلوك الحق بكل سبيل، لعلهم أنْ يَرْعَوا وأنْ يتخذوا طريقهم إلى الله -عزَّ وجلّ-، قال الله : {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ}، أي قرية أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها نبيًا، {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ}، مِن القُرَى، {مِنْ نَبِيٍّ}، أي كل نبي، هذا تأكيد النَّفْي، {........ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}[الأعراف:94]، أَخَذْنا أهلها بالبِأْسَاء؛ البأساء الشِّدَة، كَنَقْص الأموال والثمرات، تَسْليط بعض الأعداء، آفة، والضَّرَّاء الضُّر، أمراض، {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، يَضَّرَّعون يتذللون لربهم -سبحانه وتعالى-، يعلموا أنَّ هناك ربّ يُعَاقَبُ ببعض هذه العقوبة، يعلموا أنَّ هناك أمر؛ أمر الأرض وأنفسهم، ليس بأيديهم وأنَّهم ليسوا المتحكمون بهذه الأرض، هناك قوة أكبر منهم وربّ فوقهم مِن الممكن أنْ يُعَاقبهم، أخذهم الله -تبارك وتعالى- ببعض أنواع هذه الشدة لعلهم يضَّرَّعون إلى خالقهم، يعرفوا إلههم ومولاهم وخالقهم -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا}، بعد هذه السيئة؛ الأمر السَّيِّء هذا الذي يأخذهم الله -تبارك وتعالى- به، يبدلها بحسنة بأنْ يُعَافِيهم مِن أمراضهم، بأنْ يُمْرِع مَرابعهم، يَنزل عليهم خيرات الله -تبارك وتعالى- مِن الأمطار والزراعات والصحة والمعافاة، {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا}، عفوا زادوا ونموا وكثروا، {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}، سبحان الله لم يستفيدوا بهذا ولا بهذا، لم يستفيدوا بأَخْذِ الله لهم بالشدة، ولا بإغداق النِّعَم عليهم، لم يَنْسُبُوا هذا لله ولا هذا لله وإنَّما نَسَبُوا لغيره -سبحانه وتعالى-، {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}، أي أنَّ هذه شِيْمَة الدَّهْر وشِيْمَة الحياة، يومٌ لَك ويومٌ عليك وهذا حال الدنيا، جعلوها حال للدنيا مَطْبوعةٌ عليها وليس هناك إله يُدَبِّر الأمر، ولا يأخذ عبادهم بالشدة أحيانًا ليذكرهم، ولا يُنْعم عليهم أحيانًا حتى يتذكروا ويشكروا... لا، وإنما نسبوا الأعمال هذه إلى الدَّهر وتصرفاته، وأنَّ هذا الأمر قد كان في آبائهم كذلك، وأنَّ هذا ليس بغريب في الأمر، {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ}، الضُّر، {وَالسَّرَّاءُ}، ما يَسُر مِن الخير، قال -جلَّ وعَلا- {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، لمَّا لم يستفيدوا بِدَرْس؛ لا بِدَرْس الشِّدَة ولا بِدَرْس النِّعمة، ولم يستجيبوا للرسل ولم ينفع معهم أي تذكير فعند ذلك لم يبققَ إلا الإهلاك، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذْنَاهُمْ}، الأخذ هُنا أخذ بالعذاب، {بَغْتَةً}، فجأة؛ أتاهم العَذَاب فجأة دُوْن إِنَذار، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، لا يشعرون بمجيئه؛ أي لا يشعرون بمجيء هذا العذاب، بل يأتيهم مُفَاجِئًا لهم، إمَّا وهم نائمون أو وَهُم قَائِلون في استرخائهم، في لَهْوِهم، في مَرَحِهم، يأتيهم عذاب الله -تبارك وتعالى- فيستأصِلُهُم، {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأعراف:96]، يُخْبر -سبحانه وتعالى- {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى}، أي هذه القُرى التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- {آمَنُوا وَاتَّقَوْا}، آمنوا بالله -تبارك وتعالى- واتَّقَوْا عقوبته -سبحانه وتعالى-، جَعلوا وِقَايَة بينهم وبَيْن عذابِ الله -تبارك وتعالى-، بأنْ أطاعوه واجتنبوا المحارم التي نَهَاهم الله -تبارك وتعالى- عنها؛ هذا معنى التَّقْوَى، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ........}[الأعراف:96]، فتحنا عليهم بَرَكَات، البَرَكَات الزِّيَادة؛ زيادة الخير ونَمائه، {مِنَ السَّمَاءِ}، كالمطر، {وَالأَرْضِ}، الزِّرَاعات والخير العميم الذي يأتيهم، {بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَكِنْ كَذَّبُوا}، ولكن كَذَّبوا الرُّسُل والرِّسَالَات، كلما يأتيهم رسول يُكَذِّبُوهُ ويرفضوا رسالة الله، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، فأخذناهم أَخذ العذاب، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، بسبب كَسْبِهِم هذا الخبيث، كسبهم الباطل مِن الكفر والعناد أَخَذَهُمُ الله -تبارك وتعالى- به.

ثم وَجَّه الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك الخِطَاب إلى الأحياء، إلى مَن أُنْزِل إليهم القرآن، فقال -جلَّ وعَلا- : {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ}[الأعراف:97]، سؤال للتأنيب والتَّقْرِيع والتوجيه كذلك إلى التَّفَكُر والعِظَة، {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ}[الأعراف:97]، هل أَمِنُوا هذا؟ عندهم صَكّ، عَهْد مِن الله -تبارك وتعالى-، بأنَّه لن يأتيهم عذاب وهم على هذه الحال، {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ........}[الأعراف:97]، بأس الله، الشِّدَة التي يأخذهم بها، عذاب، صَاعِقة، أمر يُزِيلهم الله –تبارك وتعالى- به من وجه هذه الأرض، {بَأْسُنَا بَيَاتًا}، بياتًا؛ وهم نائمون، البيات الهلاك حال النوم في المبيت، ، {وَهُمْ نَائِمُونَ}، نائم مُسْتَرخِي نَاسٍ كل شيء فيأتيه عذاب الله وهو علي هذا الحال، وهذا أمر شديد فظيع.

{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأعراف:98]، وهل أَمِنَ كذلك أهل القُرَى؟ أهل القُرَى أهل المدائن والرسول -صلى الله عليه وسلم- أُرْسِل إلى كل القُرَى، أُرْسِل إلى في أُمْ القُرى مكة، لِيُنْذِرَ كل قُرَى العالم وكل أٌمَم الأرض، {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى ........}[الأعراف:98]، وقت الضُّحَى ما بعد شروق الشمس وارتفاعها إلى الظَّهِيْرَة، وهذا وقت النَّشاط والجِد والعمل واللعب، {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأعراف:98]، وهؤلاء لا يستطيعون لا في هذه الحالة ولا في تلك الحالة أنْ يَرُدُّوا بَأْسَ الله -تبارك وتعالى-، بل أنْ يَعْلَمُوا أصلًا إنْ كان سيأتيهم بأس الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف:99]، أفأمنوا سؤال كذلك للتَّقْريع والتوبيخ، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ}، مَكْرُ الله -تبارك وتعالى-، أصل المكر هو إيصال الضُّر بطريق خَفِي، فمَن أَرْسَلَ ضُرَّهُ بطريق خَفِي لا يعرفه، كمن يُظْهِر لعدوه المَوَدَّة والمَسَرَّة ثم بعد ذلك يُفَاجِئه فيغتاله أو يَقْتله، فيكون مَكَر به لأنَّه أَظْهَرَ له أنه يُحِبُّه ويَوَدُّه ثم أخذ به، والمكر منه سَيِّء وهو المكر بأهل الخير والإحسان، أي إيصال الضُّر بمن لا يستحق أنْ يَصِلَ له الضُّر، وكذلك يوجد مَكْر حَسَن وهو إيصال الضر بالمجرمين، فأهل الإجرام إذا وصلهم الضُّر ووصلهم الكيد بطريق خَفِي لا يعلمونه هذا مِن الأمر الحَسَن، والرَّب -تبارك وتعالى- إذ وَصَفَ عقوبته لأهل هؤلاء المكر بهذا، إنما هو مِن مَدْح الرَّب -تبارك وتعالى-، صفة مَدْح في أنَّه يوصل عقوبته –سبحانه وتعالى- إلى هؤلاء الأشرار بطريق لا يعلمونه؛ بطريق خفي، فقد يُظْهِر لهم الله -تبارك وتعالى- مِن النِّعَم ويفتح لهم مِن الخيرات ما يظنون به أنَّ الله يُحبهم وأنه يَودُّهم، ولولا أنه يحبهم ما أغدق عليهم هذه النِّعَم ثم يأخذهم الله -تبارك وتعالى- فجأة، قال : {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ}، أنْ يُرْسِل الله -تبارك وتعالى- لهم عقوبته حال كونهم يظنون أنَّ الله يُحبهم ويُؤيدهم ويُريدهم بكثرة إنعامه وإفضاله عليهم -سبحانه وتعالى-، قال -جلَّ وعَلا- : {........ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف:99]، لا يَأْمَن هذه العُقُوبة أنْ تأتي به هكذا إلا القوم الخاسرون، الذين يَخْسَرٌون كل شيء، وهؤلاء هم الكفار المُعَانِدُون الذين يكونون على الكفر والعناد، وهم عندما يروا نعمة الله -تبارك وتعالى- يظنون أنَّهم على الحق والصواب.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}[الأعراف:100]، {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}، يَهْدِ لهم أي يكون هذا هِدَاية لهم، نور، بصيرة، ينتبهوا لهذا الأمر، {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}، أُنَاس ورثوا الأرض مِن بعد أهلها، وأهلها هؤلاء قد كانوا فيها قائمين ثم أَهْلَكَهُم الله -تبارك وتعالى- واستأصلهم، يقول هذا هَلَاك هذه الأُمَم السَّابِقة، ما يكون هذه بَصِيرة للذين يأتون مِن بعدهم إنه انظروا، أسلافنا الذين عاشوا في هذه الأرض كيف أهلكهم الله -تبارك وتعالى- لمَّا تَركوا طريق الرَّب -جلَّ وعَلا-؟ {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ........}[الأعراف:100]، أي ما يقولوا أننا  لو فعلنا مثل ما فَعَلَ هؤلاء الأسلاف وَقَع بنا ما وقع بهم، {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، قال -جلَّ وعَلا-  : {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}، فهنا بيَّن الله -تبارك وتعالى- السِّر في أنَّ هؤلاء الأحياء على هذه الأرض، الذين ورثوها مِن بعدِ أهلها الهالكين، وأنهَّم لم يتعظوا بمصارع الغابرين، أنَّ الله-تبارك وتعالى- طَبَع على قلوبهم، والطَّبع هو قفلها ثم خَتْمُها والطَّبْعُ عليها حتى لا تُفْتَح؛ فلا تُفْتَح لهداية، والذي يَفْعَلُ هذا الله -سبحانه وتعالى- عقوبة مِن عنده لهؤلاء المجرمين، قال -جلَّ وعَلا- : {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}، فمهما ذُكَّروا؛ ذَكَّرتهم الرسل، وأخبرتهم وقالت لهم وكأنَّهم لا يسمعون شيء، وبالتالي لا يَصِل قلوبهم شيء مِن هذه الذكرى مِن الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}[الأعراف:101]، {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}[الأعراف:102]، نَقِف -إنْ شاء الله- هنا ونُكْمِل معاني هاتي الآيتين في ختام هذا الفاصل، في الحلقة الآتية -إنْ شاء الله-، وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله ربِّ العالمين.